الرياض نوفمبر 90




هامش أ:

 1   نوفمبر 1990م

"وزير الخارجية البريطاني دوغلاس هيرد، هدد مجدداً يوم أمس باستخدام القوة، إذا لم يسحب العراقُ قواته من الكويت، وقال هيرد في تصريحات للصحافيين، مساء أمس الأول في لندن: إن العالم لا يستطيع الانتظار إلى الأبد، كي يتم انسحاب القوات العراقية،كما أن صبر الأسرة الدولية بدأ بالنفاد وقال أيضاً: إننا نقول لصدام حسين، إن الخيار العسكري قائم وموجود، ولسنا خائفين من استخدامه".

رميتُ صحيفة الخميس جانباً، وتطلّعتُ إلى رفوف مكتبي، باحثاً عن رواية "انتفاضة المشانق" للكاتب المكسيكي "ترافن غروفس"، تذكرت أنني أعرتها لـ "مهيوب"، فتعكّر مزاجي. قررتُ ألاّ أقرأ بقية الصحف، وألاّ أستمع إلى المذياع طوال اليوم.

منذ الاجتياح، وأنا أرى الخميس أكثر الأيام شراسةً، فارعَ القامة، يلوي طرف عباءته على ذراعه اليسرى. وعلى ذراعه اليمنى، نسر جارح يفوح برائحة الجيف.

حاولتُ، مع إحباطي أن أضع للأشياء رونقاً مغايراً، أنهضتُ طفليَّ هاجر" و "هزيع" من نومهما، وأعددت لهما حليبهما وبيضهما المقلي.

فتحتُ لهما دفاتر التلوين، رأيتهما، بعد إفطارهما، ينكبّان على ورق أبيض، يحولانه إلى دهشة من الألوان المشرقة، تتخللها زعقات فرح.

- أخفضا صوتيكما، ستصحو ماما على ضجيجكما، وستغضب منكما؛ لأنكما أفسدتما عليها نومها.

استلقيا أمام شاشة التلفزيون الذي يعرض رسوماً متحركة، تمددتُ على الأريكة البعيدة عنهما، وأخذت أحتسي كوب الشاي الذي برد.

قصة الرسوم المتحركة مكررة عشرات المرات، لكنهما يراقبانها وكأنها تحدث أول مرة.

"بلوتو" يحاول جاهداً أن يشّوه صورة "بوباي البحّار"، لكي يظفر بحبيبتهما المشتركة "أوليف"، كالعادة، وبفضل السبانخ، ينتصر بوباي، وكالعادة، تقطع الرقابة مشهدهما وهما يقبّلان بعضهما بعضاً.

سمعتُ هاجر تقول لهزيع الذي يصغرها بثلاث سنين:

- لقد قبّلها بوباي.

التفت هزيع البالغ من العمر سبع سنين إليّ، وهو يصيح.

- بابا، لماذا لا تأكل الكويت سبانخ وتقتل صدام حسين؟!

خرجتْ فاطمة من غرفة النوم على صوت الحوار، والنعاس يرشّ شقائقه على عينيها وصوتها.

- صباح الخير.

- صباح النور.

-  هل أفطرا؟؟

- أجل.

دخلتْ الحمام، ودخلتُ أنا إلى الغرفة، بدّلتُ ملابسي، وتأكدتُ أن في المحفظة ما يكفي لشراء الخضروات الأسبوعية المسجَّلة على نصف ورقة بقلم رصاص لم يُحسنْ بَرْيه.

قابلتُها وأنا أخرج من الغرفة، فقلتُ لها بصوت اعتيادي:

- سأذهب إلى السوق.

طالعتْ عينيّ باكتراث.

- تبدو مجهداً، متى صحوت؟؟

- في السادسة.

هّزتْ رأسها متبرمةً.

- حرام عليك، لم لا تستغل يوم إجازتك؟! أنت لا تنام جيداً هذه الأيام.

خرجتُ، وطفلاي لا يزالان يستلقيان أمام المزيد من الصور المتحركة.

استوقفتْني الإشارة المرورية الحمراء القريبة من السوق.

بالإحساس المعتاد الذي ينتابني عندما أقفُ بسيارتي أمام الإشارة، شعرتُ بأن أحداً في السيارة الواقفة إلى يميني، يطالعني، طالعت بدوري، فإذا السائق يبتسم لي، لم أكن أعرفه، لكن المرأة التي بجانبه كانت تؤشر لي.

كانت طبيبة سعودية من طبيبات الأطفال في المستشفى، وكثيراً ما حدثتْني عن زوجها الذي يتابع باهتمام، كتابات الأدباء الشباب.

منذ أكثر من ثلاث سنوات، توقفتُ عن النشر في الصحف المحلية، واكتفيت بحفظ ما أكتبه في أدراجي. كانت الصفعة التي وجهها لي رئيسُ تحرير المجلة أقوى من كل احتمالاتي، كنت مسؤولاً عن إعداد صفحات الأطفال، وكنت أجتهد في إظهارها بشكل يختلف عن الصفحات المحلية التي يحررها موظفون، يملؤون الصفحات بصور الأطفال الملونة، وبالحكايات التقليدية، التي لا تمنح الأطفال سوى مزيد من أجواء الخرافة البائسة.

كنت أعتمد على الأطفال أنفسهم في إعداد الصفحات، يختارون الموضوعات والقصص والرسومات، يُجرون الأحاديث، يطرحون أسئلتهم الجريئة، ويقومون بتصوير التغطيات الصحفية بكاميراتهم، يكتبون في افتتاحيات الصفحات ما يشاؤون، أما أنا، فأقوم بالدور المهني فقط. أتابع ظهور الصفحات بالشكل الإخراجي المناسب.

أعفاني رئيس التحرير من عملي بقرار مفاجئ، بعد أن خَلَقَتْ التجربة، عبر ثلاث سنوات ونصف، شخصية مثيرةً للانتباه. كان رؤساء التحرير في الصحف والمجلات الأخرى يطلبون من محرريهم صفحات مشابهة، لكنهم لم  يستطيعوا الوصول إلى سر صفحاتي.

لم يكن هنالك سر.

كنتُ قد هربتُ إلى الأطفال بعد بؤس سنين عديدة، عشتُهُ مع الكبار، الذين كتبت لهم طوال تلك السنين، بأظفار من فضة، كنتُ أنقش دماءهم على مناديل الهواء المسموم، فلا يتسممُ سواي، أحشائي تتمزق، فلا يمدّون إلي غير حبال جفوتهم، أربط بها بطني، وأقوم لأحتفل بهم من جديد. تمضي الحبال في تكبيلي، أمزقها وأصنع لهم جسراً لكي يمشوا، كان الطرف الآخر للطريق يتحدّاني. يومض من بعيد، ويشير إلي أن أسقط في الهاوية. 

عدتُ إلى الأحراش باحثاً عن أناس آخرين، يستجيبون لمناديلي، في ظلمة من العقارب والحيايا والضباع، أضأتُ لقدميّ دربهما ومشيتُ، اهتدي بفانوس يتدلّى بين تيجان قلبي الشاحبة.  

كان أقوام شهبٌ من الرجال والنساء يختبئون بين أغصان الشجر، يخفي كل واحد منهم جلده كيلا تظهر شرايينه العارية، مضيتُ من دون أن أحفل بهم، عبرتُ الأحراش، فظهرتْ لي بيداء ترسم الشمس على رمالها خرائط من البللور، وأطفال يلاحقون غزلاناً في أوائل عَدْوها، تطير على رؤوسهم عصافير ملونة.

أطلقتُ ساقيّ خلف غزال يسابق الريح، لاحظتُ أن قواقعَ وأصدافاً تتساقط من أجزاء جسدي، فأغدو أكثر خفة، ركضتُ أكثر حتى استحال جسدي نقياً، حاولتُ أن أطير، فطرت، خفّقتُ بساعديّ وصرت أحلق في بيداء الأطفال، ولم تمسْ قدماي الأرض إلاّ حين طلب مني رئيس التحرير أن أتخلى عن مسؤولياتي وأن أغادر المجلة.

فتحتُ زجاج النافذة التي على يميني، حييتُ الزوج، الذي أخرج رأسه من نافذته لكي يصلني صوته:

-   نحن نسمع عن كتبك، لكننا لا نجدها في المكتبات.

-   إنهما كتابان فقط، ولقد طبعتهما في القاهرة وبيروت، لذلك لن تجدهما هنا.     

-   هل أستطيع أن أحصل منك على نسخة من كل كتاب؟!

أضاءتْ الإشارة الخضراء، فهززتُ له رأسي، ثم أشرتُ بإصبعي إلى زوجته.

 

 

هامش ب:

2 نوفمبر 1990م

قاطرةٌ تشقّ طريقها بين غيوم من الزيت، شرايين البرق تتناوب في تمزيق جلود المقاعد المتلاصقة بعضها ببعض، المتكوم عليها أكداس من الأطفال والنساء والمقعدين والمعتوهين والمرضى. المقطورات الأخرى مصممة على شكل زنزانات لا أرى بداخلها سوى رؤوس محلوقة، مقطورة القيادة مهشّمة الوجه والجوانب، للتو خارجة من مجرّة تتقاذف الشهب المعدنية على أرصفتها. أراني مقيداً على سكة القاطرة، وهي مقبلة من أطراف الأفق، ستطأني، سأتمزق أشلاءً مبللة بالدم، أستحضرُ صورة طفل أذهلتني البراءة في عينيه، وهو يقف إلى جانب النافذة، يراقب النجوم بدهشة أسطورية، همستُ له: هل ستجمعني؟! خاف، تراجع، واندسّ في أحضان أمه التي كانت تئن جوعاً، وأبوه الذي كان يسعل دماً، أرقبه وهو يخبئ رأسه في صدر أبيه، فيتبلل وجهه بالدم النازف من حلقه.

صحوتُ مخنوقاً، وعلى لساني علقم الكابوس.

قبل أن أغسل وجهي، توجهت إلى المكتبة، جلستُ إلى الطاولة، فانهمرتْ الهواجسُ الصباحية.

- منذ متى ونحن نعيش الحرب؟! منذ متى نعيش المهانة والمذلّة؟!

رددتُ على نفسي:

- الحرب الآن تدقّ بابنا المباشر، لن نرثي الشهيد كما كنا نفعل دائماً، بل سنتلّقى الشظية. لن نُعٍِدَّ حقائب الهجرة، بل سنخيط الكفن.

أجساد المباني خاوية الروح، والعربات الفارهة غدت ركاماً هطل فجأة ثم تبخّر، لا أحد، لم يجمع الخوف الخائفين، نثرهم على قارعة الأسئلة البدائية، بين الواحد والآخر مسافة من فوضى الزجاج. كيف حدث هذا؟! أي حبال تحركنا، نحن الدمى المصنوعة من وهم أخضر؟! ها قد تخلت الأصابع الخفية عنا، فسقطنا جثثاً على المسرح الدائري.

من الدُرْج، أخرجت أوراقاً بيضاء، ووضعتها أمامي، شمس الصباح تجعل الأوراق تشع عذرية، فيزداد اشتهائي للكتابة - هذه المرأة التي تقتلني بعينيها الشبقتين للبوح.

- ما الذي يشلّ أصابعي؟!

كل جمعة، يكون الخميس قد كسرني، فأترك هذه المرأة ممددة على البياض، وأهرب خائفاً باتجاه صمتي.

كانت الساعة تشير إلى السابعة إلاّ ثلاث دقائق، صرت أدير مؤشر المذياع لكي التقط إذاعة لندن، وبنصف وضوح، ثبتُّ المؤشر، أسندتُ رأسي إلى ظهر المقعد، وأشعلت سيجارة.

"قال مصدر دبلوماسي مطلع: إن الرئيس فرنسوا ميتران أبلغ ديفيد ليفي وزير الخارجية الإسرائيلي أنه سيتضح بعد السادس من نوفمبر الجاري، ما إذا كانت أزمة الخليج ستحل حرباً أمْ سلماً. وقال المصدر لـ"رويتر" أمس الأول: إن ميتران قال أيضاً: إن الرئيس العراقي صدام حسين يرى أن شن هجوم عراقي على إسرائيل سيكون عملاً انتحارياً من جانب بلاده. وكانت صحيفة لوكانارا انشينيه قد نسبت إلى ميتران في الأسبوع الماضي توقعه بأن الحرب ستبدأ بين 26 أكتوبر والسادس من نوفمبر".

بعد نهاية الموجز، قمتُ إلى المطبخ. فتحتُ الثلاجة، فهدأ هديرها، أخرجتُ قارورة ماء، لكني تذكرتُ أنني لم أنظف أسناني، أعدتها ثم صرتُ أتفحص الخضراوات والفواكة الطازجة، واللبن والحليب والبيض والجبن والزيتون والمربّى، فتحت الجزء العلوي لأكمل رغبتي في تفحص محتويات الثلاجة، لحم ودجاج وزبدة ومكعبات ثلج.

دفعتُ البابين بقوة، فعادت الثلاجة إلى الهدير.

ملأ صوتها صدري بالمرارة.

لم يكن الجو بارداً، لكني أحسست برغبة في حمام دافئ، وضعت إبريق الماء على الموقد، ودخلت كي استحم.

أرخى الماء الدافئ مفاصل كتفيّ، فكأنه صار يخفف أحمالاً عن منكبيّ.

- ربما يوجه صدام ضربة لإسرائيل، انتقاماً لنسف مفاعله النووي عام 1982م.

صرتُ أفرك جسدي بالصابون، فتفوح الرغوة برائحة منعشة.

- سنكون هدفا مكشوفاً له، ستتساقط مدننا المتناثرة واحدة بعد الأخرى.

ملأ البخار فضاء الحمام، فاسترختْ رئتاي في صدر نخرتْهُ السجائر.

أقفلتُ الماء، ثم صرتُ أرقب لمعة الضوء على جلدي المبلل، تناولتُ المنشفة، لكنني علّقتُها مرة أخرى، قررتُ أن أترك جلدي يجفّ تلقائياً.

وقفتُ أمام المرآة؛ كي أحلق ذقني، قبل أن أمسح البخار العالق على المرآة، كتبت بإصبعي، الرياض، ثم كتبت تحتها: 2 نوفمبر 1990م، وصرت أرقب إنعكاس صورتي على ما كتبته. بدأت القطرات تتساقط من الكلمات والأرقام، حين اختلطت، مسحتها جميعاً بكفي.

لاحظتُ أن شعر ذقني قد طال أكثر مما يجب، وأن اسوداداً خفيفاً يحيط بعينيّ، لم أحاول أن أشغل نفسي أكثر، لأنني تذكرتُ أنه يجب أن أزور والدتي. عندما هممتُ بالحلاقة، صاح الإبريق: لففتُ جسدي بالمنشفة، وخرجت مهرولاً لكيلا يوقظ صوته أحداً.

صنعتُ كوباً من الشاي، وجلستُ في صالة البيت.

تعودتُ كل جمعة أن أسمع صوت الخادمتين الأندونيسيتين، اللتين تعملان لدى مالك البيت، الذي يسكن في الدور العلوي، وهما تنظفان الدرج، تتحدثان بصوت خفيض وتضحكان.

أحضرتُ المذياع وعلبة السجائر من المكتبة، أشعلتُ سيجارة وبدأت أبحث عن إذاعة "صوت مكة"، التي بدأ النظام العراقي في بثّها بعد الاجتياح، كان الإرسال واضحاً، سمعت المذيع بصوته الجهوري يوجه الشتائم لساسة الخليج، ويهيب بالمسلمين الأحرار، الوقوف مع العراق للقضاء على الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية.

علا صوت الخادمتين، فكأني أراهما وهما، في أثناء نوم العائلة، تعبثان بالماء الذي تغسلان به الدَرَج، ترشّ الواحدة منهما الأخرى، فتبتلّ ملابسهما وتلتصق على جسديهما النحيلين، تقرص كل منهما مؤخرة الأخرى وتركض بعيداً، ثم تحضنان بعضهما بعضاً وتتذكران بآهات محروقة حقول الأرز الأندونيسية، حيث الشمس والهواء والبحر والشبان الذين يلاحقونهما بنظرات الغزل.

قبل أن يصحو أحد في البيت، ارتديتُ ملابسي وخرجت.

كان سائق جيراننا الفلبيني ينظف السيارة البونتياك، التي أوقفتُ خلفها سيارتي السوزوكي الصغيرة، فتناثر الماء على مقدمتها المغبرة منذ أسابيع.

حين رآني، ارتبك، لمحتُ إحدى درفتي باب الجيران تنفتح ببطء، فتظهر خلفه إحدى الخادمتين، كانت تلبس بنطلوناً ضيقاً وقميصاً واسعاً بأكمام قصيرة، وشعرها الطويل ينسدلُ على كتفيها، لم تكن تضع مساحيق على وجهها، فبدا طفولياً مشرقاً.

بمجرد أنْ وقعتْ عيناها عليَّ، أغلقتْ الباب بخوف. رجعت بسيارتي إلى الخلف، واستدرت في الشارع الضيق باتجاه الشارع العمومي لضاحية "القدس" الحديثة، التي أسكن فيها مستأجراً دوراً سفلياً، لم تصله خدمات الهاتف.

من طريق المطار الدولي، اتجهتُ جنوباً إلى حي "الربوة"، حيث تسكن والدتي. مررتُ أسفل كوبري الخليج، ثم التزمتُ أقصى اليمين.

عبرتُ إلى جانبي شاحنة عسكرية، على ظهرها صناديق مغطاة بساتر التمويه الحربي.

في مقاعد القيادة، كان مجندون أمريكيون يرتدون بدلاتهم المرقطة، وعلى أعينهم نظارات شمس سوداء كالتي يرتديها المغنون الأمريكيون.

كان خلف الشاحنة قافلة من الشاحنات، بعضها يحمل صناديق لا حصر لها، كُتب عليها: "البريد المركزي الأمريكي"، وفي المقصورات كان مزيد من المجندين والمجندات الأمريكيات.

سلكتُ الطريق الفرعي، ودخلت حي الربوة.

كان الأذان الأول لصلاة الجمعة يرتفع في المسجد الجامع. أوقفتُ سيارتي أمام بيت والدتي، التي كانت تتناول فطورها.

قبلتُ رأسها ثم يدها، طلبتْ مني أن أشاركها الأكل.

- بالهناء والشفاء، لقد سبقتكِ.

ناولتني فنجاناً من الشاي، ثم أخذت تبللُ قطعة من خبزها الأسمر في العسل.

في خميس الاجتياح، كنت عندها، كانت الساعة الثامنة، جئتها باكراً كي أصلح جهاز التكييف في غرفة الضيوف. أحضرتُ معي عاملاً فلسطينياً، وقبل أن يبدأ في العمل قال لي:

- إذن أخذ صدام الكويت منكم.

حسبته يلمح إلى المشكلات الحدودية المتصاعدة بين الكويت والعراق التي بلغتْ ذروتها.

سألتُه بقلق:

- ماذا تقصد؟!

-   ألم تسمع الإذاعات؟! لقد احتلّ صدام دولة الكويت.

تركته، وانطلقتُ أبحث عن المذياع في غرف البيت، سألت الخادمة السيرلانكية "سونيتا"، فأجابت بأنه في غرفة أمي.

فتحت الباب بهدؤ، ومشيت على أطراف أصابعي، كان المذياع إلى جانب سريرها، لكنه كان موصولاً بالكهرباء، وكانت العلبة الكهربائية مثبتة في الجدار أعلى رأسها، سحبتُ السلك، فاستيقظتْ، قلتُ لها بارتباك:

- صباح الخير يا أمي.

بسملتْ، ثم ردتْ عليّ بصوت مبحوح.

-   خيراً إن شاء الله، ماذا حصل؟

حاولتُ أن أهدىء من روعها، لكن ضوء الغرفة المسدلة الستائر الشحيح، ضخّم الخوف الذي تمكّن من ملامحي.

- لقد أحضرتُ عاملاً كي يصلح التكييف.. وأريد أن استمع على الأخبار.

نهضتْ من سريرها بصعوبة:

-   هل حدث شيء؟! قلبي يقول لي إن هنالك شيئاً ما.

لم أجد بداً من إخبارها.

- لست متأكداً، لكن العامل يقول: إن صدام احتل الكويت.

اصفَّر وجهها، ووضعت كفيها على رأسها.

- لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

- إهدئي يا أمي، دعينا نتأكد أولاً.

فتحتُ المذياع وأدرت المؤشر على اذاعة المملكة، لكن البرامج كانت اعتيادية.

حاولت أن ألتقط لندن، فأخفقت.

مع اقتراب الظهيرة، بدأنا نسمع إرسالاً إذاعياً غير واضح، يبثُ نداءات استغاثة وأناشيد وطنية كويتية.

بكتْ أمي بهلع، حاولتُ أن أطمئنها.

- تماسكي، هذا مجرد تخويف، وسوف ينسحب خلال أيام.

ضمّتني إلى صدرها، وأخذت تنتحب، أحسستُ بفرائصي ترتعد، فأشفقتُ عليها، هي التي تمتلك مشاعر مرهفة جداً، تجعلها في قلق وخوف دائمين. كانت تجد في والدي حضنـاً يحميها من خوفها، لكنه رحل عنها رحيـلاً أبدياً، وتركها وحيدة، وهي لا تزال في نهايات الأربعين من عمرها.

عشتُ بعده معها، تزوجتُ وبقيتُ أنا وزوجتي إلى جوارها، وحين تآلفتْ مع وحدتها القارسة، طلبتْ مني أن أسكن أنا وزوجتي وطفلتي الرضيع في بيت مستقل، استأجرتُ شقة بالقرب من بيتها، أزورها عدة مرات في اليوم، وأبيت لياليَ متفرقة عندها، جلبت لها خادمة لتعينها وتسلي وحدتها، لكني كنت أحسها تصارع جزعها نهاراً وليلاً.

- صدقيني يا أمي، سينسحب صدام.

سألتْني برهبة:

- ألن يحتلّـنا؟!

اصطنعتُ ابتسامةً بيضاء.

- كيف يحتلنا؟! وما شأنه بنا؟! مشكلته مع الكويت وليست معنا.

بدأتْ تهدأ تدريجياً، طلبتُ من سونيتا أن تحضر لنا الطعام، لكننا لم نأكل، في المساء، جاء أخواتي مصطحبات أطفالهن، فأخذت أحاديثهن الباردة تخفف قيظ صدرها؟!

في مجلس الرجال، كنا نتنقل من محطة إذاعية إلى أخرى، نتابع الاستنكارات الدولية لهذا الاجتياح.

تلك الليلة، نمتُ إلى جانبها، كانت تتقلب يميناً ويساراً، وتسألني بعد كل ساعة:

-   هل نمت؟!

وأجيبها:

- سأنام الآن.

كنت أتخيل جدار الأمان الذي كثيراً ما حلمت بأن أبنيه لأطفالي، يتساقط على رأسي، أتهاوى صريعاً، فتصنع الحجارة لي قبراً تستدير حوله الكلاب الضالة.

أغمض عينيّ، فأرى الناس يفرّون في اتجاهات شتى، أناديهم، فلا يسمعون صوتي المضّمد بالهزيمة الرطبة، أبحث في البيوت الخاوية عن أطفالي، فلا أجد سوى رائحة بكائهم.

لم يكن للاستقرار عش على شجرة السنين التي عشتُها.

اليوم، تهتز الشجرة، تحاول أن تقتلع جذورها باحثة عن أرض أخرى.

أي أرض، وكل هذه السماوات تلطختْ بالصديد؟! أخاف أن أغرسَ الجذور في صدري، فتحترق الشجرة، لذلك تركتها تفرّ هي أيضاً.

أكملتْ أمي فطورها، وطلبت من الخادمة أن ترفعه. بقينا نحتسي الشاي صامتين، بادرتني بسؤالها عن زوجتي وأطفالي، قلتُ لها إنهم بخير.

- لكنك لا تبدو بخير.

تهربتُ من عينيها:

- أبداً، مجرد إرهاق من العمل.

- وذقنك؟! لماذا لم تحلقها؟!

- خفتُ أن أتأخر عليك، أردت أن أجلس معك قبل ذهابي إلى صلاة الجمعة.

-   هل ستحضر الأولاد بعد الصلاة؟!

-   لا، لديهم امتحانات غدا.

 

 

هامش ج:

3 نوفمبر0 199م

 

وقفتُ أمام جهاز الصرف الإلكتروني في انتظار خروج الشخص الذي في الداخل، انضمّ لي شخص ذو وجه معروف لدي، حدقّ فيّ مسترقاً النظرة تلو الأخرى.

ألقيتُ عليه التحية، فرد عليّ ببشاشة. قلتُ له:

- أظن أننا التقينا من قبل.

عرّفته بنفسي، وعرّفني بنفسه، صار كل منا يحدق في وجه الآخر لبرهة، ثم تعانقنا.

كنا، "عبدالرحمن" وأنا، أبناء حارة واحدة، تغرس فينا فأل صباحاتها وطمأنينة أمسياتها، كانت تلفّ طفولتنا بملوحة الفقر الذي يستسيغه طعامنا.

كنت حين أمشي، يحتفل الشارع الترابي بخطواتي، فأشعر أن الحصى لا تريد أن تفارق قدميّ. كان عرق الشقاوة عندما ينزّ من كعبي، يصير علامات ترشدني إلى مهجة الطرقات.

كنا أجساداً تعتصم ببيرق واحد، يرفرف على هدوئنا، وكلما مزّقه الهواء، صعدنا لنرتقه برحيق فيئنا الذي لا يُشْمس.

أذكر أن أبي جلدني جلداً أدمى ظهري، بعدما اشتكى جارنا، من أنني كلما مررتُ أمام بابهم الموارب، أحدّق في درفته الداخلية.

بعد عقابه، هربتُ، ركضتُ إلى حيث قادتني قدماي، وجدتني قرب محطة القطار، أنفاسي تكاد تنقطع، ودموعي تملأ خديّ وعنقي.

واصلتُ فراري مشياً، جاعلاً المحطة على يميني، باتجاه مستودعات الأنابيب ومواد البناء، تركتها عابراً ملاعب كرة القدم الترابية التي يحيط كل منها أكوامٌ من الطين الجاف.

قلتُ لنفسي، والنشيج يفكك رئتيّ:

- سأهيم في الصحراء، وكلما نامتْ الأعين، دخلتُ البيوت خلسة، سأنقر على شباكها، ستدير المقبض، تفتح الشبك المعدني ثم الإطار الخشبي، ومن خلف القضبان المزخرفة بأشكال هندسية مثمنة، ستطل. سأحس بأن الصهيل أنتظم في دمي، وأنني صرت خيلاً يمتطيه حلمها،

هبطتْ سبائك الليل، وبدأ السكون ينقل خشخشة النفايات المحيطة بالملاعب، أخذت أشعر بالخوف ووجدتُ قدميّ تقفزان إلى الدرب الذي جئت منه.

ازداد الظلام حلكةً، لم أركض لكيلا تنتبه كلاب المنعطفات التي تهاجم الخائفين، سلكتُ طريقي خلف وِرَش شارع "الريل"، التي لا يزال بعضها يضاء بالكاشفات البيضاء، وبضجيج العمال الحجازيين.

حين دخلتُ شارع "الدَرَكْتر"، ألفيتُ أبي وجارنا، وخلفهما فتيان الحي.

رأيتُ أبي يتنفس الصُعداء، ووجه جارنا يتلفع بالطمأنينة، والفتيان، وفي مقدمتهم عبدالرحمن، ينطلقون إلى البيوت لكي يبشّروا النساء بأنني عدت.

- واليوم، يجمعنا هذا الجهاز الملعون.

سألته:

- ما الذي يضطركَ لاستخدامه يا عبدالرحمن؟!

- ليس لديّ خيار آخر، هذا الزمن يا صديقي القديم يلفنا بعباءته سنةً خلف سنة، ومع الوقت تتحول جلودنا إلى صفائح معدنية محفور عليها أرقامنا الإلكترونية، نحن مجرد أدوات في هذه اللعبة، ضعوا أموالكم في البنك، نضعها في البنك، اصدروا بطاقات ائتمان، نصدرها. اصرفوا من الأجهزة الالكترونية المفتوحة 24 ساعة، حسناً. وفي آخر المطاف، ستعمل هذه الاجهزة حين نمرر بصمات أصابعنا على عدستها السحرية، وستكتشف آلياً إذا كان ثمة رصيد لنا.

- أليس هذا في سبيل رفاهيتك؟!

- الرفاهية تمثيلية مدبرة لاغتيال حارتنا المستأنسة، أنا موظف ذو دخل محدود، زوجتي ربة منزل، ولديّ طفل واحد، وجدتني لا إرادياً، أستقدم خادمة وسائقاً، في البداية، كنت أشعر بالخجل حين أرى السائقين من كل الجنسيات أمام بوابات المدارس، في انتظار أطفالنا وزوجاتنا، لكن هذا الشعور تلاشى مع الوقت، وأخذت التمثيلية تكمل أدوارها المدبّرة.

خرج الشخص الذي كان قبلي، وأشار عبدالرحمن إلي بأن أتفضل، استأذنته ودخلت، سحبتُ بطاقة الصرف الآلي من محفظتي. أدخلتها في الجهاز، ضغطت رقمي السري، فنطقتْ الشاشة بالأسئلة:

- استفسار عن الرصيد أم صرف؟!

- استفسار عن الرصيد.

-     2214 ريالاً. أتريد أن تكمل العملية؟!

- أجل.

- سحب؟!

- نعم.

- أدخل المبلغ المطلوب.

قبل أن أودّع والدتي، دخل أخي الأصغر"راشد" الذي يمتلئ حيوية وبهجة، لم تعجبه حياة الجامعة، فانقطع عنها، وانخرط في أعمال التجارة الحرّة وهو لا يزال في سن مبكرة، في البداية، افتتح مكتباً متواضعاً للخدمات العامة والتعقيب على المعاملات في الدوائر الرسمية. وبعد أن جمعَ مبلغاً جيداً، أنشأ له مؤسسة صغيرة للمقاولات، يتفق مع العمال الذين يستقدمهم أصحاب المؤسسات الوهمية، ويحصلون منهم على مبالغ شهرية مقطوعة، يستخدمهم راشد لبناء وحدات سكنية صغيرة ويحصل من وراء ذلك على مكاسب معقولة. كان يشتري في كل فترة قطعة أرض، ثم يبيعها خلال أشهر بسعر أعلى، أو يبنيها بالمواصفات التي ترضي أذواق الطبقات الوسطى، ثم يعرضها للبيع. كان أيضاً يشتري أسهم الشركات الناجحة ثم يبيعها خلال بضعة أشهر بمبالغ مضاعفة.

كان يستغرب دائماً تمسكي بعملي في المستشفى.

- أنت الخاسر في النهاية، تعمل لهم ليل نهار، وبعد أن يتقدم بك العمر، سيرمونكَ كالكلب، ولن يسألوا عنك. انظر حولك، مديروك الكبار يقبضون مرتبات خيالية، ويعملون في الوقت نفسه في التجارة، وبيع الأراضي والأسهم، كل واحد منهم يكسب شهرياً أضعاف راتبه الخيالي.

- لا شأن لي بهم، ليفعلوا ما يحلو لهم.

- يا أخي. أنت مسؤول الآن عن زوجة وأطفال، هل ستظل طوال حياتك تحت رحمة الإيجار والأقساط؟! الأسعار في ازدياد ناري، وراتبك مهما كنت مقتنعاً به، فإنه لن يلبّي جميع متطلبات أسرتك. هؤلاء الناس الذين حولك يتذابحون من أجل استغلال أي فرصة تجارية، لأنهم يعرفون أنها لن تتكرر، ها أنذا، لم أكمل الجامعة، أعمل نصف الوقت الذي تعمله، مع ذلك لديّ فيلا، وسيارة فخمة، ومؤسسة تدرّ عليّ شهرياً أضعاف مرتبك.

- أنا لم أحسدك قط.

- ليتك تحسدني، وتفكر جدياً في العمل بالتجارة.

سألتُ أمي إذا كانت تريد مني شيئاً قبل أن أذهب.

أجابتْ:

- سلامتك.

أحسستُ أنها تريد شيئاً وأن الخجل منعها.

- ماذا هنالك؟! قولي.

ترددتْ قليلاً ثم قالتْ:

- أنت تعرف شقاوة الأطفال، لقد أفسدوا سجادة الصالة.

لا تطلب أمي احتياجاتها من أحد سواي، أنا الذي ربيتها على ذلك.

جئتها بعد رحلة استمرتْ أربعة أيام، كان الوقت مساءً، بعد أن تحدثنا، سألتْني:

-   هل أنت جائع يا ولدي؟!

أجبتها:

- بل أكاد أموت من الجوع.

طلبتْ من سونيتا أن تحضر لي الأكل.

لاحظت أن طاولة الطعام في المطبخ قد تغيّرتْ.

سألتها قبل أن أجلس، والأسى يملأ وجهي.

- من اشترى لك هذه الطاولة؟!

قالتْ بحياء:

- عثمان، زوج أختك هيلة، خشيتُ أن أرفض هديته، فيغضب.

تنهدتُ، وبحركة لا إرادية، طالعتُ ساعتي.

- عفواً يا أمي، يجب أن أذهب.

فهمتْ استيائي، فلحقتني إلى الباب الخارجي.

- صدقني، أنا لم أطلبها، هو الذي أحضرها بعدما لاحظ أن الطاولة الأولى لم تعد صالحة.

- أنا لست غاضباً يا أمي، لكني تذكّرتُ موعداً مهماً، ويجب أن أذهب.

انقطعتُ عن زيارتها يومين، وفي اليوم الثالث، اتصلتْ بي في المستشفى.

قالتْ وصوتها ينضح بالحب:

-   أين أنت؟! لقد اشتقت لك.

- وأنا اشتقت لك أكثر يا غاليتي.

- أعرف أنك غاضب مني.

صمتُّ قليلاً، كي أرتّبَ ما أقوله.

تمنحني هذه المرأة الخالدة في دمي عشقاً يشقّ شَفَةَ الأمومة، ذرىً يتلاطم على أوتاده غبار شفافيتي، تخرجُ من عظام صدري تمثالاً من الفيروز، يشعّ برماحه على طواغيت ظلمتي، فينغرسون في تربتها خانعين.

- لماذا أنت صامت؟! لقد سامحتَني، أليس كذلك؟!

قلت لها:

- سأشتري لك غداً سجادة أخرى.

صاح راشد من داخل الغرفة:

- اذا كان لديك رصيد في البنك، فاسحبه.

رجعتُ إليه، فاذا هو يبتسم، مكملاً:

- لقد أدخلت احتمالات الحرب الهوس في قلوب الناس، فصاروا يسحبون أرصدتهم، أو يحولونها إلى الخارج، لا أحد يعرف ماذا سيحصل، الأراضي تكدّس سوقها، والشركات الأجنبية تستعد لتجميد أعمالها.

أجبته ببرود:

- هذا غير مستغرب.

سألني:

-       بالله كم لديك في البنك؟! قل لي، لا تخجل.

فكرتُ قبل أن أجيب عن سؤال الشاشة الإلكترونية.

- كم ستكلف السجادة؟!

ضغطتُ أزرار الجهاز.

- 2000 ريال.

سمعت صوت الكمبيوتر وهو يجري العملية الحسابية.

- خذ بطاقتك ثم تناول المبلغ.

سحبتُ بطاقتي ثم خرجتْ أوراق نقدية، ثلاث من فئة خمسمئة ريال، وخمس من فئة مئة ريال.

تناولتُ المبلغ، وخرجت.

كان عبدالرحمن يتحدث مع شخص آخر عن الفراغ الذي تركه العمال اليمانيون - بعد رحيلهم - على المخابز، ومغاسل الثياب وورش السيارات، وأعمال البناء، كان محتداً يدافع عن العمال،ويؤكد أن الذنب ليس ذنبهم، إنما ذنب المعادلات السياسية.

سمعته وهو يقول:

- هؤلاء الهنود والباكستانيون لن يستطيعوا أن يحلوا محلهم.

ردّ الآخر عليه:

- ستتعود عليهم.

التفت عبدالرحمن إليّ، وكأنه يريد أن أدلي برأيي، اعتذرتُ له.

- أنا مضطر للذهاب.

أعطيته رقم هاتفي.

- أنتظر منك اتصالاً.

قدتُ سيارتي في الشارع الرئيس لحي "الروضة"، الذي تمتد على جانبيه المحلات التجارية، والأسواق المركزية، ومطاعم الوجبات السريعة، وصالونات الحلاقة والمصارف.

- أي ماء سنطفئ به الحريق، حين تشتعل البلاد يا أصحاب الأموال الهاربة؟! بشقائنا، صنعتم ثرواتكم، وها أنتم تلفونها بعباءاتكم المقصبة وتطيّرونها خارج البلاد التي مسحتْ الجدب عن وعثاء ترحالكم.

أمام بقالة صغيرة، توقفت، سألت البائع عن جريدة " الحياة"، فأجاب وهو يحاسب زبونا آخر.

- انتهت باكراً.

لم يكن على رف الصحف سوى صحف محلّية مجعدة، التقطتُ صحيفة "الرياض"، ثم نقلتُ عينيّ بين أخبار الصفحة الأولى.

- "أكد الجنرال نورمان شوارسكوف - قائد القوات الأمريكية في الخليج - أن قواته قادرة على ردع الجيش العراقي، وأن الحرب قد تنشب في أي وقت في الخليج. وأشار شوارسكوف في حديث صحفي نُشر أمس، أن القوة المتعددة الجنسيات التي شُكّلتْ بعد الغزو العراقي للكويت تتمتع بالتفوق التكنولوجي، ولديها نيران كافية لردع الجيش العراقي. وأوضح أن القتال سيتسبب في مصرع الآلآف من الأبرياء أو إصابتهم، وان النزاع أصلاً ليس مع الشعب العراقي. وشكّك في قدرة العراق على تركيب رؤوس كيمائية على الصواريخ التي يمتلكها. كما أكد الرئيس الامريكي جورج بوش، أنه لا يستبعد حلاً عسكرياً، وأنه من الضروري معرفة ما إذا كانت العقوبات الدولية المفروضة على العراق ستكون فاعلة، مشيراً إلى أنه لا يقرع طبول الحرب. وفي باريس، أعلن مسؤول فرنسي أن الحرب أفضل من العار، وقال: إن الحرب شنيعة ولكن ثمة حالات يصل فيها الظلم إلى درجة يصبح فيها قرار الحرب أفضل من الجبن."

أعدتُ الجريدة إلى الحامل، ثم خرجت.

 

 

هامش د:

4 نوفمبر 1990م

طالعتُ ساعتي، فاذا هي تشير إلى السادسة إلاّ عشر دقائق مساءً. كان عليّ أن أخرج في تمام السادسة، كي أحضر فطائر همبرجر للأطفال قبل أن يناموا، كما طلبتْ هاجر.

حين ذهبت ظهراً لإحضارها من مدرستها، وقفتُ في حشد من الآباء والسائقين، في انتظار أن يقرر بواب المدرسة العجوز، ذو اللحية الطويلة المصبوغة بالحناء، البدء في مناداة البنات.

المدرسة حكومية، عبارة عن مبنى سكني قديم، غير مؤهل لاستيعاب صفوف البنات، من الصف الأول وحتى الصف السادس.

كانت هاجر تتبرم دوماً من ضيق الصفوف، وعدم توافر المكيّفات.

- الطاولات يا بابا مكسّرة ومتلاصقة، ثلاثون بنتاً في فصل واحد، والمعلمة تصرخ دائماً بنا، إذا قلنا لها بأننا لم نفهم شرحها. كل المعلمات في مدرستنا عابسات الوجوه، وكلما أطلب منهن أن يضعنني في مقدمة الفصل، يقلن لي: لا، لا أحد يتحرك من مقعده، لا أستطيع يا بابا أن أرى اللوح لأن البنت التي أمامي طويلة.

كانت تلحّ في طلبها.

- أنقلني يا بابا. ماء المدرسة متسخ بالتراب والحمامات مسدودة دائماً، وتفوح منها رائحة كريهة، أريد أن أدرس في مدرسة خاصة مثل ابنة عمي راشد.

طلبتُ منها أكثر من مرة أن تصبر حتى نهاية العام الدراسي، ولكني لم أعدْها بالمدرسة الخاصة. حاولتُ أن أُفهمَها بأن المدارس الخاصة تعطي الطالبات علامات متفوقة لكيلا يَخْرُجْنَ منها، لكنها لا تستوعب وتصرّ بعناد، أن أنقلها.

قام بواب المدرسة من كرسيه الخشبي العتيق، طلب منا أن نتراجع عن الباب الذي وضعوا خلفه ساتراً قماشياً، حتى لا يستطيع أحد أن يرى ما خلفه.

صار ينادي أسماء البنات بواسطة مكبر الصوت عن ظهر قلب، وهو ينقل بصره بين وجوهنا.

من بين أكتاف البنات الصغيرات، خرجتْ هاجر بوجهها الذي لوّحته الشمس بسمرة برّاقة، غرّة شعرها الناعم القصير، تتساقط مبعثرة على جبينها، والطوق الفوسفوري بين أصابع يدها اليمنى، وفي يدها اليسرى، حقيبة المدرسة المثقلة بالكتب والدفاتر.

أمسكتُ يدها، ومشينا حتى وصلنا سيارتي المندسّة بين السيارات التي أغلقتْ الشارع المواجه للمدرسة.

أثناء انتظارنا سائق السيارة التي كانت تقفُ ورائي، سألتُها:

- كيف المدرسة اليوم؟!

ردّت بغضب:

- لقد سرقت إحدى زميلاتي فطيرتي وعلبة تلويني.

قلت مندهشاً:

-   وهل أخبرتِ المعلمة بالأمر؟!

-  أخبرتها، ولكنها قالتْ: ماذا أصنع لكِ، اشتري حقيبة ذات أرقام سرية.

سألتُها كي أخفف عنها:

-     لِمَ لمْ تشتر بمصروفك شيئاً تأكلينه؟!

- الفطائر في المقصف غير لذيذة، تصنعها زوجةُ بوّاب المدرسة العجوز، وأنا لا أطيق رائحتها، والمشروبات كلها حارة.

- لا بأس يا حبيبتي، الآن تتناولين غداءك.

قالتْ بدلال:

- لا، أنا أريد فطائر همبرجر، أرجوك بابا، لا تتأخر في المكتب كعادتك، أحضر لنا في طريق عودتك همبرجر من مطعم الفطائر الأمريكية، لقد شاهدتُ إعلانا عنه في التلفزيون.

ملأت إعلانات هذا المطعم الأمريكي المتخصص في الوجبات السريعة، الصحف والمجلات وشاشات التلفزيون.

رددتُ عليها مازحاً:

- وهل تريدين أن أحضر لك كل ما يظهر في إعلانات التلفزيون؟!

قفزتْ إلى المقعد الأمامي، واقتربتْ مني:

- بابا، لماذا لا تحب إعلانات التلفزيون ؟!

- لأنني لا أستطيع أن أشتري كل البضائع التي يعلنون عنها.

تحركتْ السيارة التي خلفي، فرجعتُ بسيارتي إلى الوراء، وقدتها خارج الزحام.

أصبح شراء المواد الاستهلاكية حمىّ لا يمكن تفسيرها، وأضافتْ الوسائل الإعلانية المتجددة، مزيداً من الإغراءات لجلب الاحتياجات المنزلية الزائدة على الحاجة، وبمجرد أن أشاع بعض التجار أن الحرب ستتسببُ في نقص المواد الغذائية الأولية، اصطفَّ الناسُ في طوابير لشراء أكياس الرز والسكر والشاي والمعلبات.

كانت فاطمة تسألني:

- لماذا لا تحتاط مثل غيرك؟!

وكنتُ أجيبها:

- لأن الحرب حين تقوم، ستهلكنا جميعاً.

عندما ترجلتْ هاجر من السيارة، صاحتْ بي من خلف النافذة.

- لا تنس الهمبرجر يا بابا، لن أنام حتى تحضرها.

لملمتُ أوراقي، أخذتُ معي ملفاً لأراجعه في البيت، أغلقتُ المكتب وتوجهت إلى المصعد.

ضغطتُ الأزرار الكهربائية وانتظرت، انفتحَ الباب، فدخلت. كان نواّف أحد موظفي المراسم، يقف بتهذيب، إلى جانبه رجل وسيم، يرتدي مشلحاً مقصباً، وقد اكتظّ المصعد برائحة البخور.

ابتسمتُ لنواّف الذي أعرفه منذ بدأتُ العمل في المستشفى.

ابتسم لي، ثم عاد يكمل حديثه مع الرجل الوسيم باحترام واضح:

- لكنك يا سيدي متأكد أن الرياض ستكون بمأمن من جنون صدام.

- كما ذكرتُ لك يا نواف، لقد ورّط صدام نفسه بهذا العمل الانتحاري، سوف نسحقه سحقاً، ولن تقوم له بعد ذلك قائمة.

أصلح غترته البيضاء، ثنى طرف مشلحه على ذراعه الأيسر، ثم أكمل:

- صدام يتصور نفسه إلهاً،  لقد نسي أنه كان مجرد كلب، وأننا نحن الذين أطعمناه، وها هو ذا ينقلب علينا ليعضّ لحمنا.

هزّ نواّف رأسه موافقاً.

- صدقت، لقد ورط نفسه، من يستطيع أن يواجه أمريكا يا سيدي؟!

توقف المصعد، فتقدمتُ إلى الباب، وخرجت بمجرد أن انفتح.

عبرتُ الممر باتجاه البوابة الداخلية، أمام نقطة الأمن، كان ثمة رجل رث الملابس يتوسل للمسؤول أن يسمح له بالدخول.

توقفت، أراقب المشهد. 

كان الرجل يحاول أن يشرح بأنه للتو وصل من مدينة "جيزان" الجنوبية، وأنه يريد أن يدخل ليرى زوجته المنوّمة في قسم الأورام، لكن مسؤول الأمن كان يلحُّ في رفضه.

- تستطيع أن تراها في أثناء وقت الزيارة فقط.

مرّ إلى جانبي الرجل البدين، يتبعه نواّف بخطوات، وخلفهما رائحة البخور.

قبل أن أصل إلى مطعم الفطائر الأمريكية، الواقع في شارع المطار القديم، لفتَ انتباهي المبنى السابق لمجلس التعاون الخليجي، وقد أحيطتْ بوابته الخارجية بأكياس رمل، يحرسها مجندون أمريكيون، يحملون رشاشات أتوماتيكية. على طرفي المبنى سيارتان عسكريتان مكشوفتان، وسطهما مدافع موجهة إلى الشارع يجلس خلفهما عسكريان في حالة تأهب.

دخلتُ المطعم، فاذا أمامي أيضاً أمريكيان أشقران بزيهما العسكري، ينتظران دورهما، كان أحدهما يعلق آله تسجيل في حزامه، وسماعتاه موصولتان بأذنيه، كان يهز ركبتيه وهو ينصت لزميله الذي يتكلم بلكنة زنجية.

- أتمنى أن ينتهي الأمر قبل الكريسماس، فمن البؤس أن نقضيه في مكان كهذا.

وكان الآخر يضحك.

- هيه يا رجل. أقسم بالرب المعظم، أنني لا أحب أن أبقى يوماً إضافياً هنا.

تناوبا في الضحك، ثم هزّ الأول رأسه بعنف.

- ألا تظن أننا سنقضي أكثر من كريسماس هنا؟!

- أرجوك، لا تقل ذلك، يبدو أن هؤلاء الناس لا يطيقوننا.

همهم الآخر بسخرية.

- لا يطيقوننا؟! كررْ لي ذلك مرة أخرى، لقد تركنا أطفالنا وزوجاتنا وحبيباتنا وصديقاتنا، لكينحميهم، ماذا تقول يا رجل؟! ليقبّلوا مؤخرتي.

وصلهما الدور، فأخذا يطالعان قائمة الطعام المعلّقة أمامهما، خلف البائع الفلبيني الواقف أمام الآلة الحاسبة، الذي قال لهما بلغة إنجليزية مهذبة:

-كيف أستطيع أن أخدمكما أيها المحترمان؟!

أكملا مطالعتهما ببطء، والمجند الذي يحمل آلة التسجيل يتراقص بكتفيه، وعلى وجه البائع ابتسامة رضا وود.

صارا ينتقيان من القائمة، والبائع يضرب الآلة بإصبعيه.

أخذا طلباتهما، واختارا مقعدين يطلاّن على الشارع العمومي.

عند خروجي من المطعم، كان الشارع مزدحماً، حين وصلتْ الدوّار، اتجهت يميناً كي أسلك طريق كوبري الخليج.

كلما أستقل هذا الكوبري، يرهبني منظر الطائرات الأمريكية، حاملة الجنود العملاقة، ذات اللون الأسود المخضّر، وهي تربض على أرض مطار القاعدة الجوية، يسار الكوبري.

طائرات لا حصر لها، تقلعُ وتهبطُ على مدرج النوم الذي لم يعدْ يستطبني، تحلّق في سماء الكابوس، فتهدم أجنحتها شرفات ليلي، أستغيثُ بتلال خبأتها في واحة تستريح النجومُ فوق كبرياء نخيلها، أمدُّ يدي، فيرتجفُ السعفُ على دم يتحجّر في أصابعي. يتقاطر السهدُ من رموش عينيّ، فتنمو شجيرات صفراء ثم تتكومُ داخل ارتعاشاتها، من أوراقها اصنع بساطاً للريح، يتمتمُ النخل بأدعيته لي، لكن الأرضَ تتصدع، فأسقط في جُب تحيط جدرانه الحمم. ينصهر لحمي، فتمسكُ عظامي بحبال الدلاء التي جفَّ الطينُ على أطرافها.

في دلوٍ، أجمعُ عظامي وأتشهّد.

- ما بك يا بابا؟!

- لا شيء يا حبيبتي.

- وجهك اصفرَّ.

- أغسله الآن.

أعطيتها فطائر الهمبرجر، ودخلتُ إلى غرفتي، تمددتُ على السرير، فأخذني النوم.

استيقظتُ على صوت فاطمة، وهي ترتب الملابس في الخزانة.

- لم أحب أن أيقظك.

- كم الساعة الآن؟!

- التاسعة والنصف مساءً.

- شعرت بأنني نمتُ نوماً عميقاً وطويلاً.

-     هل أعطيك ملابس نومك؟!

- لا، شكراً. أريد شاي.

- ألن تعود إلى النوم؟!

- لقد نمت بما فيه الكفاية.

خرجتُ إلى الصالة، كان التلفزيون يعرض المسلسلة اليومية المصرية، صرتُ أقلب أشرطة الفيديو بحثاً عن فيلم يستحق المشاهدة، فلم أجد.

فتحتُ الأدراج. بدأت أخرج المجلات وأكوّمها بعضها فوق بعض.

بدأت أتصفحها مجلة، مجلة، من دون أن أقرأ.

استوقفتني صورة للمخرج التركي " يلماز غونيه"، إلى جانبه حقيبة السفر، وبين أصابعه سيجارة، متمدداً على السرير في غرفة فندق رخيص.

كان الخبر يتناول فيلمه "الجدار"، الذي حصد جوائز ذهبية عند عرضه في بداية الثمانينات.

كنتُ قد شاهدت الفيلم أول مرة، تحت وطأة كآبة شديدة، كنت في الأشهر الأولى من العزلة التي قررت بناء جدرانها حولي، لأحمي نفسي من المثالية السياسية لأصدقائي.

لم أشعر يوماً باختلاف معهم، بل العكس. هم أنقياء، يودون أن يطهروا الأرض من رجسها، يحلمون أنه لا يزال بإمكان القصيدة إن تفجر جمجمة الشيطان.

في تلك الليلة الكئيبة، كنت وحدي، كانت زوجتي وأطفالي في زيارة والدتي.

كانت الأفلام السينمائية الجادّة مصدراً مهماً من مصادر الإبداع التي أحرص على متابعتها، وكنت قد حصلت على فيلم "الجدار" من أحد الزملاء الذي وصل قبل أيام من رحلة عمل لمدينة باريس.

كان يزور أخته في المستشفى، عندما صادفني، حكى لي عن رحلته، وقال لي: إنه سيحضر لي فيلماً مهماً في الغد.

يحكي الفيلم قصة مجتمع داخل معتقل، رجال، ونساء، وأطفال، قصص حب وزواج ولواط وسرقة وجريمة، مرض وموت وإنجاب، كل هذا بين أربعة جدران أسمها معتقل أو دولة.

لم يكن لهذا الفيلم بطل، كل الشخصيات، كانت أبطالاً، يختار كل مشاهد الشخصية التي تتناسب معه ويتابعها، ينتقي بطلاً في هذه الدولة ويقول: هذا أنا.

اخترتُ شخصية "عزيز"، الذي كلما اعتلى الهلالُ صفحة السماء، كتب لأبيه، ولم يكن يعرف إن كان حياً أو ميتاً، رسالة يخبره فيها أنه لا يزال ينتظر تلّقي جوابٍ منه، يبثّ في الرسالة عوزه وحاجته الشديدة إلى الأكل، يقصُّ عليه في كل رسالة، القصة السابقة نفسها: يا أبي: الفتيان في هذا المعتقل شرسون، يضربونني ضرباً مبرحاً وينتزعون اللقمة من بين شفتيّ.

مع كل هذا العذاب، كان وجه عزيز ينضحُ بتوهج، يكبر سنوات عمره العشر. انضمّ إلى مجموعة من الشبان الذين كانوا ينظّمون احتجاجات للمطالبة بالخبز وبالماء. ضرب العساكرُ الشبانَ وعزيزاً في وجوههم وبطونهم، لكنهم استمروا في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات. جوّعوهم وحلقوا رؤوسهم، ولم يثن ذلك من عزمهم، منظر الدماء والكدمات على وجوه الشبان لا يثير الأسى، بالقدر الذي يثيره بكاء عزيز الذي ينتفض هلعاً، وهو يخفي وجهه بكفيه، ليحمي نفسه من أحذية العسكر.

وإمعاناً في إذلال هذه الاحتجاجات، اغتصب السجّانُ عزيزاً في منتصف ليلة ساكنة، ثار الشبان، وأرادوا ردّ اعتبار رفيقهم. طلبوا من عزيز أن يخبر طبيب المعتقل بما حدث، لكنه لم يجرؤ على ذلك خوفاً من التهديد الذي تلقاه بالقتل.

صاح به أقرب أصدقائه:

- إذن، أغرب عنا يا عديم الرجولة.

كان عزيز يستميت بحثاً عن حريته الكبرى، وها هي ذي حريته الصغرى تطعن أحشاءه.

في فجر أحد الايام، وفي غفلة الحرس بترميم باب المعتقل، فرّ عزيز من الدولة، ركض عزيز أمام أعين الحرس والفتيان والشبان.

صاح الشبان:

- أركض يا عزيز. أركض.

صاح الحرس:

- توقف.

ركض عزيز حتى اتسع الأفق الجبلي الأخضر أمام عينيه الصغيرتين.

وأمام باب الحرية الكبرى، خرّ عزيز صريعاً بطلقات الرصاص التي وجّهها السجان إلى ظهره.

أخذتُ أحدق في ملامح "يلماز" الذي مات معدماً ومنفياً. كانت عيناه تبرقان بانتصار مهيب. آمن أنه انتصر على العسكر، لأن معتقلاتهم لم تلطخ بياض قناعاته. انتصر على ذاته التي مزقتها المنافي والسجون، ببردها وجوعها ومرضها وأقفاصها الانفرادية. لم يقل نعم، سوى للمنفى وللسفر. ومكث "يلماز غونيه" في ذلك السفر. رأيته في الصورة كما هو، وحيداً كما مات، منتصراً كما أغمض عينيه. 

في صندوق الأفلام القديمة، بحثت عن فيلم "الجدار"، وضعته في جهاز الفيديو، وضغطت زر الإرجاع، تناولت الملف الذي أحضرته معي من المستشفى، فتحته، ثم سمعتُ فاطمة تناديني من داخل المطبخ:

-   أتريد الشاي مع النعناع؟!

 

  

هامش هـ:

5 نوفمبر 1990م

 

انتظمتْ سياراتُ الموظفين في صف طويل أمام البوابة الخارجية في انتظار الدخول للمستشفى، كانت الساعة تشير إلى الثامنة إلاّ ربعاً.

اعتدتُ الحضور إلى مكتبي قبل هذا الوقت.

آخذ هاجر وهزيعَ، في حوالي السابعة إلى مدرستيهما، وأكون في عملي عندما تقترب الساعة من السابعة والنصف، حيث لا يكون أحد في المكاتب المجاورة. أراجع المعاملات اليومية حتى الثامنة، حينها، يصل العم إبراهيم، ويكون أول ما يفعله صنع قهوتي.

لم أكنْ قد تناولتُ طعاماً طيلة أمس، شاهدت فيلم "الجدار" مرتين، ولم أنم إلاّ بعد صلاة الفجر.

بعد أن أوصلتُ الأطفال، عدتُ إلى البيت، قررت أن أنام نصف ساعة أخرى، لكنها امتدت قليلاً، فتأخرت.

كنتُ جائعاً، لذلك توجّهت مباشرة إلى كافتيريا المستشفى؛ لأتناول إفطاراً خفيفاً.

كانت هناك تشكيلة منوعة من الأطعمة الصباحية الأمريكية والشرقية، وأنواع شتى من الفواكه الموسمية.

وضعتُ في صينيتي تفاحة وكوباً من الحليب، واتجهت إلى ركن الكفتيريا، حيث كان يجلس ثلاثة موظفين سودانيين، يرتدون الزي الخاص بإدارة الخدمات العامة، وهم يعملون سعاة لنقل المعاملات والملفات الطبية ومرضى الكراسي المتحركة بين إدارات المستشفى المختلفة.

كانوا قد فرغوا من فطورهم، وأخذوا يدخنون سجائر "بنسون" الإنجليزية، كان الأكبر فيهم سناً الذي وَخَطَ الشيب شعر رأسه ولحيته الطويلة غير المرتبة، يتحدث، والثاني، الذي كان في حوالي الثلاثين من العمر، يستمع، أما الثالث، المقارب للثاني في العمر، فكان يقرأ جريدة الشرق الأوسط، ويهز ساقه بعصبية.

ارتشفتُ بعضاً من حليبي، ثم بدأت أقشّر التفاحة.

كان الرجل الأشيب يقول:

- كل حسابات البشير خاطئة، تصفيته الجبهة الإسلامية واعتقاله الصادق المهدي أسقطتْ أسهمه، لم يقدّر أن المد الإسلامي أصبح مزدهراً في السودان ومصر والجزائر. 

ردّ الشاب عليه:

- وماذا فعل الصادق المهدي؟! ألم يعتقل هو الآخر طلبةَ الجامعة والعسكريين؟! 

يهتم السودانيون بطبيعتهم بالسياسة، ونادراً ما تجد سودانياً غير مثقف سياسياً.

لم أكن أتوقع أن لقصائد "الفيتوري" هذا الوهج عندما تقرأ باللغة العربية المطعّمة باللهجة السودانية، حتى سمعت "محمد الأمين" وهو يرجّ موسيقى القصيدة بصوت حشرج حباله تبغُ السجائر الإنجليزية.

قضيتُ مع محمد الأمين و"محمد أحمد"، فترة ثرية من فترات عمري في المستودعات التابعة لشركة توزيع دهانات، كنت أشتغل مندوب مبيعات للشركة بمكافأة مقطوعة طيلة دراستي الجامعية. أتجوّل على محلات بيع الدهانات، أعرض عليهم بضاعة الشركة، وحين تروق لهم يطلبون كمية محدودة، ذلك لكون هذا النوع من الدهانات حديث العهد في الأسواق المحلية. في نهاية اليوم، أسجل قائمة بالطلبات، وأسلمها لمحاسب الشركة، الذي يصدر أمراً بإخراج الكمية من المستودعات، ويحيل الأمر إلى صاحبيّ ليقوما بتعبئتها بعد عصر اليوم التالي. في ذلك الوقت، أكون في مقر الشركة، استقل السيارة مع محمد الأمين ومحمد أحمد، وندور بالكميات نوزعها على المحلات. وفي نهاية كل شهر، يكون نصيبي بين السبعمئة والتسعمئة ريال، وهي ضعفيْ المكافأة التي تمنحني إياها الجامعة.

كنا نستمع أثناء تجوالنا في السيارة، إلى أشرطة المطرب السوداني "محمد وردي" الذي كان نصيراً، بصوته الشجيّ، للفقراء والمحرومين.

أنزلنا مرة حمولة مطلوبة لمحل في منطقة " المرسلات" شرقي الرياض، كان عامل المحل المصري هو الذي طلب الكمية، حين أنزلنا الحمولة، استقبلنا صاحب المحل، كان في الأربعين من عمره، هيئته لم تعتدْ بعد على الثراء.

سألنا:

- من طلب هذه الدهانات؟!

أجابه محمد الأمين:

- هذا.

وأشار إلى العامل المصري الذي بدا عليه الارتباك.

وجّه الرجلُ كلامه إلى العامل:

- ومن حضرتك حتى تطلب شيئا من غير إذني؟!

أجاب العامل:

- لقد اشترطت عليهم، أننا سنحاسبهم بناءً على الكمية التي تباع فقط.

أيدّ الأمين كلام العامل.

- ونحن عند كلمتنا.

كنا، أنا ومحمد أحمد، في مؤخرة السيارة، نقوم بتنزيل الصناديق المطلوبة، عندما دفع الرجل كتف الأمين قائلاً:

- خذوا بضاعتكم واغربوا عن وجهي.

ثم رفع سبابته أمام أنف العامل المصري:

- أما أنت فلي حساب معك.

داخل السيارة، التي انطلقتْ يقودها الأمين لا إرادياً إلى المحل التالي، ظللنا صامتين نسترجع المشهد، وكل واحد يضفي عليه أساه الخاص.

رفعتُ صوت "الوردي"، التقط الأمين علبة سجائري من فوق (تابلوه) السيارة، أشعل سيجارة ثم ضحك بحرقة:

- من أي طينة عُجنَ هؤلاء الناس؟!

ردّ عليه محمد احمد:

- الله الهادي إلى سواء السبيل.

- أيحسبون أنهم يشترون الناس بأموالهم. أرأيتَ كيف دفعني، وكأنني خادم عند أبيه؟! لو كنتَ مكان العامل، لما بقيت في محله يوماً آخر.

تخيلتني أردّ بلسان الأمين.

- أنت لا تزال صغيراً يا محمد أحمد، أتعرف من أي عذاب جاء هذا العامل؟! من أي أطفال وزوجة؟! من أي أم يهدّها المرض، وأب لا يجد ملحفاً للشتاء. هذه الغربة يا محمد، تشنقنا ليل نهار، عندما نضع رؤوسنا على مخداتنا التي سوّس الأرق قطنها، نتخيل زوجاتنا وهنّ يتزينّ ليالي الجمعة، كي يحلمن بأنهن ينمن معنا، نتخيل أطفالنا والأعياد تمر بهم، من دون أن نطعمهم في صباحاتها سكراً وهدايا.

قرأ الأمين قصيدة كان يحفظها عن ظهر قلب بلغة عربية مطعمة بلهجة سودانية.

وتهادت الغربهْ،

عرجاءَ تبكيني وتضحكني،

وتريقُ الواني.. وتغزلني،

ليلا خريفياً بلا لونِ،

ليلا عجوزاً طاعنَ السنِ،

يعدو بخيمته ويحملني.

ورأيتُ بوماتٍ وأغربةً،

تصطفُّ عبرَ مداخل المدنِ،

عمياءَ ترمقني،

حيناً وتنقرني،

وتظلُّ تنقرني،

وأنا أطلُّ عليكِ،

غائرةَ القدمين والعينين في بدني.

كالجذعِ، كالحربهْ،

في غابتي المنسية الرطبهْ،

وصرختُ حين تلّوتْ الغربهْ،

بي.. في ضفائر شعرها الوثني.

يا أولَ الدنيا وآخرها،

لولا هواكِ لمتّ في وطني"

سألته بدهشة.

-   لمن هذه القصيدة الرائعة أيها الأمين؟!

أجاب مغمضاً عينيه:

- هذه أغنية موت قصيرة لمحمد الفيتوري، كتبها عام 68م.

كنتُ في مرحلة الدهشة الشعرية، أحفظ قصائد سميح القاسم، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وأمل دنقل.

قلت له:

- أنا أحب هذا الشعر كثيراً.

قرأتُ عليهما مقاطع من بعض القصائد التي أحفظها، فأعجبهما شعر محمود درويش.

قال الأمين:

- هذا شاعر فلسطيني ثوري، أليس كذلك؟!

أجاب محمد أحمد:

- أجل، هذا شاعر فلسطيني كبير.

سحبَ الأمين آخر نفس في سيجارته، ثم رماها من النافذة.

التفتَ اليّ:

- أنا أحب الشعر السوداني الشعبي، فهو الذي يحمل أفراح الناس وأحزانهم، ثقافتي محدودة. لا أحمل سوى مؤهل صناعي. ساعدني صديق يعمل عند أحد الأثرياء، واستخرج لي تأشيرةَ دخول بمهنة سفرجي. عملتُ عند الرجل عدة أيام، اكتشفَ أهله انني لا أجيد هذه المهنة الصعبة، فطلب مني صديقي أن أبحث عن عمل آخر. لم أكن أجيد سوى ميكانيكا السيارات، لكني لم أجد عملاً في هذا المجال. وأخيراً وفّقني الله لهذا العمل براتب سبعمائة وثمانين ريالاً. وبالعلاوات والحوافز يصل إلى ثمنمئة وخمسين ريالاً، وعندما احتاجتْ الشركة إلى عمال إضافيين، قدمتُ لهم أوراق ابن خالتي محمد أحمد الذي يعول أماً مصابة بالرعاش وخمس بنات. هو الآخر لم يكمل تعليمه وليس لديه سوى دورة في الآلة الكاتبة.

ضحك محمد أحمد.

- إذا كتبتَ قصائد شعر مثل ناس الفيتوري ودرويش، سأطبعها لك على الآلة.

ضحكنا جميعاً، فكأن الغمامة تسربت من نوافذ السيارة إلى شارع " المرسلات" الرئيس الذي تفترش جانبيه أراضٍ في أوائل إنشائها.

أشرتُ إلى محل صغير لمواد البناء.

- قف هنا يا أمين.

لم أتناولْ سوى نصف تفاحتي، شربتُ الحليب، ثم أشعلتُ سيجارة.

فرغ الشاب السوداني الذي كان يطالع الجريدة من قراءتها، ناولها للرجل الأشيب، الذي بدأ يتصفحها بدقة مبتدئاً من الصفحة الأولى.

صار الشابان يتهامسان، ولم يقطع همسهما سوى إشارة من الأشيب.

- اسمع.

وكان يشير إلى الشاب الذي كان يتحدث معه.

- وصفتْ الولايات المتحدة عرض نظام بغداد على أقارب الرهائن المحتجزين في العراق والكويت لزيارتهم أثناء عيد الميلاد، بأنه عرض مشين يفتقر إلى الإنسانية، ويتسم بالقسوة. ولقد ناشدَتْ المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية مجدداً، نظام بغداد بإطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين في العراق والكويت، مؤكدة أن وضع الرهائن هناك في تدهور مستمر.

حملتُ صينيتي وخرجت، وعيناي على الشاب وهو يتحدث بصوت منخفض وعلى وجهه تعابير جادة، والرجل الأشيب يهزّ رأسه موافقاً.

فتحتُ باب مكتبي، ثم اتصلت بالعم إبراهيم:

- صباح الخير.

- صباح النور، سلامتك، لماذا تأخرت اليوم؟؟

- أبداً، لا شيء، احضر لي قهوتي يا عم إبراهيم لو سمحت.

اتصلتُ أيضاً على سكرتيرتي "ماريان" وطلبت منها أن تحضر لي البريد الصباحي.

دخلتْ ماريان ومعها مجموعة من المعاملات ومظروف مكتوب عليه كلمة "خاص".

التقطتُ المظروف، وقبل أن أفتحه، دخل العم إبراهيم حاملاً قهوتي.

وضعها على الطاولة، ثم خرج.

بتوتر، فتحت المظروف، فوجدت بداخله رواية "انتفاضة المشانق"، وورقة مطوية.

فتحت الورقة:

"صباح الخير يا صديقي.

ربما تكون هذه آخر تحية أحييك بها، أتمنى الاّ يزيد ذلك من حزنك، لكنني مثل كثيرين، الذين لم يجدوا من يكفلهم، سأعود مجبراً إلى اليمن.

كنتُ دائماً أتوقع طعنة، وكنت أعد لها ظهري الطري، لكني لم أتوقع أن تأتيني بين عينيّ.

ها أنذا أخرج، ورائي إحدى وثلاثون سنة من العروق التي غزلتُها سقالةً أقفُ عليها لكي أضيف ماء كرامتي إلى اسمنت مدينتكم الوضاءة.

أنا ذلك اليماني الذي هاجر من جبل "صبر" في تعز، وجاء عابراً خريطة ً من الفقر الجنوبي حتى وصل إلى الرياض ممسكاً بإزار والده، ذي الجسد المسلول، والأم التي تسحب ثلاثة أطفال، لا يكاد أكبرهم يسترجع ذلك المشهد.

في أزقة شارع "ثليم" المتربة وداخل بيوتها المتداعية، نشأت، كنت أسبق الصباح إلى عملي، صبياً في طاحونة يمتلكها عجوز قصيمي، كان أقسى من حديد المطحنة، ينهرني صباحاً ومساءً، لأن قامتي لم تكن تسعفني لوضع الملح في فوهة الصندوق المخصص لجمع الحبوب، والمتصل بجسد الطاحونة، منتهياً بممر حديدي محاط بجلد دواليب السيارات.

ما بين صلاتي الظهر والعصر، ووسط غشاوة الطحين، تعلمتُ كيف أكتب الألف علـى ورق الأكياس الفارغة.

كلما أتقن جسد حرف، أنزلق في فرح الجملة.

جملةٌ خلف جملة، سنةٌ تتبعها سنة، وطحين وراءه طحين، رأيتُ مدينتكم تتشكّلُ مع أبجديتي.

فررتُ ذات ظهيرة من مطحنة القصيمي، مشيتُ حتى انتصف بي شارع "المرقب".صادفتُ عمالاً يمانيين يبنون مدرسة، وهم يتعاقبون في الغناء.

- أربعة شلّوا الجَمَل، والجَمَل ما شلّهم.

وفكرتُ.

- هل يستطيع أربعة عمال بأجسادهم العظمّية أن يشيلوا جَمَلاً؟!

كانت عضلات أياديهم تلتفُّ على عظام سواعدهم في تناسق مثير، يحملون القوالب الأسمنتيـة واحداً بعد الآخر، وكأنهم يبنون بلداً يحميهم من الهجرة.

- لن يشيل الأربعة جَمَلاً، إلاّ اذا كانوا من بلاد اسمها اليمن.

كانت الرياض تتشكل بيتاً بيتاً، شارعاً ومدرسةً. سوقاً ومساجد.

تشكلتُ معها، بنيتُ فيها كل كلماتي الضائعة. كنت أحس أن  ضمير كل جملة في هذه المدينة، يعود إلى صوتي.

لم يكن نهار البناء يهدّ روحي، التي أعلّقها كل مساء، في صفوف المدرسة الليلية.

حصلتُ على الشهادة الثانوية، ولم يصدّقْ مُعلّمُ البناء الذي اشتغل له، إلاّ عندما ناولته الشهادة الممهورة  بختم المدرسة الواقعة شمال "حلّة العبيد".

- وهل ستترك البناء؟!

- إذا وجدت عملاً، سأفعل.

قبل أن أودّعهم، صعدتُ سقالةَ المبنى العالي، صرتُ أمتّعُ بصري بأفق لا ينتهي من المباني الخرسانية، فكأنها عرائس بحر رملي، تشابكتْ أياديها كي تغني لي أغنيتي الأخيرة.

نفضتُ الغبار، غبار المطحنة وغبار معلّم البناء، وطرقت غباراً جديداً: مكتبة في "البطحاء".

تسلقت الرفوف، وصعدت إلى ابن خلدون وأبي حيان التوحيدي والفراهيدي. من متن إلى متن، من لسان العرب إلى المحيط، وجدت لساني يكتسب مرآة جديدة، كنت أرى في ثيابي الناصعة قلبي، وهو ينزف لغة تُلطّخُ بياضي بكواكب الصفاء.

وعرفتُكَ.

كنتَ تأتي كل آخر شهر، تدسُّ في يدي قائمةً من الكتب، وتعود في الغد لتأخذها.

كان من عادتك المجيء صباحاً، حين لا يكون صاحب المكتبة موجوداً.

سألتني عن كتاب المواقف "للنفّري".

كنتُ أسمع عنه أول مرة، بحثتُ عنه كثيراً، فلم أجده.

سألتُ صاحب المكتبة، فاهتاج غاضباً:

- نحن لا نبيع كتباً صوفية.

وحذّرني منك.

وحين أخبرتُكَ بالأمر، ضحكتَ، قلتَ لي.

- إذن ورّطتكَ معي، لم أكنْ أتوقع أنكَ ستسأل صاحبَ المكتبة.

نمتْ بيني وبينك علاقة دافئة. كنتُ أجد في الكتب التي طلبتُ منك أن تزودني بها، كوثراً يبلل اصفرار الرفوف التي تحاصرني.

كأنك أهديتني مفتاح البحر، الذي كنت أجهل أن أمواجه تتلاطمُ على شواطئ بوحي.

صرت أبوح لك بكتاباتي، وكنت أرتجف وأنا أنثر مقاطعها على دفتر مدرسي صغير.

كتبتُ رثاءً لعروس الجنوب اللبناني "سناء محيدلي".

نشرتَ لي هذا الرثاء في صفحتكَ الثقافية، وحين قرأتُ رثائي موسوماً باسمي الثلاثي في الجريدة، أحسست أنني أقرأ اسمي أول مرة.

هذا أنا أخيراً، "مهيوب جعفر الأهد".

عندما طالعتُ نفسي في المرآة مساء، رأيتُ وجهكَ ينعكس إلى جانب وجهي، حولهما قوس قزح.

على هذا القوس، سهرنا معاً.

كنتُ وأنا اقرأ لك نصوصي الجديدة، أحاول أن أسمعك حرقتي، أراقبكَ وأنت تغمض عينيك، وكأنك تستمع إلى مطر نذَرَ إيقاعه لتأوهات العشب.

لم يعد العشب يليق بالمطر.

قال لي صاحب المكتبة:

- أبحث لك عن رزق بعيداً عني.

ومن عمل إلى عمل، كانت التربة تضيق بي.

إنني الآن في نهاية شارع بفانوس واحد.

ها أنذا أغادر، والفانوس ينطفئ.

                                    وداعاً يا صديقي"

 

 

الرياض - 1:

6 نوفمبر 1990م

خرجتُ مجهداً من المكتب، كان المساء يشير إلى السابعة إلاّ ربعاً، أدرتُ مؤشر مذياع سيارتي إلى إذاعة لندن، دقّتْ ساعة "بيغ بن"، ثم بدأ "عبدالله المعّراوي" في قراءة النشرة.

"ضمن التحرك المقبل للإدارة الأمريكية، الذي ستحدده نتائجُ الجولة المهمة لوزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، تأتي المباحثات والمشاورات التي سيجريها الرئيس جورج بوش في اجتماعاته مع عدد من قادة دول أوروبا الغربية، ومنطقة الشرق الأوسط خلال الجولة التي يبدأها في السادس عشر من شهر نوفمبر الحالي، وتستغرق أسبوعاً، يرجّح مراقبون ومحللون في أوساط دبلوماسية مطّلعة بأنها ستحدد عناصر العمل العسكري، الذي تتزايد المؤشرات على حتمية وقوعه".

تذكرتُ أن فاطمة ليست بالبيت، عندما خرجتُ صباح اليوم، أخبرتْني أنها ستأخذ الأطفال عصراً لزيارة أختي هيلة.

منزلنا ليس بعيداً عن الشارع العمومي. تمشي هي والأطفال إليه، تنتظرُ أول سيارة "ليموزين"، وهي تسترجع تحذيراتي.

-انتبهي، اذا لم تكن السيارة "ليموزين"، لا تؤشري لها، اسأليه بوضوح إذا كان يعرف المكان، ثم اصعدي أنت والأطفال في المقعد الخلفي.

- لا تقلق، بعد صلاة العشاء، ستأتي لتأخذنا.

انحرفتُ بالسيارة من شارع "التخصصي"، إلى الشارع الرئيس لحي "العليا".

حي العليا لا يهدأ في هذا الوقت، فهو خاصرة مساء الرياض ورقصته التي لا تنام.

العليا، شارع تتناثر على اسفلته قصاصات المواعيد التي لم ترتّبْ عطرها. وآهات تعبت الموسيقى من ملاحقة دندناتها المترفة.

كان "مروان"، شقيق زوجتي، يزور الرياض في إجازات المدرسة، قادماً من مدينة "الطائف" التي لم يبدأ فيها التعليم الجامعي. وفي كل زيارة تزداد قناعته بأن الرياض ستكون جامعته.

اختار العليا ليسكن في واحدة من عمائرها الخلفية، غضبتْ فاطمة في البداية؛ لأنه استأجر غرفة صغيرة في سطح البناية.

قال لها ضاحكاً:

- يكفي هذه الغرفة التي تحتقرينها، أن تكون في عمارة من عمارات حي العليا.

كان يعشقُ العلاقات العابرة، يكتب رقم هاتفه على شريط كاسيت، ويرميه داخل سيارة البنات اللاتي يتضاحكن له، ويلوّح لهن بيده أن يتصلن الليلة.

كان يهتم بمظهره كثيراً. ينفق مكافأة الجامعة في شراء أحدث الصيحات من البنطلونات والقمصان والعطور والأغاني.

 كان أهل "الطائف" يرونه متغطرساً، ولم يكن يلقي لهم بالاً.

كان يقول:

- متى أنتهي من الثانوية، كي يريحني  الله منهم؟!

كان يحب قراءة الروايات الرومانسية، ومنذ صغره كان مهووساً بالنجومية، وبلفت الأنظار إليه.

لم يكن يقرأ كثيراً، لكنه كان موهوباً بكتابة الخواطر الوجدانية.

بعد أن انتقل إلى الرياض، وبتأثير الحياة المستقلة التي حلم بها كثيراً، تطوّرت لغته، كان يحـب أن يجالس المثقفين، وأن يستمع إلى الحوارات الساخنة، كان مستمعاً حذقاً، يتابع الأحداث السياسية بواسطة الآخرين، من دون أن يجهد نفسه بقراءة الصحف، أو الاستماع للإذاعات، كان جريئاً، يقرأ كتاباته أمام أصدقائه، وكأنه كاتب أنهكتْ التجارب خطاه. معظم موضوعاته تتركز في حرمانه من التعبير عن ذاته، أو بحثه عن امرأته المثالية التي تحمل مواصفاته الرومانسية.

- لذلك أحب العلاقات السريعة، أنا على استعداد أن أعيش تجارب مع عشر فتيات، وأن أجعل كل واحدة تحلم بي بشكل مختلف، هذا ليس كذباً أو تناقضاً، إنه فهلوة، أنا لا أقضي وقتاً طويلاً مع أي منهن. 

- أليس هذا هو مصير أي علاقة عابرة؟!

- أنا أؤمن بأنني سأجد عبر هذه العلاقات امرأتي.

- لا أظن ذلك يا مروان.

- هل لديكَ وسيلة أخرى؟! كيف تريدني أن أجد امرأتي، أأطلب من أمي أن تدور بصورتي على بيوت المدن بحثاً عن ضالتي.  أنا لا أحتقر نفسي عندما أرمي رقم هاتفي على امرأة تستلطف ابتسامتي، ليس هناك مجال آخر في هذه الصحراء، أنتم تعدون العازب فيروساً سرطانياً سيلتهمُ أعضاءكم. في المطعم يجب أن نكون بعيدين عن عوائلكم، في الطائرة، في القطار، في السوق. وعندما أدخل مكتباً للعقارات، أبحث عن شقة تأويني، يسألني صاحب المكتب أول ما يسأل: أين عائلتك؟! أنا لست سوريالياً مثلكَ، أبحث عن امرأتي في شرفة الهواء المطلّة على قمر تركضُ الخيلُ على اغفاءة مروجه.

قاطعته:

- من أين سرقت هذه الصورة الشعرية؟!

تبددتْ الحدّةُ من أساريره، ثم ضحك.

- صدقني، هؤلاء الفتيات اللاتي أقابلهنَ في العليا، هنَّ الجياد التي لا أملّ الرهان عليهن.

كان مروان يعشق اغتصاب حريته، حتى لو كانت ريشةً في مهب عفاريت طائشة، يسافر بسيارته فجأة، وسط أيام الجامعة، من دون أن يخبر أحداً، إلى "البحرين" عن طريق الجسر ليقابل صديقته التي التقاها في إحدى سفراته المتكررة، في سوق "المنامة" الشعبي، وقال لها بجرأة: ما أجملك. وفي المساء، ومن غرفته في فندق "بيسان" يكون يتلو عليها بالهاتف خاطرةً من خواطره الوجدانية، وبعد أن يفرغ منها، يتصل بنا ليقول بانتشاء:

- لا تقلقوا عليّ، أنا الآن خلفَ الجسر، أشرب من ماء "ديلمون"، الذي سيصفّي قلبي من رمالكم، أخائفون أنتم على دراستي الجامعية؟! اطمئنوا، فهذا الماء سيجعل أمامي متسعاً من الوقت لأفعل كل ما تريدونه مني.

أثناء عزلتي، لم أجعلْ أحداً يطرق جدراني الموحشة.

قال لي مرة:

- إذا أردتَ ان تغلق الباب في وجهي أنا أيضاً، فسوف أنتظر في الخارج، سأنتظر أن يناديني صوتك.

لم أردّ عليه، فأكمل مبتسماً:

- اذن، اقرأ عليّ شيئاً من نصوصكَ الجديدة.

كان يتصلُ بي في نهاية كل أسبوع.

- أأستطيع زيارتك؟!

من شارع العليا الرئيس، دخلت زقاقاً فرعياً، أوقفتُ سيارتي أمام العمارة التي يسكنها مروان.

صعدت الأدوار الثلاثة للبناية التي تخلو من مصعد.

عندما فتحَ باب غرفته، كان لا يزال يخلع ملابسه، وقد رمى كتب الجامعة على السرير.

حيّاني ببشاشة، وقبل أن يتوجه لأدوات الطبخ في ركن الغرفة، ضغط زر آلة التسجيل.

- سأعدّ لك كوباً معتبراً من الشاي.

وأكمل:

- لقد عدتُ قبل دقائق من يوم حافل بالكلية.

فرقع بإصبع يده اليمنى، واستدار باتجاهي.

- عند دخولي، اتصلت بك امرأة اسمها منيرة. تقول: إنها تريدك في أمر مهم، وسوف تتصل بكَ مرة أخرى.

ابتسم وهو يهزّ رأسه.

- يا لحلاوة صوتها.

وأضاف غامزاً بعينه:

- هل هي الشرفة المطلّة على القمر؟! اعترفْ أيها الغامض.

لم أكن قد عملتُ في المستشفى عندما تعرّفتُ إلى منيرة، كنت لا أزال محرراً مسائياً في المجلة.

في ذلك المساء، طلبت من مأمور السنترال، الاّ يحوّل لي أي مكالمة قبل أن يعرف هوية المتصل، وأن يسألني إذا كنتُ راغباً في الحديث معه.

كانت المجلةُ قد نشرتْ تحقيقاً تحت عنوان: "أيتها المرأة من تكونين؟!" واستضافتْ في هذا التحقيق عدداً من المثقفات وأستاذات الجامعة. كان السؤال الرئيس: لماذا لا تكون هناك بطاقاتُ هوية للنساء السعوديات تحمل صورهن، تماماً مثل الرجال؟!

كانت المجلة وقتها في عزّ توزيعها، كان معظم رؤساء الأقسام فيها من المثقفين، الذين تناثروا بعد ذلك في رياح الطرد والاختناق.

أثار التحقيقُ استنكار المحافظين الذين هاجموا خط المجلة وجهودها التجديدية، والذين كانوا يفترضون أن من ينتقد القرارَ الصادر بحرمان المرأة من ركوب "الليموزين" من دون محرم، هو خارج عن الملة.  

قال لي مأمور السنترال:

- هناك امرأة تريدك شخصياً في مسألة مهمة.

حوّل المكالمة لي.

ابتدأتْ المكالمة بالسلام، فرددتُ عليها:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

- أعتذرُ عن الإزعاج، لكني باختصار أحبُ أن أوضّح لك بصفتي امرأة ملتزمة من نساء هذا البلد، أن هناك عدداً من القضايا التي يمكن أن تكون أكثر أهمية من مسألة وضع الصورة على بطاقاتنا.

قلتُ لها بصوت اعتيادي:

- لم لا تكتبين وجهة نظرك، وترسلينها إلى المجلة؟!

- أنا لا أجيد الكتابة.

- وهل تريدين أن أكتبَ نيابة عنكِ؟!

- لا، أريدكَ ان تستمع اليّ فقط.

- ها أنا أسمعكِ.

- أنتم تطرحون قضايا حادة في مجلتكم، وهذا ليس من مصلحتكم.

- هذه ليستْ آراءنا.. إنها آراؤكن.

واستطردتُ:

- أقصد أنها آراء شريحة منكن.

- أنا لا يهمني إن كان هذا رأيهن، أو رأي المجلة، لكن من الأجدر طرح قضايا أهم، كما سبق وقلت لك: هناك مثلاً قضية تعليم المرأة، تخلف المناهج، هناك ظاهرة السموم الوافدة عبر المجلات الصقيلة التي تملأ المكتبات باسم النساء وقضايا النساء.

خلعتُ نظارتي، ووضعتُ القلمَ على الورقة التي أمامي.

- أنا أتفق معك، لكن لدينا قائمة بالموضوعات التي لا يستطيع أحد طرحها.

- أعرف ذلك، أنتم لا تستطيعون طرح موضوع أندية الفتيات الخاصة، ولا مشاركة المرأة في التلفزيون والمسرح أو تعليم الاطفال المختلط.

- أنت تعرفين أشياء كثيرة.

سمعتُها تأخذ نفساً عميقاً، ثم تكمل.

- كل ذلك، لأن المرأة هي لب الموضوع، كأنها بعبع يقضُّ كراسيكم، صدقني، سيُوقفُ نشر الردود في قضية البطاقات قريباً.

- أعرف ذلك.

- وتعرف أيضاً أن موضوعاً مثل الفوارق الطبقيّة في المجتمع، الذي تنشرون عنه كثيراً من المقالات لا يجدُ آذاناً صاغية.

- هذه مشكلتنا نحن.

- معك حق، أنا مثلاًً أعيش صراعاً لا حدَّ له لكي يخلع والدي وإخواني هذا الثوب البالي عن أجسادهم، اخترتُ شريك حياتي بالطريقة التي تناسبني كامرأة مسلمة، طلبني على شرع الله ورسوله، فرفضه أهلي؛ لمجرد أنهم ينتمون لشجرة اسمها القبيلة. أما هو، فلا يعرف مثل كثيرين غيره، سوى أنه من صلب نبينا آدم عليه السلام.

- قضيتكِ عادلة.

- لذلك أغلقتُ بابي أمام كل الخاطبين الذين انفرطوا من مسبحة الشجرة. واخترتُ الجامعة زوجاً لي، أنهيت البكالوريوس، وأحضّر الآن دراساتي العليا.

قاطعتُها:

- في أي مجال يا أخت...

- أختكَ منيرة.

وأكملتُ:

- في أي مجال يا أخت منيرة تحضّرين دراساتك العليا؟‍

- في التعليم الخاص، تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لقد تخرّجتُ في كلية التربية، واستثارني هذا المجال كثيراً.

فكرتُ قبل أن أسألها:

- وهل تقرأين صفحات الأطفال في المجلة؟‍

- طبعاً، وأعرف أنك المسؤول عنها، ولفت نظري اهتمامك بإبراز هذه الشريحة الغالية من أطفالنا، ولذلك اخترتكَ شخصياً، لأنقل لك رأيي في قضية البطاقات.

حاولتُ أن أغير الموضوع:

- دعينا منه، فيكاد رأسُ المجلة ينفجر من دوي رصاصاته.

وضعتُ النظارة، وقرّبتُ قلمي إلى أعلى الورقة.

- كيف أستطيع الإستفادة من تجاربكِ كمتخصصة في هذا المجال.

- لم أفهم.

- أنا أحتاجُ افكاراً مهنية أستطيع بواسطتها خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة.

صارتْ العلاقة الهاتفية بيننا مستمرة. تتصلُ نهايةَ كل أسبوع، لتناقش معي الموضوعات المطروحة في الصفحات، كنت أستفيدُ من ملاحظاتها لأتخلّص من السلبيات، وأضيفُ جوانب إيجابية.

كانت روحاً خفيّة للصفحات. حين يجتمعُ الأطفال المحررون في المجلة، صباحات الخميس، تتصل بهم، وتديرُ معهم حوارات ثرية.

كنتُ أنجز الأعمال، وأعود لأجد سماعة الهاتف مع طفل آخر.

أصبحتْ منيرة امرأة الصفحات، إذا كنت أنا رَجُلُها، بين منيرة وبيني، كان الأطفال يَنْمونَ أغصاناً على أكتاف غيمتنا.

وحين استلّ رئيس تحرير المجلة، الصفحات من غمد قلبي، لم تتركني منيرة أبارز سيوف الخيبة. استمرتْ تتصل بي، تنقل لي أخبار الأطفال الذين لم تنقطع عن هواتف بيوتهم.

- فاتن بدأتْ تغطي وجهها، وصوت ناصر أخذ يتضخّم. عدنان صار يشعر بالحرج عندما يتحدث معي، إنتصار نجحتْ للصف الثالث متوسط.

- وما أخبار رسالتِك؟!

- في نهاية هذه السنة، سأحصل على الماجستير.

- وستتزوجين الدكتوراه أيضاً؟!

- بل سأتزوج دكتوراً.

شهقتُ من الفرح، ثم سألتُها مبتسماً:

- قبيلي؟‍

- يبدو أن الدال التي سبقت اسمه، أسدلتْ ستار هذا السؤال عندما خطبني من أهلي. 

ضحكتْ، ثم أكملتْ:

- ربما خافوا أن أموتَ عانساً.

- إذن ليس قبيلياً؟

صمتتْ قليلاً، ثم قالت بحياء:

- إنه نفسُ الشخص الذي خطبني أول مرة، بعد أن رفضه أهلي، سافر إلى بريطانيا، حصل على الماجستير والدكتوراة خلال ست سنوات. بعد عودته، طرقَ بابنا، للمرة الثانية، مرتدياً لقبه القديم، لن أكتمك سراً، إذا قلتُ لك إنه هو الذي فتح كل الآفاق التي كانت مغلقة أمام عينيّ. زرع في تربتي حبَّ الناس والأطفال والمعرفة. وإن لم يكن هذا الرجل شريكاً لحياتي، فلن يستطيع أحد أن يضيء نوافذي، قلت هو، وكان هو.

لم يكن مزاجي مهيأ لتقبل المزاح، قلتُ ببرود:

- دعكَ من امرأة الشرفة يا مروان، واصنع لي الشاي، أرجوك.

كانت منيرة قد اتصلتْ بي صباح هذا اليوم بالمستشفى، كان صوتي في أثناء المكالمة مخنوقاً.

حاولتْ أن تعرف ما بي.

- لا شئ، أنا متضايق قليلاً.

- سأتصل بك لاحقاً.

- ربما أزور مروان في المساء، اتصلي بي هناك.

وأعطيتها رقم هاتفه.

أزحتُ كتب مروان، وتمددتُ على سريره، سانداً ظهري على الجدار، أشعلتُ سيجارة وصرتُ أحدّقٌ في بوستر معلق على الجدار المقابل، لامرأة تنامُ وحيدةً على سرير وردي متّسع، عارية، تتكوّمُ حول نفسها مثل جنين في بطن أمه. وأسفل الصورة عبارة انجليزية تقول: "هيه. أنت"، وهو عنوان اغنية شهيرة للمطرب الإيرلندي "بوب قيلدوف".

عاد مروان يحمل كوبين من الشاي، ناولني كوباً، ثم جلس على الأرض واضعاً كوبه إلى جانبه. سألني، وهو يشعل سيجارة من علبتي.

- كيف كآبتك؟‍

كنت أحسُّ أن عينيَّ معصوبتان ببارود هائج، وأنني لو فتحتهما بجرأة، فسينفجرُ المشهد، وستتساقط الكوابيس على جبيني.

أجبته، متنهداً:

- أصبحنا يا مروان مظاريف يسخرُ البريدُ من طوابعها، تحذفُنا عاصمةٌ إلى أخرى، ونرجع ثانية لصناديقنا التي صاد القناصون حمامها الزاجلَ، وتبرّزوا على أقفالها.

- لم أعهدكَ منكسراً كما أنت الآن.

ارتشفتُ بعضاً من الشاي، وصرتُ أحدّقُ مرةً أخرى في البوستر.

رنّ الهاتف ففزَّ قلبي.

أجاب مروان:

- أهلا يا منيرة.

وأعطاني السماعة.

كان صوتها أكثر اختناقاً من صوتي عندما تحدثنا صباحاً.

- ما بك؟!

- البنات خرجوا في مظاهرة.

اهتاجَ بارودُ عيني، فنهضتُ صارخاً:

- مظاهرة؟!

لملمَ الحمامُ دَمهُ، ومن بين حطام الصناديق، التقطَ المظاريفَ وطارَ في غمام الشك.

- اتفقتْ أربعون بنتاً وامرأة، أن يجتمعن عصر اليوم أمام مركز "فال" بشارع "صلاح الدين"، وقُدنَ من هناك سيارات أزواجهن واخوانهن باتجاه شارع العروبة، قبضتْ الشرطةُ عليهن، وهن الآن موقوفات رهن التحقيق في مركز شرطة العليا.

صمتتْ لحظة، فكأن صمتها مخالب تعصر جلدي داخل لحم عنقي، وأنا أتوسلُ لحنجرتي أن تفرّ من مجزرة الكلام.

- ماذا بوسعنا أن نفعل؟!

- لا شيء الآن، لا شيء يا منيرة.

- هل سيعتقلونهن؟

- لا أدري.

- سيعتبرونه عملاً سياسياً، أو مظاهرة احتجاج منظمة.

- من الأفضل ألاّ نتحدث في الأمر.

- أنا مرعوبة فبعضهن صديقات حميمات لي.

- اتصلي بي فيما بعد.

وضعتُ سماعة الهاتف، وخرجتُ.

رافقني مروان، من دون أن تنبس شفتاه بكلمة.

بذاكرة مشوشة، توجهتُ إلى مركز شرطة العليا الواقع في الأحياء الداخلية لشارع "العروبة".

كان مقود سيارتي يتحول أفعى تكبّلُ رسغيّ، وبين كل لحظة وأخرى، تنفث السم في وجهي، وأنا عاجز عن أن عن أمسح ترياقها.

حول المركز، تناثرتْ سيارات أمن وسيارات مدنية قليلة، داخل كل منها شخص، أو شخصان، أو ثلاثة.

توقفتُ بسيارتي أمام بوابة المركز، فنهرني العسكري.

- امشِ.

تفحصتُ وجوه المدنيين، فوجدتُ بعضها يحمل قلقاً، وبعضها الآخر يحمل تحفّز المخبرين الذين يرصدون كل من يجيء.

أشار مروان أن نترك المكان قائلاً:

- يبدو أن الوضعَ متوتر جداً.

بمرآتي العاكسة، رأيتُ عدداً من الرجال، يترجّلون من سيارة "جي.ام.سي" حمراء ويدخلون المركز.

أنزلتُ مروان أمام بوابة العمارة.

قال، وهو يترجّل من سيارتي:

- غدا صباحاً، سنعرف كل شيء.

وتردد قبل أن يقول:

- لدي "فاليوم". أتريد أن أصعد وأحضر لك حبتين؟!

هززت رأسي نفياً.

- عندما تتصلْ منيرة، أخبرها أن الوضع هادئ، واطلب منها أن تتصلَ بي غداً صباحاً.

ودّعته، ومضيت.

ضغطتُ جرس منزل أختي "هيلة"، وطلبتُ منها عبر هاتف الباب الخارجي أن تستدعي فاطمة وأطفالي.

- ألن تدخل؟! لقد أبقينا لك عشاءك.

- لا أشتهي شيئاً، الوقت متأخر.

ناولني عثمان زوج أختي هزيع النائم، وكانت زوجتي تجرّ هاجر، وهي تترنح مسبلةً جفنيها.

لم أبادرْ فاطمة بأي حديث، لذلك لم تخرج من بين شفتيها، طيلة الطريق إلى بيتنا، كلمة واحدة.

وضعتُ مذياعي، بجانب فراشي الذي مددته في ركن غرفة الضيوف، حيث رفوف مكتبتي.

في آخر كل ليلة، تتنفس أبوابُ حدائقي التي اغلقها طوال النهار. ووحيداً أغطس في نسيج العتق. ولكيلا أزعج  فاطمة بصوت المذياع، تعودتُ في بعض الليالي، أن أنام وحيداً هنا.

تنقلت بين محطات مونت كارلو، وصوت أمريكا، ولندن، حيث الأخبار لا تزال تركز في جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش في دول اوروبا الغربية والشرق الأوسط.

أطفأتُ النور، وحاولت جاهداً أن أنام.

- كم محققاً سيكون هناك؟! هل سَيُجِبْنَ إجابات موحّدة؟!

حين تكونُ في مواجهة المحقق، فإنه يجتهد في استخدام كل السبل لينتزع الكلام من سقيفة خوفك.

جاءني محقق في مكتبي، عندما كنت أعمل، في أوائل الثمانينيات، محرراً ثقافياً في جريدة يومية. طلبَ مني بلطف أن أرافقه خارج المكتب، توقعته قارئاً يريد أن يفضي اليّ بمشكلة خاصة. على رصيف الجريدة الخارجي، عرّفني بنفسه وطلب مني أن أزوره غداً صباحاً في المكتب.

سألته:

- خيراً إن شاء الله؟!

- أبداً، الموضوع في منتهى البساطة، لا تقلق لن آخذ من وقتك كثيراً.

ليلتها،لم أنمْ، ظللت يقظاً حتى الصباح، أفكر.

- كم وقتاً سيأخذ مني؟! ساعةً، يوماً، سنةً، أم دهراً؟!

شعرتُ برهبة ألاّ أعود مرةً أخرى لهذه الجدران التي ألفتْني.

أربعة تحيط بي، تشاركني قراءاتي بصوتها الإسمنتي. وتمسك الورقة التي أستهلّ بها الكتابة. تصفقُ حين أغني السامري، وتنوحُ حين يغمرني الحزن، وأبكي. وعندما أدخل بينها بعد غياب، تفز، فتتسع لي، أصير أركض من جدار إلى جدار، وبأصابعي، أتأكد أنني عدتُ.

- يا جدراني التي توقد الملح لولائم غبطتي.

بدأتُ أفتش في مكتبي وأوراقي عن كل ما قد يعرضني للمساءلة، جمعتها في صندوق كرتوني وحملتها إلى غرفة والدتي، التي كانت قد نهضتْ لصلاة الفجر.

ارتبكتُ، سألتْني والبحّةُ تعرجُ على سلالم صوتها:

- ما هذا؟!

تلعثمتُ قبل أن أرد.

- كتب وأوراق خاصة، أريد أن أخفيها في خزانة ملابسك.

مرّ كتفها إلى جانب كتفي، وبعد أن تعدّاني، توقفت.

- لن يهديء سرَّك،َ سوى امرأة تدفيء بها مخدتك.

- لا تخافي عليّ يا أمي.

أعددتُ كوباً من القهوة، وقبل أن أشربه، استحممت، حلقتُ ذقني، ولبستُ نصفَ ثيابي.

كان يوماً شتائياً، يدغدغ ضوؤه حياضَ الزجاج المظلم، فيتماطل النهار في هتكِ النوم المستبد بالستائر.

تلحفتُ بغطائي الصوفي، وتمددت على فراشي، أخذتُ أحتسي قهوتي، وأفكر بالأسئلة التي قد لا أفرّ منها.

على تنور مترهل بالفجيعة، نعست، وكمن يلسعه صراخُ الخنجر، أفقتُ على دقات أصابع أمي على كتفي.

- الساعة العاشرة يا بني.

ركضتُ إلى بقية ملابسي، وخرجت.

كان المبنى غامضاً، لا يشير الداخلون اليه، أو الخارجون منه إلى كونه معبراً قد يأخذني إلى نهاية خرساء.

دخلتُ. سألتُ عن اسمه، فدلّوني إلى مكتبه.

طرقتُ الباب.

- تفضل.

سلّمت، فأشار بيده أن أجلس على كرسي بين الجدار وطاولته.

لم يكن لطيفاً كما بدا لي حين جاءني في الجريدة، كانت أمامه إضبارة.

دون أن أستأذنه، أشعلتُ سيجارة.

 قال لي:

- لندخل إلى الموضوع مباشرة.

- أي موضوع.

- موضوع سفرك الأخير.

- لقد كنتُ في مهرجان ثقافي.

كنتُ قد دُعيتُ إلى هذا المهرجان في دمشق، كانت الدعوة مرسلة لي شخصياً عن طريق مجلة ثقافية سورية، نشرتُ عدداً من نصوصي في أعداد متفرقة منها.

حصلتُ على إجازة من عملي لمدة خمسة أيام، لم أجد عبر الخطوط الجوية السعودية، أو السورية حجزاً إلى دمشق، لذلك سافرتُ قبل المهرجان بيوم إلى عمان.

عندما وصلت، اتصلتُ من المطار بجريدة "الرأي"، حيث يعمل صديق لي، شاعر فلسطيني، اشتغل محرراً ثقافياً في إحدى الصحف المحلية لمدة سنة ونصف السنة.

كان يصفُ تجربته بأنها أسوأ من حياة المخيمات الفلسطينية في الأردن.

- لا أستطيع نشر قصائدي ولا إدلاء رأيي، راتبي زهيد، لا يقضي نصف احتياجاتي، وكلما طالعتُ امرأة يكسرون عيني.

جاء إلى المطار بعد ساعة. استضافني في بيته الشعبي الواقع على تلّ من المروج الخضراء، المطلّة على طريق "عمان - الزرقاء".

كان الجو ممطراً، وكان يصر أن أشاركه زجاجة "العَرَق" التي اشتراها خصيصاً؛ احتفالاً بمجيئي.

شكرتهُ قائلاً:

- أريد أن أصحو باكراً كي أستقلّ سيارة أجرة إلى دمشق.

فغرَ فاه، ففاحتْ رائحة الكحول.

- لا أحد يسافر في هذا المطر، صخور الجبال تسد الطرق البريّة.

لم أشأ مجادلته. كنت أعرف حدّته وسرعة ثمله، أخرج مخطوط ديوانه الجديد، وبدأ يقرأ عليّ نصوصاً أهداها إلى شاعر شعبي من قرية "الجشة" بالأحساء. بعد أن انتهى، رفع عينيه المحمرتين نحوي:

- عذابنا لا يأتي من خارجنا فحسب، إنه في نسغ عظامنا، تجده في قرى "الهفوف"، كما في أرياف "إربد"، لا أدري متى نجزّ عنقه ونشتري بدمه فرحاً غامراً.

لم أجدْ جواباً، فَصَمتُّ.

صرخ في وجهي:

- ماذا تريد بهذا المهرجان؟! لن تقابل هناك سوى المخبرين.

ضحكتُ ضحكة تنمُ عن تقديري لحرصه عليّ.

لفتَ نظري صورةُ امرأة، ظهر نصفها من بين أوراق المخطوطة.

سألته:

- ألم تتزوج؟!

صار يحكي لي قصة حب مثيرة مع فتاة جامعية من المنطقة الشرقية، كانت تسكنُ في الشقة المجاورة لشقة زميله في الجريدة.

- كنت أقول لها اهربي معي يا فوزية. دعينا نتزوج ونهيم بذريتنا في المدائن، كانت تضحك بحرقة، أهلي لا يهمهم فقرك، فلقد اعتدنا عليه نحن أيضاً، ولكن مشكلتهم معك، أنكَ فلسطيني.

تجرّع كأسه، ثم مسح شفتيه بكمّه.

- هل يريدونني أن أتبوّل على هويتي؟! يكفي أن كل الحكومات العربية تفعل ذلك.

ثقل لسانه، وبالتدريج بدأ ينعس، ثم نام.

نمتُ أنا أيضاً. وفي الصباح تركت له ورقة صغيرة كتبت فيها:

"بؤسك يا يوسف جوهرة، كلما يغطيها صوتك المحترق، تشعّ في عينيك، اضطررتُ أن أترككَ نائماً فلن تكفكف حجارة الطريق الممطر وجه دمشق الذي يهتف بي".

في مكتب سفريات "أبو العز"، كان ثمة شيخ يرتدي كنزة صوفية أصفّر قطنها، يدخن سجائر "الجمل" وينادي.

- الشام... الشام، راكبين اثنين بس، تنتكلْ على الله.

اتفقتُ معه أن أدفع إيجار المقعدين، وأن نتحرك فوراً، خوفاً من ألاّ يجيء هذا الراكب.

أرسل صبيّه الذي كان يلبس جاكيتاً جلدياً ممزقاً، وبنطلون جينز بللتْهُ زخاتُ المطر، لكي يستدعي السائق الجالس في المقهى المقابل، يدخن أرجيلته بانسجام تام.

بعد عشر دقائق، وضع السائق خرطوم الأرجيلة على عمودها القصير، أقبل علينا، قابضاً بكفه اليمنى كومة من المفاتيح، وفي يده اليسرى شال صوفي.

أفهمه الشيخ أنني دفعت أجرة المقعد الأمامي، وأن الركاب الثلاثة الآخرين، يشغلون المقعد الخلفي.

- يا مسهّل الأحوال يارب.

لم يتوقف المطر طيلة الطريق، كان السائق قليل الكلام، كلما حاولت أن أدخل معه حديثاً، يجيب باقتضاب.

سألته:

- هل تتوقع أن نصل قبل حلول الظلام؟!

أجاب:

- خليها على ربك.

كان أحد الركاب الثلاثة في الأربعين من عمره، ممسكاً طيلة المسافة بمؤخرة المقعد الأمامي، وعيناه لا تفارقان الطريق، يتمتم بأدعية متواصلة، كان الشابان الآخران نائمين.

قبل أن نصل إلى الحدود السورية، قال لي السائق:

- معي كيسان صغيران، هل لديك مانع أن تقول: إنهما لك.

- ماذا بهما؟!

- شو يعني؟! سُكّر.

- ولماذا لا تقول إنهما لك؟!

- سيعتبرون أنني أهربهما، أما أنت فلن يحكوا معك.

- كيسان صغيران من السكر؟! كيف يعتبرونك مهرباً؟!

تنهّدَ قائلاً جملته الأثيرة:

- خليها على ربك.

في مركز الجوازات، تناول الموظف جوازي، قلّب صفحاته، طالع في وجهي، ثم أخذ الجواز معه إلى المكتب الذي خلفه.

عاد من دون جوازي، وطلب مني أن أنتظر.

طال انتظاري، انتهى الآخرون من إجراءاتهم، وصاروا ينتظرون على القائم الخشبي العريض، المهشّم الجوانب.

اقترب ضابط من الموظف، همس له بكلمات، ثم عاد إلى المكتب.

خرج الموظفُ من خلف الواجهة الزجاجية. حين وصلني، طلب مني أن أتبعه، خفتُ أن يكون الأمر متعلقاً بأكياس السُكّر، لكنهم حتى الآن لم يفتشونا.

رمقتُ السائق، فهزّ لي رأسه مطمئناً.

- ربما يريدون رشوة.

دخلتُ مكتب الضابط، أشار إليّ أن أجلس، فجلست.

سألني:

- الأستاذ سعودي، ماهيك؟!

ترددتُ قبل أن أجيب، وعلى وجهي ابتسامة وجلة.

- هكذا يقول جوازي.

- مرحباً بك.

قلّبَ صفحات الجواز ببرود.

- سياحة؟!

- لا، أنا مدعو لمهرجان ثقافي.

- هل لديك دعوة؟!

- أجل.

فتحتُ حقيبتي اليدوية، فتشتُ بين الأوراق الكثيرة حتى وجدت الرقعة، فسلمتها له.

- وما كل هذه الأوراق؟!

كم أشعر بالمذلة في نقاط الجوازات العربية، يعرونني بأسئلتهم، كما لو كنت ضبعاً سأنبش قبور فردوسهم. تزبد الأنظمة على المنابر، بأننأ أمة عربية واحدة، تضخُّ دماً مشتركاً لأعضائنا المتلاصقة. في مراكز الحدود، تتهشّمُ المنابر على بدلات العسكر الذين يفتشون في حقائبنا عن قوميتنا ليدوسونها بأحذيتهم.

- هذه صور منسوخة لنصوص شعرية وقصصية.

- كلها لك؟!

- بل لمجموعة من كتّابنا، سأقرأ بعضها في المهرجان.

هزّ رأسه بريبة.

- هاه، أشعار وقصص؟!

صمتَ لبرهة، فسمعتُ خفقان قلبي.

- وما هذه؟!

مدّ لي الجواز وقد فتحه على صفحة تحمل تأشيرة دخول إلى بغداد.

أجبته:

- كما ترى، تأشيرة دخول للعراق.

ركّز عينيه في عينيّ.

- وماذا كنت تفعل هناك؟!

رددتُ بجرأة.

- كنت مدعواً لمهرجان مشابه. هل هذه جريمة؟!

طبق جوازي، وأخذه معه، قال وهو يقوم:

- انتظرني لحظة.

خرج من باب إضافي، غير الباب الذي دخلت منه.

- هل سيعيدونني من حيث أتيت؟!

كان الوقت يقترب من الغروب، كنت جائعاً وخائفاً.

- لن تقلني سيارة إلى عمان في هذا الظلام والمطر.

عاد الضابط بسرعة حاملاً جوازي، مده إليّ بجلافة.

- خذ.

وضعته في جيبي، أغلقتُ حقيبتي وأنا أسأله.

- هل أستطيع الدخول؟!

ومن دون أن يرفع رأسه لي، قال:

- نحن لا نمنع أحداً من الدخول، هذه مجرد إجراءات روتينية بسيطة.

بعد خمسين كيلو متراً، توقف السائق في محطة وقود صغيرة، إلى جانبها متجر متواضع.

قال أحد الشابين:

- وصلنا متجر أبي الفاس.

ضحك السائق، ثم همس لي:

- إذا أردتَ تحويل نقودك إلى ليرات، فأبو الفاس يعطي أفضل الأسعار.

نزل، فتح مؤخرة السيارة، وأنزل كيسيْ السكر.

رأيته يتحدث مع صبي المتجر، دخلا معاً، ثم خرج وهو يضع نقوداً في جيبه.

- هاه، ألا تريد ان تحوّل نقودك؟! لن تجد في الشام سوقاً سوداء، لأنهم هناك يخافون أن يعدمهم أبو سليمان.

ضحك الشابان وتمتم الشيخ:

- إنهم يعرفون أبا الفاس، ولكنهم لا يعدمونه، يشتغل في التهريب وتبديل العملة منذ شبابه، ويزداد غنى يوماً بعد يوم.

رد السائق:

- شو بدنا بهالحكي.

والتفت إليّ.

- أتريد أن تصرف، أم نتكل على الله؟!

- اتكلْ على الله.

تذكرتُ أن الضابط لم يعد لي رقعة الدعوة، وأني نسيت أن أطلب استرجاعها منه.

- هل كان سيعطيني إياها، لو طلبتها منه، أم أنه سيحتفظ بها كوثيقة؟!

فتحتْ دمشق أزرار قميصها لي، فاجتاح أنفي عطرُ غسقها. على الأفق كان الغيمُ محمراً بالضوء الهارب من هوامش السماء.

اكتظّتْ محطة سيارات الأجرة بالعتالين والمسافرين الذين يتوسدون حقائبهم الجلدية الرخيصة أو صررهم الممزقة، والفتيان يشغلون مواقد الكيروسين أسفل كنكات القهوة التركية، ثم يدورون بها على السائقين.

استقللتُ سيارة أجرة صغيرة كانت تنتظر خارج المحطة.

- فندق الشام لو سمحت.

دخلتُ الفندق، الذي خصصتْهُ لجنة المهرجان، سكناً للضيوف، توجهتُ إلى مكتب اللجنة. عرّفتهم بنفسي، وبعد مراجعة قوائم الأسماء، سلّموني مفتاح غرفتي، وبطاقة تعريفية كانت معدّة لي.

امتلأتْ صالة الفندق بوجوه يجمعها القلق والتوتر والشرود، مبدعون من كل الدول العربية، أعرف وجوه بعضهم، وبعضهم الآخر أتوقع أنه لكتّاب قرأتُ لهم من دون أن أراهم.

كانت الجلساتُ الفكرية تعقد صباحاً ومساءً، وكنت أنتظم في حضورها، بعد انتهاء كل جلسة، يتفرق الحضور إلى جماعات، وكل جماعة تناقش موضوعاً مختلفاً.

كان كل الذين تعرفت إليهم، يبدونَ اهتماماً في معرفة الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في المملكة.

كانت كل المعلومات التي لديهم سطحية، وكنتُ أعبّر لهم عن دهشتي بضحالة معرفتهم بنا.

دعاني "قتيبة" أحد أعضاء فرقة "بابل"، وهي فرقة مسرحية عراقية معارضة، تتخذ من دمشق مقراً لها، إلى الحفل الغنائي الذي سيقام مساءً في قاعة الاحتفالات بالفندق.

سألني:

- هل تعرف فرقة "الطريق"؟!

بادرته:

- طبعاً. نحن نجلب أشرطة الفرقة بعد صدورها مباشرة.

- وكيف تجلبونها؟!

- عندما يسافر أحدنا إلى الخارج، يحضر معه مجموعة من الأغاني الجديدة لفرقة "الطريق" أو لغيرها. ينسخ الأشرطة، ويوزعها على المهتمين.

- لمن تستمعون أيضاً؟!

- لمارسيل خليفة، الشيخ إمام، فهد يكن، خالد الهبر، عزة بلبع، محمد مرشد ناجي، ناس الغيواني.

ردّ باللهجة العراقية:

- عجيب هواية.

- وما العجيب في ذلك يا قتيبة؟!

- نحن نتصور أنكم لا تزالون، في هذه الصحراء المغلقة، تفكّون طلاسم المتنبي وأبي تمام.

- هذه مشكلتكم، ونحن نعاني منها كثيرا.ً

- كيف؟!

- عندما تصادفون واحداً منا، فإنكم تقوّمون ابداعه بشكل نسبي مع تصوراتكم، لدينا شعراء شباب لا تقل قصائدهم أهمية عن قصائد خزعل الماجدي وعلي العلاّق وحامد الراوي.

- هل اطّلعتَ على تجارب هؤلاء الشعراء العراقيين الشباب؟!

- بل وعلى التجربة الشعرية العراقية، ابتداءً من بدر شاكر السياب، مروراً بسعدي يوسف، وحسب الشيخ جعفر والبياتي وبلند الحيدري، وانتهاءً بسركون بولص، وخالد المعالي.

ربتَ على كتفي، وعلى عينيه انبهار.

- صدقني، أنا نفسي، على الرغم من البياض الذي ملأ شعري، لم أطلع على كل هاي التجارب، وأنا عراقي قح.

وكرر كلمته.

- هواية، عجيب، والله هواية.

قابلته، في المساء في قاعة الاحتفالات، بدا منتشياً، عندما اقترب مني، انفردتْ أسارير وجهه، ثم حضنني.

أشار بإصبعه إلى رجل في الخمسين من العمر، فارع القامة، وله كرش متوسط.

- أتعرف هذا الشاعر العظيم؟!

وعندما لم أجب، حدق فيّ.

- لا تقل إنك لا تعرفه، هذا "مظفّر النواب"، من المؤكد أنك تحفظ قصائده عن ظهر قلب.

لم أكن أرسم لمظفر شكلاً كهذا.

أجبته:

- أنا لا أحب قصائده السياسية المباشرة، أحبه كشاعر شعبي.

- لهذه القصائد المباشرة فضل في تثوير شبيبة العراق، بل كل الشبيبة العرب.

همس في أذني:

- هل آخذكَ لتسلّم عليه؟!

لفتَ نظري، على بعد بضعة كراسي منه، امرأة جميلة ذات بشرة بيضاء وشعر كستنائي كثيف، ربطتْ حول عنقها منديلاً حريرياً أسود، جعل بياضها يجفلُ شامخاً، كانت تحدّق في وجه مظفر وهو يتحدث بصوت منخفض لرجل يجلس إلى جواره.

رددتُ عليه:

- ليس الآن.

دقّ عريف الحفل الميكرفون بإصبعه ليتأكد أنه يعمل، رحب بالحضور الموجودين بلهجة سورية، ثم قال باللغة العربية.

- سوف تحيي هذا الحفل فرقة ذات تجربة سياسية عريقة، فرقة غنّتْ من أجل كلمة الحق، غنّتْ للكادحين في كل بقاع الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج. فرقة الطريق.

صفق الحضور بحرارة للفرقة وهي تتخذ مكانها في مقدمة الحلقة الدائرية المصنوعة بصفين من الكراسي.

لم يكن الاحتفال جماهيرياً، كان مخصصاً لضيوف المهرجان فقط.

غنت الفرقة أغان شعبية لمظفر النواب، وقصائد لسعدي يوسف، ومحمود درويش، وسميح القاسم.

كنت أُنْشِدُ مع الفرقة، وكنت أحس قتيبة يراقبني منتشياً، وأنا أرفع صوتي مع الكورال، الذي صرنا كلنا جزءاً منه.

قام قتيبة إلى وسط الحلقة، وصار يرقص على الإيقاعات الثرية بالدفوف.

أشار لي لكي أنضم اليه.

لم تتح لي نشوتي التفكير بالأمر، وجدت قدميّ تعبران صف الكراسي الأول، وتدخلان الحلقة.

توقف قتيبة عن الرقص، وصار يصفق.

عاد إلى كرسيه مخترقاً الأعين التي تصبّ بؤبؤاتها على حمّاي.

اشتعلتْ الأكف بالتصفيق، كنت أشعر بأضواء كاميرات التصوير، وهي تلمع بين لحظة وأخرى، من دون أن أعرف مصدرها.

ردّ المحقق عليّ:

- نعرف أنك كنتَ في مهرجان ثقافي، سؤالي هو، هل دُعيتَ رسمياً؟!

- أجل.

- هل لديك ما يثبت ذلك، أقصد، هل لديك رقعة الدعوة؟!

- لا.

- كيف تريدني أن أصدقكَ إذن؟!

- لقد سحبها مني ضابط الحدود السورية أثناء استجوابي.

فكّر قليلا، ثم قال:

- هل كنت تعرف أنه يجب أن تحصل على موافقة رسمية قبل أن تسافر للمشاركة في أي مهرجان؟!

- لا.

سألتُ نفسي، وأنا أتمدد على قطن أرقي.

- كم محققاً سيكون هناك، في مركز شرطة العليا؟!

 

 

الرياض - 2:

7 نوفمبر 1990م

حاولتُ جاهداً أن أجد مخرجاً من تلك الهواتف التي لم تهدأ منذ دقائق الدوام الأولى.

الرياض مدينة من ورق، حين يشتعل طرفها، تلتهمُ النار كل مآدبها. يهزّ مشهد عابر رواق خيمة في أقصى بيدائها، فلا تخلد الى النوم، حتى ينحفر هذا المشهد على جدران بيوتها، بيتاً بيتاً.

توجهت إلى مكتب مدير المستشفى، الذي لا يفصلني عنه سوى جدار واحد.

طرقتُ باب مكتبه، ثم دخلت على صوته.

- لا. ليس بينهنّ واحدة من بنات المستشفى.

وضع سماعة الهاتف، ثم استدار إليّ.

ضحكَ، فضحكتُ.

كان الصداع يفتت عينيّ. وهما تحاولان التغلب على أظفار الزجاج المنغرسة في تبّانة البارحة.

قلتُ له:

- كنت سأستشيركَ في أمر هاتفي الذي لم يهدأ منذ الصباح.

أشار إلى هاتفه:

- وهذا لم يهدأ أيضاً، الأسطوانة نفسها. أليس كذلك؟!

- أجل، كل الموظفين يسألون: هل شاركتْ إحدى فتيات المستشفى في المظاهرة؟!

كانت إدارتي تضم أكبر عدد من الفتيات السعوديات العاملات في المستشفى، كلهن خريجات جامعيات، من عائلات متوسطة.

كن يقلن لي بأنهن يعانينَ كل يوم من ملاحظات بعض المرضى، أو بعض الموظفين.

في اجتماعي الأسبوعي معهن، يسردن عليّ ملاحظاتهن.

- رفض المريض في قسم "د3"، أن أقدم خدماتي له، يقول صراحة: أنا لا أريد أن تخدمني حُرْمة.

- رفع زميلي في إدارة الخدمات الاجتماعية صوته عليّ أمام المراجعين، وقال لي: "اتقي الله، وغطِّ وجهكِ"، مع أنني متحجبة حجاباً إسلامياً.

- أحد الشباب العاملين في إدارة المواعيد، يرسل إليّ كل يوم باقة ورد وبطاقة، ويزعجني باتصالاته.

- كتب الشاب الذي زُرعتْ له كلية قبل يومين، شكوى ضدي. يقول: إنني أضع كولونيا صارخه، لا يريدني أن أدخل غرفته كيلا يتأثر جرحه. 

- ادَّعَتْ مريضة القلب العجوز المنومة في قسم "ب2" أنني غازلت ابنها الشاب المرافق لها في الغرفة.

قلت له:

- وكيف نضع حداً لهذا الإزعاج يا دكتور؟! الاتصالات المتواصلة تعطلني عن عملي.

هزّ كتفيه.

- إن كان لديك حل، فعجّلْ به عليَّ، أنا مشكلتي أكبر من مشكلتك، فكل الذين يتصلون بي مسؤولون كبار.

عدتُ إلى مكتبي، فوجدت صديقي القديم "عبدالعزيز" في انتظاري.

عانقته، وقبل أن أجلس إلى جانبه، اتصلت بماريان، وطلبتُ منها ألاّ تحول لي أي مكالمة.

كان يبدو شاحباً، يضع يده اليمنى على يمين خاصرته، وكنت قد حجزت له موعداً عند اختصاصي الكبد.

كنا زملاء في المجلة، كنت وقتها قد استقلتُ من عملي في جهة تشرف على القطاعات التجارية، وقدمتُ أوراقي إلى مكتبُ التوظيف في المستشفى.

طيلة تسعة أشهر، كنت أراجعهم مرتين أسبوعياً.

- أوراقك لا تزال تحت العرض.

نصحني صديق يعمل في المستشفى.

- خذ موعداً مع مدير المستشفى، هناك أحد ما يعرقل توظيفك، نحن بحاجة إلى خبراتك، وليس هناك أي مسوّغ لتعطيل أوراقك كل هذه المدة، صدقني، سيقف المدير معك.

أثناء تلك البطالة المرّة، استدنتُ من عبدالعزيز مرتين، مرة لأسدد إيجار الشقة، والمرة الأخرى، قبل عيد الفطر، لأشتري مستلزمات الأطفال.

أشار عليّ، وهو يناولني المبلغ.

-لم لا تتفرغ للعمل في المجلة؟! سيمنحونك راتباً معقولاً، وتستطيع في نفس الوقت أن تعمل معي في المؤسسة.

رددتُ عليه:

- لدي قناعة بأن التفرغ للعمل الصحفي، مثل الإذعان للمقصلة، سأتنازل مثلك شيئاً فشيئاً في سبيل العيش. في النهاية، سأجد نفسي ملوثاً بما يريدون.

وأضفتُ:

- التزامي، كمتعاون مسائي، سيحميني. سأكون حراً في وجود وظيفة أخرى. أكتب متى أشاء. لن يجبروني على المشاركة في المناسبات التقليدية، أما أنت، فلا تجرؤ على الرفض.

كان عبدالعزيز قد خاض تجارب قاسية، وخرج منها مقتنعاً بأن يبدأ يصطاد من الحياة، مثلما يصطاد غيره، كان يقول لي بالحرف الواحد:

- لماذا أعيشُ معدماً؟ هناك ليبراليون مروا بتجارب قاسية مثل تجاربي، وها هم يملكون اليوم أضخم الشركات.

- عليك أن تختار، أمامك مشنقتان، مشنقة تغنّي لمجدك، والأخرى تتبول عليك.

- ولم لا أغزل من المشنقتين واحدة لا تحزّ على عنقي؟!

- ستمشي إذن على صراط يشقق قدميك.

- أتعتقد أنني سأبيع ذاتي لهم بمجرد أن أمتلك بيتاً جميلاً وسيارة فاخرة؟! لماذا يمتلكون هم كل هذا الثراء، ونتخبط نحن في أطيان الفاقة؟! هل من الحتمي أن يكون صاحب المبادئ الشريفة عتّالاً يحمل كرةَ الأرض على كتفية؟!

أطرق لبرهة ثم أكمل، مخاطباً إياي:

- أنت للتو خارج من مناخ الجنون، من بؤرة يؤمها رجال الأعمال، كنت تراها كل صباح وكأنها خيمة من الكريستال، يدلف إليها تجار الفجاءة ليتباركوا بوهجها، ولمّا يخرجون، يدسّون في حزام خصرها هباتهم. دخلها السنوي يصل إلى مئات الملايين، أتخيلكَ وأنت تدخل مبناها كل صباح، مسدلاً شماغك على جانبي وجهك كيلا تحرقكَ نيران الطفرة، تغلق باب مكتبك وتتدثر بكتبـك؛ لتسبـح في سمائـها بعيداً عن القطعان التي تثغي وراء رعيان لا ندري إلى أين تركض. أعرف أنك لم تحتمل، لم تجد نبرة صوتك سلماً في مقام موسيقاهم، هربت من الجحيم، أما أنا فظللت فيه، ظللت أنصت للثغاء، وأتابع الرعيان. بُمْ، وجاري الذي كان بالأمس جاهلاً، معدماً، يقطن حياً شعبياً، أراه وقد أثرى وصار يدير سلسلة من الشركات.

- وتريد أن تثرى مثلهم؟!

- بل أنا أحق منهم، مؤسستي أنشأتها بعرقي، لا أزايد من خلالها على حقوق أحد، أنت تذكر الريبورتاج الذي لم تستطع نشره في مجلة تلك البؤرة عن شركات الصيانة العملاقة التي لا تدفع لعمالها رواتبهم الزهيدة بشكل منتظم. هؤلاء، يمتصون دم العمال الآسيويين. يسكّنونهم جماعات، كما ذكرت في الريبورتاج، في غرف لا تصلح للحياة الآدمية، ويشغّلونهم أكثر من الحد القانوني.

- أنا لم أقصد أنك ستكون مزيفاً إلى هذا الحد.

وأضفتُ مازحاً:

- أكلُّ هذا يا عبدالعزيز بسبب سلفة صغيرة اقترضتُها منك؟!

أجاب بجدية:

- لا تفهم الأمر بهذا الشكل، أنا أعرف أنك واقعي، لكن الآخرين يفسرون اهتمامي بعملي التجاري تخلياً عن مبادئي. أما أنا، فأرى أن بالإمكان استغلال ثروتي الصغيرة في بناء حلمي الذي أفنيتُ بعض سنواتي من أجله، الأفكار وحدها أيها الصعلوك لا تحقق الحلم، ثمة شيء أسمه الفلوس.

وفرك إبهامه بسبابته.

سألته:

- ألا تزال منزعجاً من آلام كبدك؟!

- أنا لست متأكداً حتى الآن إذا كانت مشكلتي في الكبد.

- ما الذي تشعر به بالضبط؟!

- آلام في البطن، تتركز أكثر في الجانب الأيمن، كلما توترتُ، ازدادت.

- ربما تكون تهيجات عصبية في القولون؟!

ضحك وهو يشعل سيجارة.

- يبدو أنك صرتَ خبيراً في الطب، لقد أخبرني طبيب عيادة خاصة، أن هذه هي مشكلتي بالضبط، وأن سببها التوتر المتواصل والتدخين والشاي.

تذكرت بأنني لم أطلب له شيئاً يشربه.

ضغطت الزر، وطلبت من ماريان أن تحضر لنا كوبين من الشاي.

قال:

 - حسنا فعلت، أنا لم أنمْ حتى الآن، لولا موعد الطبيب، لما أتيتك، لقد كانت ليلة عجيبة، عندما أستعيد تفاصيلها، أستغرب كيف عدتُ إلى بيتي.

- ماذا حدث؟!

طالعني باستغراب:

- ألم تعرف ما حصل البارحة؟!

- بلى.

تذكرتُ زوجته نورة، كانت من البنات اللاتي يلتزمنَ الأعمال النسائية المنظّمة، كانت عضواً فاعلاً في إحدى الجمعيات النسائية الخيرية، تنظم محاضرات ذات موضوعات حساسة تهم المرأة. ضيقوا الخناق عليها، فتركتهم، انشأتْ مدرسة صغيرة خاصة للأطفال، لكن بعض الجهات حاصرتها بالملاحظات، ورأت أنها تجاوزت الأنظمة. ساهمت مع مجموعة صديقات لها في صياغة مشروع مطبعة نسائية، وحين لم يتشجع أحد لتمويلها خوفاً من عواقب الرقابة، سافرتْ إلى "الظهران" لتعمل في شركة "أرامكو". تعرّفَ إليها عبدالعزيز في حفل استقبال بمناسبة حصول فنانة تشكيلية تعمل معها في المكتب، على جائزة اليونيسيف. كان يقول لي إن نورة كانت نجمة الحفل، لم تجد الفنانة شيئاً تفعله، فنورة هي التي تشرح للحضور تفاصيل اللوحات المعلّقة في صالة الاستقبال، وتسرد لهم تجربة صديقتها. كانت نورة أكثر سعادة بالجائزة منها، كلما دخل ضيف، تأخذه اليها، وتعرّفه إليها وهي ترتجفُ فرحاً.

قال لي عبدالعزيز إنه لم يقابل امرأة مثل نورة، تضع الآخرين في ميزان ليلها ونهارها؛ لتجعلهم يرجحون بكفتها ويصعدون.

- إذن، شاركتْ مع البنات؟!

- هل كنتَ تتوقع غير ذلك؟!

دخلت ماريان بالشاي، وضعت كوباً أمامه وكوباً أمامي.

قالت لي بخجل:

- ستلقي محاضرة للمتطوعات في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً.

ارتشف شايه، ثم سحب من سيجارته هواء.

- لقد سمعتُ أنكم نظمتم برنامجاً لتطوع الفتيات السعوديات.

- صحيح.

- أأنتم بالفعل بحاجة لهن، أم هو ترف شكلاني؟!

- لقد رحلتْ أعداد كبيرة من الممرضات الأجنبيات بعد أن تأكدنَ أن الحرب قائمة.

- ألم تقلّصوا الخدمات؟!

- بلى.

- لماذا المتطوعات إذن؟! أنتم مركز متخصص، معظم فتياتنا غير مؤهلات لعمل تمريضي متقدم يتناسب مع خدماتكم المتطورة، أنا أقبل هذا الموضوع في مستشفيات حكومية عامة، أما أنتم، فهناك شك.

- لقد ذكرت لمدير المستشفى شيئاً مقارباً لملاحظتك، لكنه، فيما يبدو، واجه إحراجاً من المسؤولين.

- من المسؤول المباشر عن هذا البرنامج؟!

أشعلت سيجارتي وأنا أرد:

- أنا، لقد أصابني الفزع في بداية البرنامج، انهمرتْ الهواتف بمطر من الأصوات التي تريد الانضمام. خصصنا مكتباً خاصاً لاستقبال الطلبات، وضعنا شروطاً صعبة، لنحصر الموضوع في نطاق الجدية. صار مدير المستشفى يحيلُ إليّ نساءً وفتيات، وكل واحدة منهن تتصور أن التطوع نزهة مثيرة، لم أكن أعرف إلى أي لجّة سيقودني ماؤهن. قبلتُ سبعين متطوعة فقط، كان المدير يقول لي: لكن هذه فلانة بنت فلان، وأرد عليه: لتتطوع في مستشفى آخر، تخيل يا دكتور أنها جاءت للمقابلة الشخصية وبرفقتها خادمتان.

غرقَ عبدالعزيز في الضحك.

مددتُ له منفضة السجائر،ليطفئ سيجارته، ثم سألته:

- كيف كانت نفسية نورة بعد ليلة البارحة.

- أنت تعرف نورة، صلبة كطاحونة الهواء، كلما ازدادتْ الريح، صفّقتْ بمراوحها. كانت تتنقل قبل التحقيق بين زميلاتها، وتحضّر لهن إجابات الإسئلة المتوقعة، إذا سألكن المحقق: من الذي نظّم المظاهرة، قلن: لم ينظمها أحد، لقد اجتمعنا مصادفة، ووجدنا أنفسنا نقود السيارات، لا تفزعن منه، سيستفزّكن، سيهددكن بالسجن، لا تخفن، لن يستطيعوا سجننا، نحن لم نرتكب جريمة أخلاقية، لدينا رخص قيادة دولية، وليس هناك نظام رسمي يمنع المرأة السعودية من قيادة السيارة. كان بعضهن يرتجف هلعاً، كانت تصرخ فيهن: لقد قمنا بعمل يعبّر عن كل النساء، وسيقفن جميعهن معنا، كلها ساعات ونرجع إلى بيوتنا، حين حضر المتخصصون في علوم الشريعة، ليُفتوا لهن برأي الشرع، انبرتْ لهم نورة قائلة: ليس في الشرع ما يحرّم قيادة المرأة المسلمة المتحجبة السيارة. قرأوا عليهن آيات وأحاديث، أجابتَهم بأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت تقود في صدر الإسلام جملَها. وصرختْ، أيرضيكم أن يقود بنا سائقون فلبينيون، أو أندونيسيون؟! هم ليسوا محارم لنا؟! طلبتْ الشرطة منها أن توقّعَ على التعهّد، فرفضتْ. قالوا لها: لن تخرجي حتى توقّعي، إستشاظتْ غضباً، رفعتْ صوتها، بأن هناك أمهات يجب أن يعدنَ إلى بيوتهن ليرضعنَ أطفالهن، وأن هناك طالبات يجب أن يَنمْنَ ليذهبن في الغد إلى جامعاتهن ومدارسهن، سألتْهم: نتعهد على ماذا؟! على ألاّ نطالب بحقوقنا؟! لماذا تقود المجندات الأمريكيات السيارات في شوارعنا؟! نحن أولى منهن، لقد انتشرتْ الجرائم الأخلاقية في بيوتنا بسبب هؤلاء السائقين، هيا أخرجونا، لقد سئمنا هذا الجو المختنق، إلى متى ستحتجزوننا؟! منذ عشر ساعات ونحن واقفات، لا ندري ماذا ستفعلون بنا، أخبروها أنه يجب إحضار أولياء أمورهن ليوقّعوا على تعهدات هم أيضاً، ردّتْ عليهم: لا شأن لنا بهم، ليوقّعوا على ما يشاؤون، هم ليسوا أوصياء علينا.

أطفأتُ سيجارتي، التي لم أسحب من تبغها شيئاً في أثناء حديثه.

أكمل:

-لم نعد لبيوتنا إلاّ في ساعات الفجر الأولى. بمجرد أن دخلنا، بدأتْ ليلةٌ أخرى، كان ثلاثة من أعمامها ينتظروننا في البيت، طلبوا مني تفسيراً لما حدث، فأشرتُ بإصبعي تجاهها أنها أمامكم، اسألوها. حاولوا أن يُفْهموها أن ما فعلتْهُ سابقة ستجرُّ عليهم مصائب كبرى. انفعلتْ قائلة: إذا لم يكن لديكم غير هذا الحديث، فدعونا ننام، كانت تدينُ لعمها الأكبر بفضل تربيتها بعد وفاة والدها بسرطان الرئة، انفردتْ به جانباً، اعتذرتْ له قائلة: أنت عمي، أقرب الناس إليّ. تعرفُ أن أبي كان يختصّني بحبه دون أخوتي جميعهم؛ لأنه كان يراني ملتزمة بكل الأخلاقيات التي كان ينادي بها. لقد شاركتُ بمحض إرادتي، ومهما حدث، فلن يطالكم شيء، حين يسألكَ أحد عما جري، قل له إن هذا شأني، ما فعلت يا عماه ليس ترفاً، إنه قضية اؤمن بها، لقد ارتديتُ النقابَ، وناديتُ بحق من حقوقي، هزّ عمها رأسه صامتاً، ثم خرج مصطحبا أخويه الغاضبين. صنعتْ نورة كوبين من القهوة، ثم تمددتْ على الأريكة بعد أن وضعتْ الهاتف إلى جانبها. أخذتْ تتصل بصديقاتها، لتطمئن على وصولهن. أدارت مؤشر المذياع على صوت "درع الصحراء" الذي كان يبث أغاني أمريكية هادئة، تتخللها توجيهات للجنود الأمريكيين عن كيفية التعامل مع الناس في منطقة الخليج. أخذت تحتسي قهوتها، وعندما رفضتُ أن أشرب قهوتي، طلبتْ مني أن أذهب لأنام، كانت آلام بطني على أشدّها. قلتُ لها: بل سأشرب كوباً من الحليب، لدي موعد في الصباح الباكر في المستشفى.

طالعتُ ساعتي، ثم قلت لعبدالعزيز:

- يجب أن نذهب الآن، يبدو أننا تأخرنا عن موعد الطبيب.

في العيادات الشاملة، أنهيتُ أوراق فتح الملف، أخذته لغرفة الانتظار، حتى يفرغ طبيبه من معاينة المريض الذي دخل للتو.

كان إلى جانبنا شابان يتحدثان، ولم أكن مركّزاً على حديثهما.

ضغط عبدالعزيز على ركبتي، ثم غمز بعينه، لكي يلفت انتباهي لما كانا يقولانه.

كان الشابُ الأول يسرد نهاية قصته.

- وعندما حاصرتهن سيارات الشرطة بالمسدسات، نزلنَ رافعات أياديهن، مزَّقتْ واحدة منهن عباءتها ثم داستها برجلها، واحدة أخرى صارت تتحدث للمصور الامريكي الذي كان يصوّر المظاهرة. قالت له بغنج وشعرها الطويل يتناثر على فستانها الضيق المفتوح حتى ركبتها: نريد أن نتحرر، ورفعت أصابعها بعلامة النصر، وضع الشرطي كفه على كاميرا المصور ثم طرده.

سأله الآخر:

- إذن كنت في المظاهرة؟!

- لا، الشخص الذي روى لي القصة كان يقود سيارته خلف البنات ورأى كل شيء.

وأضافَ متسائلاً:

- لقد قلتَ لي إنك من مدينة جدة.

- أجل.

- لقد سمعت أنه إذا فاز فريق الأهلي، يتحول شارع الكورنيش إلى مسيرات، وأنه سبق أن تجمعتْ خمس بنات في سيارة، تولت إحداهن القيادة، والأخريات صرن يصفقن ويهتفن للأهلي.

- حدث هذا قبل خمس سنوات، لكنني سمعت من صديق لي أنهم قبضوا في الرياض قبل سنة على سيارة فخمة ذات زجاج مظلّل لا تستطيع أن ترى عبره شيئاً، كان في السيارة فتاتان ترتديان ثياباً رجالية، وتلاحقان بسرعة مخيفة شاباً يقود سيارة سبورت.

- هذه حالات استثنائية.

قطع استماعي لحوارهما، دخول "أحمد"، موظف المواعيد إلى غرفة الإنتظار، توقعته سيدعو عبدالعزيز إلى الدخول، لكنه أشار اليّ:

- هل لي بكلمتين معك؟!

استأذنتُ عبدالعزيز الذي كان يضحك على مبالغات الشابين الخيالية، وقمت إلى أحمد. صافحني، ثم ظل ممسكاً بيدي.

خارج باب العيادات، وقف في مواجهتي:

- لا أريد أن آخذ من وقتك كثيراً، لقد علمتُ أنك المشرف على برنامج التطوع، أليس كذلك؟!

كان أحمد شاباً ملتزماً خلوقاً.

- صحيح.

- وهل في خطة البرنامج إجراء رقابة عليهن؟!

قلتُ له مستنكراً:

- أي رقابة تقصد؟! رئيسات أقسام التمريض هن المسؤولات بشكل مباشر عن تقديم تقارير أسبوعية عن أنشطتهن.

- أنا لا أقصد أنشطتهن، بل سلوكهن.

- هل لاحظتَ شيئاً على سلوك إحداهن؟!

- أجل لقد دخلتُ اليوم لأتناول الشاي في غرفة استراحة الموظفين، فوجدت "عواطف"، المتطوعة التي تعمل لدينا، تجلس إلى جانب شاب من خارج المستشفى، وقد رفعتْ النقاب عن وجهها المملوء بالمساحيق.

- ربما كان أخاها أو زوجها؟!

- لا أعتقد، لقد ارتبكا عندما دخلت، توقفا عن الضحك، ثم خرجا معاً بسرعة.

استغربتُ، كانت عواطف تبدو أمامي محتشمة، تضع نقاباً سميكاً على وجهها، ولا تظهر سوى عينيها. دائماً تنكّسُ رأسها، ولا أسمع من صوتها غير كلمتي نعم، أو لا.

قال أحمد:

- أنا أدرك أنكم تقصدون الخير من هذا البرنامج، لكن واحدة مثل هذه، قد تجلب لسمعتكم تشويهاً أنتم في غنى عنه، الأعين مُسلّطة عليكم، فلماذا تمنحون مثل هذه الفتاة فرصة لاستغلالكم بعبثها.

تلفتَ حوله، وكأنه يخشى أحداً.

- من المؤكد أنك سمعتَ عن حادثة البارحة، لن يتوقف الناس عن الحديث عنها، ستصير المظاهرة حديث مجالسهم الأثير، ستغطّي على أحاديث الحرب، ولا يعلم إلاّ الله متى سيتوقفون. سيرة المرأة في مجتمعنا مثل البارود، صوته يدوي وناره تحرق.

- لا تقلق يا أحمد، سأطلب ملفها، وسأتحقق من الأمر بنفسي.

عدتُ إلى غرفة الانتظار، فوجدت عبدالعزيز قد دخل إلى الطبيب، والشاب الأول لا يزال  يسرد للشاب الثاني مزيداً من المبالغات.

توجهتُ إلى مكتبي، وجدتُ على طاولتي مجموعة رسائل وضعتها ماريان عن الأشخاص الذين اتصلوا أثناء غيابي. قلّبتُ الرسائل واحدة واحدة، مروان (الساعة العاشرة وخمس دقائق: سيحضر لزيارتك في البيت الليلة)، منيرة (الساعة العاشرة وخمس وعشرون دقيقة: ستتصل مرة أخرى)، عبدالرحمن (الساعة العاشرة وأربعون دقيقة: يقول إنه صديقك القديم الذي قابلك عند جهاز الصرف الإلكتروني قبل ثلاثة أيام. كان مرحاً، قال: إن من علامات الساعة أن يكون لديك سكرتيرة. ترك رقم هاتفه المدوّن أمامك، امتدح صوتي وقال إنه أفضل من صوتك)، منيرة (الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق: ستتصل مرة ثالثة).

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة إلاّ ربعاً.

التقطتُ السماعة لأتصل على عبدالرحمن.

كان منذ طفولتنا المشتركة، يحب الإثارة، يكره كرة القدم التي نحبها، كنا لا نراه إلا في المساء، حين نقلدُ ابطال مسلسل "جحيم المعركة" الذي كان يعرضه التلفزيون الأسود والأبيض، مستوحياً أحداث الحرب العالمية الثانية، كان دائما ًيختار أن يكون هو ومن معه ألمانيا، ونكون نحن روسيا، نختبئ في أماكن لا تخطر له على بال، تحت درج المسجد، في القبو، في المئذنة، نتشبث أسفل مقطورات الشاحنات، أو في موتور الجرّار الخرب خلف إحدى ورشات حارتنا، لكنه يكتشف أماكننا ويقتلنا.

ردّ عليّ:

- مرحباً.

- أهلا يا عبدالرحمن، هل عرفتني؟!

- لو تتكلم قليلاً، سأعرفك.

- ماذا تريدني أن أقول، أنا عدوك الروسي يا هتلر؟! هل تذكرني الآن؟!

ضحك بصوت عال، فغبطته على هذه البراءة.

تذكرتُ أن قلبي لم يضحك منذ زمن، يذرفُ جبيني المقطّب قطراناً لزجاً يسيل على أنفي، ويقطر نقطة نقطة على شفتّي، فتنكمشان، وكلما أجرحُ القطران بسكين البشاشة يتقلص قلبي.

- كنتُ أتمنى أن تتصل سكرتيرتك.

ضحكَ مرة أخرى، وأكمل:

- كنت أتعاطف مع موظفي المستشفيات الذين يعملون أربعاً   وعشرين ساعة. أما وقد علمتُ بأن لديهم سكرتيرات، لهن هذا الصوت، فإنني سأحسدهم. نحن المساكين لا نملك تلك الامتيازات الخاصة، لا أدري لماذا يمنع النظام عمل السكرتيرات في الدوائر الحكومية والمؤسسات، كلما تدخل دائرة، تقابلك وجوه متكلسة عابسة، رجال في كل مكان، جفاف يخدش أرواحنا، فتجدنا حين نخرجُ من مكاتبنا، نبحث في السيارات والأرصفة والنوافذ عن طيف امرأة.

- المرأة يا عبدالرحمن داخلنا وليست خارجنا.

- وهل سنلتهمها إذا كانت خارجنا؟! لماذا يعاملنا النظام وكأننا ذئاب جائعة تبحث عن رائحة اللحم؟! كلنا متزوجون. لدينا بنات وأخوات. هن سيعملن مع رجال غيرنا، وسنعمل نحن مع نساء غيرهن، لقد جعلونا نخاف المرأة، نراها كياناً طارئاً، نحاول أن نستغله في أي فرصة لنسرق من ثماره المحرمة.

- ليت سكرتيرتي لم ترد عليك.

- أنا جاد فيما أقول، لو سمعت زملائي وهم يتحاورون حول مظاهرة البنات لرثيت لحالنا.

لاحظتُ أنه أورد كلمة المظاهرة، وكأنها حدثت قبل أشهر.

- لم يكونوا يتناقشون عن المظاهرة كحدث اجتماعي أو حتي سياسي، كان كل همهم استعراض أسماء البنات، هل هن قبيليات، أم خضيريات؟! متزوجات، أم عازبات؟! جميلات، أم قبيحات؟! أحدهم قال: إنهن لو كنّ جميلات، أو ذوات نسب عائلي رفيع، لما قبضتْ الشرطة عليهن. حاولتُ أن أفهمه أنني كنت أنا وزوجتي مصادفة في شارع صلاح الدين، وأنني رأيتهن منقبات، ولم تظهر خصلة من شعر إحداهن. ردّ عليّ بأن صديقاً له رأى بعضهن كاشفات وجوههن وأنهن كنّ قبيحات، واتهمني بأنني أدافع عنهن.

- أنت كما أنت، دائماً في مواقع الإثارة.

- المسألة ليست إثارة، افهمني أرجوك، أنا معترض على تنظيم المظاهرة، وعلى مبدأ قيادة المرأة السيارة،لقد كنتُ أحاول أن أروي له ما شاهدته، لكنه لم يكن مهتماً إلاّ بالتفاصيل التي تهمه.

- أنا سأشبعُ عشقكَ لسرد تفاصيل الإثارة، هاه، قلْ لي كل ما شاهدته.

- قدتُ سيارتي خلفهن، حتى تجمعت حولهن سيارات الشرطة، رفضنَ أن يفتحن الأبواب وبقينَ في سياراتهن، كان هناك مصوّر تلفزيوني أجنبي، صوّرَ بعض اللقطات ثم اختفى، طلبتْ الشرطة منهن أن يتوجهن إى مركز شرطة العليا، وفي الطريق إى هناك، كانت تسير أمامهن، وخلفهن سيارات الشرطة.

- لقد سمعتُ أن إحداهن مزّقتْ عباءتها وداستْ عليها.

ضحك.

- أتريد أن تورطني بتهمة الإثارة؟! صدقني،لم يحدث أكثر مما قلته لك.

وضعتُ السماعة، بعد أن تواعدنا بالتواصل.

تناولتُ ورقة بيضاء، وصرت أدوّن محاورَ المحاضرة التي سألقيها للمتطوعات، طلبتُ من ماريان أن تستدعي "وليد" منسق برنامج التطوع لمكتبي.

قالتْ: إن عبدالعزيز اتصل على الخط الهاتفي الآخر، أثناء انشغالي بالحديث مع عبدالرحمن.

- ماذا قال؟!

- طلب مني أن أخبركَ أن كبده سليمة، وأن الطبيب وصف له حبوباً مهدئة، كما طلب مني أن أعلمك بأن لدى زوجته الرغبة في التطوع في قسم الأورام السرطانية.

فتحَ وليد باب مكتبي، وأشار إلى ساعته بأننا تأخرنا.

وضعتُ الورقة في ملف أصفر، وخرجت من المكتب.

مشينا سوياً عبر الممر الرئيس باتجاه قاعة المحاضرات.

كان وليد يهتم بهندامه، أما أنا، فلقد ظهر جلياً مدى شحوبي، كما أنني لم أحلقْ ذقني منذ أيام.

قال لي:

- المتطوعات يرهبنكَ كثيراً، لماذا لا تفرد وجهكَ قليلاً؟! إنهن متحمسات، ونحن نستفيد منهن، ابتسامة منك سترفع أرواحهن المعنوية، ما بك؟! الحرب لم تبدأ بعد.

لم أرد عليه.

ظللت أمشي إلى جانبه صامتاً، أراقـب حدود البـلاط، وهي تمضي تحت خطواتنا العجلى، 

يضيق البلاط، فينتفضُ العرش، تتداعى أركان القصر، فتلوذ الطواويس بالفرار وهي تنعق. يطلقُ الأطفال صرخاتهم بعد أن تفرَّ المرضعات تاركات أثداءهن تنزف دماً على مخادع الخباء. تهزُّ الشمسُ بيديها الملتهبتين قضبانَ النوافذ، فيتحول ماء الجِرار إلى رصاص يفوح سمّاً خانقاً. في الاصطبلات، تلتهم الخيول سروجها المطعّمة بالفضة ثم تتقيأ ثعابين برؤوس مشقّقة. تتفسخ سنامات الجمال، ويظهر منها ربابات محطمة.

- لماذا لا ترد؟!

دخلنا قاعة المحاضرات، كانت المتطوعات في منتصف حديث، كن يستدرنَ على كراسيهن بعضهن تجاه بعض، كل واحدة تعّلقُ على ملاحظة الأُخرى.

جلستُ على كرسي أمامهن، وجلس وليد خلفهن على كرسي  في مؤخرة القاعة.

سعلت كي أجتذب انتباههن، فتوقفنَ عن الحديث.

- أعتذرُ عن التأخير.

قالتْ التي كانت تجلس قبالتي:

- كنا نتحدث عن المظاهرة.

حاولتُ أن أبتسم، فأحسستُ إن اصفراراً سال على شفتيَّ، طالعتُ وليد فرفع لي إبهامه تشجيعاً.

قلتُ:

- سأمنحكنَ عشر دقائق لتكملن حديثكن.

وأضافت:

- هذا مقابل الدقائق العشر التي تأخرتُها.

بحثت بينهن عن عواطف، فلم أجدها.

قالت التي كانت تجلس في الطرف الأيمن للصف الأول: 

- المظاهرة ستسيء إلى سمعة حكومتنا في هذا الظرف الصعب. 

ردّتْ أخرى:

- سمعة الحكومة لن يطالها شيء، تنظيم المظاهرات السلمية حدث طبيعي في كل مكان في العالم، سيعتبرونها نوعاً من الديمقراطية.

أجابتها:

- أي ديمقراطية؟! سيستغل صدام هذه الحادثة لمصلحته، سيقول: إن الحكومة السعودية تضطهد المرأة.

شاركتهن ثالثة:

- لماذا لم يخترن وقتاً آخر؟!

وصار الحوار يدور بينهن بتلقائية، كل واحدة تدلي برأيها.

- لا وقت آخر، ولا غيره، من قال إننا نريد أن نقود السيارات؟!

- أنا في الحقيقة أريد أن أقود سيارتي، لكنني لا أريد أن يحدث ذلك عن طريق مظاهرة.

- أنا أعتقد أن أمريكا وراءها، كيف يمكن تفسير توقيتها مع وجود القوات الأمريكية في المملكة.

- ربما اختارتْ البنات هذا الوقت بالتحديد؛ نظراً لوجود محطات التلفزيون العالمية؛ لكي يضمنَّ وصول مطالبتهنَّ إلى الخارج.

- هذا يعني أنهن متآمرات.

- لا أعتقد أن أستاذة في الجامعة، أو مثقفة تتآمر على حكومة بلادها.

- ألا يخفن من الله؟! المظاهرة تشويه لديننا الحنيف.

- أنتن تنسين أن المرأة ستقود السيارة عاجلاً أم آجلاً، ربما تعجّل المظاهرة هذا الموضوع.

- أنت واهمة، لن يحدث هذا في بلادنا المقدسة، أنا أقود السيارة خارج المملكة، وأمتلك رخصة قيادة دولية، لكنني أفخر هنا بالجلوس في المقعد الخلفي، ما الفرق إذا كنتُ أنا التي تقود السيارة، أو أن الذي يقودها زوجي أو سائقي.

- الفرق أنك ستكونين مستقلّة.

- يا شيخة، هذه هي آراء بنات المظاهرة، لقد لوثتهن الثقافة الغربية، أنا لا أعرف كيف تجرأن وقمن بهذا العمل، هل هو استفزاز لنا؟!

- ربما لا تعرفين أنهن حصلن بطريقة غير مباشرة على موافقة رسمية.

- هل تصدقين هذا الهراء؟!

- نحن في حالة حرب، لسنا بحاجة إلى من يشقّ عصانا.

سألتْني الجالسة أمامي:

- ما رأيك يا أستاذ؟!

طالعتُ ساعتي، وأنا أجيب:

- هذا يكفي، الوقت يحاصرنا، لنبدأ في المحاضرة.

بعد ساعة إلا عشر دقائق، التقطت ملفي، واستأذنتهن، بقينَ في القاعة في انتظار المحاضرة التالية، التي ستلقيها رئيسة قسم الإسعاف الأولي بالمستشفى.

لحقتني واحدة منهن، أحسست بخطواتها خلفي، فتوقفتُ.

صارتْ تمشي إلى جانبي بخطوات مترددة، وكأنها تريدني أن أكمل لكيلا أتعطل.

سألتْني، وهي تنزل درجات السلم:

- أتسمح أن أسألك سؤالاً شخصياً؟!

كانت من أفضل المتطوعات أداء وجدية، تأتي قبل موعد الحضور، وتنصرف آخرهن، متحجبة بسيطة وأنيقة في مظهرها، الذي يكسوها بالثلاثين من العمر على الأكثر، لم تكنْ تشارك في إدلاء رأيها عن المظاهرة، بل اكتفتْ بملاحظة تعابير وجهي وأنا أستمع. 

- تفضلي، اسألي.

بلعتْ ريقها.

- لماذا لم تعّلق على حوار البنات؟!

أجبتها بهدؤ:

- أحببتُ أن أسمع آراءهن، ألا تعتقدين أن الموضوع يتعلق بكن أكثر؟!

ترددتْ قليلاً.

- هل أنت مع المظاهرة أم ضدها.

صعدتْ رئيسة قسم الإسعاف الأولي السلم باتجاهنا.

وجّهتْ السؤال لها بالإنجليزية.

- ألا تريدين أن تستمعي لمحاضرتي يا هيفاء؟!

ابتسمتْ، ثم أجابت.

- بلى يا عزيزتي.

استأذنتْني، وصعدتا سوياً الدرج، أما أنا فنزلتُ.

في الرابعة عصراً، طلبتُ من ماريان أن تذهب إلى رئيسة قسم التمريض، وأن تحضر لي قائمة بأسماء المتطوعات اللاتي لم يحضرن محاضرات اليوم، وأن ترفق ملفاتهن مع القائمة.

قالتْ لي قبل أن تذهب:

- لقد حوّلتُ الهاتف على مكتبك.

- إذن لا تتأخري.

بعد دقائق، رنّ الهاتف، فالتقطته.

- أأنت مشغول؟!

بدا صوت منيرة أكثر ارتياحاً من الأمس.

- كنت أنتظر اتصالك.

- اتصلت بكَ من الجامعة مرتين.

- لقد كنت مشغولاً مع المتطوعات.

- هل هناك أخبار جديدة عن البنات؟!

- لقد أخلوا سبيلهن.

- لقد علمتُ بذلك، بنات الجامعة عرفنَ كل التفاصيل، لم يدرسنَ اليوم، كانت المظاهرة درسهن الوحيد.

- هل تعتقد أن التعهدات ستنهي المسألة؟!

- ربما، وربما لا.

أخبرتني بأسماء البنات اللاتي شاركن في المظاهرة، كنّ مجموعة لا ينتظم لها عقد، أكبرهن في الاربعين، وأصغرهن لا تتجاوز الخامسة عشرة، أستاذات في الجامعة، ربّات بيوت، طالبات، عازبات، متزوجات، مطلقات. مستواهن الاقتصادي متوسط أو أكثر.

- كم عدد اللاتي تعرفين منهن؟!

- أعرف شخصياً تسعاً منهن.

- أتعتقدين أنهن يواجهن مشكلة حقيقية في التنقل بالسيارة؟!

- لا، لدى كل منهن سائق يتحرك بإشارة منهن.

سألتها متردداً.

- هل كنت تعرفين عن المظاهرة قبل تنظيمها؟!

- أبداً، لقد ذهلتُ عندما عرفت بالأمر، اتصلت بالهاتف عصراً على "حصة"، فقالت لي ابنتها: ماما راحت تسوق السيارة، أكّدتْ لي أن صديقات أمها، وعدّدتْ أسماءهن، مررنَ عليها قبل ساعة، وخرجن جميعاً برفقة أزواجهن، شعرتُ أن في الأمر شيئاً لم أفهمه. اتصلت على صديقة أخرى، وثالثة، ورابعة، وكنت أجد أجوبة مشابهة، بعد صلاة المغرب، عرفت كل شيء.

- لماذا لم يعرضوا عليك المشاركة؟!

- لا أعرف، ربما لديهن حساباتهن الخاصة.

- أي حسابات؟! ثمة فتاة بينهن لا تتجاوز الخامسة عشر.

لم تردْ.

- لو كانوا عرضوا عليك المشاركة، هل كنت ستقبلين؟!

- لا أعرف ما كان سيحدث، لو أنهم فعلوا ذلك.

استأذنتْ مني لترد على أمها.

مضت أكثر من دقيقة قبل أن تعود، كنتُ أثنائها أقرأ الخبر الرئيس في الصفحة الأولى لجريدة "الجزيرة".

" كان من المقرر أن يجري بيكر اليوم محادثات في أنقرة مع الرئيس التركي تورجوت أوزال، يزور بعدها موسكو للقاء الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ووزير خارجيته إدوارد شيفرد نادزة، ثم يتوجه إلى باريس، ولندن. وفي واشنطن أظهر آخر استطلاع للرأي العام أجرته محطة "ايه. بي. سي". الأمريكية للتلفزيون أمس الأول أن أغلبية الشعب الأمريكي تعتقد أن على الولايات المتحدة الأمريكية القيام بعمل عسكري، اذا أساء العراق معاملة الرهائن، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل الرعايا الأمريكيين الذين يحتجزهم العراق. وفي جنيف ذكرتْ مصادر بريطانية أن رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر أبلغتْ الملك حسين ملك الأردن أنه لا يمكن استبعاد القوة كوسيلة لإنهاء احتلال العراق للكويت. وفي كلمة للملك حسين في مؤتمر البيئة، حيث التقى خلاله رئيس الوزراء الفرنسي ميشل روكار، قال حسين: إن إندلاع الحرب في الخليج سيؤدي إلى كارثة بيئية لم يعرف العالم مثيلاً لها منذ حادثة مفاعل تشيرنوبل النووي".

عادتْ وهي تعتذر عن التأخير.

قالتْ: إن أمها كانت تسألها عن حصة.

سألتهأ أمها:

- أتعرفين أين حصة الآن؟!

أجابتها منيرة:

- في بيتها.

- لا، إنها في السجن.

- من قال لك ذلك؟!

- كل الناس يتحدثون عنها، يقولون إنها عملت مظاهرة.

- هل تعرفين يا أمي ما هي المظاهرة؟!

- وماذا عساها تكون؟! لو كانت عملاً طيباً، ما سجنوها.

- قلتُ لكِ يا أمي إنها في بيتها.

- في الشيطان هي وبيتها، أنا لا أريدكِ أن تذهبي لها أو تتصلي بها مرة أخرى أنت على وشك زواج، وأهم ما لدينا سمعتك.

أخبرتْني منيرة أنها حاولتْ أن توضح لأمها، بأن الموضوع ليس كما تتصور، وأن حصة لم ترتكب جريمة، لكنها أشاحتْ بوجهها عنها قائلة: ها أنا ذا أنذرتك، بعدها، سأجعل أباك يتصرف معك.

سمعتُ عبر سماعة الهاتف صوت ضحكتها العفوية، ثم قالت:

- هذا لأنني صديقة حصة، كيف لو شاركتُ معها؟!

استأذنتني منهيةً مكالمتها.

- يجب أن أعود لها، أسمع صوتك قريباً.

- منيرة، انتبهي، نحن أمام لغز غامض، تنفخ الطرقات في قهوته خرائط حامضة.

- لا تخف عليّ، انتبه أنت لنفسك أيضاً.

في السادسة والنصف مساءً، خرجت من المستشفى، عندما وصلت إلى البيت، كانت فاطمة وهاجر وهزيع في انتظاري كي آخذهم إلى اللقاء العائلي الاسبوعي، حيث يجتمع أقاربنا كل ليلة خميس في أحد البيوت بالتناوب.

كالعادة، قالتْ فاطمة:

- الأكل ساخن على الطاولة.

- لا أرغب في الأكل.

ولأنها يئستْ في الآونة الأخيرة من معارضتي، في موضوع الأكل، قالتْ:

- سأغطيه لك، وحين تجوع، تستطيع أن تسخنه.

اعتدتُ أن آخذهم إلى هذا اللقاء، أعود إلى البيت، أتابع الأخبار وأقرأ حتى يحين موعد عودتهم.

- سآكل هناك.

واندهشتْ.

- صحيح ؟! سيفرحون بك.

قلتُ لها:

- يجب ألاّ نتأخر، مروان سيزورنا الليلة.

كان مجلس الرجال ليلتها يضج باللهيب الذي بدأ يستعرُ منذ الإجتياح، كلما أدخل عليهم، أجد إذاعة لندن تهدر، وكل واحد منهم يتصفح صحيفة مختلفة.

قطع ابن خالتي "راجح" حواره مع صهره "إبراهيم"، والتفت إليّ وأنا أجلس إلى جانبه.

- ستقضي ليلتك معنا، شكلك يقول هذا.

هززتُ له رأسي، ثم التقطتُ صحيفة كانت أمامي.

درس راجح في بريطانيا، وحصل على البكالوريوس في إحدى جامعات عاصمتها، أما ابراهيم، فكان لا يزال طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أكمل راجح حديثه.

- هاه يا إبراهيم، ماذا كنت تقول؟!

- كنت أقول إن الذي يحدث مؤامرة أمريكية تواطأ معها حكام الخليج، بما فيهم النظام العراقي، هؤلاء يهمهم الوجود الأمريكي في المنطقة حفاظاً على بقائهم في الحكم، لكي يواجهوا المد الإسلامي المزدهر.

ردّ عليه راجح:

- لماذا لا تنظر إلى الأمر بشكله الصحيح، لقد فشلت الحكومات العربية عامة، والخليجية بخاصة، في صياغة مظلة وحدوية، لقد انغمسوا في خلافاتهم وهذا ما مهّد انشقاقهم. أمريكا لا يهمها أي حكومة، شرعية أو غير شرعية، بقدر ما يهمها الثروة النفطية في الخليج، ستضرب بيد من حديد على كل من يهدد سلامة المنطقة، لذلك، فالوجود الأمريكي أفضل عندي من الحروب الأهلية.

كانت أعيننا تتساقط على حوارهم بين كل لحظة وأخرى، كنت أنا أنصتُ في قلوبهم لوجيب الخوف من ناقوس الحرب، كان برد التهيؤ ينعق على صفحات وجوههم، واحتقانات الانتظار المر، كانت تزبد على رموشهم.

على سفرة العشاء، أخرج عثمان، زوج أختي، مفاتيح سيارته، ومدّها لي.

قال بجديه، وهو المعروف ببساطته.

- خذ، اعط أختك هيلة مفاتيح سيارتي، ودعها تأخذنا إلى البيت، والذي يمسها، سأفّجر رأسه.

انبرى له "حسان" ابن عمي:

- أترضى أن يقول أحد بأنك ديوث؟!

رد عليه:

- السيارة سيارتي، والمرأة زوجتي، الديوث الذي يسمح لسائق مسيحي أعزب أن يأخذ زوجته وبناته وحدهن في منتصف ليلة الجمعة، وهو يسهر عند أصحابه حتى الفجر.

قال أخي راشد:

- أتمنى لو يجمعون لي بنات المظاهرة في غرفة، لأخلع نعالي وألطمهن بها الواحدة تلو الأخرى. يا شيخ. تحت يد كل منهن سائق مسمْسم، ورصيد يفوق رصيد مؤسستي.

وأضاف بلهجة ساخرة:

- الخطأ خطأ آبائهن وأزواجهن، فهمْ لا يعرفون أن في مدرسة التربية الحديثة، اختراع جديد اسمه النعال.

في طريق عودتنا إلى البيت، كان الأطفال نائمين كالعادة.

سألتني فاطمة:

- أكلتْ؟!

- أنت تعرفين أنني لا أحب الأرز.

سألتها بدوري:

- كيف دار حديثكن الليلة؟!

- كان كله عن مظاهرة البنات، كل واحدة تقول عنهن كلاما مختلفاً، أختك عائشة تقول إنها كانت تعرف اثنتين منهن أيام الدراسة، وإنهما لم تكونا تصليان، مضاوي ابنة عمك قالت إن قائدة المظاهرة بعثية.

- وماذا قلتِ أنت؟!

- أنا لم أكن أعرف شيئاً عن المظاهرة، أنت لم تقلْ لي أصلاً شيئاً عنها، زوجة أخيك راشد تهكمتْ من صمتي، لكنني لم أرد عليها.

عندما أوقفتُ سيارتي أمام البيت، وجدت مروان ينتظرنا في سيارته.

هرعتْ فاطمة إليه:

- منذ متى وأنت تنتظر؟!

- منذ دقائق.

- تأخرنا عليك؟!

- لا، جئتم على موعدكم، كنت أستمع لشريط طلال مدّاح الجديد.

ساعدني مروان في حمل الأطفال إلى أسرّتهم.

سألته فاطمة:

- تعشّيت؟!

- لا.

حضّرتْ له الأكل الذي كانت قد أعدته لي، أحضرتْ الأكل، ثم أعدّتْ الشاي.

جلستْ إلى جانبه، وهو يأكل.

كان مروان أخوها المحبب بين كل إخوتها وأخواتها، تجد فيه سكناً لقلقها، وفي حبه للحياة مهرباً من زهدي منها، تبثُ له أحزانها وخوفها على مستقبل حياتها معي. كان يقول لي إنه يحاول دوماً أن يشرح لها بأن أي مثقف يعيش صراعاً حاداً مع ذاته.

سألتْه، وهي تقرّبُ الأرز له.

- ما أخبار الجامعة؟!

- لا تسأليني عن الجامعة يا أختي، الدم للركب.

ضحكتْ.

- لماذا ؟! هل اختلفتَ مع أستاذك كالعادة؟!

ردَّ عليها وهو يطالعني. 

- المظاهرة صارتْ سحابة سوداء فوق بهو الجامعة، كلما تضع إذنك على جدار حوار، تجده يرتجّ بالشتائم، أو المدائح.

قالتْ له بخوف:

- انتبه يا مروان، لا تجعل لسانك يفلتُ منك.

- أنا كنت أقول رأيي، ماذا سيفعلون بي؟! سيقصّون لساني؟! هناك ملايين الألسن التي تتحدث عن المظاهرة، في البهو، اشتبك أربعة طلاب بالأيدي بعد أن احتدّوا في النقاش.

رشّ السلطة على الأرز، وقطع جزءاً من صدر الدجاجة، التقط لقمة وصار يمضغها مستطيباً مذاقها.

- رزُّك لا مثيل له يا فاطمة.

دفع ركبتها بظاهر كفه، وهي تبتسم لمديحه، ثم واصل كلامه.

- في جامعة البنات حدث أكثر مما حدث عندنا، لقد وقفتْ إحدى المتدينات على باب مسجد الجامعة، ومنعت واحدة من مؤيدات المظاهرة من دخول المسجد، وعندما أصرّتْ على الدخول، شدتها من شعرها. 

هزّ ذراعيه بعصبية كوميدية.

- يا الله، كم تمنيت أن أكون بينهما. طالما حلمتُ أن أحضر مشاجرة بين فتاتين، أن أقف بينهما لأفكّ شجارهما، يا الله ما أشهى مشاجرات البنات.

نهضتُ على ضحكاتهما، كي أبدل ثيابي، سمعت فاطمة تسأله.

- لماذا لم تحضر معك أفلاماً جديدة؟!

 

 

الرياض - 3:

8 نوفمبر 1990م

 

حاولتُ النهوض من فراشي، فخانتني عظامي، وضعت كفي على جبيني، فوجدتني محموماً. حموضة تقطّع إمعائي، وصداع ينبض له جفنيّ.

تذكرتُ أنني تركت البارحة علبة دواء الصداع على طاولة الكتابة، تناولتها ومشيت أترنح إلى الصنبور، تجرعت حبتين، وشربت خلفهما بعضاً من الماء.

بعد أن أشعلت سيجارة، ارتميت على الكرسي الهزّاز.

طالعت ساعة الحائط، فوجدتها تشير إلى الثامنة والنصف صباحاً، أغمضت جفنيّ كي تنزلق شهقات الصداع من جمجمتي.

-لم يصدقْ حدس "ميتران"، عَبَرَ السادس من نوفمبر أسلاك الانتظار الشائكة، فأدارتْ مقصلة الحرب رأسها إلى بقية الأيام المصطفّة بعضها خلف بعض، كل يوم يتلفتُ حوله، كي يتأكد أن الدور يحين له.

تجولت في غرف البيت، فإذا هاجر وهزيع يغزلان على أطراف أسرّتهما خرز النوم المتطاول في ضحى لا تعكره المدرسة.

دلفتُ إلى غرفة نومنا على أطراف أصابعي، لبستُ ثوبي، فاستيقظتْ فاطمة.

- إلى أين أنت ذاهب؟!

- صباح الخير.

- أليس اليوم خميساً؟!

- لديّ في المكتب أوراق متعطلة.

- هل ننتظرك على الغداء؟!

- لا.

انقلبتْ على جنبها الآخر، ثم غطّتْ رأسها.

كان صباح الشارع هادئاً، لا آباء يقلّون أطفالهم إلى المدارس، لا موظفين يزدحمون على الجسور وفي الأنفاق، وهم يعدلون ياقات كآباتهم لتبدو أقل شحوبا.ً

أخرجتُ علبة السجائر من جيبي، فتحتها، فلم أجد سوى سيجارة واحدة، لمستها، فوجدتها جافة، بللتُ رأسها وجانبيها، ثم أشعلتها.

ضغطتُ زر المذياع الذي يبحث آلياً عن محطة.

كانت موجة الـ "إف إم" مضيئة، صارت الأرقام الالكترونية تتبدل بسرعة، تقف عند المحطة التي تبث إرسالها، وحين لا تعجبني، أضغط الزر مرة أخرى.

توقفتُ عند محطة المملكة الناطقة باللغة الانجليزية، التي كانت تبثّ مقطوعة "طيور الشتاء" لعازف الهرمونيا الشهير  "زامفير".

لاحظتُ قدمي اليمنى ترتفع بفعل هواء الموسيقى عن دوّاسة السرعة، لتنخفض من مئة كيلومتر إلى ثمانين.

انعطفتُ قليلاً، لألتزم المسار الأيمن.

دكّ هواء زامفير لَبناتِ القلعة، فانكشفتْ خوذتي للمنجنيق، كانت جمهرة من الرجال والنساء يتجمعون حول بحيرة القلعة، دفعتهم صائحاً: غوصوا، لم يكن صوتي يصل إلى آذانهم. كانوا عرايا، يصطادون أسماك الزينة، ويقذفون للبط فستقاً، تخللتُ أكتافهم، وقفزتُ في الماء، غصتُ، كان دروعي تجرني إلى القاع، كنت كلما أبتعد عن الهواء، تخفتُ الموسيقى.

قلّتْ سرعتي أكثر.

ضغطتُ الزر، تبدلتْ الأرقام، ثم توقفتْ عند "درع الصحراء"، موسيقى روك صاخبة، تصاحبها صرخات الـ "دي. جي" وهو ينقل المقطوعات من صخب إلى صخب.

ضغطتُ قدمي على الدواسة.

فكرتُ.

- بعد سنوات، ستكون درع الصحراء محطة المحطات، سوف تبث كل صباح أناشيدنا، تتخللها ضحكات الجنود الأمريكيين ومفرداتهم الخليعة.

على مرآتي العاكسة، رأيت دورية المرور، وهي تؤشر بأنوارها الحمراء خلفي.

طالعتُ مقياس السرعة، فوجدته يشير إلى مئة وعشرين كيلومتراً.

خففتُ سرعتي. وتدريجياً، وقفتُ.

نزلت من سيارتي، ثم نزل رجل المرور.

طلبَ مني رخصتي، واستمارة سيارتي.

عدتُ إلى السيارة، وأخرجت من درجها الأوراق التي طلبها مني.

شاهدته، يلتف حول السيارة، ليطالع لاصق الفحص الدوري المثبت على الجزء الأيمن العلوي للزجاجة الأمامية.

طالع الرخصة، ثم طالع وجهي.

ابتسم، وهو يرفع حزامه، ثم سألني:

- أنت تعمل في مستشفى، أليس كذلك؟!

- أجل.

تذكرت أن العنوان المدون في رخصتي، التي لم أجددها منذ ست سنوات، هو عنواني السابق.

-كيف عرفت؟!

- لقد ساعدتني يوماً ما في إدخال زوجتي.

ذكّرني بالموقف.

كان قد جاء إلى مكتبي غاضباً، وهو يرتدي زيه المدني.

قال لي:

- لقد رفضوا قبول زوجتي في قسم الولادة.

كان نظام المستشفى يشترط أن تكون حالة المرأة الحامل مستعصية لكي يتم قبولها، ذلك لكونه مركزاً متخصصاً لعلاج الحالات المعقدة.

- أنتم لا تقبلون إلاّّ بنات الشيوخ، أما المواطنون العاديون، فلا تلقون لهم بالاً.

شرحتُ له النظام، لكنه لم يقتنع.

- أين تريدوني أن أولّدها؟! مستشفى الولادة الحكومي متكدس بالحوامل، يولّدون المرأة وكأنما يولدون شاة، ويجب أن تخرج فور ولادتها.

- أنت تبالغ.

- طبعا، أنت تقول ذلك لأن زوجتك وأخواتك يلدنَ في  هذا المستشفى الفخم، أنا ومن مثلي لا نستطيع أن نتحمل النفقات الباهظة للمستشفيات التجارية الخاصة، إنهم حفنة من التجار، لا يعرفون معنى الإنسانية.

هدأ قليلاً، ثم أضاف:

- اسمعني، لقد أصيبت زوجتي بالتهاب نتيجة إهمال الممرضات أثناء ولادة طفلي الأول، وظللت أعالجها فترة طويلة، أرجوك ساعدني في إدخال زوجتي.

قلتُ له:

- لم أكن مسرعاً.

ضحك.

- أنت لم تكن مسرعاً فحسب، بل تحمل رخصة واستمارة منتهيتين، ولم تجدد الفحص الدوري لسيارتك.

صار يحسب وعيناه في الفضاء.

- وهكذا يكون مجموع المخالفات ألف ريال، ثلاثمئة وثلاثمئة وثلاثمئة ومئة ريال.

- سأدفع مخالفة السرعة، أما تجديد الأوراق والفحص، فلعل انشغالي بالمستشفى يشفع لي.

ابتسم وهو يناولني الأوراق.

- سوف أنسى الأمر كله، واذا أحببتَ، أرسل لي الأوراق مع شخص تثق به وسوف أجددها لك، يجب أن تنتبه، رجال المرور هذه الأيام، يدققون في كل شئ، من يعرف؟! ربما تفقد البنات صوابهن، ويفعلن مثلما فعلن قبل يومين.

استرقتْ عيناي اسمه المكتوب على مستطيل بلاستيكي، معلّق على يسار صدره.

- هل تتوقعون ذلك فعلاً يا لافي؟!

ردّ مبتسماً، وكأنه غفر لي نسيان اسمه.

- أجل، نحن لا نستبعد أن يكررن مظاهرتهن، في الرياض أو خارج الرياض.

- خارج الرياض؟! تقصد في الصحراء؟!

- أي صحراء؟! أنا أقصد جدة، أو الدمام أو مكة.

- لماذا تستغرب سؤالي؟! النساء البدويات يرعين جمالهن خلف مقود سياراتهن في الصحراء. ألم تسمع بذلك؟!

- أنا بدوي يا طير شلوى، كيف لم أسمع بذلك؟!

لوّح لي بيده، وهو يغلق باب سيارته.

- توكل على الله.

حين دخلت بوابة المستشفى تذكرتُ أن سجائري قد نفدت، توجهت بسيارتي إلى النادي الاجتماعي الواقع على بعد أقل من كيلو متر داخل مدينة المستشفى.

كانت الممرضات والموظفات الأجنبيات يمارسن رياضة الجري، وهن يرتدين بدلات الرياضة الفسفورية، البنطلون لاصق بالفخذ، يصل حتى منتصف الساق، أما السترة، فواسعة فضفاضة، ذات لون نقيض للون البنطلون.

دخلتُ السوق المركزي المصغّر، طلبتُ من البائع علبة سجائر، وصرت أنقل عينيّ بين أنواع البسكويت المصفوفة على رف أمامي.

وضع البائع العلبة على الصحف المتكومة أمامه، وأنا لا أزال أطالع الرف.

- ثلاثة ريال ونصف لو سمحت.

التقطتُ العلبة، فوقعت عيناي على الصفحة الأولى لجريدة "عكاظ".

ببطء، صرت أخرج محفظتي وأقرأ.

"رفض ريتشارد تشيني وزير الدفاع الأمريكي تحديد عدد القوات التي سترسل إلى المنطقة، إلا بعد أن ترسل بالفعل، ولكن مصادر وزارة الدفاع الأمريكية ذكرت أن القوات الإضافية التي سترسل إلى المنطقة سيزيد عددها على مئة ألف جندي إضافة إلى ثلاث حاملات طائرات أخرى، وأعداد كبيرة من الدبابات، والمعدات الثقيلة الأخرى، ويشمل هذا الحشد فرقتين من المدرعات ترابطان الآن في ألمانيا، وسيزيد تعداد القوات الأمريكية في الخليج إلى أكثر من 430.000، وقال تشيني في مؤتمر صحفي: إن المزيد قد يرسل في وقت لاحق إذا اقتضتْ الضرورة. ومن المتوقع أن يكتمل الحشد الهجومي في أوائل يناير المقبل. وسيجمع هذا الحشد أكبر آلة حربية أمريكية منذ حرب فيتنام عام 1969م، إذ وصل تعداد القوات الأمريكية آنذاك إلى 543.000 جندي".

تنحنح الرجل الواقف خلفي، وهو يمسك سلة التسوق الصغيرة، المملوءة بالمعلبات والخبز.

دفعتُ للبائع المبلغ وخرجت.

وجدت ثلاثة من اللاتي كن يمارسن رياضتهن، يحدقن في سيارتي، وقد تبلّلت قمصانهن بالعرق.

سألتُ التي كانت أكثرهن تحديقاً:

- أتعجبك؟!

ردّت وهي تهزّ رأسها:

- أجل، إنها صغيرة وظريفة، لديّ مثلها في سياتل، يا إلهي، كم افتقدتها.

قلتُ لها:

- تستطيعين أن تقوديها.

صرختْ:

- أووه، لا، لقد جئت لكي أعمل، لا لكي أُسجن.

ضحكتْ هي وزميلتها، أما الثالثة، فاقتربت مني.

- ألا تفعل المرأة هنا، غير الأكل والإنجاب؟!

رددتُ عليها مازحاً:

- ألا يكفي ذلك؟!

قالتْ بجدية:

- أنا لا أمزح، ألا تلاحظ أن معظم نسائكم تترهل أجسامهن بعد الزواج، لا عمل، لا رياضة، أنا لا أراهنّ إلاّ في الأسواق.

علّقت زميلتها، التي لا تزال أنفاسها تتلاحق:

- هناك نساء عاملات، لدينا طبيبات، وموظفات سعوديات، يا الله ما أجملهن، أنا أحب لون بشرتهن الحنطي.

التفتتْ إليها الثالثة.

- لا بد أنهن ينتسبن إلى أب درس في أمريكا.

سألتُها مستغرباً:

- لماذا أمريكا بالذات؟!

- أقصد في الخارج، أوروبا، أو أمريكا.

فتحتُ العلبة، ثم أشعلت سيجارة.

قالتْْ الأولى لزميلاتها:

- يجب ألاّ نتأخر.

طالعتْ الشمس، وهي تضع كفها على عينيها:

- لقد انتصف النهار.

ركبتُ سيارتي، وتوجهت إلى المكتب.

أدرتُ قفل الباب.

الأبواب الأخرى صامتة، تمدّ اعناقها البنّية الغامقة، تتفحص رعشة يدي، تطالع كل منها الأخرى  ثم تعود لصمتها.

اندسّتْ تحت الباب ورقة بيضاء مطوية من منتصفها، فتحتها، وأنا أجلس على مقعدي:

"لم أكمل أسئلتي الشخصية. عرفتُ أنكَ تعمل أيام الخميس أيضاً، إذا وجدتَ متسعاً من الوقت، اتصل بي، هذا هو رقم هاتفي، أرجوك، اتصل بي.

                                                                   هيفاء"

 

لم يزل الكوب الذي تركته بالأمس، ينتصف شاياً، وعلى جدرانه الداخلية تشكيلات هزمها الجفاف.

محموماً ومحموضاً، أخذت أقلب محاضرات اجتماعات لجنة الطوارئ، التي اشتملتْ على تفاصيل خطة العمل في حال بدأت الحرب، واستعدادات المستشفى لعلاج المصابين.

بدأت في قراءة الخطة النهائية، واضعاً خطاً أحمر تحت المقاطع المهمة:

"سيُنقل المصابون بواسطة سيارات الإسعاف التابعة لوزارة الصحة، يجب تطهيرهم أولاً من عناصر التلوث الكيماوي خارج غرفة الطوارئ، بعد ذلك ينقلون إلى غرف المعالجة داخل القسم. سيكون هناك قاعات مخصصة للعمليات الصغرى. أما الحالات المعقدة، فستُجرى في غرفة العمليات الرئيسة. اذا كانت الحالة ميؤساً منها، فسيتم تحويل الجثة إلى ثلاجة معدّة لهذا الغرض بجانب وحدة الطوارئ. يجب تمييز الحالات بأشرطة خاصة على أذرع المصابين. الحالة المأمول علاجها، شريط أخضر، الحالة الخطرة، شريط أحمر، الحالة الميؤوس منها، شريط أزرق. أهالي المصابين يجب ألاّ يدخلوا المستشفى، ستُخصص لهم قاعة خاصة، وسيتم الاتصال بهم في حال وفاة أقاربهم، بواسطة الاختصاصيين الاجتماعيين".

كان هناك مقطع في آخر المذكرة.

"عند إعلان حالة الطوارئ، يلتزم المسؤولون الآتية أسماؤهم، بوجودهم طوال الأربع والعشرين ساعة في المستشفى".

كان اسمي الثلاثي في رأس القائمة، أخذت أحدق فيه وكأنه اسم لشخص لا أعرفه، يومض في عينيّ، وأحاول ما استطعت أن أطفئه.

- ما الذي حشرني داخله؟!

وددتُ لو أخلع أحرفه، حرفاً حرفاً، وأنثرها في الهواء كي أستطيع الخلاص.

أردتُ أن أهرب خارج هذا الطاعون البطيء، أن أنفذ بحملي إلى أدغال تتخاطف أوصالي بزئيرها، ليستكين جسد مزقته نبال أطلقها أنصاف بشر.

- تفرحني ناركم، فلحمي لم يعد يهاب شواءكم، ستُبقون روحي في نهاية وليمتكم، سأنفضُ عنها دهون تخمتكم، وسأصعد في غياهب التحرر.

رن الهاتف، فلم ألتقطه.

تركته يرن حتى انتهى.

وقّعتُ في الفراغ المخصص لاسمي في نهاية المحضر.

كانت الساعة تشير إلى الثانية إلا ربعاً ظهراً.

ترددتُ قبل أن أطلبها.

أثناء رنين الجرس، احترت.

- أأقول صباح الخير، أم مساء الخير؟!

ردّتْ:

- مرحباً.

- أهلاً، هذا أنت إذن؟!

- كيف حالكِ؟!

- لم أتوقع أن تتصل.

- أأنا بهذا السوء؟!

ضحكتْ.

- أبداً، لكنني تصورتك ستتخيلني مجرد امرأة فضولية.

صمتتْ برهة ثم قالت:

- اتصلت عليك قبل ثوان.

- لم أتوقع أنه أنت، لذلك لم أرد.

- ما بكَ؟! كأنك متوعك.

- لا، كنت أقرأ محضراً تعيساً.

- يزعجكَ أن أتحدث معك قليلاً؟!

- لا أبداً.

- كنت قد سألتك عن المظاهرة، أأنت معها أم ضدها؟!

- رأيي في المظاهرة لن يغير في الموضوع شيئاً.

كأنها شعرت بمماطلتي، فحاولتْ أن تغير الموضوع.

- لقد وُزع ليلة البارحة منشور يتضمن الأسماء الثلاثية لجميع المشاركات، وأعمارهن، وأورد فيه أسماء أزواجهن وآبائهن، وأمام اسم كل منهم كلمة شيوعي أو علماني، أو امبريالي.

- الجميع يعرف أن الشرطة أخلت سبيلهن.

- أخلتْ الشرطة سبيلهن، هذا صحيح، أفسحته لشرطة أخرى. لقد أهاب المنشور بكل من يقرأه، أن يفعل تجاه البنات ما يشاء، لقد أباحوا للناس أن يصدروا تجاههن ما بدا لهم من أحكام، وأن ينفذوا الحكم بالطريقة التي تحلو لهم. 

- لا بد يا هيفاء أن يدفعن للماء الذي اهتاج، جزية الحجارة.

صمتتْ ثوان، ثم قالت:

- هل أنت مع حجارتهن؟!

قاطعتها بحدة:

- ماذا تريدين مني بالضبط؟!

- لا شيء. لا شيء.

استدركتُ معتذراً:

- لدي أوراق يجب أن أنجزها.

- كما تشاء. أحببتُ فقط أن أمدّ لك يداً. أن أخفف من كآبتك.

قلت لها:

- شكراً لكِ.

سقطتْ عيناي على القائمة التي أحضرتها ماريان أمس من رئيسة قسم التمريض، التي لم تتضمن سوى اسم عواطف، وكان أسفل القائمة ملفها.

- أتريد أن تنهي المكالمة؟!

قرّبتُ الملف، وبدأتُ اتصفح صفحاته، وأنا أسألها.

- أنت تعرفين عواطف، المتطوعة التي تعمل في العيادات الشاملة.

- أجل، ما بها؟!

- ما رأيك فيها؟!

- من أيه ناحية تقصد؟!

- أداؤها، حماسها...

كنت سأقول:

- وسلوكها.

لكنني استبدلتُ هذه الكلمة.

- وطريقة تعاملها مع الآخرين؟!

- إنها متحمسة، خجولة، وتمتلك روحاً طفولية، لماذا تسأل؟!

- لقد تغيبتْ عن محاضرات اليوم، وأنت تعرفين أنكن قد تعهدتن التزام الحضور، غيابها دون عذر مسبق، يعني حرمانها من إكمال برنامج التطوع.

بادرتني:

- آه، تذكرت، لقد رأيتها صباح أمس، كانت في أوج أناقتها، متوهجة وفرحة، سألتها عن المظاهرة، فقالت إنها سمعت بها، لم تكن مهتمة، وكأن موضوع المظاهرة لا يعنيها، سألتها: لماذا تبدين سعيدة اليوم؟! أجابتني، اليوم خطبتي.

كأن شمساً أذابتْ جبل الجليد، الذي كان يرزح على بحر هواجسي.

قلت لها:

- أعتقد أن هذا عذر مقبول، ليتها أخبرتني.

أطرق صوتها قليلاً، ثم سألتني:

- أتسمح أن أقول لك شيئا؟!

- تفضلي.

- أنا أقدر توترك، أشعر بالمسؤولية الحساسة المنوطة بك في هذه المدة. لكن كثيرين غيرك، لا يظهرون القلق نفسه الذي يبدو عليك. أحس أنك تريد أن تدفع الحرب بيديك العاريتين. أن تصنع من جسدك مظلّة تقينا قنابل المعركة، أنت لا تمنحنا فرصة لنتحدث معك، لِنسرَّ لك بمخاوفنا. أثناء الحرب، سنكون إلى جانبك. سننقذ الجرحى سوياً، ستكون أيادينا دواءً واحداً لهم، لم لا تجعلنا غرزة لجرحك، أو ظلاً لصداعك؟!

كنت سأقول لها:

- وماذا بوسعي يا هيفاء أن أفعل؟! أأمسح بكفي خطيئة لم أرتكبها؟! خطيئة تسربتْ إلى مخدتي، وأوعزت لديدانها أن تنهش لحم رأسي لمّا أفيق! لقد صحونا خميساً لنجد حدود خريطتنا تنزف مدرعات ومجنزرات عربية. حين فغرنا أفواهنا دهشة، تسابقت طائرات النجدة الأمريكية في تحطيم أسناننا، كبرنا ألف سنة، تجعّدتْ جلودنا، وظللنا على عكازات الكهولة المفاجئة، نجترُّ عواصم يحلّقُ الحَمامُ مطمئناً على حواجزها الملغاة.

لكن الطنين الذي كان يضج برأسي، لم يستسغ هذا البوح فسألتها:

- في أي مجال درست يا هيفاء؟!

ضحكتْ.

- أنت بارع في التهرب من الأسئلة.

- أبداً. لقد لاحظت أنك تمتلكين لغة جميلة.

أجابت بعد صمت:

- لقد درست هندسة الديكور في أمريكا، لكنني لم أكمل، بعد أن عدت، أدمنت قراءة المجموعات الشعرية والقصصية والروايات.

- القراءة لا تؤثر إلاّ على الفنان الموهوب أصلاً، يبدو أن اختيارك فن الديكور جاء نتيجة لموهبتك.

- أنا لا أقرأ لمجرد القراءة، هناك أسئلة ضائعة، أحاول أن أجد أجوبة لها.

- أجوبة الكتب مؤقتة، يجب أن تصنعي أنت إجاباتك الخاصة.

- أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك بمفردي، أتستطيع أن تفعل أنت ذلك؟!

سمعتُ طرقات على بابي.

قلت:

- تفضل.

كان عامل النظافة، وكان الطنين يزداد في رأسي.

سألتْني:

- أتنتظر أحداً؟!

أجبتها:

- نعم.

- إلى اللقاء إذن.

وضعتُ السماعة، ثم قلت للعامل:

- المكتب نظيف.

ابتسمَ، ثم أغلق الباب.

أحطتُ رأسي بكفي كي أخفف وطأة الشمس التي أطبقتْ على خنّاق فيئي.

احتسيت الشاي البائت، فكأن طعمه قتلى يتساقطون على خشب الجنازة.

بصقتُ ما تبقى منه في فمي، وخرجتُ من المكتب.

عبرتُ أثناء خروجي أمام مكتب المدير المناوب، ألقيتُ عليه التحية.

ناداني، فتوقفتُ.

خرج من مكتبه، ومشى معي في الممر الذي يقود إلى البوابة الداخلية.

- البارحة أوقفوا سيارة ليموزين وهي تخرج من المستشفى، كانت تستقلها امرأة، بعد أن تم علاجها في وحدة الطوارئ، حاولتْ أن تفهمهم أنها للتو خارجة من المستشفى، وأنها مريضة، لكنهم لم يصدقوها.

- كم كانت الساعة؟!

- نحو الثانية والنصف بعد منتصف الليل.

- ماذا حصل بعد ذلك؟!

- جاء أخوها إلى مكتبي وأخبرني عن الحادثة، وطلب مني تقريراً يثبت أنها كانت تُعالج في ذلك الوقت في الوحدة.

- وزوجها؟!

- قال لي أخوها إنه مسافر، وإنها اضطرت للذهاب بالليموزين لوحدها. كان المسكين في حالة إحباط شديدة، واضطررنا لإعطائه حقنة مهدئة.

- والمرأة ماذا حدث لها؟!

- بعد أن قدم أخوها التقرير لهم، أطلقوا سراحها.

انفتح الباب الآلي، فمررنا سوياً، ثم اتجهتُ إلى مواقف السيارات.

سألني:

- لماذا يحدث كل هذا؟! ألا يكفي ما نحن فيه؟!

قلت له:

- اعطني دواء الصداع.

لأنني كنت أعرف أنه يحمله دائماً في جيبه.

أخرج حبتين، توقفت أمام برادة في ركن الجدار الخارجي للمستشفى، ضغط لي زر الماء، فدفعتُ الحبتين إلى لساني، ثم أنزلتُ رأسي، وجعلت خيط الماء يندفع إلى فمي.

أغلقت شفتيّ، وبللتُ بقية وجهي.


 

 الرياض-4:

 نوفمبر 1990م

تجاورتْ مؤخرات الحافلات، وهي تفتح درفات أحواضها بمواجهة المشترين، في سوق "عتيقة" الشعبي.

داخل الأحواض، تراصّتْ صناديق التمر، ووقف الدلاّلون وسطها، وهم يرفعون حبات التمر، ويستقبلون مزايدات المتجمهرين.

عبقتْ في الساحة المشمسة رائحة الدبس والنوم والأجساد التي لم تستحمْ بعد لجمعتها.

كانت والدتي قد أوصتني، صباح اليوم، أن أشتري لها تمراً، فلقد اعتاد إخواني أن يجتمعوا عندها، من دون زوجاتهم وأطفالهم، بعد صلاة الجمعة، حيث تحضّر لهم بنفسها دلة مبهرة بالهال وصحناً من التمر، وتتبادل معهم أحاديث تصنع المناسبة موضوعاتها.

مررتُ عليها في العاشرة صباحاً. طلبتُ من سونيتا أن تعدَّ لها فطورها والشاي، أنهضتها، وأخذنا نفطر سوياً.

كان ثمة أكياس بلاستيكية محشوة بالملابس.

سألتها:

- ما كل هذه الأكياس؟!

- إنها ملابس جديدة، اشتريتها لابنة خالتك "بدرية".

- ما أخبارها؟!

ناولتني قطعة خبز بعد أن بللتها بالعسل ثم بالقشدة.

- لقد رفض زوجها أن يطلقها.

- وكيف هي الآن؟!

- تعبانة والله يابني، لقد ازدادتْ حالات الصرع التي تنتابها، أخذوها إلى الطبيب، ووصف لها حبوباً منومة، لكنها لم تجدِ معها، حتى الطب الشعبي لم يُصلح حالها، لقد سقطتْ قبل شهر في المطبخ، وأنتثر قدر الإدام على صدرها.

طالعتني وكأنها تذكرت شيئاً.

- لماذا لا تعرضها على أحد الأطباء في مستشفاك؟!

- سأفعل إذا كانت ترغب في ذلك.

مدّت لي قطعة أخرى، فقلت لها:

- لقد شبعت.

صببتُ الشاي في فنجانها، ثم في فنجاني.

- منذ متى بدأ الصرع معها؟!

- بعد زواجها بأشهر، لقد اكتشفتْ أن زوجها يتعاطى المخدرات، ظلت تحتفظ بهذا السر عن الجميع، إلى أن اكتشفتْ أختها الأمر. قالت بدرية لأختها بأن زوجها يضربها بوحشية، ولا يهتم بتلبية احتياجاتها. كانت تقوم، من دون أن يعرف أحد، بإنجاز كل متطلبات بيتها، تستدين من جارتها، حين ينفد راتبها الشهري الذي تتقاضاه من المدرسة.

- لماذا لم يضع أخوها حداً لذلك؟!

- لقد حاول مراراً، لم يكن يجرؤ في البداية أن يفاتحه بموضوع السم الذي يتعاطاه، بل كان ينصحه بالمحافظة على بيته، طرده أكثر من مرة قائلاً: لا تتدخل في حياتي، إذا كنت تريد أختك، فخذها، هدده بالإبلاغ عنه، ردّ عليه: إذا كنت رجلاً، أثبت ذلك عليّ، كان سيفعل، لولا أن بدرية ارتمت على قدميه وصارت تقبلهما صارخة به: اتركنا وشأننا.

- ولماذا لم يلجأ إلى القضاء؟!

- خاف أن ينجح زوجها في أخذ الطفلين من أمهما، زوجها يدّعي الطهر، وهي مصابة بالصرع، المدرسة كتبت تقريراً عن مرضها بعد أن انتابتها نوبة أمام طالباتها، نصحوها أن تستقيل وترتاح في بيتها، لكنها خافتْ أن تموت جوعاً.

مسحتْ الدمعة التي تقاطرتْ من عينيها.

- اشتريت لها ولأطفالها هذه الملابس، لتأخذها أنت إليها.

صمتتْ قليلاً.

- لو لم ترضع من ثديي، لكانت من نصيب أحدكما، أنت أو أخيك راشد.

أطرقتُ أفكر بما قالته.

- اذا كنت مشغولاً، فلا بأس، سأطلب من راشد أن يهتم بالأمر.

- لا، سآخذها أنا إليها.

نادتْ سونيتا كي تحمل بقايا إفطارنا.

عندما انحنت سونيتا لالتقاط الصحن، قالت لوالدتي بخجل، بلغة عربية مكسرة.

- التمر "فينيش" ماما.

ظهر الغضب على وجه والدتي.

قالت بكلمات لا تفهمها سوى الخادمات.

- ليش ما في كلام أول يا سونيتا؟!

ابتسمتُ لهما.

- لا بأس يا أمي، سأذهب إلى السوق لأحضر لكِ تمراً.

كان مزاد التمر يبدأ في الصباح الباكر، لكن إجراءات الأمن على الطرقات، بسبب تصاعد حدّة أزمة الخليج، سببت تأخيراً في جداول السيارات القادمة من الرياض وإليها.

أقيمتْ مراكز خاصة للتفتيش على جميع الطرق البرية، كانت الشرطة تقوم بفحص الأوراق الشخصية والأمتعة بحثا عن المشبوهين ومهربي الأسلحة.

مددتُ عنقي بين الأعناق، لأرى الصنف الذي كان الدلالون يزايدون عليه.

كانت هناك أصناف شتى من التمر، ولم يكن لمستهلكي الكميات المحدودة الحق أن يدخلوا في اللعبة، يكتفون بمراقبتها من بعيد حتى نهايتها، بعد ذلك يشترون من الدلاّل الذي يرسو البيع عليه.

التقطتُ ثلاثة صناديق من التمر "البرحي"، الذي تفضله والدتي، ودفعت للدلاّل مئة وثمانين ريالاً.

حملتُ الصناديق، واخترقت بها جموع المشترين.

سمعت على يميني جلبة، فالتفتُ إليها.

كان ثمة شاب، يرتدي ثوباً قصيراً وغترة بيضاء، وذو لحية سوداء طويلة، يصرخ في وجه شاب ثانٍ.

- اطفئ سيجارتك، قلت لك اطفئها.

كان الشاب الثاني يرتدي جلباباً مغربياً، قلب شعر رأسه الكثيف اللامع إلى الخلف، وحلق سالفيه على حدود أذنيه.

ردّ عليه محتداً، وهو يطالع وجوه الآخرين وكأنه يبحث عن دعمهم.

- وهل أنا في غرفة أبيك؟!

مدّ الأول يده، محاولاً أن يلتقط السيجارة من بين أصابع الثاني، الذي سحب أصابعه بعيداً عنه.

- اطفئ هذا المُنكر.

- أغرب عن وجهي، وإلا حطّمتُ وجهك.

حاول بعضهم تهدئة الوضع، فوقفوا بينهما.

انضم إلى الاول خمسة شباب وشيوخ آخرون، أما الثاني، فكان يقف وحيداً.

قال ثالث:

- تهدده يا عدو الله؟!

رد الثاني منفعلاً:

- من هو عدو الله يا متطفل؟!

استدار اثنان من الرجال خلف الذين كانوا يحاولون فك الشجار في محاولة منهما الوصول إلى الشاب، وكان أحدهما يصرخ:

- سأقص لسانك أيها المتخنفس.

اهتاج الشاب الثاني، همس في أذنه رجل ذو لحية صغيرة، لكنه انفعل أكثر.

- لن أطفئها، لأرى ماذا يفعلون؟!

تجمّع حوله مجموعة من الرجال والدلاّلين، وأخذوا يسحبونه بعيداً عن ساحة السوق، وهو يصيح.

- قاتل الله هذه الحرب، لقد أطالتْ أعناقكم علينا، إذا كنتم رجالاً، اتبعوني، والله  لأحرقن وجوهكم.

أجبروه أن يركب سيارته، أرجعها إلى الوراء بسرعة، فكاد أن يدهس حمّالاً هندياً، كان يحمل صناديق طماطم، ثم اندفع بها إلى الأمام مصدراً بإطاراتها زعيقاً مدوياً، عاد الناس إلى حلقتهم وهم لا يزالون ينظرون إلى الجهة التي انطلقتْ إليها السيارة.

قال أحدهم:

- أنصاف الرجال هؤلاء لا مكان لهم إلاّ في أسواق الحريم.

وضعتُ الصناديق في مؤخرة سيارتي، وخرجتُ من السوق.

طرقتُ الباب، فسمعتُ صوتها.

- من؟!

- أنا؟ افتحي يا بدرية.

فتحتْ الباب، فدخلتُ.

كانت تسكن حياً شعبياً لا تكاد السيارة تمر بين شوارعه، تصدّع أسمنت جدران البيت الخارجية، واهترأ خشب نوافذه.

كان جسدها بالغ النحافة، ووجهها ذابلاً.

صافحتها.

- تفضل.

- هل زوجك في الداخل.

- لا، لقد بات في البَر مع أصدقاء له.

- لقد أرسلتْ لك أمي بعض الأغراض، سأحضرها من السيارة.

أنزلتُ الأكياس وواحداً من صناديق التمر، ووضعتها خارج باب الغرفة التي دخلتُ إليها.

- أتشرب شاياً أم قهوة؟!

- ارتاحي، لا أريد شيئاً، أخشى أن أتأخر عن الصلاة.

كان البيت يفوح نظافة، على الأثاث المتواضع لمسة من الأناقة، وكانت كل الأشياء التي في الغرفة مرتبة.

- بيتك جميل.

لم ترفع رأسها لوجهي، منذ أن أدخلتُ الأغراض.

ربتُ بكفي على ركبتها، وقلتُ مواسياً.

- لابد أن تفرج.

- متى؟!

- سيهديه الله.

- إنه منافق، أنا التي ستدفع الثمن في النهاية، لولا طفليّ لانتحرتُ.

- أتريدين أن أعرضك على طبيب، ربما يساعدك.

- لا، هو مرضي، لن أشفى حتى أتخلص منه.

وانخرطتْ في البكاء.

قالتْ:

-لم أر رجلاً مدّع مثله، لقد انضم إلى التجنيد الطوعي، ليجد في البدلة العسكرية وسيلة لاضطهاد الآخرين، وكأنه يسدد معهم ديناً أثقل كاهله. يبهدل الناس الذين يوقفهم في الشوارع ليلاً ليفحص أوراق هويتهم، وعندما يعود إلى البيت يتفاخر بما عمله.

بعد الاجتياح، نظمتْ الدولة حملات تجنيد تطوعي انضمت إليها أعداد كبيرة من الشباب. كانوا يتلقون دروساً في استخدام الأسلحة وحروب المدن، يستلم كل شاب بدلة عسكرية ويُصبح مجنداً احتياطياً، يُستدعى في حالة الحرب، أو عند الحاجة إليه في فرق التفتيش الليلية التي تقوم بفحص بطاقات الهوية في الشوارع.

كان معظم الشباب ينظرون إلى الحملة على أساس أنها فسحة، لم يعتادوا على إثارتها، وصار التطوع مجالاً للتفاخر في المجالس.

سألني ابن عمي باستغراب:

- لماذا لم تتطوع للتجنيد؟!

أجبته:

- وعمل المستشفى؟! أتظنه ملهاة؟!

- يجب أن تتعلم كيف تحمل الكلاشينكوف، إنها فرصة قد لا تتكرر.

- يكفي أن تحمله أنت، أنا سأضمّد جراحك حين تسقط في المعركة.

- يا مجنون، المستشفى لن يدافع عن أطفالك.

وأضاف متسائلاً:

- أتعرف لماذا تطوعتُ؟!

رددتُ بشكل تقليدي:

- لكي تساهم في الدفاع عن بلادك.

هزّ رأسه معترضاً، ثم وجّه سؤالاً آخر.

- هل تستطيع أن تتنبأ بما سيحدث إذا وقعت الحرب؟!

- لا أحد يستطيع ذلك.

- أليس من الممكن أن تتحول البلاد إلى فوضى، لا تعرف فيها عدوك من صديقك؟!

- ربما.

- أرأيت؟! لذلك تطوعتُ؛ لكي أتعلم كيف أحمل السلاح وأدافع بنفسي عن أطفالي، فمن المحتمل ألاّ يجدون من يدافع عنهم.

قلت له مستغرباً:

- هناك قوات أمن مهمتها حمايتك.

- الحرب محك غامض، نحن لا نعرف إذا كانوا سيفعلون ذلك، أنا لا أثق في أنهم سيكونون في مستوى الكارثة، قل لي ما هي تجربتهم؟!

- كلامك غير منطقي.

- غير المنطقي، أن ترى الواحد منهم لا يجيد سوى الجلوس في مكتبه المكيف، وقراءة الصحف.

حاولتُ أن أخفف عنها ما استطعت.

سحبتُ منديلاً ورقياً من العلبة، وأعطيتها إياه.

- اصبري يا بدرية.

مسحتْ عينيها ثم دسّتْ المنديل تحت ركبتها.

- لا يمكن لإنسان أن يحتمل كل هذا، إنكم تعيشون ذعراً من الحرب، أما أنا، فأتمنى أن تقوم لتفنينا جميعاً، لا يصلح لنا إلا الفناء، كلما أتذكر وجه طالبتي التي اكتشفت أنها مدمنة حبوب منبهة، أقول: لم يبق إلا القيامة.

أخرجتْ المنديل من تحت ركبتها، وعادت لتمسح به عينيها.

- أيخطر ببالك أن طفلة في الثانية عشرة من عمرها تدمن؟!

أكملتْ حين لم تجد مني جواباً:

- أمها ضاربة دف سوداء، لديها فرقة من البنات، تحيي بهن الأعراس، رأس مالها سيارة وبضع دفوف وأغنيات شعبية مكررة، تحصل مقابل الليلة الواحدة على عشرين ألف ريال. قبل أن يتوجهن إلى العرس، يتناولن حبوباً منبهة، تعينهن على السهر والغناء. وبعد أن ينتهي الحفل ينصرفن إلى الهلوسة والجنون، سألتها: هل تعطيك فتيات الفرقة هذه الحبوب، أجابتني أنها لم تكن تعرف أن هذه حبوب منبهة. سألتها عن أبيها، فقالت إنه بعدما خرج من السجن، لم تعد تراه إلا نادراً، يأتي إلى البيت في حالة رثة، تعطيه أمها نقوداً ويختفي مرة أخرى. استدعتْ مديرة المدرسة أمها أكثر من مرة، فلم تستجب، حرمت ابنتها من دخول المدرسة، فحضرت. كانت تلبس أساورَ من الذهب الخالص في معصميها، وأقراطاً من اللؤلؤ في أذنيها، وخواتم في أصابعها. قالت لها المديرة: ابنتك تتعاطي حبوباً منبهة، أجابت من دون اكتراث: ألهذا أرسلتم في طلبي؟! ألستم مدرسة؟! لماذا لا تعلّمونها أخلاقاً حميدة لكيلا تمد يدها إلى أغراض غيرها.

دخل طفلاها الغرفة، وهما يرتديان بيجامتي قطن باليتين، لكنهما نظيفتين. اتجها إلى أمهما، وارتميا في حضنها، وهما يخفيان وجهيهما عني.

اقتربت منهما، وضعت أصابعي على شعر أصغرهما، فدس رأسه في صدر أمه مرتعباً، قبلّت رأس الآخر، ونهضتُ.

فتحتُ الباب الخارجي، وقبل أن أغلقه، أمسكتْهُ بيدها.

صارتْ تطالع في الشارع من خلال الفتحة الضيقة بين الدرفتين، فلم أدرك لأي نور، فرّتْ ابتسامتها وهي تقول:

- سلَّم على الوالدة.

أعطيت والدتي صندوق تمرها، فصارت تقلّبُ حباته، وتضغطها بأصابعها.

- أهو برْحي؟!

- أجل.

خلعتُ غترتي، ثم اتجهتُ إلى الحمام، كي أتوضأ.

حينما بدأت غسيل يديّ، أطلّتْ عليّ أمي.

- لا تستعجل، بقي على الأذان ربع ساعة.

- المسجد ليس قريباً.

حين انحنيتُ لأغسل قدمي، أحسست بألم مفاجئ في منتصف صدري، وأسفل رقبتي.

سقط خرطوم الماء من يدي، وأقعيتُ ضاغطاً صدري بركبتيّ.

رأتني أمي، فرمت المنشفة من يدها، وهرعت إليّ:

- ما بك؟!

اضطررت، لكيلا أخيفها، أن أقول:

- سقطتُ.

أضفتُ، والألم يشتد على كتفي الأيسر.

- اضغطي بيدك هنا يا أمي.

صارت تدلك بيدها كتفي ورقبتي، وهي تبسمل عليّ.

- كيف سقطتَ يا جنيني؟!

- عندما رفعت رجلي، تعثرت بالماء.

ساعدتني في النهوض، واسندتني حتى وصلت ركن الصالة. تمددت، فانتشر الألم إلى جميع صدري وبطني وفكي الأسفل.

- أأحضر لك دهانا؟!

- لا داعي، تكفيني يداك، لقد بدأ الألم يخف.

أحضرتْ لي مخدة، فجلست سانداً ظهري عليها.

- لن تذهب إلى الصلاة.

- بل سأذهب، إنها مجرد سقطة بسيطة.

ناولتني غترتي، قمت إلى المرآة، وأخذت ألبسها وأنا أحدق في وجهي الذي تضاعف شحوبه.

في الطريق إلى المسجد، أخذت أستعيد كلام هيفاء.

- أحس أنك تريد أن تدفع الحرب بيديك العاريتين، أن تصنع من جسدك مظلة تقينا قنابل المعركة.

صرتُ أضغط بإصبعي على عظمة صدري، فأحسه يخبئ جمرة متقدة، بقايا الألم لم تزل تتبخّر في كتفي الأيسر، وأسفل رقبتي.

في صفوف المسجد، دسست منكبي، صليت التحية، ثم تناولت مصحفاً.

كان أبي في أواخر حياته، يوقّت نهار الجمعة ليختم به القرآن، يغدو بعد الصلاة، بوجهه الحليق إلاّ من لحية صغيرة، كمن استحم ببخار السماء، يجاهد مخالبه الضيْقة التي تستطيل في صدره يوما بعد يوم، ويصير يمازحنا.

كان يحرص أن نكون كلنا على سفرة الغداء، ينهض قبلنا، يتكئ مواجهاً التلفزيون في انتظار الشيخ "علي الطنطاوي"، كان يعجبه حضور الشيخ وبساطته.

صعد الخطيب المنبر، وسلّم على المصلين، انطلق الاذان ليصب في قلوبنا مرمراً يبرق عليه عَرَقُ غفوتنا.

أسند الخطيب عصاه على خشب المنبر، أخرج من جيبه ورقة، واستهل خطبته بذكر الله والصلاة على المصطفى.

- أما بعد.

رفعت رأسي لأراقب وجهه الذي بدأ في التجهم، وعينيه اللتين اتسعتا اتساعاً، ارتعدتْ له فرائص الأعمدة الرخامية.

بصوته الجهوري، أخذ يحذر من البدع والضلال، أشار إلى أن تبرج النساء، قاد المسلمين إلى الفتنة، ودعا الله أن يحيق بمكره من أشعل فتيلها. كان كمن نزلتْ الصاعقة في بيادره، أبعد الورقة عن عينيه، أمسك خشب المنبر بقبضتيه، فسقط طرف عباءته.

- يا عباد الله، لا يغير الله ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم.

دعاهم إلى محاربة الاختلاط، والتلفزيون والمجلات المستوردة، نهاهم عن استقدام الخادمات، والسائقين، والسفر إلى الخارج والتعامل مع البنوك واستخدام سيارات الليموزين وإقامة حفلات أعياد الميلاد والمبالغة في الأعراس.

لوّح بسبابته، وكأنه يحرضنا.

- كبائر الأمور أيها المسلمون، تبدأ بصغائرها، إنها الفتنة، فمن رأى منكم منكراً يا عباد الله فليغيره بيده.

أقيمتْ الصلاة.

بعد التسليمة الثانية، رفعتُ ركبتي وضممتها إلى صدري، أحطت ركبتيّ بذراعيّ، وصرت أضغطهما إليّ.

قام شاب كان يصلي في الصف الأول، تناول مكبر الصوت، وطلب من المصلين ألا يستعجلوا الخروج.

عاد بعض المصلين، وأكمل بعضهم طريقه.

بدأ موعظته بالدعاء أن يحفظ الله الإسلام من المتآمرين الحاقدين.

صاح ووجهه الممتلئ يذرف عرقاًً.

- سأحدثكم عن الفتنة.

وكأنه أراد أن يكشف لنا غموض هذه الكلمة التي كرر الخطيب استخدامها دون أن يضع إصبع خطبته عليها.

سرد التفاصيل الدقيقة لمظاهرة البنات، ذكر أسماء المشاركات وأسماء أزواجهن وآبائهن اسماً اسماً. وصفهم، كما ورد في المنشور، بالعلمانية والإمبريالية والشيوعية.

- سأقول لكم لماذا كنا نتفرج عليهن؟!

كان يتحكم في تغيير طبقات صوته.

- لأننا نخاف من أمريكا، أنتم تعرفون يا إخوان بأن أمريكا عدوة الله.

كان ينقل بصره بين المصلين، والخطيب الذي علت وجهه علامات الموافقة.

- نحن نحتمي بإسلام رضيه المصطفى لنا ديناً، وسيظهر الله أمره، ولو كره الكافرون.

همس عجوز سوداني في أذني، وهو يطوي سجادته.

- ألا يخاف الحبس؟!

خارج المسجد، كان باعة السواك وعطر دهن العود والطواقي، ينفخون الظهيرة بغبار بضاعتهم الزهيدة الثمن.

استقللت سيارتي، رميت السجادة على المقعد الخلفي، الذي تكومت عليه صحف ومجلات وكتب.

في مواقف فندق " الخزامى"، لم أجد مكانا لسيارتي.

كنا، "خالد" و"عبد الكريم" و"منصور" وأنا، نجتمع أحياناً بعد صلاة الجمعة، في ردهة الفندق، نشرب القهوة ونستعرض عناوين الصحف حتى الثانية ظهراً، حيث يذهب كل منا إلى غداء بيته.

خالد مهندس مدني في "حي السفارات"، عبد الكريم موظف في مركز المعلومات في مصلحة الاحصاءات. منصور يملك معرضا للأزياء النسائية.

تعرفت إلى خالد مصادفة أثناء اجتماع مشترك بين إدارة المستشفى وإدارة حي السفارات، بخصوص إقامة ندوة علمية مشتركة.

أثناء الجولة التعريفية التي نظمها لي للوقوف على مرافق الحي، طرحتُ عليه عدداً من الأسئلة حول خدماتهم الترفيهية المقدّمة.

- لدينا خدمات كثيرة.

ابتسم.

- لا نريدهم أن يفتقدوا أجواء بلادهم، بعضهم يقسم بأن حي السفارات أكثر تطوراً من مدينته الأوربية.

سألني:

- أيختلف مناخ الحي عن مناخ المستشفى؟!

- مناخكم لا يُصدق يا رجل.

مع الأيام، توطدتْ علاقتي به، اتصل بي في نهاية أحد الأسابيع، ودعاني إلى الفندق، بعد صلاة الجمعة.

- غداء؟!

- لا، جلسة خفيفة، قهوة وسواليف.

كان يعجبني فيه سرعة اندماجه بالناس، وطيب معشره.

وأضاف:

- لديّ صديقان حميمان، نلتقي في الفندق كل أسبوع.

- هذا ليس مألوفاً بالنسبة إلي، اعتدنا على اللقاءات المسائية الدسمة.

- إذا أحببت أدعوك وحدك في أي وقت تشاء.

- لم أقصد، أحببت فقط أن أعرف سبب اختيار هذا الوقت الغريب.

- ستكتشف أنه وقت هادئ جداً للنقاش.

أوقفتُ سيارتي في الشارع الخلفي للفندق، ومشيت باتجاه البوابة الفخمة التي يقف أمامها بواب يرتدي بدلة رمادية من قطعتين وقبعة باللون نفسه، وعلى يديه قفازات من القطن.

حين اقتربتُ من البوابة، ابتسم لي منحنياً.

انفتحت درفتا الباب الزجاجي ببطء، وكأنهما ستارة مسرح.

كان خالد وعبدالكريم ومنصور، يجلسون في نهاية الردهة، خلفهم مقعدان يجلس عليهما رجل وامرأة أجنبيان، يقلبان ألبوم صور صغير.

كان بيني وبينهم مسافة من المرمر، تنتهي بدرجتين.

ازداد المنظر مسرحاً، فوجدتني أصوغ المشهد كما لو كنت مُخرجاً.

(إضاءة شديدة على اربعة مقاعد، يجلس على ثلاثة منها خالد وعبدالكريم ومنصور، يتوسط المقاعد طاولة عليها أربعة فناجين قهوة فارغة وفنجان مملوء، حول الطاولة تتكوم صحف محلية، على الكرسي الرابع، جثة صقر، عيناه زائغتان.

إضاءة شحيحة على مقعدين في الجوار، يجلس عليهما رجل وامراة أجنبيان.

خلفية المكان سوداء قماشية، يضيء وسطها منظر لرمال كثيفة تسد باباً خشبياً مهشماً.

صوت خارجي لهمهمات غير واضحة، تتداخل معها ضحكات ناعمة لامرأة).

خالد (مقرباً رأسه من منصور وعبد الكريم، مشيرا إلى الرجل والمرأة):

- هذا مهندس اتصالات أوروبي، وهذه صديقته من إحدى دول القارة الأمريكية، تعمل سكرتيرة في سفارة بلادها. اتصلتْ بي مرة، تريد ان تعيد تصميم حديقة مسكنها، اشترطتُ أن أعاين الحديقة، لأتأكد إن كانت تحتاج فعلاً إلى إعادة تصميم.

(إظلام على المقاعد الأربعة).

(إضاءة على المرأة وهي في مسكنها، تنسق باقة ورد في مزهرية، ترتدي بيجامة حريرية، صوت طرقات باب، تفتح، فيدخل خالد. تحييه بابتسامة رقيقة).

المرأة (ترفع بأصابعها خصلات شعرها الأشقر عن جبينها):

- أتشرب شيئاً؟!

خالد (مرتبكاً):

- شكراً، أريد أن أعاين الحديقة.

l المرأة ( تمشي خطوتين أمامه):

- ها هي ذي الحديقة أمامك، أترى كيف تحتاج إلى تنسيق (تبتسم وهي تركز عينيها في وجه خالد وعينيه).

(صوت خارجي لعواء ذئب)

l خالد (لا يزال مرتبكاً):

- إنها في حالة جيدة.

l المرأة (بغنج):

- ربما تكون كذلك بالنسبة إليك، أما أنا (تعض شفتيها)، فأريدها أكثر اخضراراً، أريد حديقة أتمدد على عشبها، كي أحس بدفء أرضكم وهو يتسلل إلى مسام جسدي.

l خالد (يتعرق وجهه):

- حسناً، سأكلفهم بإعادة تصميم حديقتك.

(طرقات على الباب. تفتح المرأة، فيدخل الرجل، يقبلّها، ويدخل محيطاً ذراعيه بخصرها).

 lالمرأة:

- هذا صديقي.

l الرجل: 

- هل ستزرع لها حديقة جديدة؟!

l خالد (يسأل الرجل):

- هل تعمل معنا في الحي؟!

l الرجل:

- لا، أنا أعمل مهندساً للإتصالات، (يشير إلى المرأة) لقد تعرفتُ إليها في حفلة من حفلات سفارتنا.

l المرأة (تمشي أمامه باتجاه الباب):

- متى تبدؤون العمل.

l خالد ( يفتح الباب الخارجي):

- قريباً.

(إظلام كامل)

صورة سينمائية لخالد، وهو يمشي داخل الحي، حين يخرج منه، يصير الشارع الذي يمشي فيه محاطاً بزنزانات، داخلها وجوه شاحبة.

(إضاءة على المقاعد الأربعة، يضع خالد خدّه على قبضته)

l منصور (يشير إلى الرجل والمرأة):

- أنظر إلى ملابسهما، أنيقة وبسيطة، نساؤنا يبالغن في شراء أحدث الموديلات وأغلاها ليلبسنها في لقاءات الثرثرة.

l عبد الكريم (مبتسماً):

- لو لم يفعلن، لتكسدّتْ تجارة معرضك.

(منظر خلفي لامرأة مختنقة على سرير نومها الوثير، عيناها جاحظتان، صوت خارجي لرقرقة دجاج ).

l منصور:

- إنني أراهنّ كل يوم في معرضي، أحسهنّ خاويات، يسترن هذا الخواء داخل الأزياء الفاخرة، نحن نبحث عن امرأة ذات كيان، نقذف كلماتنا، لترنّ معانينا في صفيحة قلبها. حين لا نجدها، نتكوم في دثار من الأخيلة، ليأخذنا بعيداً.

l عبدالكريم:

- لديّ في المصلحة إحصاءات تثبت أن إنتاجية المرأة العاملة، ستزداد خلال السنوات الشعر المقبلة ثلاثة أضعاف، أنا أرى أنك تطلق أحكاماً عامة على النساء.

l منصور (منفعلاً):

- إحصاءاتكم افتراضية، قل لي، من تستثني؟!

(صوت الرقرقة يتحول إلى صراخ آدمي، مختلطاً بعواء ذئاب، منظر خلفي لنساء يرجمن وجه الشمس بالحجارة).

l عبد الكريم: 

- هناك نساء معدمات، لا يجدن أزياءك الفاخرة ليسترن بها بردهن.

l منصور:

- لو يتخلصن من فقرهن، سيكون الخواء في انتظارهن، وسيتلحفن به.

l خالد:

- وبنات المظاهرة؟!

l منصور: 

- هناك منشورات ضدهن، خطب الجمعة التي سمعناها اليوم في مساجد مختلفة، هاجمتهن، أنا متأكد أن هذا سيخلق عند بقية البنات رد فعل سلبي، ولن يقمن مرة أخرى بأي مبادرة مشابهة، أراهنكم إذا حدث ذلك، أنا أعرفهن.  

(يتوقف خالد عن المشاركة في الحوار، وينصرف لقراءة الجريدة، الدخان يتصاعد من المقاعد الأربعة).

(إظلام تام).

(همهمات، يتخللها صوت صفحات الجريدة وهي تتقلب صفحة صفحة).

(منظر سينمائي للشمس وهي تكبر شيئاً فشيئاً، حتى تختفي الحجارة من وجهها، ينطلق من الهمهمات صوت خالد.)

l الصوت: 

- في بون، قال الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف أمس إنه لا يوجد أي خلاف بين واشنطن وموسكو بشأن أزمة الخليج، وأنهما لا تزالان تبذلان قصارى جهودهما من أجل التوصل إلى حل سياسي، وقال غورباتشوف إنه يبذل كل ما في وسعه لاستبعاد الحل العسكري.

(الصدى يكرر اسم غورباتشوف).

(إظلام تام).

(الإضاءة تتركز على المقعد الفارغ).

(الكرسي يشتعل، جثة الصقر تشتعل).

(إظلام تام مرة أخرى، وصدى اسم غورباتشوف، يتداخل معه صوت سعال بشر).

 

  

الرياض - 5:

10 نوفمبر 1990م

أدرت محرك سيارتي، لكي يسخن، في انتظار خروج هاجر وهزيع من البيت.

لم أنمْ ليلة البارحة بشكل جيد، انتابني سعال متقطع وأرق.

بين كل ساعة وأخرى، كانت فاطمة تصحو.

- لقد تعرق جسمك عندما كنت تلاعب الأطفال عصر أمس في المتنزة. ربما أخذت برداً.

- سأذهب لأنام في غرفة الضيوف.

قلت لنفسي، وأنا أضع المخدة تحت صدري:

- يجب أن أخفف التدخين.

ركبتْ هاجر السيارة.

قال هزيع، وهو يصعد:

- اليوم، توصلني أنا أولاً إلى المدرسة.

ردّتْ هاجر:

- أنت لا تشارك مثلي في جمعية الإذاعة الصباحية.

كانت هاجر من الطالبات البارزات في أنشطة الجمعيات.

سجّلتْ اسمها في بداية السنة، في جمعية الرسم وجمعية التفصيل والخياطة وجمعية التدبير المنزلي وجمعية الصحافة.

قالتْ لها رائدة فصلها:

- اختاري جمعية واحدة فقط يا هاجر.

ثم سألتها:

- ما هو النشاط الذي تحبينه أكثر؟!

- أنا أحب الإذاعة والصحافة يا أبْلا، أريد أن تظهر صورتي في الجرائد مثل بابا.

- عندما تكبرين مثل بابا، لن ينشروا صورتكِ.

- لماذا؟!

- لأن الدين يحرّمُ عليك كشف وجهك.

- لكني أشاهد صور النساء في الجرائد التي يحضرها بابا.

- هؤلاء النساء غير سعوديات، سيصبُّ الله في وجههن قطراناً يوم القيامة.

نصحتْها:

- اشتركي يا هاجر في نشاط التدبير المنزلي، سنعلّمكِ كيف تطبخين وتعتنين ببيتك، واذا كبرتِ، تصيرين زوجة صالحة.

- عندما أكبر، سأحضرُ خادمة، أنت لديك خادمة في البيت يا أبْلا، أليس كذلك؟!

- بلى، لكن الخادمة لا تعتني بزوجي.

- أنا أريد أن أشترك في جمعية الإذاعة، الله يخليك يا أبْلا.

كانت هاجر تعدّ كل يوم موضوعات تقرأها في الإذاعة، نصائح للطالبات، مختارات من أقوال الفلاسفة، طرائف، وأخبار صديقاتها.

كانت رائدة الفصل تشترط على كل طالبة أن تريها ما كتبته، قبل أن تقرأه أمام صندوق الميكرفون، الموضوع أسفل الدرج، والموصول بمكبر صوت واحد يشرف على فناء المدرسة.

كانت تقول لي إن معلمتها تحذف كلمة عيد الميلاد من فقرة الأخبار.

- أعياد الميلاد حرام يا هاجر.

قلت لهزيع:

- لا تغضبْ يا هزيع. سأوصلكَ أنت أولاً.

تجهم وجه هاجر، فبادرتُها:

- لا يزال أمامنا وقت كاف، لا تقلقي.

بعد أن أوصلتهما، سلكتُ طريقي إلى المستشفى.

كان الطريق مزدحماً كالعادة.

أخرجتُ سيجارة، وقبل أن أشعلها، ترددت، فأعدتها.

كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحاً، أدرتُ المؤشر إلى موجز أنباء إذاعة قطر.

- "أولتْ وسائل الإعلام الخليجية والعربية والعالمية اهتماماً كبيراً بالحديث الذي أجاب فيه العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز عن أسئلة رؤساء تحرير الصحف المحلية حول عدد من الأمور الهامة وعلى رأسها الاقتراب في بدء العمل بنظام مجلس الشورى. وركّزتْ وكالات الأنباء في تصريح الملك فهد، بأنه تم وضع اللمسات النهائية لهذا النظام، وأبرزتْ ما تناوله حول ثوابت سياسة المملكة أزاء العدوان العراقي على دولة الكويت".

أخرجتُ السيجارة مرة أخرى، ثم أشعلتها.

في غرفة الاجتماعات الملاصقة لمكتبي، تركز حديث المديرين التنفيذيين لأقسام المستشفى في مناقشة السبل الممكنة لتخفيف فزع العاملين الأجانب الذين قرروا البقاء، على الرغم من التصاعد المذهل لسيناريو الحرب.

انصبَّ حديثهم على تفاصيل الخبر المنشور في صحيفة "الصنداي" عن حادثة اقتحام مجموعة من مواطنين مسلحين منزل دبلوماسي فرنسي أثناء إقامته حفلاً مختلطاً، فقد أطلقوا النار على كلب الحراسة، وصفعوا ممرضة فرنسية، ثم اقتادوهم جميعاً، واحتجزوهم لمدة أربع وعشرين ساعة. ولقد نشرتْ الجريدة أن إمارة الرياض نجحتْ في اطلاق سراحهم، وكان من بينهم رجل أعمال، وممرضات، وثلاثة من جنود القوات الفرنسية المشاركة في عاصفة الصحراء.

سألتْ رئيسةُ قسم التمريض:

- أي سلطة تلك التي تخول لهم اقتحام المنازل عنوة؟!

ترجم َرئيس قسم الطوارئ مقاطع من المنشور الثاني الذي وزع أمس.

- "كان التخطيط الأمريكي يقوم على أساس: أنه مع بداية الثمانينات الميلادية يكون الطوق العلماني قد أحكم الخناق على البلاد، وهيمن على معظم مؤسسات الدولة بما فيها التعليم، وبخاصة الجامعات. لكن الصحوة الإسلامية التي بدأتْ بعد هزيمة 1967م، وظلتْ تنمو ثم تنمو حتى أصبحتْ على ما هي عليه الآن، جعلتْ أمريكا تعيد حساباتها وتقرر التدخل مباشرة لحماية العناصر التي تعبتْ في تربيتها، ولتحقيق المخطط الأمريكي في معقل التوحيد. ومن هنا، كان الغزو العراقي المخطط له، ثم القدوم الأمريكي بمئات الألوف".

دخل العم إبراهيم حاملاً أكواب الشاي والقهوة للمجتمعين، وعندما وضع كوب القهوة أمامي، همسَ في أذني:

- هناك ضيف في مكتبك.

استأذنتهم بإشارة صامتة، ثم خرجتُ.

دخلتُ مكتبي، فاستقبلتني رائحة عطر نسائي.لم يكن أحد في المكتب.

على الطاولة، استقرت بطاقة، بداخلها ورقة مطوية.

فتحتُ الورقة، فإذا هي صورة منسوخة لقصيدة عمودية عنوانها "إلى زهور المسيرة"، ولم تُشرْ الورقة إلى كاتبها.

كان مدير المستشفى قد أخبرني صباح اليوم أن شاباً اسمه "ناصر الحميضي"، كتب قصيدة شعرية رداً على المنشورات، وطلب مني أن أحاول تدبير نسخة له.

انتقلت عيناي بسرعة، تلتقطان مقاطعَ من القصيدة.

 (بكنَّ يا فتيات العلم قد نهضـــتْ   آمال "نجد" وغنّتْ مجدَها "مضــرُ"

  واهتزتْ "السرواتُ" الغّر راقــصةً   فجاوبتها "جبيلُ" المجد و"الخُبـــرُ"

  وغطرفتْ في شمال العز "عرعُرهـا"    فقام "نجرانُ" يتلوها ويفتــــخرُ

  بكن آمالنا طارتْ مجنـــــحةً    تثري السحاب فيهمي الخيرُ والمطـرُ

  لا يرهبوكنَ، فالإرهاب ديدنهــمْ     سيروا على الدرب عزماً ليس ينكسرُ

  عزماً تلين لها مع كل قسوتـــها     آراء من حاربوا التجديد واندحـروا

  قد حاربوا- قبل هذا - كل مبتَكَـر    مثل "الإذاعة"و"التلفاز"وانكــروا

  قد حرّموا-قبل هذا- العلم لامـرأة     فقاوموا العلم والتعليم ما قــدروا

 هم التناقض والغوغاء مذهبهـــم     هم التأخر، هم آياته الكبــــرُ

 من شارع "القائد الميمون" وانـــ     طلقتْ مشاعلُ المجد والآمال تستعرُ

 تقول إن حقوقي ليس يرفضها ديــ      ـنٌ ولا صحّ في تحريمها أثـــرُ

إنكارها "بدعة" في الدين محـدثــةٌ    وكل محدثة في الدين تُبتتــــرُ )

أخفيتُ القصيدة والبطاقة في الدرج، وقبل أن أغلقه، غمرني إحساس بأنني لم أقرأ البطاقة.

أخرجتها، ثم فتحتها.

وجدت في مركزها كلمة "آسفة"، وفي الركن السفلي الأيسر.

"هيفاء - الساعة الثالثة، فجر الجمعة 9 نوفمبر 1990م".

كان غلاف البطاقة يحمل صورة لنافذة مغلقة، ينهمر المطر عليها.

أغلقتُ الدرج، وعدتُ إلى الاجتماع.

بعد الثانية ظهراً، يكون العمل أقل ضغطاً، فمعظم الموظفين يتناولون غداءهم في هذه الفترة.

ولكوني لا أخرج للغداء، أستغلُ هذا الوقت لقراءة الصحف اليومية، أو لمراجعة أوراقي الخاصة حتى الثالثة، حين يعود الضغط ويستمر حتى السادسة مساءً، وقت انتهاء الدوام. شعرتُ أنه يجب أن أشكرها على صورة القصيدة والبطاقة. من دون تفكير، قررتُ الذهاب إلى عيادة الأطفال، حيث تعمل، التقطتُ مجموعة من الأوراق التي أمامي، وضعتها في ملف أصفر، وخرجت.

توقف المصعد في الدور الثاني للعيادات الخارجية، ألقيتُ التحية على "عادل" موظف المواعيد، فردّ علي بحرارة، خرج من خلف مكتبه الزجاجي، ولحقني:

- هل صحيح انكم قررتم منع الإجازات للموظفين السعوديين؟!

- أجل.

- أيشمل هذا الطلبات القديمة.

- لا يستطيع أحد الحصول على إجازة، حتى تنتهي الأزمة.

سألني بخوف:

- وإذا لم تنتهِ؟! لقد طلبت إجازتي قبل شهر أغسطس، كي أتزوج في  ديسمبر.

- أتمنى ألاّ تقوم الحرب، كي تستطيع الزواج.

ظهرتْ على وجهه علامات الانفعال.

- أنتم الذين صنعتم هذا الجلاد، صرتم تطبّلون وتزمرون له في حربه مع جارته المسلمة، ذبح شعبه الكردي بمجنزراته الكيماوية في وضح النهار، ولم يمس هذا طبولكم ومزاميركم، نفختم هذا المتغطرس حتى انفجر في وجوهكم، صرخنا بكم، اخلعوا غشاوتكم، وحين فعلتم، وجدناكم تخنقوننا بها، وفي غفلتكم بنا، انقضّ هو على تاريخكم يلوثه من كل جانب.

تلفتُّ حولي لكي أحذره من التمادي.

قال لي:

- أعرف أني انفلتُّ.

اقترب مني:

- أأستطيع أن أزورك في المكتب، ربما تساعدني في الحصول على استثناء لإجازتي.

- أهلا بك في أي وقت يا عادل.

استأذنني، وعاد إلى مكتبه، الذي ازدحمتْ الأمهات على واجهته الزجاجية، وهن يحملن بطاقات مواعيد أطفالهن.

أقبلتْ هيفاء باتجاهي، كانت خطواتها عجلى، تحمل ملفاً طبياً، وعلى وجهها جدية مترفة.

كانت ترتدي معطف الأطباء الأبيض، تحته قميص رمادي منقط بلون التنورة الكحلية التي تلامس كعبيها.

كانت تلف غطاءها حول شعرها ورقبتها، لكنه لم يخف طرف غرّتها الكثيفة.

وقعتْ عيناها على عينيّ، فتوقفتْ.

اتجهتْ إلي:

- مرحباً.

- أهلاً هيفاء. كيف أنت؟!

-كما ترى، الأطفال لا يكفون عن المرض.

-شكراً على الأوراق التي تركتها لي في المكتب.

ردتْ بخجل.

- وجهك شاحب.

قلتُ لأعود إلى الموضوع.

- أعجبتني النافذة المغلقة في وجه المطر.

- أكنت تتحدث إلى عادل؟!

ابتسمتُ لتهربها.

- أجل، هل عاكسكِ؟!

- إنه شيعي، هل تعرف ذلك؟!

- أعرف.

- ماذا قال لك؟!

- قال شيئاً سريعاً عن الحرب ثم مضى، كان يتشفى منا لأننا وقفنا، من قبل، مع صدام.

- إنه يستغل أي فرصة ليمرر فيها غضب الشيعة على الأنظمة السنيّة التي وقفتْ مع العراق في حربها ضد إيران.

صرتُ أدق بأصابعي على الملف الذي معي.

- هل أخرّتكَ عن عملك؟!

من دون تفكير مسبق، وجدتني أقول:

- جئت لكي أشكركِ.

حاولتُ وأنا في المصعد ألاّ أنجرف في الخوف.

أخذت أستعيد تفاصيل وجه عادل.

تذكرتُ صديقي الذي قدم اليّ من "سيهات" بالمنطقة الشرقية، باحثاً عن عمل.

- سأقبل أي عمل، أنا حاصل على البكالوريوس، طرقتُ الأبواب التي تليق بمؤهلي، فلم تنفتح، يريدون أن أنزل جثة الحسين من على ظهري، وأن أحمل جثثاً لا أعرفها.

- هناك كثير من خريجي الجامعة بلا عمل، لماذا تنظر إلى المسألة بهذا الشكل الطائفي؟!

- أتظن أنني أفعل ذلك؟! إننا يا صديقي في سواد قائمتكم، أنتم الذين أغلقتم باب سنتّكم في وجوهنا، وجعلتمونا نلتفّ حول عاشوراء، ونواصل إراقة دمائنا التي ما جفّت منذ كربلاء.

- لماذا يتبنّى مثقف مثلك هذا الكلام الفارغ؟!

- لأنكم تحاصرون روائح ثيابنا بأسلاككم الشائكة.

انفتح المصعد، فخرجتُ منه.

قبل أن أغادر منطقة العيادات الخارجية، عبرت أمام وحدة تخطيط القلب.

كانت هناك امرأة عجوز تجادل أحد فنيي الوحدة الأجانب.

توجهتُ لهما.

قلت للفني:

-     أأستطيع معاونتك في حل المشكلة؟!

- أرجوك، إنني أحاول أن أفهمها أن عليها أن تنتظر قليلاً، إننا نواجه مشكلة مع المريض الذي قبلها.

افهمتُ المرأة، فاستكانت، قالت، وهي تجلس بصعوبة على الكرسي:

- لا أعرف بماذا كان يبربر هذا الأشقر، كنت أحسب أنه لن يعمل تخطيطاً لقلبي.

- لا بأس يا خالتي، انتظري قليلاً.

دخلتُ غرف الفحص، لأتأكد ان كان كلام الفني صحيحاً.

كان هناك متدرب سعودي، يجري تخطيطاً لقلب مريض.

ضحك الفني، وهو يقول لي:

- كلنا كنا مرتبكين مثله في البداية، بعد أسابيع، سيجري الفحص، هكذا.

وفرقع بأصابعه.

وقفت أراقب المتدرب، وهو منهمك في تطبيق خطوات الفحص.

أخذ الفني يستفسر عن استعدادات المستشفى للحرب.

- هل أنتم مستعدون فعلاً لمواجهة صواريخ صدام الكيماوية؟!

- أحسب أننا كذلك.

سألته بدوري:

- أأنت مطمئن حقاً هنا؟!

- ما دامت القوات الأمريكية على بعد حجر مني، فلماذا لا أطمئن؟! حمايتي مسؤوليتهم، وأنا كمواطن أمريكي، أثق بهم كثيراً.

كنت وهو يتحدث، أضغط بإصبعي بشكل لا إرادي على عظمة صدري.

- هل هناك مشكلة في صدرك؟!

انتبهتُ.

- لا. إنها مجرد عادة.

- إذا أحببت، أعمل لقلبك تخطيطاً سريعاً لكي تتطمئن، لن يستغرف ذلك طويلاً، ألم الصدر مؤشر غير جيد.

ثم سألني:

- هل تدخن؟!

- كثيراً.

- انتظرني إذن، دقائق وأكون معك.

انتهى المتدربُ من فحص المريض، طلب منه الفني، أن يأخذ المرأة العجوز إلى غرفة الفحص المقابلة، وأشار إليّّ أن أدخل.

خلعتُ ثيابي، وتمددت على السرير الذي كانت تفوح منه رائحة المريض الذي خرج للتو أمامي.

دهن بأصابعة سائلاً جلوياً على عدة مناطق في صدري وكتفيَّ وساقيَّ، ضغط قطعاً مطاطية لاصقة في المناطق المدهونة ثم أوصل أسلاك الجهاز الالكتروني بالقطع المطاطية.

ضغط زر تشغيل الجهاز، فخرجت من جانبه أوراق الفحص الهندسية ذات اللون الزهري، والخطوط الزرقاء الغامقة.

طالع أوراق الفحص، ثم استدار اليّ:

- هل كنت متوتراً قبل أن أبدأ الفحص؟!

- لا.

- ألمْ تكن قلقاً أو خائفاً؟!

- لمَ كل هذه الأسئلة؟!

- سأتركك قليلاً لتهدأ، ثم أعيد الفحص مرة أخرى، يجب أن يكون القلب مرتاحاً تماماً. سأعود بعد دقائق.

أغلق الباب، فأخذتُ أحدق في سقف الغرفة.

تخيلتُ أن البياض يتقاطر على جبهتي، مسحتها، ثم طالعت كفي.

أدهشتني الخطوط التي عندما طالعتْها قارئةُ الكف في مساء شتائي، ضحكتْ.

- خطوط بختك واضحة، لا تحتاج إلى قارئة محترفة مثلي.

كنتُ قد سافرتُ إلى القاهرة، لأحضر معرضاً للكتاب، التقيتُ هناك بكاتبة سعودية، انتظرتْ حتى أنهيتُ حديثي مع ناشر لبناني أمام جناح معرضه، وعرّفتني على نفسها.

- أنا سارة، أنت تشبه صورتك كثيراً.

عرّفتني على أخيها الذي لم يكن مهتماً بالكتب التي كانت تحاصرنا.

سألتني.

- أهناك كتب معينة جئت تبحث عنها؟!

- لقد وجدتُ معظمها، باستثناء كتاب "مدار الجدي" لهنري ميللر.

قاطعني أخوها مندهشاً:

- أتحب الأبراج؟!

ضحكتْ سارة.

- هذه رواية وليست كتاباً للأبراج.

شرحتْ لي أن أخاها مهووس بكتب التنجيم، وبمجالسة العرافات وقارئات الكف والفنجان.

علّق قائلاً:

- أتعتقد أنت أيضاً أن هذا تخريف؟!

ضحكتُ، فأخذ يطالع وجه أخته.

- ما رأيك ياسارة أن ندعوه الليلة معنا؟!

كانت خطيبته الفلسطينية، المقيمة في القاهرة، تعرف هوسه، فكانت تدعو كل ليلة صديقتها الموهوبة بقراءة الكف.

قال لها مبتسماً:

- نحن نعرف أنك قارئة حرّّيفة، لكن مهمتك ستكون صعبة هذا المساء.

صارتْ تقلّبُ كفي إلى الأعلى ثم إلى الأسفل، إلى اليمين ثم إلى اليسار، وعيناي لا تبارحان عيني سارة، اللتين كانتا تبرقان دهشة طفولية.

قالتْ القارئة بحذر:

- هناك من لا يؤمنون بقراءة الكف، وهناك من يؤمنون بها، ولكنهم يخافون أن يكشف أحد لهم أسرار مستقبلهم، من أيهم أنت؟!

أجبتها مبتسماً:

- لا عليك، قولي.

- أواثقُ أنت من كلامك؟!

- كل الثقة.

ابتلعتْ ريقها، ثم قالتْ:

- أتريد أن أبدأ بخط الحياة؟!

- كما تشاءين.

صارت تقرّبُ كفي من عينيها، وهي تطالع وجه سارة.

- خط الحياة يقول إنك ستموت في حادث سيارة.

رانَ صمت بارد على وجوههم، فأطلقتُ ضحكة دافئة.

- كنت أعرف أنك ستقولين ذلك.

ابتسمتْ سارة.

- كيف؟!

سحبتُ يدي من بين أصابعها اللزجة.

- أنت ممثلة فاشلة، كان ينبغي ألاّ تمهّدين للمشهد.

فتح الفني الباب، فانقطعتْ هواجسي.

صار يقرأ الورقة من جديد، وهو يقضم تفاحته.

سألني:

- هدأت.

- لقد كنت هادئاً، قلبي كالحديد، صدقني.

أعاد الفحص مرة أخرى، ثم قرأ الورقة.

أدار رأسه لي.

- متى أجريت آخر فحص لقلبك؟!

- لا أذكر، ربما قبل سنتين.

قصّ الورقة، ثم وضعها في جيبه.

قلت له:

- أنا متأكد أن المتدرب أفسد الجهاز.

وضع التفاحة على شفتيه دون أن يفتحهما.

- أظن أنك على حق.

نزع القطع المطاطية عن مواقع جسدي، ثم مسح الدهان بمنشفة بيضاء.

 

 

الرياض-6:

11 نوفمبر 1990م

خرجتُ من مكتب مدير المستشفى، بعد أن أعطيته نسخة من القصيدة التي كان قد طلبها مني صباح أمس.

لم أكن أعلم أنه في اجتماع سري.

دخلتُ عليه عبر الباب الجانبي، الذي يفصل بين مكتبه ومكاتب سكرتيراته.

عندما وقعتْ عيناي على الضابطين، تراجعت إلى الخلف، لكنه أشار برأسه إليّ أن أدخل.

مشيتُ حتى صرت إلى جانبه.

همستُ في اذنه:

- هذه هي القصيدة التي طلبتها.

ابتسم وهو يطالع في عينيّ:

- لماذا تهمس؟! هذان الضابطان أمريكيان، لن يفهما ما تقول.

كانا يرتديان بدلات الحرب المرقطة، أشقران، نثرتْ الشمس الطازجة أوائلَ سمرتها على بشرة وجهيهما وسواعدهما، وضعا قبعتيهما العسكريتين ذاتي الأنجم الثلاثة على الطاولة، إلى جانب اضبارتيهما السميكتين.

- هل هما من قيادة القوات المشتركة!!

- بل من القيادة الأمريكية، يريدون إخلاء كل أدوار مبنى الأورام لجرحاهم.

- أي جرحى؟!

- الجرحى الأمريكيون.

أحس المدير أنه أورد كلمة "أمريكا" أكثر من مرة، وأنهم ربما سيفهمون، فعرّفني مباشرة إليهما بصفتي الشخص المسؤول عن خطة الطوارئ بالمستشفى، وأنني سأباشر مهمة إخلاء الجناح.

وضع القصيدة على يسار طاولته، بعد أن قلبها على ظهرها.

أدرتُ مقبض باب مكتبه الرئيس، فوجدته مغلقاً، فخرجت من الباب الجانبي مرة أخرى.

كانت عواطف تنتظرني في المكتب.

لم أتعرف إليها في البداية. عندما دخلتُ، نهضتْ.

- صباح الخير يا أستاذ.

- صباح النور، هل أنت عواطف؟!

- أجل يا أستاذ.

- تفضلي، اجلسي.

جلستُ خلف طاولتي، وأخذتُ أرتب المعاملات المتكوّمة على مكتبي.

قلتُ لها:

- مبروك.

استقبلتْ كلماتي، وهي تنكّس رأسها.

- شكراً يا إستاذ.

كنت سأقول لها:

- أتشربين قهوة أم شاي؟!

لكنني تذكرتُ النقابَ الذي يغطي وجهها.

- أنا آسفة يا أستاذ، كان من المفروض أن اعتذر عن غيابي يوم الأربعاء.

- ألم تتغيبي أمس أيضاً؟!

- لا، لقد حضرتُ، وطلبتْ الأستاذة مني أن أقابلك، مررتُ عليك مرتين، ولم تكن موجوداً.

ترددتُ قبل أن أشير إلى الشكوى التي أسرّ بها أحمد لي، لكنني رأيت أن من الأفضل لها أن تعرف.

- عواطف، أخبرني أحمد، موظف المواعيد بالعيادات الشاملة، أنه شاهدكِ مع شخص من خارج المستشفى يوم الأربعاء، هل هذا صحيح؟!

لم أستطع جسّ ارتباكها، كانت أصابع يدها اليمنى تعبث بأصابع يدها اليسرى، ثم تعبث جميع أصابعها بإزرار البالطو المنسدل على جانبي الكرسي.

- أجل، لقد حدث هذا فعلاً، وكنت سأخبركَ بذلك بالأمس.

- لمَ لمْ تخبريني في نفس اليوم لكيلا أكوّن عنك رأياً سلبياً؟!

- لقد حدث كل شيء بسرعة، اتصل خطيبي......

أطرقتْ.

- هو لم يكن خطيبي ذلك الوقت، قال لي أريد أن أراكِ في زي التطوع، حاولت أن أشرح له أنه من غير الممكن أن يحضر إلى العيادات ويراني، هكذا، وسط الناس، سألني إن كان بإمكانه أن يراني في واحدة من العيادات الشاغرة، فقلت له: مستحيل، شعرت بإنكساره. أنت تعرف يا أستاذ...

قاطعتُها:

 أيمكنني أن أطلب منك طلباً.

تخيلتها تتهيأ لأن أقول لها.

- كوني صادقة.

فبادرتُها.

- لا داعي لكلمة أستاذ، أرجوك.

هزّتْ رأسها.

- تفضلي، أكملي.

- هو لا يستطيع أن يراني، وأنا لا أستطيع أن أراه. نشأتْ علاقتي معه عن طريق أخته، صديقتي في الجامعة، لم يرَ سوى صورتي، ولم أرَ سوى صورته. كان الهاتف هو وسيلة الاتصال الوحيدة بيننا. تتصل أخته بي، ثم تجعلني أتحدث معه. كان جاداً، قال: سآتي لخطبتك. قرر أن يزور والدي يوم الأربعاء. اتصلت أخته قبل خروجي إلى المستشفى، وقالت إنه يريد التحدث معي. طلب أن يراني بضع دقائق فقط، وبعد إصراره الشديد، وضعت خطة للقائنا. جاء إلى العيادات الشاملة. جلس في غرفة الانتظار، وكأنه مريض يرتقب دوره. حملت ملفاً طبياً وناديت اسمه، مشى خلفي، وبدل أن ندخل العيادة، دخلنا غرفة استراحة الموظفين.

- خطة متقنة فعلاً.

استطردتْ:

- كل هذا لكي نلتقي بهدف الزواج، جميع الأماكن تحرسها أعين فارغة. ها أنا ذا أمامك، متنقبة، لا تظهر سوى عينيّ، ومع ذلك، أواجه مضايقات لا تحصى. 

زال ارتباك أصابعها، ثم صارت تحدثني رافعة رأسها.

- لو وجد أحمد ممرضة أمريكية تقبّل عشيقها في الاستراحة، لاعتذر عن ازعاجهما.

دون أن أسمع طرقاً، انفتح الباب، وأطلّ شاب يرتدي بدلة عسكرية، برأسه، وهو يبتسم.

ابتسمتُ له، وأنا أنهض من مقعدي:

- تفضل يا لافي.

شاهدَ عواطف، فأشار بيده.

- أعود لك مرة أخرى.

وقفتْ عواطف.

- أستأذن أنا إذن.

التفتُّ إليها.

- عودي إلى عملك، وسأنظر في الموضوع.

جلس لافي على المقعد الملاصق للمقعد الذي كانت عواطف تجلس عليه، وجلست أنا على مقعدها.

 لقد كنت أحقق في حادث سيارتين وقع بجانب بوابتكم الرئيسة، وبعد أن انتهيت، قلت أمرّ كي أسلم عليك.

- إذن، لم تغير رأيك.

- فيم؟!

- لقد قلت لنفسي: ربما جاء ليقبض مني مخالفة السرعة.

ضحك، وهو يسألني:

- السرعة فقط؟!

رنّ الهاتف، فنهضت لأردّ عليه.

- مرحباً.

كانت منيرة.

- أأنت مشغول؟!

كنت أحس منذ الصباح بازدياد الألم في كتفي الأيسر وأسفل رقبتي، لذلك نقلتُ السماعة إلى أذني اليمنى.

- لديّ ضيف، ما أخبار والدتك؟! هل ما زالت غاضبة من حصة؟!

- لن أتكلم الآن، سأتصل بك مرة اخرى.

- اتصلي بعد عشر دقائق.

- ألن تخرج؟!

- لا، سأنتظرك.

وضعتُ السماعة، وبقيت خلف طاولتي.

قلت مخاطبا لافي:

- هل كان الحادث سيئاً؟!

عدّل جلسته، وهو يرفع مسدسه عن جانب المقعد.

- لا تسألني عن الحوادث، هذه المدينة ترى فيها العجب، تصور أن شاباً سعودياً في الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة من العمر، صدم بسيارته سيارة رجل أردني في الأربعين، وبدل أن يعتذر منه ويطمئن على سلامة الأطفال الذين كان يقلّهم، صرخ في وجهه: أنتم أيها الأردنيون جاحدون. 

قلت لكي أبدد كآبة اعتلتْ وجهه:

- دعني أطلب لك عصيراً بارداً.

نهض من مقعده، ثم عدل حزامه مرة أخرى.

- مشكور، لقد حان الوقت لنوم القيلولة، لولاها، لعلقتْ مشكلات النهار في رأسي، كم أرثي لحالكم.

وقبل أن يخرج، قال:

- لا تنس تجديد أوراق سيارتك.

مضتْ نصف ساعة دون أن تتصل منيرة.

طرأ على بالي سؤال قديم.

- لماذا أنتظر أنا اتصالها؟!

أذكر أن "نجلاء"، وهي طفلة ذات ملكة مثيرة في كتابة القصص الخيالية، اتصلتْ بي في إحدى مساءات المجلة.

سألتْني:

- أأستطيع أن أتحدث مع خالتي منيرة؟!

كانت قد تحدثتْ هاتفياً مع منيرة عندما زارتني زيارتها الوحيدة. كنتُ قد طلبت من الأطفال أن يجتمعوا صباح الخميس في المجلة لتناقش منيرة معهم الموضوعات التي سينشرونها في صفحات عيد الأضحى.

أفرحتني زيارة نجلاء، لذلك اخترتها لتبدأ الحديث مع منيرة.

احترتُ كيف أردّ على سؤالها.

كانت نجلاء تعتقد أن منيرة وأنا، نعمل سوياً على طاولة واحدة.

أجبتها:

- منيرة في بيتها الآن.

- أعطيني رقمها يا عمّو، أريدها في كلام ضروري.

أُسقطَ في يدي. قلت لنفسي:

- كيف سأنجو؟!

كنت أمنح الأطفال عجينة روحي، لكي يشكّلوا منها كواكب جديدة، يركضون في مداراتها خفافاً مثل لمعة النرجس حين يخجل من وهج البرق، كنت أفرش الغرفة الضيقة المخصصة لاجتماعاتنا، بغناء لا تحدّه رايات، وبطيور رصعتُها بشهب الريح. يدخلون، فينطقُ البللور على خريطة رمادي، أفتح لهم مدائن الأزهار ثم أتبعهم إلى منافي الغناء.

مرة، أحضرت "ليلي" عصافيرها الملونة. كانت تضعها في قفص فضي، وتحمله بابتهاج أبيض.

قالت "خلود"، وهي تنظر إلى العصافير خلف القضبان:

- يا حرام.

كانت العصافير تغردُ مجتمعة وهي تتقافز داخل القفص.

أضافتْ:

- العصافير تبكي.

ردّت ليلى عليها:

- لا، إنها فرحانه لأنني أحضرتها معي، لقد وعدتها مساء أمس، قلت لها، إذا غردتم لي تغريداً جميلاً، سآخذكم صباحاً إلى المجلة.

قال "مهنّد":

- العصافير لا تحب الأقفاص.

أخذتْ ليلى تحدق في عصافيرها، لتتأكد إن كانت حزينة.

طالعتني بعينين مستغربتين طالبةً مشورتي.

اقترحتُ عليها:

- دعينا نفتح الباب لها، فإذا كانت عصافيركِ تحب قفصها، ستبقى.

فرح الأطفال بهذا الاقتراح، واضطرت ليلى أن تشاركهم ابتهاجهم.

بحثنا عن المصور، فوجدناه مع بقية المحررين في قسم الإخراج.

قال له مهند:

- نريدكَ يا عمّو أن تصورنا ونحن نطلق العصافير من القفص.

انقشعت غمامة الجدية والتوتر، التي كانت تغمر وجوه المحررين، تحولوا جميعاً إلى اطفال، وركضوا خلفنا إلى سطح المجلة.

ترددتْ ليلى قبل أن تفتح باب القفص.

قالتْ لها خلود:

- إذا كانت العصافير تحبك، ستبقى.

أضفتُ أنا إلى كلامها.

- ربما تخرج، ثم تزورك صباحاً، لتغرد بالقرب من نافذتك.

أدخلتْ ليلى يدها من باب الحبوب، وصارت تدفع أجساد العصافير الخائفة، نحو الباب الرئيس ثم صرختْ:

- أرأيتم؟!  إنها لا تريد الخروج.

قلتُ لها:

- لقد تعودت أن يظل الباب مقفولاً عليها، ادفعيها أكثر يا ليلى.

بأصابعها الرقيقة، صارت تدفع العصافير واحداً واحداً، وحين خرج العصفور الأول تبعته بقية العصافير، صارتْ تطير فوق رؤوسنا، وهي تحط من جدار إلى جدار.

عندما اقترب المصور منها، طارت بعيداً، ولم نعد نراها.

في لحظة واحدة، انتقلتْ أعين المحررين من سماء العصافير إلى سماء ليلى، كان وجهها يتبلل بأجراس الفجيعة، امتشقتْ عيناها أيائل الشمس، وانطلقتْ خلف العصافير.

سألتني:

- هل ستعود لتغرد على نافذتي كل صباح؟!

- أجل يا حبيبتي.

قال لي مدير التحرير:

- ماذا فعلت بنا ليلى؟! كيف ندخل بعد هذه الطهارة، إلى اتساخ أوراقنا؟!

قلت لنفسي:

- وجدتها.

وأجبتُ نجلاء:

- دعيني أبحث عن رقم منيرة في دفتري.

ثم استطردتُ:

- لقد نسيت دفتري في البيت.

- ألا تحفظ رقمها؟!

- أنا لا أعتمد على ذاكرتي ياحبيبتي، لذلك أسجل كل أرقامكم في دفتري.

وأضفتُ:

- ربما تتصل عليّ اليوم. أتريدينني أن أقول لها شيئاً؟!

- أجل، قل لها إن بابا لا يرغب أن أستمر في كتابة قصصي في المجلة، طلب مني أن أقول لكم: لا تنشروا صورتي وموضوعاتي.

- هل عرفتِ السبب؟!

- قالتْ لي ماما أن عمي الكبير زعلان من بابا، قال له: كيف تنشر صورة نجلاء في المجلة؟! حضنتني ماما وقالت: لقد كبرتِ يا نجلاء. بكيتُ كثيراً. لا أريد أن أكبر، أريد أن أنشر قصصي في المجلة، لو أتحدث مع خالتي منيرة، ستقول لي ماذا أفعل.

ظللتُ لا أعرف سوى صوت منيرة، الذي يزورني متى شاء، كنت أرسمها دائماً في مخيلتي. سمراء، نحيلة، طويلة، ذات شعر أسود، تجدله في ظفيرة واحدة، تتدلى على كتفها الأيسر. وجهها نحيف، عيناها واسعتان، أصابع يديها طويلة، تلبس جلباباً مزخرفاً برسوم مذهبة، حول عنقها سلسة أنيقة تنتهي بخرزة زرقاء.

كنت حين أقلب مجلة مثل مجلة "سيدتي"، أقول لنفسي:

- هذه المرأة تشبه منيرة.

طلبتُ من ماريان، بواسطة الجهاز الداخلي، أن تحضر.

أعطيتها ملف عواطف، بعد أن كتبتُ على قائمة الغياب، "غائبة بعذر"، وطلبتُ منها أن تعيده إلى رئيسة قسم التمريض.

قلت لها:

- سأذهب إلى المطبعة، وربما أقضي هناك بقية ساعات الدوام، حين تتصل منيرة، أخبريها أنني انتظرتها، ثم خرجت.

نزلتُ عن طريق الدرج، وقبل أن أعبر البوابة الزجاجية، سمعت صوت ماريان.

- انتظر، انتظر.

التفتُّ رافعاً رأسي إليها، فإذا هي تقف خلف الدرابزين الخشبي المطلّ على الردهة الإدارية.

- ماذا هناك؟!

- منيرة على الهاتف، قلت لها أنك خرجتَ للتو، فطلبتْ مني أن أحاول اللحاق بك.

صعدتُ الدرج مهرولاً، دفعت باب المكتب، وتوجهت إلى الهاتف.

رفعت السماعة، وأنا ألهث.

- أهلاً منيرة.

- أنا آسفة، تأخرتُ عليك.

أحسستُ بطعنة ألم مفاجئ في صدري.

- لحظة يا منيرة.

وضعت الهاتف على الطاولة، ثنيت ركبتي إلى الأرض حتى هدأتْ أنفاسي، كان الألم أشد من المرة السابقة، نهضتُ مرة أخرى، ثم التقطتُ السماعة.

- عفواً يا منيرة.

- ما بك؟!

- كنت ألهث، يبدو أن السجائر أفقدتني لياقتي.

- هل اتصلتْ نورة عليك؟!

تذكّرتُ الرسالة الشفوية التي تركها عبدالعزيز مع ماريان، بأن نورة ترغب في التطوع.

- لا، لم تتصل. لم يسبق لها أن فعلتْ ذلك من قبل، هل قالت لك ماذا تريد؟!

- كانت تريد أن تخبرك بأن عبدالعزيز دخل تجربة قاسية جديدة، من تجارب زمان.

شلّ لساني، فلم أعرف ماذا أقول.

- يبدو أنني لا أتصل بك، إلاّ لأنقل لك أخباراً سيئة.

- كيف دخل هذة التجربة؟!

- لقد قام بالتقاط صور فوتوغرافية للمظاهرة.

كان عبدالعزيز يهوى التصوير، يسافر أثناء الإجازات الأسبوعية إلى مضارب البدو في الصحاري المحيطة بالرياض، يصور تفاصيل حياتهم وترحالهم خلف الماء والكلأ، كانت صوره تنبض بحياة لا نعرفها، وهي على مرمى رمل منا.

- نورة خائفة، تخشى أن يتهموه بالعمالة.

- لماذا تريدُ نورة أن أعرفْ ذلك.

- هو الذي طلبَ منها ذلك.

في الطريق إلى المطبعة، كنتْ محبطاً، خائر القوى.

قررتُ قبل أن أسلك الطريق السريع المؤدى إلى المدينة الصناعية الجديدة، أن أذهب إلى البيت، لكني تذكرتُ أنه عليّ مراجعة التصاميم قبل النهائية لمطبوعات المستشفى، قبل أن يبدأوا طباعتها.

فتحت نافذة السيارة كي أطرد دخان سيجارتي.

- أكان عبدالعزيز يريد أن يقول لي إن المخبأ انتابَهُ من جديد، مثل جرثومة برد تنتظر الشتاء؟!

بعد أن خرجتُ من ضجيج الرياض، صار الهواء أقل مرارة.

آخر المباني التي مررت بها، كان مجمع الإسكان الشعبي، الواقع إلى يسار الطريق السريع.

في الرياض مجمعان: الأول داخل المدينة، وهذا خارجها. كانا جاهزين للتشغيل منذ ست سنوات، لكن وزارة الإسكان ظلّت تؤجل افتتاحهما.

كان ذوو الدخل المحدود يرتقبون بفارغ الصبر، اليوم الذي تعلن فيه الوزارة أسماء المستحقين. وحين طال انتظارهم، هجروا التفكير فيها، وأخذوا يبحثون عن أحياء بعيدة، ليبنوا على أراضيها الرخيصة بيوتهم الضيقة.

وفي ليلة واحدة، امتلأتْ شقق المجمع الأول بالنازحين الكويتيين، واكتظت وحدات المجمع الثاني المكونة من دورين بالمجندين الأمريكيين.

بعد ستين كيلومتراً، وصلتُ المطبعة.

عندما دخلت مكتب المدير، وجدته يتحدث مع شخصين.

صافحتهم جميعاً، ثم جلست، أكمل المدير حديثه، وهو يطالعني.

- لقد أوقفنا جميع الأعمال التي التزمنا بها مسبقاً، وها نحن نعمل ليل نهار لنسلمكم النشرات والملصقات في الوقت المطلوب.

قال أحدهما:

- يجب أن نوزع النشرات على الناس في الموعد المحدد، لقد اتفقنا مع معظم المطابع المحلية، لنغطي كل الكمية المطلوبة.

ردّ المدير:

- مشكلتنا الوحيدة هي الورق، المنافذ البحرية كلها مغلقة، وليس هناك أي مجال للإستيراد.

رافقهما إلى الباب، ثم عاد اليّ.

قالَ، وهو يغلقُ الملف الذي أمامه:

- أنا أعرف أن مطبوعاتكم مهمة أيضاً، أمهلني عدة أيام، أنا لا أستطيع أن أؤخر طباعة نشراتهم.

سألته، لأنني سبق أن رأيت المخرج وهو يصمم صفحاتها:

- أهي نشرات التوعية بمخاطر الحرب الكيماوية؟!

- أجل، في حالة الحرب هذه، لم أجرؤ على مناقشتهم بالسعر، أو بالمدة التي أستطيع إنجاز أعمالهم فيها.

دخلتُ الرياض بعد حلول الظلام.

نهر الأسفلت غامق، تثرثر على صفحاته محركات السيارات التي لا تهدأ، وتضيء على جانبيه واجهات تجارية شرسة.

كنت في مصيدة الماء التي تتباهى بالفلين، ترميني من يابسة إلى أخرى، حتى يطبق الزبد على كتفّي، فلا أجد بداً من ذبح حقيبة السفر، أن أقبّل الأوكسجين قبلة تملأ رئتيّ، ثم أغطس في عتمة الاختناق.

كانت لوحة المكتبة تؤشر باللونين الأزرق والأبيض.

أمامها، أوقفتُ سيارتي ودخلت.

توجهتُ إلى الركن المخصص للبطاقات، عابراً ركن الصحف والمجلات، تنقلتْ عيناي بين الحاملات.

بطاقات متلاصقة لكل المناسبات، أعياد زواج، صداقة، مواساة، حب، تهنئة بالترقية.

أخذتُ أقلب بطاقات الصداقة واحدة واحدة، أقرأ المكتوب بكل منها بدقة وبتأن، كلها كانت تخفق بشرايين ميتة، تتدلى من أطرافها الجافة وحروفها الباردة.

عدت إلى ركن الصحف، عقدت يديّ خلف ظهري، وأخذت أقرأ العناوين.

- "جوربا تشوف وروكار وبيكر في تأكيد جديد لقوة التحالف الدولي: هناك شرعية دولية لاستخدام القوة من دون قرار الأمم المتحدة". "الرئيس الأمريكي يصل إلى القاهرة 21 الشهر الجاري: بوش ومبارك يبحثان الحل العسكري لإنهاء أزمة الخليج وإلغاء ديون مصر". 

في السيارة، تذكرت أن فاطمة أوصتني أن أحضر بعض لوازم البيت الثانوية.

أخرجت محفظتي، فتحتها، فلم أجد سوى سبعة وعشرين ريالاً، وورقة إشعار جهاز الصرف الالكتروني، تشير إلى أن رصيدي 214 ريالاً.

حاولت جاهدا أن أنخل ذاكرتي لأعرف لماذا لم يتبقَ غير هذا المبلغ.

تذكرت أن رصيدي كان 2214 ريالاً، وأنني سحبت 2000 لشراء السجادة لوالدتي.

مضيتُ في طريقي، بعد أن قررت شراء اللوازم في نهاية الشهر.

- اليوم هو الرابع والعشرون من الشهر العربي على كل حال.

تجاوزتُ حافلة نقل كانت تحملُ أكواماً من القش، كل كومة موثوقة برباطين متعامدين من الصفيح الصدئ. وكانت بقايا القش في أرضية الحافلة تتطاير خلفها، فعلقَ عودٌ في ذراع ماسحة الزجاج الأمامي لسيارتي.

كان صدري منقبضاً، يجثم على قلبي غولٌ أسود، يغرس رمحَهُ في شرياني الأبهر، فيصير الدم يتطاير على جدران قفصي.

ضغطت بإبهامي على عظمة صدري، وتخيلتُ أنني أنشبُ أظفاري بين أضلعي، وأخرج هذه اللحمة التي لا تنبض إلاّ خوفاً وهلعاً ويأساً، أن أصعدَ بها إلى غيمة بيضاء، أغسل أسرارها بالثلج والبرد، وقبل أن أُعيدَها إلى تاجها، أجفف أرضها من خطى الغيلان، وأزرع إلى يمينها وسادة من الفل كي تنام عليها برفق.

بمرآتي العاكسة، تأكدتُ أن الحافلة التي صارتْ خلفي، بعيدة عني، أعطيتُ إشارة الاتجاه إلى اليمين، وسلكتُ الطريق الفرعي.

جعلتْني إضاءة الطريق قادراً على رؤية عود القش وهو يصارع الذراع لكي ينفكّ ويطير في الهواء.

زدتُ سرعتي شيئاً فشيئاً، لكن الذراعَ كانت تقبضُ عليه من منتصفه.

ضغطتُ زر الماسحة، فتحركتْ يساراً نصف دائرة ثم عادتْ يميناً، لكن العودَ لم يتحرر.

- لقد أتعبنا الانتقال من بيت إلى بيت، لم لا تبني لنا بيتاً؟! الانتقال يكلف كثيراً، يكلفك كل ما تدّخر.

- يوماً ما، سأبني لكم هذا البيت. لا تقلقي يا فاطمة.

- دائماً أشعر أننا نعيش معكَ لفترة مؤقتة، وأنكَ في لحظة ما، ستخرج ولن تعود أبداً، أنا لا أحب القراءة بدرجة حبك لها، لا يهمني ماذا يحدث للفلسطينيين، بقدر ما يهمني عالمي أنا، الذي هو أنت وأطفالك. أمنياتي تنحصر في أن يكون لنا بيت، ورجل نفتخر به، ونضع صورته في صدر المجلس. ما يخيفني منك، هو إيمانك بأن لا شئ ينتمي لك وأنك لا تنتمي لشيء. أزمةُ الخليج، ليست الأولى التي أعيشها معك. كانت هناك أزمات مثلها، في لبنان وتونس وليبيا. كنتَ في كل واحدة لا تنام إلاّ بالمهدئات، تنتهي الأزمة، فتعود تقرأ الكتب، وتكتب في دفاتر الليل بطوله، لقد لاحظتُ أن هذه الأزمة تختلف عن غيرها، كأن حزنكَ بسببها سيقضي عليك. كنتُ حين أنهض لصلاة الفجر، أتنصتُ عليكَ وأنت نائم وحيداً في غرفة الضيوف. سمعتُ ذات فجر نشيجاً حاراً يصدر منك، هرعت إليكَ، لكنني وجدتكَ نائماً، الدموع تملأ خديك، وإبهامك يضغط على صدرك، خنقني البكاء وقلة الحيلة، خفت أن أُنهضكَ فلا تستطيع النوم مرة أخرى. توضأتُ، وصليت بجانبك. أعرف أنك تحس بالضياع، أنت تريد أن تكون طليقاً، تعمل دون أن يقاطعكَ أحد، تكتب متى تشاء، تأكل حين يحلو لك، تسافر إلى البلدان النائية، وتقابل هناك كتاباً مثلك، وتعود محملاً بالقصص.

أربكني إصرار عود القش على الفكاك من ذراع الماسحة، تخيلته يناديني، يطلب العون مني، ضغطتْ زر الماسحة على الدرجة السريعة، صرتُ أراقب الذراع وهي تتحرك يميناً ويساراً بسرعة مذهلة، والعود يتكسر في الاتجاهين دون أن ينفك.

زدتُ سرعة سيارتي، أريده أن ينفكّ لكي تتناثر القضبان التي أطبقتْ على صدري.

دستُ الكابح حتى توقفتْ السيارة تدريجياً.

نزلتُ، فاستقبلني هواء تشرين ببرودته العذراء. طالعتُ العود، فاذا هو مثخن بجراحٍ، تكسرتْ لها قامته، سحبته بإصبعيّ فلم يستجب، سحبته بقوة خائفة، لكنه كان محشورا داخل الذراع،

صبّ الشارع الرئيس في أذني هدير الحافلة. التفتُ، فاذا هي مقبلة بموازة الشارع الفرعي.

دون تردد، سحبتُ العود بقوة شديدة، فانقطع، وفي الهواء المستثار، رميتُ قطعتيه.


 

الرياض - 7:

21 نوفمبر 1990م

دخلتْ ماريان، تخبرني أن عادل يريدُ رؤيتي، أومأتُ لها برأسي، فدخل.

- أهلاً أيها الشيعي الوسيم.

ابتسمَ بتواضع، وقال وهو يجلس:

- قراركم بإلغاء الإجازات سيحرم هذا الشيعي من الزواج بخطيبته السنيّة.

رددتُ ووجهي ينضح بالسعادة.

- في هذه الحالة، سنمنحك استثناءً فورياً.

- من أجلي، أم من أجل خطيبتي؟!

- بل من أجلكما معاً، نحن بحاجة إلى مؤسسات زوجية تلغي هذه الفوارق.

- ليتك تعرف الصراع الذي خاضه أبوها من أجلنا، أبوها رجل سنّي فقير، مثلنا تماماً، نسكن كلنا في حي "الثقبة" الشعبي بالدمام، كان يعمل قاطع تذاكر في محطة سكة الحديد، وكان أبي يعمل سائقاً في شركة النفط "أرامكو". كانا يلتقيان فجر كل جمعة؛ ليذهبا إلى سوق السمك، يشتريان معاً حمولة سيارة، ثم يبيعانها، قبل صلاة الجمعة؛ يقتسمان ربحهما، ويذهب كل منهما إلى صلاته. بعد العصر، يلتقيان في المقهى الشعبي، يدخنان " القدو"، ويسترجعان أيام الغوص، ورحلات استخراج اللؤلؤ في شبابهما، كانا غوّاصين في مركب واحد، واجها الموت ومحارات اللؤلؤ سوياً، كانا يريدان الزواج من أختين لكي يربط بينهما نَسَبٌ واحد، لكنهما لم يجدا من يقبل بهما معاً. شيعي وسني. تزوج كل منهما من طائفته، لكنهما ظلاّ طائفةً واحدة، تجمعها الجمعة بسمكها ومقهى ذكرياتها. حين منحتْهُ محطةُ القطار أرضاً صغيرة في أقصى الدمام، بحث عمن يعينه، فلم يجد سوى أبي، صار يتنازل له كل جمعة عن ربحه، استدان لأجله من شركة أرامكو، لكن المبلغ لم يكن كافياً، فقال له: استدن من جماعتك وسيعينك الله على السداد، ردّ عليه: الجماعة، كل في همه، باع أبي أرضاً ورثها هو وإخوانه لكي يكمل المبلغ له. عندما خطبتُ ابنته، تجمّعتْ جماعتُةُ في مجلس بيته الجديد، قالوا له: أتريد أن تناسب شيعياً؟! ردّ عليهم: نعم، سوف أناسبه، سوف أقرأ الفاتحة معه، سيتزوج إبنه ابنتي على سنة الله ورسوله محمد، الذي يصلي عليه آلهنا الواحد، قاطعوه، صاروا يمارسون ضده كل الممارسات التي يمارسونها ضد الشيعة، لا يأكلون معه، لا يسلمون عليه، لا يعودونه إذا مرض ولا يباركونه بالعيد. قال لأخيه مرة: هذا الشيعي الذي تنبذونه، وصلني حين قطعتموني، جعلني أشاركه لقمته، باع من أجلي كل ما يملك، ماذا فعلتم أنتم من أجلي؟! كان كل واحد منكم يدير لي صابره، لينغمس في همومه. أنا لم أجبركم على الوقوف معي في محنتي، لكنني لا أريدكم أن تجبروني على كراهية من كان لي عضداً طيلة حياتي، كنت أراه يذبل يوماً بعد يوم، يشيخ كصارية حاصرتها رياح البحر، فصارتْ تتمايل يميناً وشمالاً. قلت له ذات جمعة: لا تحاربهم يا عمي، هؤلاء أهلك، دعني أنسحب، ردّ علي، وفي عينيه عناد بحار عتيق، اذا انسحبتَ، سأبحثُ عن شيعي آخر لأزوجه ابنتي، اذا كنت تريدها حقا، ابقَ، وبقيتْ، وها أنتم تحرمونني بسبب جلاد اسمه صدام حسين من أن أفرح بثمرة سقطتْ خلسة من شجرة جحودكم.

قلت له:

- سأوقّعُ إجازتك من مدير المستشفى الآن، إذا أحببت.

ضحك بفرح طفولي:

- لا، ليس هذا ما أردته.

- ماذا إذن؟!

- تؤرقني دائماً مسألة الوظيفة التي أعمل بها، أتعتقد أن وظيفتي تناسب مؤهلي؟! هل من المعقول أن شاباً لديه بكالوريوس في إدارة الأعمال يعمل موظفاً للمواعيد؟!

- كل خريجي الجامعة يعانون من نفس مشكلتك، أنت على الأقل وجدت عملاً، الآخرون يعيشون بطالة مرّة.

- لماذا إذن يقبلوننا في الجامعة؟! ألكي يقولوا إن جامعاتهم تعجُّ بالطلبة.

رددتُ بحسرة وكأنني صدى له.

- تعجُّ بالطلبة؟!

فهم قصدي، فقال:

- أحس أن هؤلاء الطلبة يذرعون ممراتها الرخامية، وهم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، المبنى الجديد للجامعة آية في المعمار، نتخرّجُ فيه لنعود إلى أكواخنا الصفيح، يتوقع أهلنا، أننا بعد أن نعود، سنرمّمُ ثقوبهم، فيكتشفون أننا نبحث عمن يرتق خواءنا.

أخرج من جيبه ورقة مطوية، ثم سألني:

- أقرأت هذه؟!

تناولت الورقة من يده، وأنا أسأله:

- ما هذه؟!

- صورة من تعميم مدير جامعة الملك سعود بخصوص مظاهرة البنات.

قبل أن أفتح الورقة، قال لي:

- الوقت يداهمني، سأعود إلى عملي.

نهض من مقعده، وهو يقول:

- لا تكلف نفسك بالحصول على استثناء لي، أنا باقٍ مثلكم.

بمجرد خروجه، فتحت التعميم.

كان من صفحتين، أهم ما فيه إشارة مدير جامعة الملك سعود إلى أن: "الجامعة كانت وستظل ملتزمة بقواعد الإسلام الخالدة ورؤيته الشاملة للكون والحياة، يحكمها كتاب الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تكون في يوم من الأيام مقراً للإلحاد ومخالفة شرع الله، وأن العمل الذي قامتْ به فئة من النسوة خارج الجامعة يوم الثلاثاء الماضي، هو عمل لا تقره الجامعة، ولا تتعاطف معه، وتعده عملاً طائشاً لا يخدم المصلحة العامة، ولا المرأة السعودية بشكل خاص. وأن المشاركات في هذا العمل من منتسبات الجامعة عدد قليل من بين الفئة التي قامتْ بهذا العمل، وتصرفهن لا يلزم الجامعة ولا يعبر عن كل أعضاء هيئة التدريس وعضواته فيها، ويكفي أن نشير إلى أن عدد عضوات هيئة التدريس ومن في حكمهن في الجامعة يبلغ (579) بينما المشاركات في هذا العمل لا يتعدى عددهن (10) عشراً فقط. كما أن في الجامعة في الرياض ما يزيد على (11500) أحد عشر ألفا وخمسمئة طالبة، لم يشارك منهن في هذا العمل إلاّ (4) طالبات فقط. وهذا كاف لبيان مدى عدم تقبل هذا العمل من منتسبات الجامعة".

قلتُ لنفسي، وأنا أضع التعميم على طاولتي:

- جامعة الملك سعود.

 تغير اسمها من "جامعة الرياض" إلى "جامعة الملك سعود"، بأمر عفوي وشفوي من الملك خالد بن عبدالعزيز، رحمه الله، أثناء حضوره إحتفالات اليوبيل الفضي للجامعة عام 1982م.

كنت آنذاك، عضواً إعلامياً في لجنة الإحتفال، التي كانت تعمل ليل نهار، طيلة الثلاثة أشهر السابقة لتلك المناسبة المهمة.

كانت الجامعة محطتي التي انتظرتها طويلاً في سفر دراستي.

تخرجتُ في القسم العلمي للمرحلة الثانوية، ثم التحقتُ بكلية الطب، كنت أتصورُ في حمّى مثاليتي ذلك الوقت، أن إنقاذي مريضاً هو ما سيمنح حياتي معناها الفذ.

أنهيتُ السنوات الأولى، وحين أكملتُ السنـتين المطلوبتين لمقرر التشريح، بدأتُ أعيد حساباتي.

- أأكون في الجسد، أم خارج الجسد؟!

كان أستاذ التشريح متغطرساً، يتعامل معنا على أننا قافلة عابرة يجب أن تمر به لتدخل في عبقرية الجسم البشري.

كان حين يشرح، يرفع بأطراف أصابعه العضلة، أو الشريان، وكأنما يرفع نفاية، لم تعد ترهبه بجلالها.

سألته، وهو يحضّر أسماءنا في الدرس الأول:

- من أين جلبتم هذه الجثث يا دكتور؟!

قال، دون أن ينظر وجهي:

- اشتريناها من سيريلانكا، أحضرناها لكم، لكي تعبثوا بها.

كنتُ في ليلة من ليالي الامتحأنات النهائية، أقرأ رواية "الإخوة كرامازوف" لديستوفيسكي.

دخل عليّ والدي، وهو يضغط بكفه اليمنى على يسار صدره.

- كيف الامتحانات يا بني؟!

أجبته بتحفظ:

- حصلتُ في الامتحانات الماضية على درجات تعجبك.

ابتسم بود.

- ظني فيك لا يخيب.

فكرتُ قبل أن أقول له:

- لكنني سأترك الطب.

انشغل بترتيب التحف اليونانية الفخارية الرخيصة التي صففتها على حياض نافذتي.

ردّ عليّ بصوت متحشرج:

- هل ستتركَ الجامعة؟!

- لا، سأدرس الأدب الأنجليزي.

خرج دون أن ينبس بكلمة، لحقته، وضعتُ يدي على كتفه، وكفه لا تزال تضغط على صدره.

- كيف آلام صدرك؟!

أجاب والاسمرار الزائد بادٍ على وجهه:

- أنا خائف.

قّبلتُ جبينه، ثم ضممته.

- لا تخفْ، إنها آلام عارضة وسوف تزولُ مع الدواء.

جمعتُ أوراقي وركضت إلى فصول الأدب الانجليزي، فرحت بقصائد "والت ويتمان"، وبقصص " إدغار آلن بو"، و"ارنست همينغواي" وبروايات"جوزيف كونراد"، وبمسرحيات "أوسكار وايلد".

قررتُ ذات مساء أن أبوح له أنني اكتشفت عالماً يليق بي، وأنني سأصبح خلال سنوات دكتوراً، كما يحب، لكن في الأدب.

قبل أن تصله خطواتي، سبقتني إليه جلطة شريانية.

كان جسده مسجى على سرير محشور بإهمال بين عشرات الأسّرة في ركن العناية المركزة، بمستشفى الرياض المركزي.

كانت سبابته اليمنى مرفوعة إلى السماء، ووجهه غارقاً في الرضا والمهابة، ذقنه حليقة إلا من لحية غزاها الشيب، شعر رأسه أسود،لم يطله الصلع، على صدره العاري الأمرد بضع شعيرات بيضاء.

لم يبدُ ميتاً، كأنه كان مُسْلماً نفسه لنوم بهيج، لا تنغْصّه روائح الأيام وجلبة السنين.

سقطتْ شفتاي على يده، ألثمها تقبيلاً، وقبل أن أرفع شفتيّ، عضضته برفق، لأتأكد أنه مضى في الجلال.

أمسكَ طبيب العناية المركزة كتفي، وهمس ببرود وظيفي:

- البقية في حياتك.

كان المريض الكهل الممدد إلى جانب سرير والدي، يراقب المشهد بعينين امتلأتا جزعاً، جعل كفيه تطبقان بكل قوة على قضبان سريره.

وأنا أغادر وحدة العناية المركزة، كان الأطباء المتقشفون، يتنقلون بين الأسّرة بآلية. ولم يكن يجمعبينهم سوى ذلك الرداء الأبيض، وذلك الموت الذي يطفو أسفل السقف.

أحببتُ الأدب بكل أشكاله، كنت أشارك في تحرير مجلة كلية الآداب وفي أنشطة المسرح الجامعي، ومرسم الفنون التشكيلية.

كان الطلبة المبدعون يجتمعون في الردهة الضيقة لمبنى الجامعة القديم، يحررون مواد المجلة، أو يوزعون أدوار الأعمال المسرحية.

بعد حملة الإحباطات التي تلت الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982م، خلتْ الردهة من حياتها الصاخبة.

توقفتْ المجلات، ثم عادتْ ملطخةً بحبر ميت، لا يُقرأ فيها سوى الجيف، وصار المسرح خشباً لجنازات تسير إلى القبر.

كانت "الرياض" اسماً متوهجاً، يزخرف أوراق جامعتنا برمل الصحراء.

أعلن مذيع الحفل "ماجد الشبل"، أن الملك خالد بن عبدالعزيز، قرر هذه اللحظة، تغيير اسمها من "جامعة الرياض"، إلى "جامعة الملك سعود"، تخليداً لذكرى أخيه الذي خُلعَ عن الملك.

نهضتُ عن مقعدي المجاور للمخرج التلفزيوني، فالتفت إليّ بإستياء، ثم عاد يوجّهُ مصوريه، في غرفة التحكم التلفزيوني؛ لكي يصوبوا كاميراتهم إلى وجه الملك خالد، وهو يبتسم، وإلى وجوه الوزراء، الذين ظلّوا يصفقون طويلاً.

وبعد انتهاء موجة التصفيق، خرجتُ من غرفة التحكم.

لحقتني ماريان.

نادتْني، فتوقفتُ:

- اتصلتْ هيفاء، تقول إنها في طريقها إليك.

عدتُ إلى مكتبي مرة أخرى. جلستُ خلف طاولتي، ثم أخفيتُ خطاب مدير الجامعة في الدرج.

رششتُ عطراً في كفيّ وفركتهما بشدة، ثم شممتهما.

تعوّدتُ حين أتوتر أن أرش عطراً في كفّي، لينعشني.

لرائحة العطر الذي استخدمته إيقاع بحري، وكان زملائي في المكاتب المجاورة يعرفون حين يشمونها أنني جئت.

كنتُ أحتفظ بقارورة منه في كل مكان. في المكتب، في السيارة، وفي البيت، وكلما قررت أن أغيره، أسقط فيه مرة أخرى.

أقفُ أمام بائع العطور الذي يتفنن في شرح مميزات كل عطر، يجعلني أجربُ كل رائحة على حدة.

يرش شيئاً منها في منديل ورقي، ثم يسألني:

- ما رأيك؟! عظيمة، أليس كذلك؟!

أشعرُ في النهاية أن أنفي تحول إلى بحيرة تتحارب الأزهار على مائها، وأن أرواح المعركة تتصاعد في فضاء البحيرة ثم تمطر عطراً على مقاعد المحل.

طرقتْ الباب، ثم دخلتْ.

- أهلاً يا هيفاء.

- كيف عملكِ؟!

جلستْ، أجابتْ بحياء:

- أنت الذي يجب أن تقول لي، ألا تصلك تقارير المشرفات علينا؟!

- إنهن يمتدحنكِ كثيراً.

قالتْ، وهي ترفع عنقها:

- رائحة الغرفة جميلة، أهذا عطرك؟!

- أجل.

- يا الله، كم هو منعش، ما اسمه.

- عطر من هذه العطور.

نكّستْ رأسها، فظهر مفرقُ شعرها الكثيف.

- ما بكِ؟!

- لديّ قصة، أريدك أن تقرأها ثم تعطيني رأيكَ فيها.

سألتها متحمساً:

- قصة لكِ؟!

- أجل، لقد كتبتُها منذ أكثر من سنة، هي ليست قصة، إنها مجرد سيرة للمرحلة التي شكّلتْ حياتي.

- أهي معك الآن؟!

- سأحضرها لك في نهاية الدوام اذا أحببت.

- سأنتظرك.

خرجتْ من المكتب، فأحسست باختناق شديد.

وجدتني أخرج أنا أيضاً، وأمشي في الممر الرئيس للمستشفى دون هدى.

- أي قصة تريدني أن أقرأها؟!

من عنبر الأورام السرطانية الملاصق للممر، خرجتْ ممرضتان وهما تدفعان سريراً يرقد عليه طفل، وقد تساقط شعر رأسه.

- أيعرف أنه سائر إلى الموت؟!

تخيلتني أقول له، وهو يطالع في سقف الممر بعينين زائغتين:

- لن نمنحك شيئاً، سنحقنك بهذا العلاج الكيماوي لنصارع سرطان دمك. لكن رماح جنوده المتغطرسة ستنغرس في أبصارنا، لنغمضها عن رحيلك.

- أيمكن أن تدلّني على مكتب مدير المستشفى؟!

التفتُ إلى صوت تألفه أذناي.

كان عثمان يسأل طبيباً أجنبياً بلكنة أمريكية.

- لا أريد المدير نفسه، أريد مساعده.

وضعتُ يدي على كتفه:

- أهلاً يا عثمان.

انفردتْ أسارير وجهه:

- مستشفاكم مدينة يا أبا هاجر.

كانت أول مرة يزورني فيها، لذلك بادرته:

- خيراً إن شاء الله؟!

- أبداً، أريد أن أحدثك في موضوع.

تلفتّ حوله، ثم سألني:

- هل مكتبك بعيد؟!

أمسكتُ يده، وأخذنا نمشي في الممر، راجعين إلى مكتبي.

دخلنا، فجلس.

أخرج علبة سجائره، ثم أشعل واحدة بشغف.

قلت له:

- كأنك لم تدخن منذ سنة.

- لا أعرف ماذا دهى أختك، لقد صارت تصرخ في وجهي بألاّ أدخن في البيت.

- معها حق، أنت تدخن كثيراً يا عثمان.

- وماذا يمكن أن أفعل غير التدخين، إنه سلوتي.

 عندما تقدّمَ عثمان لأختي هيلة، كان عمرها يقارب الثلاثين.

كان والدي يرى في عدم تقدم خطّاب لها، حاجزاً يمنعه من تزويج أختيّ اللتين تصغرانها بأربع وست سنوات.

كان يحلف أمام والدتي:

- لن أزوجهما حتى يتقدم عريس لهيلة.

كانت هيلة تكبر وسط جدران بيتنا، تكبر حتى لتكون أمنا الثانية، كنت أراها وأنا فتى في التاسعة وهي تراجع باجتهاد كتب معهد المعلمات المتوسط الذي افتتح تلك السنة، فأحسها تريد أن تكون أولى المعلمات.

كانت تشبه أمي، نحيلة مثل كل الفقيرات اللاتي يعشن في حارتنا.

- لماذا لا تأكلين يا هيلة، ألا يهدُّ عمل البيت حيلك؟!

كنت أراها باهتة، يكاد يغمى عليها، وهي تمسح العتبات الخارجية لبيتنا، وعيناها على الشارع الخالي.

تقدّم لها عثمان، الذي تخرّج قبل أشهر من معهد الدفاع الجوي برتبة رقيب.

كانت أمه أختاً لأمي من الرضاعة.

دخل عليّ والدي وأنا أقلب كتبي:

- تقدم عريس لأختك هيلة.

كان عثمان يتيم الأب، توفي أبوه وهو في الثانية من العمر، تنقل هو وأمه بين بيوت أخواله، محروماً من العطف والحنان. لم يُوفق في دراسته، بعد أن رسبَ في الصف الثاني متوسط أكثر من مرة، توسط له أحد أخواله، فأدخله معهد الدفاع الجوي.

ابتدأتْ حياته هناك تأخذ شكلاً مختلفاً، كان المدرسون الأمريكيون يحبون شغفه بتعلم ميكانيكا الصواريخ، كان يقضي كل الوقت معهم، أجاد اللغة الإنجليزية بسرعة فائقة.

بعد تخرجه، جاءت والدته إلى بيتنا وطلبت هيلة له.

أعطتها والدتي صورة هيلة، لكنها لم تأخذها.

- أنا أبحث لعثمان عن بنت حلال ترعى بيته، ولن أجد أفضل من هيلة.

لم أكن أتوقع أن يوفقا في حياتها.

أنجبا توأمتين، وصارتْ حياتهما تمضي وكأنهما خُلقا لبعضهما البعض. هي معلمة في مدرسة ابتدائية، وهو رقيب فني في القاعدة الجوية.

كانت هيلة تمنحه دفأها الذي خبأته طويلاً في انتظار رجلها، وكان ببساطته، ينتقل من أجواء زملائه الأمريكيين في القاعدة، إلى دفء هيلة وطفلتيه في البيت.

كنتُ إذا قابلته في اللقاءات العالية، أسأله:

- كيف الأمور معك يا عثمان؟!

فيرد عليّ بالانجليزية:

-   الحياة تدور، أتمنى أن يكون لأمريكا قواعد عسكرية، نحن لا نجيد إلاّ النوم والثرثرة، أما هم فكل شيء عندهم بدقة، أتتوقع أننا قادرون على مواجهة النفاية صدام حسين، أمريكا هي التي ستركل مؤخرته بعيداً عنا كي نعود إلى نومنا هانئين.

سحب نفساً آخر من سيجارته.

- ما الموضوع الذي جاء بك إلى مكتبي؟!

- لا أدري ماذا جرى لهيلة، منذ الاجتياح ونومها غير مستقر، تصحو من النوم ووجهها مملوء بالعَرَق، ثم تتعوذ من إبليس، تقول إن الكوابيس تطاردها، تحلم أنني على رأس جبل، قدماي مربوطتان بصخرة يمسكها رجال شُقر، يلوحون بها إلى الهاوية. صارتْ تحذّرني كل يوم بألاّ أتكلم مع زملائي الأمريكيين، وألاّ امتدح مظاهرة البنات، صارت تحذيراتها تزداد يوماً بعد يوم، لا تتأخرْ في العودة إلى البيت، لا تُدخنْ، لا ترفعْ صوت المذياع وأنت تستمع للشتائم التي تنطلق من إذاعة العراق.

- إنها تخاف عليك، أنت كل شيء في حياتها، كيف ستعيش هيلة من دونك، هي لم تصدق أنها وجدتك.

- ولماذا تفترض أنني سأموت؟!

ابتسمتُ له:

- لن تموت إن شاء الله، أنت تعمل في قاعدة جوية ونحن في حالة حرب.

- القاعدة الجوية مملوءة بالمجنّدين والمجنّدات الأمريكيين، جاؤوا من أمريكا بكامل عتادهم، وأسلحتهم، وملابسهم، وأغذيتهم، وأشرطة أغانيهم، وصور حبيباتهم، حتى بمستشفياتهم المتنقلة، وكأن هذا الجلاّد اجتاح ولاية من ولاياتهم.

- هذا الكلام قد يدخلك الحبس العسكري، لا تنس أنك فني صواريخ، والمفروض أنك جندي تحرس سمعة الدولة.

قلتُ له، قبل أن يطفئ سيجارته:

- حاولْ من أجل هيلة، أن تخفف من حدة لسانك يا عثمان، قل لها إنك لم تعد تتكلم مثلما كنت تفعل، أوهمها بأنها على حق، حاول أن تحتويِ قلقها وخوفها عليك، أنا أعرف هيلة، إنها أرق من ورق سيجارتك هذه، أفعل ذلك من أجلها، أرجوك.

ابتسمَ، وهو ينهض من مقعده، ثم قال وأنا أخرج معه:

- ابق، أنا أعرف طريقي الآن.

قبل نهاية الدوام بدقائق، جاءت هيفاء.

دخلت هي وماريان في وقت واحد، كل منهما تبتسم  للأخرى.

قالتْ لي ماريان:

- أتريد شيئاً قبل أن أذهب؟!

رددتُ عليها:

- لا، شكراً. تصبحين على خير.

التفتتْ إلى هيفاء، ولوّحتْ لها بأصابعها.

أشرتُ لهيفاء أن تجلس.

كانت تحمل مظروفاً مملوءاً بالأوراق، وضعته على الطاولة التي بجانبها.

رنّ الهاتف فألتقطهُ.

كانت هاجر على الخط الآخر.

- تقول لك ماما إننا الآن عند خالتي، سنتناول العشاء في بيتها، وسنعود في الثامنة مساء. وتسألك إذا كنت تريد أنْ تصنعْ لك شيئاً للعشاء.

- قولي لها إنني لا أريد شيئاً.

- تقول لك ماما، هل ستمرّ لتأخذنا من بيت خالتي؟!

- طبعاً يا هاجر، طبعاً يا حبيبتي. 

وضعتُ السماعة، ثم تنهّدتُ.

طالعتُ هيفاء، فإذا هي تقلّبُ الصحف.

- دعكِ منها، أمريكا ستدخل الحرب، شئنا أم أبينا.

اكتسى وجهها بخوف طارئ.

- هل ستكون نووية؟!

- لا أحد يعرف.

- ألستَ خائفاً؟!

- بلى.

طالعتْ في عينيّ:

- هل كنت تتحدث مع ابنتك؟!

- أجل.

- اسمها جميل، كم عمرها؟!

- عشر سنوات.

- تشبهك؟!

- بل تشبه أمها، أخذتْ منها كل شيْ، حتى أدق التفاصيل.

- ألم تأخذ منك شيئاً؟!

- لا.

- لم لا تمنحها؟!

- أريدها أن تلتقط مني ما تشاء.

- أنا أعرف أن المثقفين يحاولون أن يغرسوا في أبنائهم صورَهم.

- لكنهم يسقطون في النهاية في شَرَكِ تناقض آبائهم، ثم يتحولون أطفالاً مُحبطين، نحن في مجتمع قاسٍ، أحس أحياناً أنه يهددني، وبدل أن أساهم في تغييره، أجده هو الذي يغيرني.

تنهدتْ بحرقة ثم قالت:

- يغيرك ربما، لكن لا يزيفك.

أحسستني وقعتُ على جرح عميق يقضّ أجنحتها.

أردتُ أن أهرب بها من جرحها.

- هاجر ليست ابنتي الوحيدة، لها أخ في السابعة من العمر اسمه هزيع.

وسألتها:

- ألديكِ أطفال؟!

- لدي بنت واحدة عمرها عشر سنوات، اسمها "خولة"، على اسم خالتي.

نهضتُ، توجهتُ إلى نبات الظل الذي كنت أضعه فوق دولاب ملفاتي.

نزعتُ منه ورقتين اصفرّتا، ثم رميتهما في سلة المهملات.

ضغطتُ بقوة على كتفي الأيسر، لكي أخفف ألمه.

- ما بكَ؟!

أشعلتُ سيجارتي، ونفثت دخانها على يميني، ثم جلست خلف طاولتي.

- ألم لعين، ينتاب صدري وكتفي.

- هل عرضت نفسك على طبيب؟!

- إنه إرث تركه لي والدي. لقد تعوّدتُ عليه.

صمتّ، فصمتتْ.

طالعتْ الظرف، ثم طالعتْني بدهشة:

- هذه قصتي. إنها طويلة. ثم إن لغتي العربية ركيكة، أحببتُ أن تقرأها بنفسكَ، وأن تعدّلَ أخطاءها.

ناولتني الظرف.

- اعتبرها قصتك.

طالعتْ ساعتَها، ثم قالتْ:

- يجب أن أنصرف، خولة في انتظاري، لأراجع لها دروسها، ثم آخذها إلى فراشها.

نهضتْ، فنهضتُ.

طرقتُ باب البيت، ثم سمعتُ خطوات راكضة.

فتحتْ هاجر الباب، وكان هزيع خلفها.

قبّلتهما.

- هل ماما جاهزة؟!

- انها تلبس عباءتها.

ركبا السيارة، ثم صارا يتمازحان.

انشغلتُ بالبحث عن إذاعة لندن، فلم يكن قد بقي على موجز الثامنة مساءً سوى دقائق.

ركبتْ فاطمة، ثم انطلقتُ.

دقّ الموجزُ إشارتَهُ، فرفعتُ الصوت.

التفتتْ فاطمة إلى هاجر وهزيع، وهي تؤشر على شفتيها من خلف نقاب وجهها:

- كفى صراخاً.

"ذكرتْ الأنباء في واشنطن أن الرئيس الأمريكي جورج بوش حدّد الربيع المقبل موعداً نهائياً لتسوية أزمة الخليج إما سلماً أو حرباً. وقال: أنا لستُ على استعداد لاتخاذ الخطوة القادمة والقول إننا سنشنّ هجوماً يوم كذا، فذلك هو الإنذار النهائي، ولم نصل بعد إلى هذه المرحلة. غير أن الإنذار النهائي قد يكون الخطوة القادمة، وسيأخذ أي هجوم أمريكي ضد القوات العراقية في الحسبان المناخ في الخليج وظروفاً سياسية واجتماعية اخرى".

سألتُ فاطمة:

- هل ستذهبون إلى الطائف كالعادة في عطلة الربيع؟!

ردّتْ، وكأنها لم تكنْ تستمع إلى الأخبار.

- لماذا تسأل؟!

- كي أحجزَ لكم مقاعد في الطائرة.

- ألن تذهبَ معنا؟!

أجبتُ، من دون أن ألتفتَ لها:

- أنا لا أستطيع الحصول على إجازة ما دامت الأزمة قائمة.

- وإذا انتهتْ، هل ستذهب معنا؟!

- عندها، لكل حادث حديث.

قالتْ، وكأنها تكرر حديثاً أعرفه:

- أنت تكره الطائف، كل سنة نذهب، وتبقى أنت هنا وحدك.

- هذا أفضل لك. إنها فترة راحة من أجلكِ بعيداً عني.

- قلْ إنها فترة راحة لك، أنت لا تُقدّر كم سنكون سعداء لو تكون معنا، لماذا لا تترك مشاغلكَ وهمومك لمدة أسبوعين فقط، وترتاح مثل كل الناس مع أطفالك؟!

وضعتُ المظروف على طاولتي في غرفة الضيوف، دخلتُ إلى الحمام، واستحممتُ على عجل.

صنعتُ لنفسي فطيرة جبن وكأس قهوة.

قلتُ لفاطمة، وأنا أحمل الصينية:

- لدي أوراق سأراجعها، أتريدين مني شيئاً؟!

- لا.

فتحتُ المظروف، فوجدتُ داخله ملفاً سماوي اللون، أنيقاً، على غلافه، صورة طفل يقفُ أمام البحر، وفي السماء طائرة ورقية تائهة، فكأن الطفل يشتكي للبحر أن أحلامه فرّتْ من بين أصابعه.

خارج الملف، كانت ورقة ذات لون زهري، كتبتْ عليها.

- "أشعرُ أنني أعرفكَ منذ زمن لا تصله ذاكرتي، عندما تحدثتُ معك أول مرة، وبالتحديد في 7 نوفمبر 1990م، كنت أريد أن أقول لك كل الذي لم أقله.

في هذا اليوم، أمطرتْ سحابتي التي خبأتها في قفص جفافي، لذلك سمّيتُ هذا اليوم باسمك أنت، 7 نوفمبر 1990م، وسأقول لك ما أريد.

هذه سيرة لم ولن يطلع أحد عليها سواك.

هي حياتي، ظلامي، متاهتي وغنائي، اقرأها، ثم افعلْ بها ما تشاء.

كلما أردتُ أن أمزّقها، أخاف، فأعود أخبئها مرة أخرى.

هي أنا، المختبئة، الخائفة، الضالّة.

كنت أرى في كتاباتك القصصية وجوهاً أبحث عنها. ألمح وجهكَ بعيداً، كفنار في أقصى لجّة البحر.

ظللت أسبح، لا لكي أصل اليكَ، بل لأصلَ إلى وجوهك، لذلك لا تعتبرْ تطفلي عليك بحثاً رومانسياً عن دفء رجل غامض.

المدة قصيرة، مدة تعارفنا قصيرة جداً، أيام معدودة، وها أنا أفتح لكَ مغاليقي، وأقول: اقرأ.

اقرأ، لأنني أعرفكَ منذ زمن لا تصله ذاكرتي.... آه من ذاكرتي.

اقرأ، عدّلْ ما تشاء.

لقد قلتَ لي أن لغتي جميلة. أتذكر؟! لكنها ركيكة.

 

                                                         هيفاء

                                                   صباح 10 نوفمبر1990م"

بدأتُ في قراءة سيرتها، وبعد كل صفحة، كنتُ أشعر أنها تكتب لكي تحمي نفسها من أسنّة السيوف التي يكتحلُ بها ليلها.

كان لأسلوبها سلاسةُ الذاكرة الصباحية، أطلقتْ العنان لقلمها وكأنها تهذي لأوراقها.

أحسستُ أنها كتبتْ سيرتها في ليلة واحدة، وأن عليّ ألاّ أغلق هسيس عينيّ لكيلا يتساقط حرف من شجرة تداعيها.

في الحادية عشرة والنصف مساء، انتهيت من قراءة السيرة.

بشكل لا إرادي، فتحتُ درج طاولتي، وأخرجت رزمةً من الأوراق.

أعلى الصفحة الأولى وفي وسط السطر، كتبتُ: "أبواب الحمّى" ووضعت تحتها خطين.

ثم أخذتُ أُبيّضُ سيرتها من جديد.  


 

أبواب الحمّى

لم يكنْ لأمي همٌ في الدنيا سوى أنوثتها، كان أبي رجلاً ثرياً تأتيه الدنيا من كل صوب، دون أن يستغربَ من أين يجيئوه.

لم تحظَ أمي بجمال يُذكرْ، كانت حين يغازلها أبي، تصرخُ في وجهه.

- كاذب.

لم تكنْ تحرص عليّ، كما كانت خالتي "خولة" تفعل.

كان زوج خالتي، الذي هو عمي، مدمناً على السهر، لم ينجب منها، لذلك صبَّتْ أمومتّها علي.

كنتُ في إجازات المدرسة، أقضي كل المساءات معها، تُعلّمني الرسم، وتقرأ عليَّ قصص ألف ليلة وليلة، وفي نهاية كل قصة، كانت تقول لي:

- شهرزاد هي التي تديرُ مفتاحَ الصباح، فتجعلُ شهريار ينام متى تشاء.

علّمتْني خالتي أن أحبَّ الصباح.

كانت حين تسرحُ شعري، تغني لي أغنيةً بلا قافية، بأنني إذا كبرت، سأصبح طبيبة، وسأعالج عقم زوجها.

في ليلة من ليالي الإجازة، عجزَ النومُ أن يغلبني.

كان بيتنا يلاصق بيت خالتي، وكان ممرٌ خاصٌ يربطُ بين بيتينا.

كان جدّي، قد اشترطَ بقوة ثرائه، على خطيبيْ ابنتيه الشقيقين، أن يتزوجاهما في ليلة واحدة، وأن يسكنا في منزلين متجاورين.

أهداهما جدي منزلين فخمين، وجعلهما يدخلان في ثروته.  

مشيت على أطراف أصابعي لكيلا أوقظ أمي، وحين وصلت غرفة خالتي، لمحت نوراً خافتاً ينبعث من تحت بابها.

- أحبكَ. وأعرف أنكَ حرامٌ عليَّ، فابتعدْ عني، أرجوك، هو لن يطلقني، يريدني أن ألتهمَ فريسةَ شهوته التي لا تنتهي، أهبه نفسي كارهةً، لكي أتخلصَ بأسرع وقت من جثته المكتنزة بالشحم، أظلُّ أراقبه وهو يشخرُ إلى جانبي، فأحتقر جسدي، ومهما يكن، فلن أطاوع شيطانك.

لم أحتملْ سماع المزيد، فكرتُ في العودة إلى غرفتي، لكن هاجساً طفولياً اعتراني، فأنصعتُ له، فتحتُ باب الغرفة، وانطلقتُ راكضةً إلى خالتي.

أخذتْني في حضنها، وأطبقتْ ذراعيها حولي.

صارت تُقبّلُ بشفتيها الدافئتين خديَّ، حتى هدأت.

همستْ في أذني.

- هل سمعتِ هذياني؟!

هززتُ رأسي بقوة تنمُ عن خوف.

ضغطتُ بذراعيَّ على خصر خالتي، وكأني أخشى أنْ يتخاطفها الجان، فأغدو وحيدة.

قلتُ لها، وأنا يغمرني النشيج:

- أريد أن أكون طبيبة يا خالتي.

مسحت الدموع من عيني، وهي تطالعني باستغراب.

- كما تشاءين يا هيفاء، سأحارب معك لكي تحققي هذا الحلم.

كانت دراستي سلوتي الوحيدة.

صارتْ خالتي تستعيضُ حكايات الماضي، بخيالات مستقبلية، تراني فيها بيضاء، أُنقذ الفقراءَ من أمراضهم المستعصية.

كنت أحسها تقول لي:

- متى أراكِ بينهم؟! شامخةً كزنبقة، تنثرين تحت أرجلهم شبائكَ أنفَتكِ، وحينما يحاول أحدهم أن يخدش اشعاعك، تحرقينه بخطوات لا تكترث إلاّ بهمساتِ البلاط الذي يقولُ لكِ: امش.

قالتْ خالتي:

- امش يا هيفاء.

ومشيتُ.

في الطائرة المغادرة إلى أمريكا، ابتسم أخي "فيَّاض"، وهو يراني أطبّقُ عباءتي وأُدخلُها في حقيبة يدي.

كنت أشعر أن هذه هي الواجهةُ الأولى، وأنني يجب ألاَّ أخاف، لكن القشعريرةَ كانت تخضُّ دمي.

- هل سأستقلُّ طائرة العودة، وبين أصابعي شهادة بيضاء يزخرفها تاجُ التخرج، أم سترديني الغربةُ بسكاكينها جثةً على أرصفة البلاد التي تجهلني.

وضع فياض يده على يدي.

قال وكأنه يخفف عني:

- هذا هو تحديك، ستتعبين كثيراً في البداية، لكنك ستتآلفين، الطب تخصص صعب، ويحتاج جهداً يومياً.

كان فياض يُنهي دراساته العليا في إدارة الأعمال.

كان في البداية معترضاً أن أدرس في الخارج، لكن أبي منعه من مناقشة الموضوع.

- هيفاء يجب أن تصبح طبيبة.

- لكنها لن تحتمل الغربة يا أبي.

- ستحتمل.

واحتملت.

سكنتُ في سكن الطالبات المغتربات.

كانت فتاةٌ من فنزويلا، اسمها "بيقونيا"، تشاركني غرفتي، كانت تدرسُ الإخراج السينمائي، وكان لها صديقٌ جامايكي اسمه "غابرييل"، يدرس نفس تخصصها. كانت متيمةً به، على الرغم من تمرده، وغرابة أطواره.

كنتُ استأنسُ برفقتهما، نخرج ثلاثتنا، أيام الآحاد، إلى مقهى صغير اسمه "الغيمة البيضاء"، لا يرتاده إلاّ المثقفون.

كان يعشق المغنّي الجاميكي "بوب مارلي"، يحمل دائماً بصندوق سيارته أسطوانات له.

ونحن نترجل من سيارته، يفتح صندوقها ويصير يبحثُ في الأسطوانات، يلتقط واحدة، وهو يتمتمُ بشفتيه العريضتين.

- هذه هي.

يضعها تحت إبطه، يطوّقُ بيقونيا بذراعه، وندخل سوياً إلى الغيمة البيضاء.

سألني ذات ليلة:

- ما رأيك في جورج حبش؟!

كان يتحدث معي دائماً عن القضية الفلسطينية، وكنت أُبدي له تعاطفي الكبير مع الفلسطينيين، كنتُ أصدقهُ القول إن خلفيّتي السياسية محدودة جداً.

- لا أعرفه.

- إنه زعيم فلسطيني للجبهة الشعبية.

شدّتْ بيقونيا أصابع يده، وطلبتْ منه أن يغني مع أغنية "الجسر"، التي وضعها غابرييل في صندوق الأسطوأنات بمجرد أن دخلنا.

كنت أراقبهما وهما يغنيان وكأنهما صوت واحد.

كانت تضع رأسها على صدره، ويضع هو خدّه على شعرها الذهبي المحروق.

كان قلبي يخفقُ لهما.

يأتيني من بعيد نحيبُ خالتي، التي لا أعرف إن كانت الآن تتمدد وحيدةً على سريرها، أم أنها للتو تصحو من نومها الذي يعكّرهُ زوجها المترهل.

ناديتها بصوت ضاع في دفء الموسيقى.

- يا لهذه الأصوات التي تناجي الهواء بكبرياء إيقاعها يا خالتي.

تذكّرتُ كيف كاشفتْني خالتي بعد تلك الليلة.

قالتْ لي:

- اسمعي يا هيفاء، أنا وأنت ضحايا لثراء جَدّك، الذي منح أباك وعمكِ ثروةً لم يحلما بها، فصارا يتخبطان في البطر، كنتُ أحاول، أنا التي نشأتُ في الغنى، أن أُحذرهما من نهايته الغامضة، لكن زوجي لم يكن يطلق الغيبوبة من لياليه، وكأنه يريد أن يصل إلى ما وراءها، ليخلع هناك عقمَهُ، ويناجي أطفالاً مستحيلين. أمّا أبوكِ فكان يهرب من أمكِ التي كانت تغوص في مرآتها، لعلها تجمّل نفسها، ظللتُ أنا وإياكِ مهملتين، ضائعتين.

- ليتكِ يا خالتي تسمعين غناءهما.

أخرجني من هواجسي، شابٌ يطرق الطاولة، بأصابعه، وهو يقرّبُ وجهه مني.

كان ذا وجه قمحي، شعره "الآفرو"، لم يخفِ صلعةً خفيفة، تعلو جبينه الذي لوّحته الشمس.

كان يعلك لباناً صغيراً، وتفوحُ من فمه رائحة معجون الأسنان الطازج.

مدَّ يده لي:

- مرحباً برائحة الخُزامى.

رددتُ باقتضاب.

- أهلاً.

- حدثتْني بقونيا عنكِ، أتسمحين لي بالجلوس؟!

- تفضل.

قال، بعد أن جلس:

- افتقدتُ غبار الرياض.

ابتسمتُ بتحفظ.

- ولماذا لا تعود؟!

فرقع بإصبعيه للنادلة، فأسرعتْ إليه.

قال لها بلغة إنجليزية طَلِقة:

- كيف صديقكِ المجنون؟! ألاَ يزال يقامر براتبك؟!

ضحكتْ له.

- دعكَ من المزاح يا سليمان، وإلاَّ ناديتك سيلي مان.

ضحكنا جميعاً.

- مشروبك كالعادة؟!

- كالعادة طبعاً، أنا بدويٌ أصيل، لا أغيّر عاداتي.

تنحنحَ ثم أضاف:

- ولا صديقاتي!!

استدارتْ النادلة باتجاه ركن المشروبات، ثم التفتتْ إليه، وقالتْ بصوت مبتسم، تاه في هدير الموسيقى.

- سيلي مان.

صمتَ قليلا، ثم ضحك.

سألتهُ:

- ما الذي يضحكك؟!

- نحن البدو لا نتطور، تصوري نسيتُ أن أسألكِ ماذا تشربين.

أشرتُ إلى كأس الكوكاكولا، الذي أمامي.

- لقد طلبته للتو.

انتهتْ الأغنية.

تقدّمَ غابرييل وبيقونيا إلينا، وما أن رأى غابرييل سليمان، حتى قفز في الهواء كطفل، وبدوره، فرد سليمان ذراعيه، وأقعى على ركبتيه.

صرخَ غابرييل:

- سوليمان، هبيب أُومري.

ردَّ سليمان:

- أيها الشرس غابرييل، كم افتقدتك.

تعانقا طويلاً، وبيقونيا تحدّقُ فيهما.

دفع سليمان غابرييل جانباً.

- يكفي أيها الزنجي، لا تشغلني عن هذه القرنفلة.

صافح سليمان بقونيا ثم دفع كرسيها إلى الخلف ليتيح لها الجلوس.

همستْ له بيقونيا:

- أين كنتَ؟!

خَبَطَ سليمان بكفه على وجهه، وردّ:

- تعرفين يا جميلتي، كم تأخذني هندسة المدن.

تجرّع غابرييل كأسه دفعةً واحدة، ثم مسح شفتيه الغليظتين بطرف كمه، وهو يقول لي بجدية خافتة:

- سليمان يريد أن يتعلمَ الهندسة من مدن أمريكا المزيّفة، وبعد أن يعود سيخرّبُ وجه صحرائكم التي تشعُّ بالآلهة الفضيّة.

قلتُ لنفسي:

- الله يا غابرييل، ما أحلى كلامك.

ضرب سليمان الطاولة بإصبعه، ثم أشار إليَّ.

- على العكس، صحيح إنني هنا كي أتعلم الخراب، لكنني أقسمُ لكِ، ولأمي التي حين فتحتُ حقيبتي في هذه المدينة البائسة لأول مرة، وجدتها قد دسّتْ لي مصحفاً صغيراً، وثلاثاً من خواتمها الذهبية العتيقة، التي لا تملكُ سواها، إنني سأعود لكي أوقف المجزرة التي تخطط أمريكا لغرسها في لحمنا.

التفتتْ بيقونيا إليه:

- سليمان، طالما حدثكَ غابرييل عن العمل المنظّم.

شربتْ رشفة من الكأس الذي أمامها، وأكملتْ.

- أنت لا تستطيع أن توصل احتجاجك، دون أن تلتزم مع مجموعة تحملُ نفسَ همومك.

جاءتْ النادلةُ وفي طبقها كوؤس شتى، التقطتْ كأساً لتضعه امام سليمان، التقط غابرييل يد النادلة، قبّلها، ثم وضع كأسه الفارغ بين أصابعها.

ابتسمتْ له، ثم هزّتْ رأسها، وهي تضع الكأس في الطبق.

مسحتْ بكفها شعر بيقونيا، التي وضعتْ يدها على يد النادلة وضغطتْ عليها، دون أن تطالعها.

قال غابرييل بصوت مرتفع:

- اسمع يا سليمان، أنت دائماً تقول إنكَ العربيُ الوحيدُ في هذه المدينة، وإنه لا يمكن أن تؤسس جماعة، الآن هيفاء هنا، تستطيعان أن تصيغا ورقة تأسيسية لجماعة صغيرة، وسنجمع أنا وبيقونيا لكما أصواتاً تدعمكما، وسنضمُّ صوتينا لكما.

قرّبَ سليمان كأسه إلى شفتيه.

كانتا حمراوين، الشفة السفلى مكتنزة، والشفة العليا يغطيها شارب كثيف.

قالتْ بيقونيا:

- ما رأيك يا هيفاء؟!

رددتُ بدهشة عفوية:

- فيم؟!

- في أن تؤسسي أنت وسليمان، بصفتكما العربيين الوحيدين في هذه المدينة، جماعة لدعم الجبهة الشعبية التي تناضل من أجل القضية الفلسطينية.

كان سليمان يترقب الإجابة من عينيّ وليس من لساني، وقبل أن يفكَّ صوتي مشبكَ طوقِه، قال هو:

- أرجوكم، لم يمرْ على وصول هيفاء سوى شهر، إنها لا تزال في طور التعرّف إلى الأشياء، لا تملوا عليها، أنتم الذين عشتم في جحيم هذه البلاد الكافرة، رفضكم وتمردكم. دعوها تختار ممارساتها بشكل مستقل، ألسنا في بلد الحرية القذرة؟!

قاطعته بيقونيا:

- أيجب أن تمارس وصايتك على حريمك أيها البدوي الرقيق؟!

سادتْ حالة من الصمت، فأحسّتْ بيقونيا بالإثم.

صارتْ تحرك أصابعها على حواف كأسها الفارغ، وقالت دون أن ترفع رأسها:

- أنا آسفة، كنتُ أقصد أن هيفاء هي صاحبة القرار.

وجدتني مدفوعةً لأن أقول:

- أنا موافقة.

نهض غابرييل، صرخ وهو يرفع ساعده في الهواء.

ركض إلى ركن المشروبات0

صرتُ أطالع وجه بيقونيا الذي أحمرَّ فرحاً، ثم أطالع وجه سليمان، الذي أغمض عينيه.

عاد غابرييل بزجاجتين وعلبة كوكاكولا.

صاح، وهو لا يزال واقفاً:

- تحيا الجبهة الشعبية.

وقفتْ بيقونيا، ثم وقف سليمان.

استعجلتُ أنا بالوقوف، استجابةً للحماس الذي اهتاج في دمي.

كان طرفُ تنورتي الطويلة، محشوراً تحت قائم الكرسي، مما جعلني أتهاوى على الكرسي مرة أخرى.

بشكل لم أكنْ أتوقعه، انتبه سليمان.

انحنى، وسحبَ طرف تنورتي من تحت القائم.

وقفتُ، رفعتُ كأسي عالياً، تلعثمتُ وأنا أردد خلفهم:

- يحيا الشعب الفلسطيني.

حضنتْني بيقونيا، مشى غابرييل اليَّ، حاول أن يحضنني هو أيضاً، فارتجَّ قلبي، نكّستُ رأسي ففهم، وابتعد، أحسست أن سليمان يقول لي:

- يا هيفاء، الغربة سكينٌ يعبث نصلها في لحم شتاتكِ، ولن تستفيقي من غيبوبة سمِّها، إلاَّ اذا وجدتِ منْ يضمّدُ نزيف أيامكِ الباردة.

وأحسستني أرد عليه:

- أأنت الذي ظللتُ أبحث عن فيئه في شموس يتحدّى حرُّ كل منها الآخر؟! أأنت الذي ستذيبُ شمع منكبيَّ اللذين هدّتهما قوارضُ الصحراء؟!

خرجنا من مقهى الغيمة البيضاء.

اقترح غابرييل أن نشتري طعاماً ونأكله في شقته، احتفالاً بهذه المناسبة.

وافق الجميع، ولا أدري لماذا انجرفتُ في الموافقة.

في الشقة، تناولنا العشاء، وعاد سليمان وغابرييل للجدال مرة أخرى، أما بيقونيا، فلقد صنعتْ لها ولي قهوة سوداء.

قال سليمان وقد دخل أكثر في جداله:

- اعرضْ يا غابرييل الفيلم الذي عملته أنت وبيقونيا، سيعجب هيفاء كثيرًا.

ردَّ غابرييل:

- وما أدراك أنه سيعجبها؟!

- أنا أثق بكما كثيراً.

التفتَ غابرييل إليَّ:

- ما رأيك أيتها البدوية؟! أتحبين أن تشاهدي فيلماً قصيراً لا يتعدى زمنه 14 دقيقة؟!

أجبته:

- سيسعدني ذلك كثيراً.

قام إلى مكتبته، فتح درجاً علوياً، والتقط أسطوانة الفيلم.

على الطاولة، كانت آلة العرض، ركّبَ الإسطوانة في الذراع الطويلة، سحب الشريط، أدخله في علبة العرض وأخرجه من الجهة المقابلة، ثم أدخله في الأسطوانة الأخرى.

شِقةُ غابرييل عبارة عن غرفة نوم مفتوحة على الصالة، في الركن، مطبخ صغير يحتوي على فرن كهربائي، يعلوه رفٌ لأدوات المطبخ، يفصل المطبخ عن الغرفة، قائمٌ خشبي أفقي، يحيط به كرسيان.

في الركن الآخر من الصالة، مكتبةٌ وطاولة للقراءة، عليها آلة العرض السنيمائية، التي تتوجّه عدستها إلى جدار أبيض.

أرض الشقة مزدحمة بأصص النباتات والأزهار، وباستثناء الجدار المواجه لآلة العرض، امتلأتْ الجدران بلوحات فنية وصور غاية في الغرابة.

رسمٌ لامرأة عارية تخرج من بطنها حبال، تبدأ مستقيمةً ثم تتعرجُ، وتعود لتُحيط بعنقها، صورة أبيض وأسود لنافذة زجاجية محطّمة، على حياضها، رقدتْ حمامةٌ، أسفلها فراخٌ ميتة، صورة أخرى لطريق صحراوي ليس له نهاية، وعلى قارعته، فأسٌ ملطخّة بالدم، رسمٌ لملك يشبه دراكولا، يجلس على عرش ذهبي، وتحت قوائم العرش اطفالٌ وفتيات لهن أعناق طويلة وشرايين بارزة.

- هل أنتم مستعدون؟!

أجاب سليمان بضيق:

- أجل. شغّل فيلمك المجنون.

أطفأتْ بيقونيا الأضواء، ثم ضغط غابرييل زرَ التشغيل، وانطلق الفيلم.

جعلتني تكتكاتُ آلة العرض والقهوةُ السوداء، ازدادُ صحواً.

الشاشة رمادية صامتة، صوتٌ خافت لأقدام تركض، ضوءٌ خفيف في أرضية الشاشة. يظهر من خلال الضوء قطراتُ المطر وهي تتساقط، يتداخل صوتُ الأقدام مع صوت الريح والرعد. تظهر على الشاشة كلماتٌ انجليزية تقول: "نحن آسفون، لن نكتبَ عنوان فيلمنا، ولا مؤلفه، ولا مصوريه، حتى لا يتعرضون للأذى من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية". تظهر كلمة "النهاية" بخط عريض، صوتُ ارتطام زجاجي، تتكسرُ كلمة النهاية، ويستمر صوت الأقدام الراكضة، أغصان شجر أمزوني تتساقط، صوت مصيدة وهي تطبق فكيّها، اللون الرمادي يملأ الشاشة، مرة أخرى، أصوات كلاب تنبح، ثم منظرٌ داخلي لمحكمة على منصتها قاض ذو وجه يشبه قرد، يصرخ بالحراس:

- أسكتوا هذا النباح.

يطلقُ الحراسُ النارَ على الحضور في المحكمة، فيتساقطون قتلى.

تنجو امرأةٌ، فتفرُّ من القاعة، يستشيطُ القاضي غضباً:

- اقبضوا عليها.

يلاحقها الحراس، تظهر المرأةُ وهي تركض خارج المحكمة على خريطة جغرافية، والحراس خلفها، تظهر أسماءٌ لعواصم أمريكا الجنوبية، صورة العلم الأمريكي يرفرفُ في الفضاء، ثم صورة الرئيس الأمريكي نيكسون، وهو يمسح أنفه أثناء اجتماعه في "المكتب البيضاوي"، صورة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، وهو يخطب في العمال رافعاً يده متحدياً: المرأة لا تزال تركض والحرس وراءها، المرأة تتعثر، تسقط، يتمرغ وجهها بالطين، الحرس يتضاحكون، يفتحون أزارير بنطلوناتهم واحداً تلو الآخر، يبدأون في اغتصابها، الصورة تتابعهم من الخلف، وهم يضغطون بمؤخراتهم العارية على جسدها، مطرقة القاضي تهوي على الطاولة:

- آتوني بها.

الصورة عليها وهي تترنح بين يدي حارسين أنيقين مبتسمين، يوجّه القاضي عينيه المحمرتين إليها:

- يجب أن تقدمي شهادتك للمحكمة.

يرمي الحارسان المرأة على السجادة، ترفع رأسها إلى المتهم، الصورة على المتهم غارقاً في الحزن، يمسك بيديه قضبان القفص، ويرخي رأسه باستسلام. القاضي يقول للمرأة:

- هذا متهم بسرقة قارورة حليب.

تردُّ المرأةُ بصوت متهالك:

- أعرفُ يا سيدي.

يسألها القاضي بشراسة:

- أتعرفين لماذا؟!

تجيبُ المرأةُ:

- لكيلا يموت أطفاله يا سيدي.

يضحك القاضي، يهتز جسده المترهل، فتتناثر القطع والأوراق التي على الطاولة، يُخرجُ  زجاجةَ خمر صغيرة من جيب معطفه، يتجرعها دفعةً واحدة، ثم يشعل غليونه، يسحب منه هواءً عميقاً، ثم ينفثُ الدخان في سماء المحكمة، الصورة تركّزُ على الدخان وهو يصعد، يعبر فتحةً في القبة الزجاجية، ثم يخرج إلى السماء المعتمة، في العتمة، تظهر أنوار "البيت الأبيض". تقترب الصورة حتى تصل إليه، يحيطه الدخان من كل جانب، يخرج الموظفون وهم يضعون مناديلهم على أنوفهم، يخرج شخص عار يشبه الرئيس الأمريكي، حوله مجموعة من سكرتيراته عاريات أيضاً، يستقل الرئيس سيارةً مصفحة تنطلق به بسرعة،. الصورة على لوحة مكتوب عليها: "إلى مبنى البنتاغون"، سيارة الرئيس تدخل المبنى، ثم أصوات صواريخ تنطلق، صورة عسكري أمريكي يتبول على وردة يانعة، اللقطة على الوردة، تتساقط عليها قطرات البول، أصوات آلات حاسبة، كلمة "البداية" تظهر على الشاشة، ينقطع صوتُ الآلات الحاسبة. صوت مطارق تهوي على الحديد، تختفي كلمة البداية تدريجياً، ويظهر توقيع بخط اليد للاسم المفرد لغابرييل وبيقونيا، جنباً إلى جنب، إظلام كامل.

صوت تصفيقِ يدين متعبتين.

- يا الله. كلما أرى الفيلم أكثر، أكتشف فيه سحراً أكبر.

أشعلَ غابرييل الأضواء، فأغمضتُ عينيَّ لكي تنسيا الظلمة.

سألتْني بيقونيا:

- ما رأيك يا هيفاء؟!

لم أستطع الرد، فلقد حمل الفيلم غرابة مدهشة، لم أعتدها.

- إنه عمل رائع.

نهض سليمان من مقعده، ثم استلقى على الأريكة.

ضحك غابرييل بصوت عال، قام يلتقط الكؤوس والفناجين، ثم وضعها في حوض الغسيل.

نامَ سليمان كطفل، تركه غابرييل نائماً، وأوصلنا أنا وبيقونيا إلى السكن الجامعي.

كانت الساعةُ تشير إلى العاشرة مساءً، نزلتُ، وبقيتْ بيقونيا تتحدث مع غابرييل في السيارة شاهدتهما من خلال نافذة الغرفة، يقبّلان بعضهما بعضاً.

أسدلتُ الستارة، وبدأت أخلع ملابسي.

لبستُ منامتي ذات الأكمام والأطراف الطويلة.

كانت بيقونيا تستغرب لماذا أصرُّ على لبسها.

- هل تحتشمون حتى في النوم؟!

كانت حين تنام، ترتدي شورتاً قطنياً قصيراً، وقميصاً أصفر واسعاً، فتبدو وهي نائمة كزهرة ياسمين.

تمددتُ على سريري، ولأول مرة منذ وصلتُ إلى هذه المدينة، أحسُّ أن هذا الذي يشعُّ دفئاً على السرير هو جسدي، وأن هذا الذي يخفق هو قلبي.

كثيراً ما تجاهلتهما، وأصبحتُ لا أركزُّ إلاّ في مراجع كليّتي.

صرتُ أعبثُ بخصلات شعري الذي نثرتُهُ على مخدتي، أحدّقُ في مصباح السقف الذي تركته مضاءً لكي تهتدي بيقونيا إلى سريرها.

- أيحلم سليمان الآن بي؟!

شممتُ كفيَّ، بحثا عن رائحة كفه.

طرقتْ بيقونيا الباب.

- هل نمتِ يا هيفاء؟!

- لا، كنتُ أنتظركِ.  

جلستْ على المقعد، خلعتْ حذاءها ثم خلعتْ قميصها، ثم بنطلونها.

وقفتْ أمام المرآة، صففتْ شعرها، ارتدتْ قميصها القطني الواسع، أخرجتْ علبة الدهان من درج سريرها، وبدأتْ تدهن ساقيها، كما تفعل كل ليلة.

قالتْ لي وهي تبتسم:

- يبدو أن سليمان أُعجب بك.

نهضتُ من فراشي، وأطفأت النور.

رددت عليها:

- إنه مثير للوهلة الأولى، منذ متى وأنت تعرفينه؟!

- منذ أربع سنوات، عرفته قبل غابرييل. 

كانت بيقونيا تتكلم ببساطة، وأحسستُ صدقاً هائلاً في كلامها عنه.

- إنه من النوع الرومانسي، يختلف عن كل الشباب الذين ربطتْني بهم علاقات قصيرة، أو طويلة. غابرييل مثلاً، أحببته إثرَ أول لقاء معه. بعد ثلاثة أشهر، ذهبتُ إلى سريره. قررنا أن ننجبَ طفلاً بمجرد تخرجنا من الجامعة. سليمان كان واضحاً في علاقته معي، قال لي: لا أريدُ أن أمارس الحب معك، إلاَّ إذا كنتِ زوجة لي، واذا تزوجتك، لابد أن تعودي معي إلى الصحراء، وأعرف أنك لن تفعلي ذلك. ظللنا نحب بعضنا. نأكل سوياً، نشربُ سوياً، نسافر في الإجازات معاً، لكن لكل واحد منا فراشه.

سألتُها:

- ألمْ يقّبلك؟!

- سليمان شخص عقلاني جداً، إنه يتحكم بكل عواطفه وشهواته.

- لماذا إذن ينام هكذا فجأة؟!

- سليمان لا يفعل ذلك إلا نادراً، حين يكون هناك ما يضايقه، أذكر أنه قابل مرة صديقاً من أصدقاء طفولته، في مقهى فندق فخم في لوس انجلوس، حيث كنا نقضي حفلة رأس السنة. كانت ترافقُ صديقهُ فتاةٌ بريطانية، تحدثنا تلك الليلة عن بلادكم. قال صديقه: إنه لم يعدْ قادراً على العيش فيها. كان يمتدح بريطانيا؛ لأنها بلد الحرية، وأنه سيكملُ فيها دراسة الحقوق ويمضي بقية حياته في عاصمتها. حاول سليمان أن يشرحَ له أهمية المتعلمين في بناء البلدان النامية، وأنه إذا كان هذا هو موقفهم، فإن تلك البلدان لن تتطور. ردَّ صديقه أن الأنظمة العربية متخلفة، وأنها تحرم المتعلم من أبسط حقوق حريته. قال له سليمان: إن النظام البريطاني الذي يمتدحه نظامٌ مستبد واستعماري، وأن أدواره القذرة تضطهد الإنسان في بلدان كثيرة مثل فلسطين وجنوب إفريقية. لم تبدُ الفتاة معترضةً على وجهة نظر سليمان، لكنها كانت على ما يبدو ملتزمةً مع صديقها بموعد. أشارتْ أكثر من مرة، إلى ساعتها لكي تُلفتَ انتباه صديقها الذي احتدَّ في نقاشه مع سليمان، محاولاً الدفاع عن سياسة بريطانيا. فَهمَ سليمان أن كلامه أغضب الفتاة، فاعتذر، ومنذ تلك اللحظة، ابتدأ في التعب، صارتْ الكلماتُ تظهر من بين شفتيه ثقيلة وبطيئة، استأذنَ لكي يذهب إلى الحمّام، وبمجرد أن استدارَ، استلقى على أقرب أريكة. 

صمتتْ بيقونيا، وصارت تكمل دهن ساقيها:

- ألا تزالين تحبينه؟!

ابتسمتْ، وكأنها تتهكم بي.

- أنا لا أعتقد أن ثمة امرأةً تفهم سليمان كما أفعل أنا.

استدركتْ قائلة:

- أنا أعرفه جيداً، صحيح أنه لم يتحدث معكِ طويلاً، لكنه كان يرصدُ تحركاتكِ، وكأنه يستحضر امرأةً رسمها منذ سنين على قماش حلمه.

- هل تحدثتِ عني له؟!

- أجل. وبمجرد أن قلتُ له إن هناك امرأةً من بلادكم تسكن معي، بدأ في السؤال عنك. كان يسأل عن كل شئ، عن مجال دراستكِ، من أي مدينة جئتِ، وضعك الاقتصادي، طريقة لبسكِ، الأشخاص الذين يزورونِك، قلت له إنك بنتٌ محافظة، ليس لديكِ اصدقاء رجال، وإنكِ جادة، تحبين دراستك كثيراً، وأنك لا تحبين الثرثرة، جميلة، رقيقة وحنونة....

ضحكتْ وهي تغلق علبة الدهان:

- أنا لم أؤلف عنكِ شيئاً.

غرستْ رأسها في مخدتها، وهي تقول:

- لقد اختصرتُ له مسافةً طويلة.

ضغطتْ المسافةُ بأضلاعها على رئتيَّ، فتعذّر عليَّ التنفس.

قلتُ لنفسي:

- أهو أنت ياسليمان؟!

غفتْ بيقونيا.

نهضتُ، فَرَدْتُ الغطاء على جسدها النائم كملاك أتعبتْهُ البراءة.

تمددتُ على سريري، وأخذتُ أراقب الظلمة وهي تتطاير فوقَ عينيّ.

تبخّر الأرق من جسدي، وتكثّفَ في طبقات الظلمة. أبرقَتْ الأحداث التي عشتُها تلك الليلة، ثم أمطرتْ تفاصيلها على جبيني.

أطبقتُ جفنيَّ، فتبللت.

ومثل حلم، توإلى الزمانُ في إغفاءة المكان، وجدتني أحبُ سليمان، منحتُهُ رائحةَ نبضي، فاستكانت أوردتُهُ لجلدي. هففتُ الوجل عن وجهه، فركض الضوء من قارعة عينيه إلى مشربيات عطشي.

أنشأنا أنا وإياه جمعية للطلبة العرب، الذين بدأوا يتوافدون إلى مدينتنا، ثم طورناها إلى جمعية صداقة عربية أمريكية.

صرنا نصدر نشرات التعاطف مع الشعوب العربية في فلسطين وسوريا ولبنان.

كان سليمان يتولى صياغة البيانات التي تنددُ بالدور الأمريكي الوحشي في الدول النامية، وتفضح تعاون الأنظمة العربية مع وكالة الإستخبارات الأمريكية، لضرب التنظيمات السياسية المحليّة.

شكّلَ سليمان وعيي الثقافي والسياسي.

وضع يدي على المفاتيح التي كانت غائبة عني.

كان يقرأ لي قصائد "تشي جيفارا" و "بابلو نيرودا"، وقصص "جاك ريد" و "توماس وير."

حين أنهيتُ سنوات الطب الإعدادية، بدأتُ في دروس التشريح.

رجوتُ سليمان أن يحضر الدرس الأول معي.

كنتُ خائفةً، ألبسني الرداء الأبيض، وكنت ألبسه لأول مرة، وكأنني ألبس حلماً انتظرته طويلاً.

قال لي:

- تشجعي يا هيفاء، أعرفُ أن منظرَ جثة باردة سيقززك، عندما يطلب منك أستاذُك أن تمرري مشرطكِ على الجسد الساكن، افعلي، لا تترددي، سيكَون هذا المشرطَ يوماً ما ترياقاً، ينقذ الذين هم على شفا الموت.

ناولني علبة المشارط، التي أهداني إياها ملفوفة بورق سوليفان، تتناثر عليه قلوب حمراء، وظلَّ معي.

طلب منا الأستاذ أن نتفرق إلى مجموعات، كل مجموعة التفَّتْ حول طاولة تتمددُ عليها جثة. وقف سليمان خلفي، تطوّعتْ طالبة كندية للقيام بأول خطوة، وما إن غرستْ مشرطها أسفل عظمة القص، ومررتْهُ نزولاً إلى سّرة الجثة، حتى أصابني الذهول.

أثار منظر الطبقة الدهنية البيضاء وهي تتفسخ قرفي.

همسَ في أذني:

- أتريدين الخروج؟!

- أجل.

أخذني إلى كافتريا الكلية.

أحضر لي كأساً من عصير البرتقال، ثم جلس إلى جانبي.

- لا بأس يا هيفاء، غداً، ستتعوّدين.

طالعتُ عينيه اللتين كانتا تغطيان بملاءاتهما ارتجافي.

قلت له:

- أشعرُ أنك شالٌ يدفيء عنقي، قبل أن أفتح أبوابي لخطواتكَ، كنتُ واثقةً أنكَ ستلقي التحية عليَّ ثم تمضي في سبيلك، لكن تحيتكَ غاصتْ في مروجي، وعجزتُ أن أقتلعك.

- حسبتكِ تحبينني.

- لقد قالتْ بيقونيا كلاماً مثيراً عنكَ، ما قالته لم يكن شيئاً يذكر مما رأيته لاحقاً فيك، أنت يا سليمان ربابةٌ، ينجرح على أوتارها لحنٌ ضيعتْهُ الصحراء.

- أول مرة أسمع منكِ هذا الكلام، لماذا تقولينه الآن؟!

- لقد سألتُ نفسي، لماذا سمحتِ له أن يقترب من قلبك؟! فلم أجدْ جواباً، كأنني كنتُ في حلم الليلة الأولى التي شاهدتكَ فيها.

ارتشفتُ شيئاً من عصير البرتقال، لكي أبلل ارتباكي، ثم أكملتُ.

- لقد أفاقتني الجثة من حلمي.

قال لي:

- أتريدين أن تصبحي طبيبة؟!

استرجعتُ حديثي الذي دار بيني وبين خالتي خولة.

ضحك، ثم سألني:

- أأنت جائعة؟!

أجبته:

- أجل.

أخذني إلى مطعم صغير، واختار ركناً منزوياً فيه.

بعد أن جلسنا، صار يتفحص وجهي، وكأنه يراني لأول مرة.

سألتهُ، لأتهرب من نظراته:

- ماذا تريد أن تأكل؟!

- قولي أنت.

- بل قلْ أنت.

- ستأكلين معي؟!

- لا أعتقد، منظر الجثة سيحرمني من الأكل أياماً.

- لمَ لا تختارين لنفسك مجالاً آخر غير الطب؟!

- مثل ماذا؟! أتريد أن أكون مهندسة مثلك؟!

- لمَ لا؟!

- ومن سيقبل تشغيلي في بلدي عندما أتخرج؟!

- للهندسة مجالات كثيرة، أدرسي هندسة الديكور، هذا المجال تبرز فيه النساء أكثر.

وضع صبي المطعم الأطباق أمامنا.

غرس سليمان شوكته في اللحم، وقطع لي قطعة صغيرة.

مدّها لفمي:

- كُليها من أجلي.

وأكلتها.

قطع لنفسه قطعةً أخرى، وقبل أن يدخلها لفمه، سألني.

- أتتزوجينني يا هيفاء؟!

ابتلعتُ لقمتي، مسحتُ شفتيَّ بمنديل الطاولة، ثم ابتسمتُ.

- أتزوجكَ يا سليمان.

عقدنا قراننا في مسجد صغير، أنشأه شابٌ سوري في فناء مصنع السيارات الذي يعمل فيه، والذي لا يبعد عن مدينتنا سوى بضعة أميال.

حضر القران أخي فيّاض وبيقونيا وغابرييل ومجموعة من أعضاء جمعية الصداقة العربية الأمريكية.

استأجرنا شقة صغيرة، أثثناها أنا وإياه قطعةً قطعة.

كان يمتلك ذوقاً راقياً، وكلما أختار أريكة أو رفاً أو تحفة، كان يسألني:

- ما رأيك؟!

اندهشتْ بيقونيا عندما دخلتْ شقتنا.

سألني غابرييل مازحاً:

- أتأثثون خيامكم بهذا الشكل البرجوازي؟!

صارتْ صالة الشقة مقراً لاجتماعات أعضاء الجمعية.

كنت أنا وبيقونيا وسليمان نتولى عملية إعداد الأكل، أما الشراب فكان كل واحد منهم يُحضر معه ما يحب.

انضمَّ إلى الجمعية شابان سعوديان، الأول "مبارك" وكان يدرس الزراعة، والثاني "عقيل" وكان يدرس علوم الطيران.

كان مبارك يشبه أخي فيّاض، في سلوكه وتصرفاته، خجولاً، وقليل الكلام، لا يشرب ولا يدخن.

أما عقيل، فكان اجتماعياً، صاحب نكتة، وسريع الإنفعال.

كانا صديقين، يعيشان في شقة واحدة، ذات غرفتي نوم منفصلين، وكانا يشتركان في حبهما للحياة، كل واحد بطريقته. فمبارك كان يأخذ أحد أصدقائه أيام العطل الأسبوعية إلى الضواحي والأرياف المحيطة بالمدينة، يستقلان زورقاً نهرياً ويصطادان السمك حتى المغيب.

أما عقيل، فكان لا يوفر من الليل ساعة واحدة، لم يكن يغادر هو وأصدقاؤه أماكن اللهو إلاّ عندما تغلق أبوابها.

كان غابرييل يميل بطبعه إلى عقيل أكثر، وكان سليمان، وكذلك كانت بيقونيا، يميلان إلى مبارك.

صادفَ حلولُ عيد الأضحى يوماً من أيام الأسبوع.

كان سليمان مرهقاً من التحضير لمناقشة رسالة الدكتوراه.

لم أوقظه باكراً كي يأخذ نصيبه من النوم.

انشغلتُ بتعليق الملابس الجديدة التي اشتريتها قبل ليلتين، استعداداً للحمل، الذي كنت في شهره الثاني.

بعد أن انتهيتُ، صنعتُ كوباً من القهوة.

أخرجتُ دفتر رسائلي، وبدأت أكتب رسالة لخالتي خولة.

في بداية الرسالة، كنتُ سعيدة، كتبتُ لها عن سليمان.

"إنه الرجل الذي أتلو في أحضانه قصصكِ، أحكي له حرمانكِ، وتعلقي بكِ، يستمع إلي ليعرف ما الذي كنتِ تفعلينه لأجلي، ليفعله.

قال لي مرة: إنه يحس بأنكِ أمي، حينها، تذكرتُ أنني لم أحدثه عن هذه الأم.

أتصدقين يا خالتي أنني أعيش الآن في وطنين، سليمان وأنت؟! وأنه لولاكما، لطوّحتْ الغربةْ بي إلى وطن أجهله".

أخذتُ أشعر بانقباض في صدري.

 "ماذا لو أفقد سليمان يا خالتي"؟!

شطبتُ السطر، وحاولت أن أتخلص من هذه الكآبة الطارئة.

قمت إلى النافذة، فتحتها، فهبّتْ في وجهي رطوبةُ الصباح.

فكّرت أن أوقظ سليمان، ثم ألغيتُ الفكرة.

عدت إلى الورقة، وكتبت:

"اشتقتُ إليك يا خالتي.  

هذا خامسُ عيد، منذ تركتك، كل عيد نقول: سنأتي لزيارتكم، لكن سليمان يصرُ ألاَّ نرجع حتى نكمل دراستنا.  

يقولُ إنه يخاف لو شمَّ هواء الرياض، فإنه لن يعود إلى أمريكا مرة أخرى، هل تصدقين أن أحداً يحب الرياض كسليمان؟!

للعيد طعم آخر معك يا خالتي.

أفرح بالعيد؛ لأني أظلَّ طيلة صباحه أفوح برائحة حنائك التي تصبغين بها شعري، وتنقشين بها كفيَّ.

كفاي الآن فارغتان، وشعري تخضّبه رطوبة هذه المدينة المالحة، التي لا تعرف إن كان في الكون عيدٌ اسمه الرياض.

أجلسُ يا خالتي الآن أمام نافذة صامتة، وورقة أرى صورتك على بياضها، وأنت تداعبين...."

فكرتُ قبل أن أكتب لها، "تداعبين ابنتي".

- أأخبرها أنني حامل؟! أم أنتظر إلى الرسالة التالية؟!

شطبت "وأنت تداعبين". وكتبت بدلاً منها.

"أريد أن أجعل عيدكِ عيدين.

أنا حامل يا خالتي، في الشهر الثاني.

كنت أحاول أن أؤجل هذا الموضوع، ولم يكن سليمان يعارضني.

ظللتُ آخذ حبوب منع الحمل طيلةَ السنوات الماضية، كنت أقول له، لا أريد أن أنجب هنا، وكان يشجعني على ذلك. 

قبل ثلاثة أشهر، أصيبَ سليمان بنزلة برد.

بقي على الفراش يومين متواصلين، كان في حمّاه يهذي.

كان يقول كلاماً غامضاً عن أبيه الذي توفي قبل عشر سنوات، ويصرخ برجال يريدون أن يأخذونه إلى سلم عال، كان يصيح باسمي أن أنجده.

في الليلة التالية، تجاوز الحمىّ، كنت أتمدد إلى جانبه على السرير.

قلتُ له:

- هذه أول مرة تتوعك فيها إلى هذا الحد، ما هذا الكابوس الغريب؟!

ردَّ علي، والعافية قد أخذتْ تدبُّ في أوصاله:

- أنا الآن بخير، دعك من كوابيسي، إنها هذيان الحمى.

حضنني، فأحسستُ بحرارة جسده.

حاولت أن أحذره من أن يبذل مجهوداً.

- ماذا تفعل؟! أنت لا تزال محموماً.

ضحك من كلامي.

- قلت لكِ، أنا بخير، هيا، لا تتدلعي.

مددتُ يدي إلى الدرج، كي آخذ الحبة، فأمسكها قائلاً:

- لا تأخذيها.

بادرته:

- أين اتفاقنا؟!

أجابني:

- بعد أشهر، سوف أُنهي الدكتوراه. وسوف تنجبين في الرياض.

سألته:

- وأنا؟! هل سأعود من دون أن أكمل البكالوريوس؟! لا يزال أمامي سنة؟!

ردَّ علي:

- سوف تجتهدين لكي تختصري المدة، سأساعدك.

طالعت في عينيه اللتين أجهدتهما الحمىّ، ثم أرخيتُ عينيّ.

كنتُ قد اغتسلتُ من الدورة قبل ثمانية أيام.

طلبتُ منه، قبل أن يبدأ، أن يُسمّي بالله، وأن يتعوذ من الشيطان الرجيم.

بِذْرَتُهُ في بطني منذ شهرين يا خالتي.

قلتُ له:

- أريدها بنتاً.

ابتسم وردَّ عليَّ:

- وماذا ستسمينها؟!

أجبته:

- خولة.

دقَّ جرس الباب، فتوقفتُ عن الكتابة.

فتحتُ، فإذا مبارك وعقيل، يرتدي كل منهما ثوباً وغترة وعقالاً.

أحسستُ قلبي ينكمش داخل صدري، ثم يفزَّ مصدراً صراخاً، ارتعشتْ له خلايا دمي.

تخيلتني أفتح باب بيتنا في "السليمانية"، لأستقبل أبي وعمي، بعد عودتهما من مصلّى العيد.

قال عقيل:

- من العايدين الفايزين يا هيفاء.

- وأنت بالصحة والسلامة، تفضلا.

سألني مبارك، وهو يدخل:

- أين سليمان؟!

أغلقت الباب، فشممت رائحة البخور وعطر المسك خلفهما.

- إنه يستحم.

قبل أن يجلس مبارك، قال:

- من المؤكد أنه ليس لديكما قهوة مرّة، لقد أحضرت معي شيئاً منها.

ناولني كيساً في داخله ترموس، وفناجين قهوة.

- ضعيها في صينية لكي نفاجئ سليمان.

دخلت إلى غرفة النوم، وأنهضتُ سليمان.

عندما فتح عينيه، قبَّلتُ خدّه، ثم همست في أذنه:

- من العايدين الفايزين، قم أيها الكسول، لقد أتى مبارك وعقيل لكي يعايدانك.

دخلَ الحمام، واستحمَّ على عجل.

كان سيخرج لهم بالروب، لكني أشرتُ عليه أن يلبس بنطلوناً وقميصاً.

عانق سليمان مبارك، ثم عقيل.

تناولنا القهوة المرة، وأخذنا نتحدث عن ذكريات العيد.

اقترح سليمان أن نتناول الفطور في أحد المطاعم، لكن مبارك اعترض:

- لن يتناسب الجو مع عيدنا، ما رأيكم لو نذهب في رحلة ريفية، نشتري خروفاً، نذبحه ونسلخه ونعمل لنا مرقة على لحم الرأس والكبد والكلاوي.

ابتهجنا بهذه الفكرة التي ستجعلنا نعيش العيد كما يجب.

اتصل سليمان بالمشرف على رسالته، واعتذر عن الحضور، ووعده أن يكون في مكتبه صباح الغد.

بعد أن انتهى من مكالمته، قلت له:

- لم لا تتصل بغابرييل وبيقونيا.

ردَّ عليَّ:

- إنهما مشغولان بمونتاج فيلم جديد، ولن يفرغا منه قبل أسبوع.

بين الأشجار، اشترك مبارك وعقيل في سلخ الخروف، وانشغلتُ أنا وسليمان بتجهيز الموقد ومواد الطبخ، وكأننا في رحلة خارج الرياض.

أحسستُ لأول مرة بأن الألفة فوق الغربة، وأننا كنا في تلك الظهيرة، نتسامى بعيداً عن جغرافيتنا.

بعد أن تناولنا الطعام، أحضر عقيل من سيارته مشروباً غازياً، وأخذ يشرب هو وسليمان.

سأل مباركُ سليمان:

- هل سترجع  إلى الرياض بعد مناقشة رسالتك؟!

أجاب:

- لم أخططْ للموضوع حتى الآن، سنرى كيف تمضي الأمور مع هيفاء.

- لو كنت مكانك، لما تحمسّتُ للعودة، ماذا ستفعل؟! زوجتك معك، وتخصصكَ مطلوب في كل أنحاء العالم.

ابتسمَ سليمان، وكأنه يتهكم برأي عقيل.

تذكرتُ القصة التي روتها لي بيقونيا عن صديق سليمان الذي قرر البقاء في بريطانيا إلى الأبد.

تجرّع سليمان مشروبه دفعة واحدة، ثم قال:

- بل سأعود مباشرة، سأدفع مقابل كل ليلة قضيتها هنا، ليلةً من أجل حبيبتي الرياض.

ناوله عقيل علبةً ثانية، وأكمل:

- أتخيل شوارعها وأحياءها تنتظرني لكي أعيد بناءها.

قال له مبارك:

- لن تحتمل العمل الحكومي يا سليمان، توقيع حضور وانصراف، مدير ينهرك، ونظام بيروقراطي يعرقل طموحاتك، وفي النهاية ستصاب بالإحباط.

خلع نظارته الشمسية وحدّقَ في عيني مبارك:

- أتتوقع، وأنا أحمل شهادة دكتوراه، أن أعبر هذه البوابات الصغيرة؟! لن أرضى يا صديقي بأقل من منصب مهم.

ردّ عقيل عليه:

- وهل أنت الذي ستحدد ذلك؟!

- شهادتي هي التي ستضعني في المنصب، لا تنسَ أنه ليس هناك منْ هو حاصلٌ على هذه الشهادة العليا في هذا المجال المهم.

صار الحوار يدور بينه وبين عقيل، الذي بادره:

- لقد فهمتُ أنك اخترت هذا التخصص لتخدم بلادك، لا لتخدم نفسك.

- وما الفرق بين المسألتين؟! حين أكون قوياً، فإنني سأخدم قضيتي أكثر، اذا لم يمنحوني منصباً مهماً، ستمنحني إياه عشرات الشركات. 

- أنت تعرف أن الشركات لا تعبأ إلا بربحها، ولا يهمها حاجات المواطنين العاديين، أمْ أنك ستستغل الشركات أيضاً لتوصيل قضيتك؟!

تدخل مبارك في حوارهما، قائلاً:

- سليمان، يجب ألا تنسى أن هناك كثيراً من الملاحظات عليك، الحكومة تعرف أنشطتك في جمعية الطلبة العرب، وجمعية الصداقة العربية الأمريكية، هل تعتقد أنهم سيحتفون بك، بعد كل البيانات والنشرات التي أصدرناها، أنا لا أستبعد أن يستوقفوك في المطار بمجرد عودتك، أي منصب قيادي تتكلم عنه؟!

قاطعه عقيل:

- اسمح لي أن اردَّ عليك، نيابةً عن سليمان.

وأشار عقيل بيده لسليمان أن يدعه يكمل.

- ستعطينا الحكومة مناصب قيادية، وستعتبر أنشطتنا السياسية مجرد نزوات ترف، أملتْها علينا الغربة.

لم يجبْ سليمان.

وضع نظارته الشمسية على عينيه، ونهض عن البساط الذي فرشناه بين الأشجار، ومشى بعيداً عنا داخل الأحراش.

قلت لمبارك:

- يجب أن نعود، سليمان لديه مناقشة غداً، ويجب أن يرتاح.

سألني عقيل:

- أتعتقدين أننا أغضبناه؟!

أجبته:

- سليمان يحبكما، ثم إنكما لم تقولا غير الحقيقة.

طلب مني مبارك أن أذهبَ خلفَ سليمان.

- عودي به، وسنلملم الأغراض.

في طريق عودتنا كان سليمان صامتاً.

كنت أنا وإياه في مقعد السيارة الخلفي، في حين كان عقيل يتولى القيادة، ومبارك إلى جانبه.

وضعتُ أصابعي بين أصابع سليمان، فضغط عليها.

سحبتُ كفه، وجعلتها تتحسسُ بطني.

رمى رأسه على صدري.

همستُ في أذنه:

- أتعتقد أنهما لا يفهمانك يا حبيبي؟!

أرخى رأسه حتى سقط على فخذي.

ضحك بصوت عال، ثم قال:

- لو يعرف أبوك يا عقيل أنك شربت بعد لحم أضحيته مشروباً غازياً أمريكياً، لقام من قبره ليتبول عليك.

طالع عقيل مبارك باستغراب، ثم طالع سليمان وهو يرمي رأسه مرةً أخرى على فخذي.

صرت أعبثُ بشعر سليمان، وأنظر إلى الطريق المحاط بالأشجار.

أخذتُ أحسبُ الأشجار.

كلما مرّتْ واحدة، أستعجل الأخرى.

أخذتْ سيارتنا تلتهم الطريق، ونحن صامتين.

مرَّ الوقت علينا، أنا وسليمان، مثل لهب تتخاطفه الشمعة.

دخل عليَّ، وأنا للتو عائدة من الكلية.

قال لي:

- سنرجع إلى الرياض يا هيفاء.

كان قد حصل على نتيجة المناقشة قبل ثلاثة أسابيع.

منحتْهُ الجامعة درجة الدكتوراه بتقدير جيد جداً، وكان من المفروض أن يحضر احتفالات التخرج الشهر المقبل.

سألته:

- ألن تحضر الحفل؟!

- لا.

- أليس هناك شيءٌ آخر يستوجب بقاءنا؟!

أشاح بوجهه بعيداً عن عينيَّ.

- لقد نسقتُ مع كليّتكِ، سيعطونكِ شهادةً بالساعات التي أكملتها، سوف تحتسبْ جامعةُ الرياض هذه الساعات، وستحصلين على البكالوريس من هناك.

- أأنهيت كل هذه الإجراءات دون أن أعرف؟!

- أحببتُ أن أفاجئك، لا أريد أن تنجبي خولة هنا.

- كما تشاء يا سليمان.

قبل ليلتين من رحيلنا، أقام مبارك وعقيل حفلاً، دعوا له بيقونيا وغابرييل، وصديقاتهما وعدداً من أساتذة كلياتنا ومجموعة من أعضاء جمعية الصداقة.

أصرَّ سليمان أن يكون الحفل في مقهى الغيمة البيضاء.

حجز مبارك المقهى خصيصاً للحفل.

لم أكن أتوقع أن يزدحم المكان بالمدعوين بهذا الشكل.

وجدتني تلك الليلة عاجزةً عن ردّ التهاني المتواصلة من الأصدقاء الذين لم أحسبْ أنهم بهذا العدد، تجمعوا كلهم، ليقولوا: وداعاً.

كانت بيقونيا تحاول أن تخفي حزنها لرحيلنا.

شعرتُ لأول مرة أنها تحبني بنفس الدرجة التي تحب فيها سليمان.

طلبتْ من غابرييل أن يضع الأسطوانة التي تحتوي على أغنية "الجسر" لبوب مارلي، وتوسلتْ لي أن أغني مع سليمان على أنغامها.

شعرت لحظتها أن بيقونيا أرادتْ أن تُديرَ الزمان لي، وأن أجعلها تراقبني كما كنتُ أراقبها، وهي تحتضن غابرييل وتغني معه هذه الأغنية.

كان سليمان منهكاً، لذلك لم يستطع الغناء.

قفز غابرييل من مقعده، ثم همس في أذني:

- ما به سليمان؟!

أجبتُه:

- لا شيء.

- أأنت متأكدة؟!

- ماذا تقصد؟!

- لا أدري، أحسُّ أن هنالك شيئاً ما يضايقه.

- ربما هو حزين لفراقكم، أنت تعرف كم يحبكم.

قال بجدية:

- اسمعي يا هيفاء، أنا أعرف أن الزمن تغير، سليمان ذكي، يعرف تماماً أن الشعارات التي كنا نطلقها قبل خمس سنوات لم تحركْ ساكناً، الحكوماتُ تزداد وحشية، والحركات الليبرالية لا تستطيع أن تواجه المخابرات الدولية المنظَّمة.

-لم أفهمْ يا غابرييل، ماذا تريدُ أن تقول بالضبط؟!

لكنه، لم يُجبني.

انتهتْ الأغنيةُ قبل أن اطرح مزيداً من أسئلتي، وابتدأتْ أغنيةٌ أخرى.

في الطائرة، سألتُ سليمان:

- ماذا لو استوقفوكَ في المطار، كما قال مبارك؟!

- وقتَها، تَعاملي مع المسألة بشكل هادئ، خُذي الحقائب، وتوجّهي إلى بيت أهلك.

تناول سليمان حبتين منومتين، أعطته المضيفة غطاء العينين، ضغط مقعده إلى الخلف، وراح في نوم عميق، حين حلّقتْ الطائرة من مطار نيويورك، شعرتُ بأنني أغادرُ حلماً جميلاً، فاجأني ذات ليلة، وانقضى دون أن يترك في ذاكرتي تفاصيله.

ها أنا ذا أعود، شجرتي مثقلةٌ بالثمر الذي لم ينضجْ. كل ثمرة تلمع أمام عينيَّ، وأنا أتساءل.

- هل سأقطفها، أم ستسقط مني؟!

شهادتي لم أكملها، سليمان يهدده المطار، وخولة يغمرها غيب أحشائي.

امتدتْ أصابعي إلى حقيبة يدي.

فتحتها، وأخرجتُ عباءتي. شممتها، فوجدت رائحةَ البخور، لا تزال عالقةً بها، وكأني وضعتها البارحة في حقيبتي.

اقشعرَّ جلدي، وقفزتْ إلى ذاكرتي قصص ألف ليلة وليلة وأغاني خالتي.

- شهرزاد هي التي تدير مفتاح الصباح.

تنهدتُ، وأنا أطالع سليمان، يتقلّبُ على كرسيه بقلق.

- متى أراكِ بينهم؟! شامخة كزنبقة، تنثرين تحت أرجلهم شبائكَ أنفتكِ، وحينما يحاول أحدهم أن يخدشَ إشعاعكِ، تحرقينه بخطوات لا تكترث إلاَّ بهمسات البلاطِ الذي يقول لك: أمشي. أمشي يا هيفاء.

أحسستني أردُّ عليها:

- ها قد مشيتُ يا خالتي، شارفتُ أطراف الأرض. بحثتُ هناك عني، فوجدتني كما أنا، خائفةً من الغيلان، لا أدري كيف تظهرُ لي؟! ترافقني في كل مكان، مهما ابتعدتُ، أجدها أمامي، كأنها تسكنُ بيني وبين جلدي. كنت أخاف عليكِ وحدكِ. الآن أخاف عليكِ وعلى سليمان وعلى خولة وعلى نفسي، كبرتُ يا خالتي، وازدادت غيلاني.

أعلنَ قائدُ الطائرة وصولنا إلى مطار الرياض.

كان سليمان قد نهض من نومه.

كنتُ أجلس إلى جانب النافذة، لذلك مدَّ عنقه ليطالع الأنوار المتلألأة، كأنها سجادة نسجتْها خرزاتُ الضوء.

التفتَ سليمان اليَّ، فصار وجهه قبالةَ وجهي.

أسندتُ وجهي على وجهه، فضمّني بقوة.

همس لي:

- وصلنا بيتنا الحقيقي يا حبيبتي.

- أنا خائفةٌ عليكَ يا سليمان.

- أرجوكِ يا هيفاء، لا تفسدي فرحة وصولنا.

حطّتْ الطائرة على أرض المطار، وسليمان لا يزال يحضنني.

شعرتُ أن أقدامي هي التي لامستْ الأرض، وأنني أريد أن أركض من المطار إلى بيتنا.

حين فُتحتْ الأبوابُ، وجدتني لا إرادياً، أخرج الغطاء والعباءة.

لففتُ الغطاء حول رأسي، ثم لبستُ عباءتي على كتفيَّ.

حين وقفت، صار سليمان يطالعني.

قلتُ له مبتسمة:

- ما رأيك؟!

أغمض عينيه، وعلى وجهه علامات فرح:

- ما أجملكِ يا هيفاء.

أخذنا مكاننا في الصف الممتد أمام موظف الجوازات.

كان قلبي يخفق خوفا.

سألني سليمان وكأنه يريد أن يُسلّيني:

- هل كنتِ دائماً تكشفين وجهكِ هكذا؟!

- بل كنتُ أُغطيه.

-  ألستِ خائفة من هذا التغيير؟!

- كنت أستطيع أن أفعل ذلك دون أن أذهب إلى أمريكا.

- ولَم لمْ تفعلي؟!

- لا أدري.

بدأ الصف يمشي. قال لي:

- حين قابلتكِ أول مرة في أمريكا، لاحظتُ أنك تملكين حضوراً مستقلاً، على الرغم من أجواء الحرية التي عشتها مع بيقونيا، ثم معي، لم أركِ مرة تشربين، أو تدخنين، أو ترافقين شاباً، كنت أشعر بانتشاء وأنا أشاهدكِ تصلين، وكنتُ أستغربُ كيف تتحملين صيام ثلاثين يوماً، مع أن ساعات النهار طويلة جداً. ملابسك المحتشمة كانت تلفتُ النظر بأناقتها وبساطتها. 

- لماذا تقول هذا الكلام الآن؟!

- لأنني أشعر بفخر كبير بك، أحسُّه هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى، كنت مندهشاً من عدم انتظام أخيك فيّاض في زيارتكِ. من المؤكد أنه يعلم أنك امرأة ذات شخصية ملتزمة، لذلك تركك وشأنكِ تتعاملين مع غربتك كما يحلو لك.

وصلنا الدور، فأخذتُ أقرأ آية الكرسي.

مدَّ سليمان جوازينا للموظف.

فتح الموظف جوازه، وعبأ المعلومات في ورقة، ثم ختم عليه.

فعل نفس الشئ في جوازي، ثم ناولهما سليمان.

تنفستُ الصعداء، ومشيتُ خلف سليمان إلى موقع الأمتعة.

قال لي:

- نجونا يا هيفاء.

بين المستقبلين، لمحت أبي.

حين رآني ترقرقتْ دمعة في عينيه.

اتجه إلي، وحضنني.

ظل مطبقاً بذراعيه عليَّ، وهو يبكي.

- اشتقتُ إليكِ يا دكتورة.

عانق سليمان، وكأنه يعرفه منذ زمن.

لم يكن المطار بعيداً عن حي "السليمانية."

كان أبي يتحدث لسليمان أحاديث اعتيادية عن الشوارع التي تغيرت، والمباني التي شُيدتْ خلال السنوات الماضية.

كنت أثناء المسافة بين المطار وبيتنا أفكر في خالتي.

ترددت أن أسأل أبي عنها.

قلت لنفسي:

- الآن أراها.

وصلنا، فركضتُ إلى البيت، كطفلة اشتاقتْ لدميتها.

قابلتني أمي.

لم أعرفها للوهلة الأولى.

ترهلَ جسدها، واختفتْ المساحيق عن وجهها.

كانت ترتدي جلباباًً واسعاً، وتغطي شعرها بغطاء أسود.

حضنتها بقوة، ووجدتني أبكي معها.

شاختْ أمي عشرين سنة على الأقل.

سألتها:

- ما بكِ يا أمي.

قالتْ وهي تمسح دموعها:

- لا شيء، أنا فرحانة بعودتك.

- أأنت مريضة؟!

- لا. ليس بي إلاّ العافية.

أجلستْني إلى جانبها.

- ما أخبار أخوك فياض؟!

- ألاَ يتصل بكِ؟!

- بلى، لكنني اشتقتُ لرؤيته، أدعو الله أن يجمع شملنا، لقد تعبتُ من فراقكم يا بنيتي.

لم أتعوّد هذه اللهجة من أمي، فكأنها ليستْ هي.

استأذنتها، وهرولت إلى الممر الذي يربط بين بيتنا وبين خالتي خولة، فوجدته مغلقاً بالأسمنت.

عدتُ إلى أمي، سألتها:

- هل أغلقتم باب خالتي؟!

- أجل، لقد انتقلتْ هي وعمك إلى بيت جديد.

خلعتُ عباءتي، ثم جلست مرةً أخرى إلى جانبها، وأنا أفكر بالسبب الحقيقي لانتقالهما، ولعدم انتظار خالتي لي.

وضعتْ كفها على بطني، وهي تبتسم.

- كيف حال حفيدي؟!

رددت عليها:

- حفيدتك وليس حفيدك.

- كل ما يأمر به الله خير يا ابنتي.

دخل أبي، فنهضتْ أمي.

صاح:

- تفضل يا سليمان، سلّم على خالتك.

دخل سليمان، صافح أمي، ثم قبّل رأسها.

قالتْ له:

- بارك الله فيك يا ولدي، الحمد لله على سلامتكم.

- شكراً يا أمَ فياض.

جلس سليمان ووالدي، ودخلتْ أمي إلى المطبخ.

تبعتها.

- ماذا ستفعلين؟!

- سأضعُ لكما العشاء، لقد جهزتُ لكما كبسة أرز.

- لقد تناولنا العشاء في الطائرة، لا تتعبي نفسك.

- إذن سأصنع لكما قهوة مرَّة، ألم تشتاقي لها؟!

- بلى.

سألتها وهي تضع النار على الموقد:

- كيف خالتي خولة؟!

أجابتْ وكأنها تنتظر هذا السؤال:

- إنها بخير، كان المفروض أن تكون هنا، لا أدري لماذا تأخرتْ.

أحضرتُ علبة القهوة التي لم يتغير مكانها.

- يعتقد أبي أنني صرت دكتورة.

التفتتْ اليَّ مستغربة:

- أجل ماذا؟!

- لقد غيرتُ تخصصي؟ درستُ هندسة الديكور.

التقطتْ علبة القهوة من بين أصابعي، وردّت:

- الله يوفقك يا ابنتي.

سمعتُ جرس الباب، ففزَّ قلبي.

خرجتُ من المطبخ، فوجدتُ خالتي تدخل باب الصالة.

عندما رأتني أُغشى عليها، وسقطتْ على الأرض.

ركضتُ إليها، وأنا أصرخ:

- خالتي.

وركض معي والدي.

ساعدناها على النهوض، وكانت تحرص ألاَّ يسقط الغطاء عن وجهها.

ناولني سليمان كأساً من الماء.

بللتُ يدي، أدخلتها خلف غطائها، وبللتُ وجهها، وأنا أقرأ عليها المعوذات.

حضنتُها، فتداخلتْ شهقاتُنا.

عاد أبي إلى مكانه بجانب سليمان، الذي ظل هو وأمي يراقبان المشهد.

ظللنا نضمُّ بعضنا إلى بعض، حتى هدأنا.

ساعدتها على الوقوف، وصعدتُ بها إلى غرفتي.

فتحت الباب، فوجدت الأنوار مضاءة.

كان كل شيء مرتباً، كما تركته.

سريري ذو اللون الزهري، لحافي السماوي المزركش بالدانتيل الأبيض، مكتبتي المملوءة بالقصص وبكتب المرحلة الثانوية. حقيبة مدرستي الحمراء، سجادة الصلاة المفروشة باتجاة القبلة.

كأنني لم أغادرها.

أجلستُ خالتي على السرير،خلعتُ غطاء وجهها وعباءتها، ورميتهما على الطاولة.

مسحتُ وجهها بكفي، قبّلتُ جبينها وخديها.

أخذتْ هي تقبّل كفيَّ وتمسح شعري بأصابعها.

كان وجهها مشعاً وصافياً.

عيناها المكتحلتان الواسعتان تلتهمان وجهي، وشفتاها المصبوغتان بحمرة خفيفة تريدان أن تقولا كلاماً كثيراً.

- سأقيم لكِ حفلاً كبيراً.

- احتفالي أنني عدتُ إليك يا خالتي.

عادت وضمتّني.

سألتها:

- لماذا تركت بيتكِ؟!

سمعتُ منها تنهيدة حارقة، وهي لا تزال تسند رأسها على كتفي فأضفت:

- لقد تغيرتْ أمي كثيراً.

- أجل، لقد هداها الله، إنها تصوم كل إثنين وخميس، وتتصدق بسخاء على الفقراء والمساكين.

- وأنت؟!

- لقد كنت أعدُّ الأيام والليالي في انتظاركِ، لو كان الله قد رزقني بابنة، لما أحببتُها مثلك.

- ألاَ يزال عمي يسامر غيبوبته؟!

هزّتْ رأسها، ثم أخذت تبكي.

قبّلتُ كتفها.

- هذا نصيبك يا خالتي.

أبعدتها عني، ثم طالعتُ في عينيها.

- لا نريد بكاءً الليلة.

مسحتْ دموعها.

- إنها دموع فرحتي، مجيؤكِ سيعوضني عن كل شيء.

طالعتْ بطني، وهي تبتسم ابتسامة بكاء:

- كيف حال خولة؟!

- إنها تكبر في بطني.

- أريد أن أغمض عينيَّ وأفتحهما لأجدها أمامي، أفتح ذراعيَّ لكي تُقْبلَ علي وهي تتعثر بخطواتها.

أغمضتْ خالتي عينيها، ثم أغمضتُ أنا عينيّ.

فتحتُ عينيَّ، فلم أجد خولة إلى جانبي.

كان سريرها الذي وضعته إلى جانب سريري فارغاً.

عرفتُ أن خالتي جاءتْ لزيارتنا، كعادتها كل يوم.

خرجتُ من غرفة نومي، وناديتُ الخادمة.

سألتها:

- أين خولة؟!

أخبرتني أن خالتي جاءت في العاشرة صباحاً وأنها طلبتْ منها أن تحضر لها خولة.

نزلتُ إلى غرفة الضيوف، فوجدتُ خالتي تعلّم خولة المشي.

بعد أقل من شهر من عودتنا، استأجر سليمان فيلا صغيرة في الحي نفسه الذي تسكن فيه خالتي، بعد إلحاح منها.

صارتْ عندما تنهض من نومها، تتوجه إلى بيتنا.

كانت تعتني بي قبل الولادة، وبعدما أنجبتُ، صارت خولة تظفر بكلّ اهتمامها.

كانت خولة تشبهني كثيراً، وكانت خالتي تستميحني كل يوم.

- لا تغضبي مني يا هيفاء، خولة صارتْ تشغلني عنك.

في الثانية بعد الظهر، تذهب خالتي إلى بيتها، وفي المساء أذهب أنا إليها، في التاسعة، يأتي سليمان إلى بيت خالتي، يمضي بعض الوقت مع عمي.

سألتْني خالتي، عندما زرناها أنا وسليمان لأول مرة، وكانت ليلة من ليالي نهاية الأسبوع.

- هل انسجم سليمان مع غيبوبة عمك؟!

- أجل، بل إنه يشاركه فيها؟!

عرضتْ الجهة التي ابتعثتْ سليمان إلى أمريكا، عليه منصباً قيادياً وحساساً.

سألني قبل أسبوع من ولادتي لخولة:

- ما رأيكِ يا هيفاء؟!

قلت له وأنا أجهّز سريرها الصغير:

- أليس هذا ما كنتَ تطمح إليه؟!

- أنا أطمح لخدمة الناس، أنت تعرفين ذلك؟!

- هذا المنصب لا علاقة له بالناس مطلقاً، لا تغالطْ نفسك يا سليمان.

- سأسخّره لخدمتهم.

أمسكَ يدي، وأخذ يحدّقَ في عيني.

- هيفاء. ألا تثقين بكلامي؟!

ابتسمتُ له.

- بل أثق بك كثيراً يا حبيبي، أنا شريكةُ حياتك، ومن واجبي أن أنبهّك، أعرف أنكَ تريد أن تكوّنَ نفسك، وأن راتب هذه الوظيفة مغرٍ، لا أريدك أن تسقط في الإغراءات، فنحن لا ينقصنا شيء؟!

- بل ينقصنا، إننا في بداية الطريق، أريد أن أبني بيتاً يليق بنا، وأن يكون لي مصدرُ دخل يضمن لكِ ولأطفالكِ مستقبلاً جيداً.

- وهل تريد أن تتنازل من أجل كل هذه الأشياء؟!

- من قال إنني سأتنازل؟! لماذا لا تعتبرينها محاولة للتوفيق؟!

أطلقَ يدي، ثم أخذ يخلع ثوبه، وهو يقول:

- لقد تغير الزمن يا هيفاء، لم نعد في عصر الشعارات المتشنجة.

تذكرتُ كلام غابرييل في حفلة الوداع، فقررت ألاَّ أستمر في جدالي معه.

قلت لنفسي:

- سليمان يعيش صراعاً حاداً، فلماذا تكدّرين عليه أكثر، لقد قلتِ له رأيكِ، وأرحتِ ضميركِ، دعيه يتوصل إلى قراراته بعيداً عن ضغوطاتك.

بادرتهُ لكي أغير الموضوع:

- هل راجعتَ الجامعة بخصوص الساعات التي يجب أن أكملها؟!

- لا تقلقي، بعد أن ترتاحي من الولادة، سأتفرغ للموضوع.

تسلم سليمان المنصب، وانشغل به.

انشغلتُ أنا بخولة، وبالسهرات التي صار سليمان يعقدها في البيت.

طلب مني ذات ليلة أن أسلّم على أصدقائه، فاعتذرتُ منه بلطف.

سألني:

- لماذا؟!

- بأي مناسبة أُسلّم عليهم؟!

- بصفتك صاحبة البيت.

- ولماذا لم يُحضروا زوجاتهم معهم؟! لا تنسى يا سليمان أن عمي يجلس معهم، ماذا سيقول إذا رآني بين زملائك؟!

كان سليمان يدعو عمي إلى كل سهراته، لكنه لم يكن يرتاح له كثيراً.

- إنه أُميّ وثرثار.

- ولماذا تدعوه؟!

كانت خالتي تساعدني في تجهيز الأكل أثناء السهرات.

قالتْ لي مرة:

- تعالي، اسمعي ماذا يقولون.

كان أحد أصدقاء سليمان يتحدث:

- لا تكن مثالياً يا سليمان، لقد تخرجنا مثلك من أمريكا، عند عودتنا، كنا نحمل آمالاً وأحلاماً، بأننا سنغير كل شئ، شيئاً فشيئاً، تغيرنا نحن، وصارتْ أمريكا ذكرى من ذكريات الشباب.

ردَّ سليمان عليه:

- أنا لا أتفق معك، هؤلاء الخريجون ساهموا في تغيير المفهوم الإداري لبعض المصالح الإدارية. قد لا تشعر بالتغيير لأنه يتحرك ببطء.

اشترك آخر:

- إذن، أنت مع أمركة الأنظمة الإدارية، مثل معظم خريجي أمريكا؟!

- دعكَ من هذا الرأي المتشنج، وانظر إلى الموضوع من الجانب الإيجابي، التطور ملكٌ للإنسان في كل مكان، سواء في أمريكا أو روسيا، العقل البشري الناضج لا يرفض التطور، هل تريدوننا أن نرفض ثورة الكمبيوتر لمجرد أنها بدأتْ في أمريكا، ونظل طيلة حياتنا نسجّل معلوماتنا في ملفات يدوية؟!

- أمريكا يا صديقي تريدنا أن نظل في عصر الظلمات.

ردَّ سليمان بانفعال:

- هذا غير صحيح أبداً.

- أنت لم تعمل معهم سوى أشهر، نحن نعرفهم أكثر منك، سوف يضيّقون الخناق عليك حتى تصير مثلهم، لذلك انسَ التغيير واحرص على إرضائهم لكي تزداد علاواتك وحوافزك.

صاح عمي بكلمات ثقيلة:

- اتركونا من هذا الخرط، نريد أن نتعشّى.

أخذ سليمان يفرط في اجتهاده في عمله، يحضر أوراق العمل إلى البيت، ويصير يراجعها في مجلس الرجال.

قلّتْ السهرات التي كان ينظمها في البيت شيئاً فشيئاً إلى أن توقفت.

دخلتُ عليه ذات ليلة، وهو منهمك في قراءة بعض التقارير. 

سألته مندهشة:

- لماذا لم تسهر مع عمي؟!

ضحك.

- أتعتقدين أن عمك يصل إلى مستواي؟!

ابتسمتُ ابتسامةً مصطنعة.

- ألم يعد عمي يليق بك؟! أنسيت أن هذا الأميّ الثرثار، هو الذي كان يجهز سهراتك، وهو الذي عرّفكَ على عدد من رجال الأعمال وكبار الموظفين.

- انهم أُميّون مثله، لا همَّ لهم إلاَّ السهر.

رفعتُ أصابعه عن الأوراق، ثم أمسكته من ذقنه، وركّزتُ عينيَّ في عينيه.

- سليمان، ما بك؟!

- لا شيء، أنا مشغول، هنالك تقرير يجب أن أعدَّه.

- عن ماذا؟!

- لقد اقترحتُ تنظيماً جديداً للعمل الإداري في المكاتب العليا.

- وما شأنك بالإدارة، أنت مهندس.

- هذا التنظيم سوف يسهّلُ عمل المهندسين التابعين للإدارة العليا، أريد أن أُثبتَ للمهندسين أنني في صفهم، ولست في صف الإدارة.

- هل أنت فعلاَ في صفهم يا سليمان؟!

- ها أنذا أحاولُ أن أصيغ التنظيم بشكل يرضي الطرفين.

- قد ترضيك هذه التوفيقية، لكنها قد تجعل أحد الطرفين يتحامل عليك.

- المصلحة العامة فوق كل شيء عندي.

عاد سليمان ينظّمُ سهراته مرة أخرى، لكن رفاقه اختلفوا.

كنت أطالع سياراتهم عبر ستارة غرفة نومي، فأجدها من السيارات الفخمة، صرتُ أحسُّ به يتحاشى الدخول معي في حوارات حول عمله.

قلت له ذات غداء:

- لقد كبرتْ خولة يا سليمان، أنت لا تهتم بها كما يجب.

- هل ينقصها شيء؟! ها أنا أحضر لها كل الألعاب التي تتناسب مع طفلة في العام الثاني.

- هل تعتقد أنها تحتاج إلى الألعاب فقط، إنها تفتقدك، أنت منصرفً عنها بالعمل نهاراً وبالسهر مع أصدقائك ليلاً.

- إنني أؤمن لها مستقبلها.

قلت، وأنا أتبرم لأول مرة منذ عرفتُ سليمان:

- لا تخف على مستقبلنا يا حبيبي، لدينا خيرٌ كثير.

ردَّ بعصبية:

- هيفاء، ماذا تقولين؟! أتريدينني أن أنام في البيت إلى جانب خولة، وأن يصرف أبوكِ عليّ؟! أنا لا أريدها أن تحتاج إلى أحد غيري.

- سليمان، نحن لا نريد أكثر مما نحن فيه، ما ينقصنا هو أنت.

رمى الملعقة من يده، وطالع في وجهي.

- اسمعي، لا أريدكِ أن تزعجيني بهذا الكلام، أنا أعمل كل هذا من أجلكم.

وجدتني أحتدُّ أنا أيضاً.

- نحن نريدك أنت، نريد سليمان النقي الطاهر، الذي يدافع عن الحق، ويقف مع الناس الشرفاء.

أمسكتُ بيديَّ طرف طاولة الطعام، وواجهته.

- نسيتَ يا سليمان؟! لقد وعدتنا، أنا وبيقونيا وغابرييل، أن توقف المجزرة التي تخطط أمريكا لغرسها في لحمنا، وها أنت تغرسها في لحمي وفي لحم ابنتك خولة.

استشاط غضباٌ.

نهض من كرسيه، وكأنه يريد أن أمحو كل وعوده من ذاكرتي:

- لقد قلت لكِ، زمن الشعارات انتهى.

اقترب مني، وقال كأنه يهددني:

- لقد وضعتُ أصابعكِ على نار الوعي، فهل تريدين أن تحرقينني مكافأةً لي؟!

شعرتُ أنه يحاول أن يدوس على كرامتي، فرددتُ عليه.

- لا تحاول يا سليمان أن تلغي استعدادي لقبول هذا الوعي، كان من الممكن أن أرفضك لمجرد أنك تعثرتَ أمامي، أنت تعرف أنني أحتقر الرجل الذي يتعثر، لقد قبلتُ تعثركَ تلك الليلة، أحببتك، ثم تزوجتك، لأنني أثق أن في داخلك إنساناً شريفاً قادراً على تجاوز تعثره.

- أتقصدين أنني لم أعدْ شريفاً.

استجمعتُ رباطة جأشي، استعذتُ في داخلي من الشيطان، ثم قلت له:

- اجلس يا سليمان.

- لن أجلس، قولي، ماذا لديكِ؟!

- أرجوك يا سليمان، اجلس.

جلس.

تنهدتُ، ثم طالعتُ في عينيه:

- أتسمح لي أن أسألك سؤالاً؟!

ردَّ بلا مبالاة:

- اسألي ما شئت.

- ضيوف سهراتك، هل هم مهندسون، أمْ موظفو الإدارة العليا؟!

ضرب بيديه طرف الطاولة، ثم غادر غرفة الطعام.

أحسست أنني أوصلتُ ما أريد أن أقوله، لعله يعيد حساباته، لكنه لم يفعل.

شعرتُ به مقتنعاً بكل ما يعمله، لذلك لم أشأْ أن أتدخل في قناعاته.

صرتُ كلما أجد فرصة، أسأله:

- ماذا فعلتُ مع الجامعة؟!

كنت أريد أن أكمل ساعاتي، لأجد مجالاً، أهربُ فيه من أسوار البيت.

- تخصصك غير مقبول في الجامعة، ليس لديهم هندسة ديكور.

- وماذا أفعل بالسنوات التي درستها؟!

- يريدون أن تختاري مجالاً آخر.

- هذا يعني أن أبدأ من جديد.

صارتْ خولةُ تأخذ جلَّ وقتي.

أخذتْ تعوضني عن سليمان، الذي انصرفَ عني كليةً.

كانت خالتي تحاول دائماً أن تخفف عني.

- كل الرجال هكذا، لا يهتمون إلاّ بأعمالهم.

- أنت لا تعرفين سليمان يا خالتي، لقد كان يضعُ الشمس بين يديه من أجلي.

- لقد تبدلتْ الأحوال يا حبيبتي، لقد كان يدللكِ؛ لأنه لم يكن له في العالم سواكِ.

- هل هذا يعني أنني فقدته إلى الأبد؟!

فكرتْ قليلاً ثم أجابتْ:

- لم لا تحاولي أن تدلليه، ربما أحسَّ أنك مشغوله عنه بخولة.

نهضتُ لأحضر حليب خولة، وعندما عدتُ، قلت لخالتي:

- معكِ حق.

كان قد بقي على عيد زواجنا يومين.

كان سليمان أثناء دراستنا، يهتم كثيراً بهذه المناسبة، يشتري لي هدية نفيسة وباقة ورد كبيرة داخلها بطاقة تقطر غزلاً.

في صباح عيدنا، أفقتُ باكرةً.

جهزتُ له الحمام، ووضعتُ له على طرف البانيو طقم المناشف البيضاء المنقوش عليها قلوب حب حمراء، وزجاجة العطر الذي يحبه.

أنهضته برفق، وأنا أعبث بشعره.

- قمْ يا حبيبي.

قام، وهو يفرك عينيه، ثم دخل الحمام.

فتحتُ الستائر، رتبتُ السرير، ثم نزلت إلى المطبخ.

أعددتُ له إفطاراً خفيفاً وكوباً من القهوة.

وضعتُ الإفطار على الطاولة بجانب المزهرية الصغيرة، التي ملأتُها وروداً حمراء.

توجهتُ إلى الصالة، وأخرجتُ من درج المكتبة، واحداً من أشرطة بوب مارلي التي أحضرتها معي من أمريكا.

أدخلتُ الشريط، في آله التسجيل، وبحثت عن أغنية "الجسر."

سمعتُ خطواته، وهو ينزل العتبات، فضغطت زر التشغيل، ثم ركضتُ إلى المطبخ.

سمعته، وهو يوقف الشريط.

طللتُ من باب المطبخ، فإذا هو يخرجه، ويرميه في الدُرْج.

بحث عن شريط آخر، ثم أدخله، وسمعتُ موسيقى أغنية "يامسهرني" لأم كلثوم.

دخل المطبخ، قلت له:

- صباح الخير يا حبيبي.

- صباح النور.

طالع الطاولة، ثم قال باستغراب:

- هل كل هذا الأكل لي؟!

- أجل.

قرّبَ كوب القهوة، وأخذ يتناولها بسرعة.

قال، وهو يقوم، دون أن يأكل شيئاً:

- ربما ساتأخر اليوم، سوف أمرُّ على صاحب البيت لأُسددَ له الإيجار.

متى ستذهب له؟!

- عندما أنتهي من عمل المكتب، في حوالي التاسعة مساء، لماذا؟!

- لا شيء.

رافقته إلى الباب، وعندما خرج، قلتُ له:

- إلى اللقاء يا حبيبي.

جاءتني خالتي كعادتها في العاشرة صباحاً.

خرجتُ أنا وإياها إلى السوق، واشتريتُ لسليمان طقم أقلام مذهّب، وخاتماً من الفضّة.

انتقيتُ له باقةً كبيرة من الورد الأحمر، وحرصتُ أن ينسقها البائع على شكل قلب حب.

اخترتُ بطاقة عيد زواج جميلة، ثم عدت أنا وخالتي إلى البيت.

أصَّرتْ خالتي أن تأخذ خولة لتنام معها.

- سوف تزعجكِ.

- لا تقلقي، أريدك أن تتفرغي الليلة لزوجكِ، في الصباح، سأحضرها لكِ.

وضعتُ باقة الورد على السرير، إلى جانبها الهديتين ملفوفتين بورق أحمر.

كتبتُ على البطاقة.

"سليمان.

أتذكرُ عندما لامستْ كفُّكَ كفي لأول مرة؟!

لحظتهّا تخيلتكَ تقول لي:

- يا هيفاء الغربة سكين يعبثُ نصلها في لحم شتاتكِ، ولن تستفيقي من غيبوبة سمِّها، إلاّ إذا وجدتِ من يضمّد نزيف أيامكِ الباردة.

وتخيلتني أردُّ عليك:

- أأنت الذي ظللتُ أبحث عن فيئه في شموس يتحدى حرُّ كل منها الآخر؟! أأنت الذي ستذيب شمع منكبيَّ اللذين هدتهما قوارض الصحراء؟!

وكنتَ أنت يا سليمان.

أسلمتكَ وحشتي، فهدأتْ معكَ جنّياتُ اضطرابي.

منذ بلوغي، كنت أتصور، أنني لو أفتح بابي لرجل، فإنه سينخر بسوسه جدراني، ليصل إلى جسدي الذي خبأته في مصباح سحري.

أنت الذي وصلتَ إلى مصباحي، وأخرجتني من حبسي.

منحتكَ قلبي وجسدي، هزائمي وحزني.

رأيتك تقاتل جنياتي، وتصرعهن واحدة تلو الأخرى.

كنت فارساً شهماً يا سليمان.

علّمتني كيف أرفع يدي في مواجهة أسئلتي، استلُّ أجوبتي من فضاء الناس، لكي أكون جديرةً بهم.

فتحتَ لي قماقم الماضي والحاضر، وجعلتني أرى المستقبل على بللور يديك.

وها نحن في المستقبل يا سليمان.

ها أنا ذا أشاهدكَ حائراً أمام سراديب البلاد، التي وسمتَها على جلدك.

وأخافُ أن تحرقك.

لا أعرف لماذا غيرّتَ صباح اليوم أغنية "الجسر"، ولماذا تجاهلت حفاوتي بك.

مهما يكن السبب، فإنني أسامحك.

وسأسامحكَ أيضاً إذا كنتَ قد نسيت أن اليوم هو عيد زواجنا السابع.

أسامحك، وأحبك."

في الثامنة والنصف مساءً، اتصلتُ عليه في المكتب، فوجدتُ خطَّه مشغولاً.

فتحت دولاب ملابسي، ولبست أجمل قمصان نومي.

سرّحتُ شعري، ثم كحّلتُ عينيَّ، ووضعت صباغاً أحمر على شفتيّ.

أشعلتُ بخوراً، وصرتُ أدور به في أرجاء الغرفة، ثم بخرّتُ به جسدي.

اتصلتُ مرة أخرى، لكن الخط لا يزال مشغولاً.

اتصلتُ على خالتي، لكي أطمئن على خولة.

- إنها نائمة، هل جاء سليمان؟!

- إنه لا يزال في المكتب، اتصلت به أكثر من مرة، لكن خطه مشغول.

- أتعتقدين أنه نسي؟!

تنهدت:

- لا أعرف يا خالتي.

- أخشى أنه سيحضر لنا بعد أن يخرج من المكتب، لقد دعاه عمك إلى سهرة الليلة.

- لا أعتقدُ أنه سيحضر، إنهما ليسا متفقين مؤخراً.

- لماذا؟!

- لا أدري.

- لقد لاحظتُ ذلك أنا أيضاً، عمكِ لا يمتدح سليمان، يقول إنه دعا مهندساً مرة، وأنه قال له إن سليمان يستغل كل أنشطتهم لصالحه و.....

صمتتْ، فأحسستُ بنغزة في قلبي.

- وماذا يا خالتي؟! قولي أرجوك.

- كلام يا هيفاء، كلام فارغ.

- أريد أن أعرفه.

- يقول إن الإدارة منحته البيت الذي تسكنون فيه.

ازدادتْ النغزةُ حرارةً.

- معقول؟! يعني أن البيت الذي نحن فيه صار ملكنا.

- لو كان ذلك صحيحاً، فالأمر عادي، ربما منحوه البيت مقابل تفانيه في عمله، وهؤلاء المهندسون يحسدونه.

- لكنه لم يقل لي.

- ربما ينتظر الوقت المناسب، وربما يكون الكلام غير صحيح، مجرد إشاعة.

لم أجد ما أقوله، فقالت خالتي:

- اصبري عليه، مع الوقت سيظهر كل شيء.

عدتُ، فاتصلت بسليمان، فوجدت الخط لا يزال مشغولاً.

بدأت أضيق بهواجسي.

- مع منْ يتكلم كل هذا الوقت؟! من هذا الشخص الذي لا يجد إلاَّ الهاتف ليتحدث معه؟!

ظلَّ خطه مشغولاً حتى الثانية عشرة، بعدها صار لا يرد، فعرفتُ أنه ترك المكتب.

بعد نصف ساعة، جاء.

دخل الغرفة، فوجدني جالسة على الأريكة.

طالع الورد، فظهر على وجهه الاستغراب.

فتح البطاقة، قرأها، وهو يجلس على طرف السرير.

أعادها للظرف، دون أن يكتسي وجهه بأية مشاعر.

فتح الهديتين، طالعهما كل واحدة على حدة، ثم وقف.

اتجه اليَّ، انحنى، وقبلّني على خدي قبلّةً باردة.

- لقد سامحتيني سلفاً، أعرف أنكِ تقدّرين مشاغلي.

سألته:

- هل ذهبت إلى المالك، لكي تسدد إيجار البيت؟!

- أجل.

- متى خرجت من المكتب!!

- في حوالي التاسعة والربع، وأصرَّ أن أبقى معه على العشاء.

نهضتُ من الكرسي، ثم بدّلتُ ملابسي.

سألني:

- لماذا تبدلين ملابسك؟!

- سأذهب إلى خالتي لأحضر خولة.

طالع سريرها.

- أهي هناك؟!

- أجل.

- هل ستذهبين في هذا الليل وحدك؟!

- المسافة قريبة جداً.

- بل سآخذكِ بالسيارة.

دخلتُ إلى خالتي، فوجدتها تبكي، وإلى جانبها عمي، وهو يصرخ بكلمات منهكة.

- ولماذا تطهّرينه؟! هل هو ملاك؟!

ركضتُ إليها، وحضنتها، أحسستها صُدمتْ بدخولي.

سألتْني، وهي تمسح الدموع من عينيها:

- خيراً إن شاء الله يا ابنتي، ما بك؟!

- اطمئني يا خالتي، لقد جئت لآخذ خولة.

- خولة نائمة.

- لا بأس، أريد أن آخذها، أرجوكِ.

أكمل عمي:

- هيفاء مثل ابنتي، يجب أن تعرف حقيقة زوجها.

صرختْ به خالتي:

- عدْ إلى ضيوفكَ الآن يا رجل.

ردَّ عليها:

- لن أعود حتى تعرفَ كل شيء.

التفتَ إلي، وقال بلهجة أبوية حنونة.

- اسمعي يا ابنتي، لا تظني أن كلامي هذا كلام رجل يهذي، كل الضيوف الذين عندي يشتغلون مع سليمان، إنهم يحلفون بأنه انتهازي، جاءته منحة خاصة من الإدارة، البيت الذي تسكنون فيه.

صاحت به خالتي:

- اسكتْ يا رجل، اسكتْ.    

لكنه أكمل:

- ليت الأمر انتهى عند هذا الحد، إنه على علاقة مع ابنة أحد كبار الموظفين، وقد يتزوجها، تقرباً منه.

واجه خالتي:

- وهذه المخبولة تدافع عنه.

استدار، وصار يمشي مترنحاً باتجاه غرفة الضيوف.

دخل الغرفة، ثم صفق الباب وراءه.

خبأتُ وجهي بكفيَّ، وأطرقت برأسي.

مسحتْ خالتي شعري، وهي تنشج.

- لا تصدقي هؤلاء المجانين يا هيفاء، إنهم حاقدون على زوجك؛ لأنه أكثرهم نجاحاً،

رفعتُ رأسي لخالتي، وهمستُ لها:

- سليمان ينتظرني بسيارته، أخرجي، وقولي له: هيفاء لن تعود معك.


 

الرياض - 8:

13 نوفمبر 1990 م

بمجرد أن وصلتُ المكتب، اتصلتُ بوليد، فلم يرد.

طلبتُ ماريان، فلم تردْ هي الأخرى.

خرجتُ من مكتبي غاضباً.

أدرتُ مقبض مكتبها، فوجدته مغلقاً.

سقطتْ عيناي على ساعتي، طالعتُها، وجدتُها تشير إلى السابعة والنصف، فهدأتْ ثورتي. رجعتُ إلى مكتبي.

أسندتُ رأسي على ظهر المقعد، ثم فركتُ عينيّ.

كان الوقت يمر ببطء.

كنتُ قد انتهيتُ من كتابة سيرة هيفاء، بعد أذان الفجر بدقائق.

أحسستني مملوءاً بصفاءٍ، لم أشعرْ به منذ سنين.

- هل لأنني قرأتُ هذا النص؟! أهو الذي أبرأَ بُهاقَ روحي، وجعلني أسابقُ الفراشاتِ إلى شلاّلاتِ الضوء؟!

عندما بدأتُ بالكتابة، شعرتُ أنني أغزلُ جلدَ هيفاء، ثم أكسو به عظامَها.

كنتُ خارجَ دقّاتِ الساعة، تلتفُّ على أصابعي عقاربُ أوراقها الأنيقة، فأستلذُّ بلدغاتها.

- إذن، فهو فرحُ الكتابةِ التي كانت قد بارحتْ ريشتي؟!

لم أجدْ لإعادتي صياغةَ نصّها مبرراً.

هزمني الفتيلُ الذي اشتعلَ فورَ انتهائي من قراءة سيرتها، فجعلتُهُ ينفجر بي محطماً لثاماتي وبخوري  ومروج زجاجي، والصوت الذي كان يحاصرني بأسئلته الإستفزازية.

غصتُ معها في مقابرها المرجانية، ورأيتها تنتشلُ الجثثَ من محارات تقشَّفَ لؤلؤُها وتصعدُ بها، مثل حورياتِ الأساطير، إلى شواطئ صحّرتْها الخرافة.

لم أتدخلْ كثيراً في روح النص، بل بجسده: بلغته وصياغته.

كأنَّ الأحداثَ المتسلسلة ببساطة، مشاهدٌ مخبأةٌ في وسادة نائية، نام عليها رأسي ذاتَ حلم. وكأنها عندما رصدتْها بهذا الصدق، نفضتْ قطنَها الأبيض في إسوداد ذاكرتي، وجعلتني أكتب.

أدخلتُ الأوراقَ في نفس الظرف، وقمتُ لكي أتوضأ.

خرجت، أنا ومالكُ بيتي سوياً من المسجد.

صافحني، وهو يرتدي نعاله، وظلَّ ممسكاً يدي، ونحن نعبرُ الباب إلى الشارع.

قال لي:

- سامح الله هذا الزمن، نحن جيران، لا يفصل بيتنا سوى جدار واحد، ومع ذلك لا يرى بعضنا بعضاً إلاّ مصادفةً.

- هذه حال الدنيا اليوم، كلٌ مشغول بهموم نفسه.

تركّ يدي، ثم أخذ يحكٌ كتفه.

- وما النتيجة؟! غداً أو بعد غد، تقوم الحرب، ومن يدري أي أسلحة فتاكة يملكها صدام حسين؟! وكل الذي أفنينا عمرنا، نجمعه من أموال وعقارات، سيذهب في طرفةِ عين.

- أأنت متشائم إلى هذه الدرجة؟!

- بل أكثر من ذلك، لقد فكرتُ أن آخذ عيالي إلى الباحة، مسقط رأسي، لكي نكون في مأمن من صواريخ صدّام، لكنني قلتُ لنفسي: الباحة قريبة من اليمن، ربما يهاجم المملكة بالصواريخ التي خبأها عند علي عبدالله صالح. قالتْ أم العيال: نذهب إلى جدة، فرددت عليها، بأن جدّة قريبة من السودان، وفي النهاية، قررنا أن نبقى في بيتنا، وأن نستخير الله في أعمارنا.

ابتسمتُ مكملاً كلامه.

- الموت مع الجماعة رحمة.

استدرنا حول البيوت التي يقع المسجد خلفها، ومشينا باتجاه بيتنا، لا يقطع صمتنا سوى تسبيحه، وضجيج سيارات النظافة التي بدأتْ تجمعُ صناديق النفاية.

سألني:

- هل صحيح أن الدفاع المدني سيوزع علينا أقنعة مضادة للغازات الكيماوية؟!

- هذا إذا قررتْ أمريكا أن تشن الحربَ على العراق.

- ولماذا تعطي أمريكا الفرصة لصدام ليطلق علينا صواريخه الكيماوية؟! إنها تملك أقوى الجيوش، فلماذا لا تضربه ضربة ساحقة ونرتاح منه؟!

- ألم تقل لي أن لا أحد يدري أي أسلحة فتاكة يملكها صدام؟!

- نحن لا ندري، لكن أمريكا وفرنسا وبريطانيا تعرف، هذه الدول هي التي زودته بكل أسلحته المدمرة لكي يقضي على إيران، أنا ضابط متقاعد، وأعرف أموراً كثيرة تجهلها أنت.

- مثل ماذا؟!

اقترب مني، ثم قال:

- كل الذي يحدث، هو مقدمة لحرب ستقوم بالفعل، أمريكا تريد حقلاً لتجرّبَ فيه اكتشافاتها العسكرية المتطورة، لا تصدقْ كلام الجرايد من أن أمريكا تريد أن تضرب صداماً لأنه يهدد النظام العالمي الجديد، أمريكا يا أبا هاجر ستغْنمُ من هذه الحرب مليارات لا يمكن أن تتخيلها، الأمريكان تجار حرب، لا تنفع معهم قضايا السلام والاستقرار، التي يركض وراءها جورباتشوف.

وصلنا بيتنا.

أخرجَ كلُّ واحد مفتاحه، فأمسكَ بيدي:

- تفضل، دلّة القهوة جاهزة، خُذْ معي فنجاناً.

- لا، شكراً، أريد أن أنام قليلاً قبل الدوام.

تمددتُ على الفراش، وصرتُ أراقب، عبر زجاج النافذة، الضوء وهو ينفخ بشفتيه الباردتين شموع الليل، فتنطفئ، ثم يتصاعد دخان الظلمةِ في سماء النور.

نهضت، فتحتُ النافذةَ، وتوسلتُ للعصافير أن تأتيني بالشمس.

لا أدري لماذا كنتُ أستعجلُ الشروق.

فكّرتُ أن أوقظَ هاجر وهزيع للمدرسة، لكن الوقت كان مبكراً.

ذهبتُ إلى المطبخ، فتحتُ الثلاجة باحثاً عن حليب تطمئنُ له حموضتي، فلم أجدْ، عدتُ إلى غرفة الضيوف، التقطتُ مفاتيح سيارتي، وخرجت.

أوقفتُ سيارتي أمام السوق المركزي، الذي كان العمال الباكستانيون يفتحون أبوابه للتو.

اُفتتحَ السوق في حينا الجديد قبل عام، فاختصرَ لنا مسافاتِ التبضّع.

كان سوقاً مصغراً يضمُّ في مبناه المكّون من دورين، كل المواد الاستهلاكية التي تحتاج إليها الأسرة، باستثناء السجائر.

في أيام السوق الأولى، وفي أثناء جرد البائع مشترياتي، دخل شاب سعودي.

سألَ البائع    :

- أين أجد السجائر؟!

أجابه:

- لن تجدها، فنحنُ لا نبيعها.

تبرَّم الشاب، قال وهو يطالعني.

- من المؤكد أن صاحب السوق من مدينة بريدة.

وأضاف:

- لقد صدّروا هذا الأمر إلى كل المدن، من مدينة "بريدة" انطلقتْ ظاهرةُ تحريم بيع السجائر في البقالات، وفيها انتشرتْ محلات التسجيلات الإسلامية، التي تحارب علناً المحلات التي تبيع أشرطة الأغاني المرخصّة من قبل وزارة الإعلام.

وجدته متحمساً، يقول رأيه بصوت عال.

- انهم يحرقون في بريدة محلات تأجير أفلام الفيديو، ألم تسمع بالحادثة؟! لقد فتحوا أنبوبة غاز في أحد المحلات، ثم أشعلوا النار فيه. 

مدَّ لي البائع الباكستاني ورقة الحساب.

أخرجت محفظتي، والشاب لا يزال يكمل كلامه.

- مسألة السجائر نستطيع أن نحلها، إن لم نجدها في هذا السوق، نجدها في السوق المجاور. لكنني أخاف أن تمتدَّ الظاهرة إلى كل المحلات فنضطر بعد ذلك إلى تهريب السجائر من الخارج.

بعد أن خرج الشاب من السوق، سألني البائع بفضول عفوي.

- ما هذا الجهاز الذي في جيبك؟!

أجبته:

- انه جهاز نداء رقمي، يسهل للمستشفى طلبي في أي وقت.

ومنذ ذلك الوقت، أصبح يعاملني كطبيب، يناديني بالدكتور، ويسألني عن حلول لمشكلاته الصحية.

كنت أجيبه من واقع خبرتي، وكان يتيح لي بالمقابل استخدام هاتف السوق، إذ لم يكن في الحي هاتفٌ سواه.

كان عندما يكون أحد يستخدم الهاتف، يستعجله قائلاً:

- الدكتور يريد أن يتصل بالمستشفى، لقد طلبوه على الجهاز.

التقطتُ علبتيْ حليب، وتوجهتُ إليه.

كان مشغولاً بتسلم الصحف المحليه من الموزع.

انتظرته حتى انتهى من وضع الرزم على الحامل، أعداد كل صحيفة بعضها خلفَ بعض.

قال لي، وهو يضغط زر الآلة الحاسبة:

- ثمانية ريالات.

سألته:

- ألم تصلْ جريدة الشرق الأوسط؟!

- لا، موزعها يختلف، ستصل بعد قليل.

سحبتُ نسخة من جريدة الرياض،  ووضعتها في الكيس.

- عشرة ريالات.

ناولته المبلغ ثم خرجت.

وضعتُ الكيس على مقعد السيارة الجانبي، وقبل أن أشغّل محرك السيارة، سحبتُ الجريدة وأخذتُ أُقلّبُ صفحاتها:

"أوضح وزير الدفاع البريطاني في حديث بثتْهُ شبكةُ التلفاز البريطاني المستقل أمس، أن العالم قد منح  صدام حسين وقتاً معقولاً لكي يمتثلَ لقرارات مجلس الأمن الدولي، إلاّ أنه إستنفد جزءاً كبيراً من هذا الوقت من دون أن يفهمَ أننا لا نضلله عندما نحذره بأن عليه الإنسحاب، أو مواجهة العواقب المترتبة على ذلك. وحول إمكانية اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي الاستصدار قرار جديد يخوّل استخدام القوة وفقاً للمادة 15 من ميثاق الأمم المتحدة وبناءً على دعوة من الحكومة الكويتية، حذَّر العراق بشدّة من استخدام الأسلحة الكيماوية مُشدداً أن ذلك الأمرَ ستكون له عواقب وخيمة جداً".

وضعتُ الحليب على النار، ثم أيقظتُ فاطمة وهاجر وهزيع.

سألني هزيع وهو يفرك عينيه:

- هل اليوم خميس يا بابا؟!

- لا يا حبيبي اليوم ثلاثاء.

نزل من سريره.

حضنني وهو يتأفف.

- يعني سنذهب إلى المدرسة؟!

رفعته عالياً، فصار يضحك.

قلت وأنا أطالعه رافعاً رأسي إليه:

- التلميذ الشاطر يحب المدرسة.

أنزلته، فطلب مني متوسلاً:

- إقذفني في الهواء يا بابا مثلما كنت تفعل بي عندما كنت صغيراً.

ردّتْ عليه هاجر وهي تراقبنا مبتسمةً بصفاء صباحي:

- سيرتطم رأسك بالسقف.

صرخ في وجهها:

- هذا ليس شأنك.

ثم التفت إليَّ، وهو يمسح ذقنه بأصابعه.

- الله يخليك يا بابا، مرة واحدة فقط.

كانت والدتي تقول: إن هزيع صورة مكررة مني.

- قبل أن يصيبكَ الربو، كان جسدك ممتلئاً، وجهك أبيض، وشعرك غزير وأسود، كليلٍ خالٍ من القمر، مثل هزيع الآن. كنتُ دائماً أضع تميمةً في مهدك لكي أحميك من حسد جاراتي اللاتي يجتمعن عندي في كل ضحى. أطلبُ من أختك هيلة أن تقضي كل الوقت عندك حتى يخرجن. وكنت أُلقّنها قبل أن تأتي جارتي، بأنني اذا طلبتُ منها أن تحضرك لكي يرينكَ أن تقول إنك نائم. ذات مرة سمعن صوتكَ وأنت تبكي. قالت إحداهن، أحضريه كي نراه. وبعد أن غادرنني، لم ترَ أنت العافية. كان أبوك محاسباً في المدرسة العسكرية، ولم يكن في "الرّس"، التي كانت حينها ضاحية من ضواحي القصيم، سوى الوحدة الصحية لهذه المدرسة. قال طبيب الوحدة أنك مصاب بالربو، بكيتُ أمام أبيك، أكدّتُ له بأن هذا الذي يخنقك، فلا يجعلك تتنفس، هو شيطان الحسد، الذي انطلق من عين واحدة من جاراتي. قال طبيب الوحدة: خذوه إلى الرياض، فهناك مستشفى مركزي، ربما ينقذونه من الموت. منعته من الذهاب فالمسافة بين الرس والرياض بعيدة، وحافلات "الأبلكاش" التي كانت وحدها تقطع هذه الصحراء، تأخذ ثلاثة أيام لكي تصل إلى هناك. فضّلنا أن تموت بيننا وأن ندفنك في مقابر الرس. صرت أحسب الليالي، وأنا أراك تذبل حتى صرت مثل عود السواك. اسوّدَ وجهك وازرورقّتْ شفتاك، كنت أضع على جسدك غطاء وجهي، وأوجهك إلى القِبلة، في انتظار أن تفيض روحك. زارتني " أُم الوصيل" ذات ضحى، فوجدتني أتربع على الأرض إلى جانبك وأنت من شدة اختناقك تهتز، والزبد يتجمع على أطراف شفتيك. طلبتْ مني أن أنادي هيلة، ناديتها فقالت لها، أحضري طاسة ماءٍ ومنشفة. ركضتْ هيلة واحضرتْ ما طلبتْه منها، أفهمتْها أن تدور على بيوت جاراتي، وأن تمسح، دون أن يراها أحد، عتبات بيوتهن بالمنشفة المبللة. بعد أن خرجتْ هيلة، قالتْ لي: إذا كان ولدكِ محسوداً، فهذا هو الذي سيكتب له الشفاء بإذن الله. عادتْ هيلة، أخذتْ أم الوصيل المنشفة منها، عصرتها في الطاسة، وقالت لي: شربيه إياه، وسأرجع اليك في المساء. عندما رجعتْ كانت حالتك تزداد سوءاً. همستْ في اذني: الولد ليس محسوداً، طبيب الوحدة على حق. طالعتْ في عينيّ، ثم سألتني: هل تثقين بالله ثم بي؟! أجبتها وأنا أعرف مهارتها في المداواة الشعبية. أجل. طلبتْ مني أن أحضر لها موقد جمر وسيخ حديد. كوتْ صدرك، ثم كوت جبينك، ثم هامة رأسك. كان قلبي يعتصرُ ألماً وأنا أراك تتشنج باكياً. أخذتُ أنا وهيلة نبكي ونحن نردد سور المعوذات، التي طلبتْ أم الوصيل أن نتلوها وهي تقوم بكيّك، بعد أن انتهتْ أخذت تقرأ سوراً من القرآن وأحاديث نبوية، وهي تهزك على فخذها إلى أن نُمت. نُمتَ يوماً كاملاً، توقعتُ أثنائه أنك لن تصحو أبداً، وبعد أن أفقتَ، بدأتْ العافيةُ تعود إلى وجهك.

كنتُ كلما أدخل على والدتي، وأنا أمسكُ يدَّ هزيع، تحضنه، ثم تأخذ تقرأُ عليه معوذاتها.

كانت تذكّرني دائماً.

- تَصّدقْ عن أم الوصيل، لقد أنقذتْ- رحمها الله- حياتك، وستكون صدقاتُك دفعاً للبلاء عن هزيع.

 لماذا هزيع فقط يا أمي؟! وهاجر؟!

وكانت تحضنه بخوف.

- لأنه صورةٌ منك، أشباهه، حركاته، ضحكته، هدوؤه،كل شيء، أخذه منك.

قلت له:

- حسناً يا هزيع، استعد.

بكل قوتي، قذفته في الهواء، ثم استقبلته بما أوتيتُ من حرص.

لم يكن خفيفاً، كما توقعت.

بمجرد أن سقط بين يدي، أرخيته إلى الأرض وهو يضحكُ سعيداً.

شعرت بألم شديد في صدري، ووجدتني اتهاوى على الأرض.

صرختْ هاجر:

- بابا.

تكومتُ حول نفسي، ضاغطاً بركبتيَّ وذراعيَّ على صدري.

ركضتْ هاجر إلى فاطمة.

هرولتا إليّ، وهزيع واقف إلى جانبي لا يعرف ماذا يفعل.

دفعتْ فاطمة هزيع بعيداً عني، فأخذ يبكي خائفاً.

كابدتُ ألمي، وجلستُ على الأرض.

قلت لهزيع مبتسماً:

- تعال يا حبيبي.

متردداً، أقبل عليّ، فحضنتُه.

قلت له، كي أخفف توتره:

- لقد صرتَ رجلاً يا حبيبي.

- سامحني يا بابا.

نهضت، لكيلا أجعله يحسُّ بالذنب.

- هيا يا بطلْ، استعد للمدرسة.

فتحتْ ماريان الباب عليّ.

- صباح الخير.

- صباح النور يا ماريان.

- هل طلبتَ قهوتك، أم أطلبها لك.

- عم ابراهيم لم يحضرْ حتى الآن.

قبل أن تغلق الباب، قلت لها:

- بمجرد أن يحضر وليد، اطلبي منه أن يأتي إليَّ.

وضعتُ ظرف هيفاء أمامي.

كنتُ سأفتحه.

شعرتُ برغبة في إعادة قراءة ما كتبته.

مددتُ أصابعي داخل الظرف، لكني أخرجتها مرة أخرى.

 متى يأتي وليد؟!

كان النشاط يغمرني، وكأنني نمتُ ليلتي كاملةً، على سرير لم تنغصّه الكوابيس.

أعدتُ نفس السؤال.

- هل هذا لأنني عدتُ أكتب؟!

فتحتُ دُرجي الخاص، الذي كنتُ أحتفظ بداخله بنسخه من كل الأعمال الأدبية التي أنجزتها. تذكرتُ أنني لم أفتح هذا الدرج منذ زمن طويل، أخذت أتفحص غلاف المجموعة القصصية الأولى التي طبعتها في القاهرة عام 1987م، ثم غلاف المجموعة الثانية التي طبعتها في بيروت عام 1989م. كانت إدارة المطبوعات في وزارة الإعلام قد أعادتْ إليّ مخطوطة المجموعة الثانية بعد أن ملأها الرقيبُ بالملاحظات المدوّنة بقلم أحمر.

منذ أن بدأتُ في نشر محاولاتي القصصية في الصحف المحلية، عام 1979م، وأنا أضع للرقيب الصحفي ألف حساب. وكنتُ أرضى أن يحذف مقطعاً أو جملة أو كلمة في سبيل أن ينشر النص في الجريدة أو المجلة. كان الرقباء الصحفيون، محررين ثقافيين. قصاصون أو شعراء، لكنهم كانوا يحرصون على عدم تعرض الجريدة، أو المبدع نفسه إلى مشكلات مع وزارة الإعلام.

- أتريد أن يمنعوكَ من الكتابة ؟!

- هل يستطيعون أن يفعلوا ذلك؟!

ضحك المحرر وهو يقلّبُ أوراق قصتي المكتوبة بخط متأنٍ.

- أنت لا تزال في بداية طريقك. الوزارة تستطيع أن تمنعكَ من الكتابة.

أضاف، وهو يشطب سطراً من مقدمة القصة.

- إذا لم تستطعْ أن تقول كل الحقيقة، قلْ نصفها.

وبعد أن عملتُ محرراّ ثقافياً في الجريدة، خلقتُ في داخلي رقيباً ذاتياً، لكنه كان أقلَّ حدّة من الرقباء الآخرين.

نُشرَ ذات عدد، عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، قصة للروائي والشاعر الفلسطيني عبداللطيف عقل. وكان يروي في إحدى مقاطعها أن جريحاً فلسطينياً كان يدعو، وأن الدعاء اصطدمَ بطائرة إسرائيلية، فارتدَّ إليه وقتله. مرَّ هذا المقطع دون أن تتيح لي حالة الإحباط العامة، الانتباه لمغزاه. 

طلبتْ الوزارةُ من رئيس التحرير، ورئيس القسم الثقافي تبريرَ نشر هذا الإلحاد، وحُوّلتْ القضية إلى الشرع، وأصبح رئيس التحرير لا يثق بصفحتنا اليومية. يقرأها حرفاً حرفاً، ويشطب منها المادة تلو الأخرى.

ذات مساء، أحال لنا قصيدة للدكتور غازي القصيبي، وزير الصناعة والكهرباء ووزير الصحة المكلّف آنذاك. عندما قرأتها، صعقتُ. فهي تحمل في مضمونها عتاباً واضحاً للملك، وكان قد كتبها على شكل رسالة من المتنبي إلى سيف الدولة، يحذّره من الوشاة الذين سيوقعون بينهما.

كان الملك فهد، قد كلّف الدكتور القصيبي بأن يتولى مهام وزير الصحة بالنيابة. ومنذ ذلك الحين بدأ القطاع الصحي المهمل،  في الإزدهار. كان الناس قبل القصيبي، يُسمون مستشفى الرياض المركزي، سفينة الموتى، لأن معظم الذين يطلبون الشفاء منه بعد الله، يخرجون إلى المقبرة. وبعده، صار "غازي"، على رأس الأسماء التي تختارها النساء لمواليدهن. والأهم من ذلك، أن تغييرات الوزير الإدارية في القطاع الصحي، أثارتْ حفيظة عدد كبير من المسؤولين،  الذين غضبوا من تزايد نجومية الوزير المكلّف.

لم نتناقش مع رئيس التحرير، الذي استغربنا لماذا لم يشطب كلمة واحدة من قصيدة الوزير.

نُشرتْ القصيدة، فانفجرتْ الدولة. وكان للإنفجار ضحاياه.

أُقيلَ القصيبي من منصبه. ثم أقيل رئيس التحرير وجميعنا، نحن محررو القسم الثقافي بالجريدة.

وضعتُ المجموعتين جانباً، ثم صرتُ أتفحص مخطوطات المجموعات الجاهزة للطبع.

ثلاث مجموعات آخرها، المجموعة التي أنتجتُها أثناء عزلتي.

طلب مني أحد المثقفين، نسخةً من هذه المخطوطة.

أعطيته النسخة، وطلبتُ منه أن يعيدها إليّ.

- لا تصوّرها.

- لماذا؟!

- لا أريد أن يقرأها أحد.

بعد يومين أعادها إليّ.

- ما رأيك فيها؟!

جلس على الكرسي المواجه لمكتبي، ثم أشعل سيجارة.

- هل أنت راضٍ عنها؟!

- قد لا تصدق أنني كلما تخنقني الكآبة، آخذ أقرأُ بعضاً من نصوصها،  فترتاح نفسي.

- ربما لأنك فخور بعزلتك. لقد سمعتُ من صديق قريب لك، أنكَ تدّعي بأنك انتصرتَ على ذاتك عندما اعتزلتنا، لأننا كنا عبئاً عليك. أنا بالمناسبة، أتحفظ جداً على هذا الادعاء.

رددتُ عليه بهدوء:

- أنت تعرف أنني أحترمكم جميعاً، لكنني لم أستطع التآلف مع أجوائكم. المسألة لا تتضمن أي إدعاء.

- ما بها أجواؤنا؟! إنها الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نلتقي، وأن نوحّدَ مواقفنا. ليس هناك إتحادات أو نقابات أو أحزاب تجمعنا. كلها محرّمة في هذا البلد. لذلك كوّنا شللاً في منازلنا. موقفك من أجوائنا نابع، ربما، من مشكلة تعاني منها.

أشعلتُ سيجارة، ثم طلبتُ ماريان:

- ألم يأتِ وليد بعد.

- لا.

طالعتُ ساعتي، فوجدتها تشير إلى التاسعة وعشر دقائق.

قالتْ لي:

- أتريدني أن أساعدك في شيء؟!

- أريده هو، ما الذي أخّره؟!

- هل أتصل به في البيت؟!

- أجل.

وضعتُ السماعة، ثم سمعت طرقاً على الباب.

- تفضل.

دخل وليد، فطالعته بعينين مستريبتين.

قلت له مبتسماً:

- صح النوم يا أستاذ.

ابتسم هو أيضاً.

- صح بدنك. أنا آسف لتأخري.

جلس أمامي، ثم استطرد.

- لقد حدثتْ مشكلة في بيتنا ليلة البارحة.

سألته:

- خيراً إن شاء الله.

أجاب، وهو يتنهَّد.

- لقد دخلتْ زوجتي غرفة الخادمة لتعرف لماذا تحبس نفسها، فوجدتها تبكي بحرقة، سألتْها عن السبب، فقالتْ وهي منهارة، بأنها حامل. صرختْ زوجتي في وجهها، لكي تخبرها مِنْ مَن؟! لكنها ظلَّت صامتة، أخذتْ تصفعها وتشدُّ شعرها، دخلتُ على صوت صراخها، أبعدتُ زوجتي عنها، فركضتْ الخادمة خارج الغرفة، لحقتْها، فلحقتُهما. عندما أمسكتُ ذراع زوجتي، أبعدتْني، صارخةً بي: دعني. صرختُ بها: ما الأمر؟! قولي لي كي أفهم. 

طالعتني بعينين حارقتين: إنها حبلى، ولا تريد أن تقول مّنْ الذي أحبلها. طلبتُ منها أن تهدأ لكي أتصرَّفُ أنا معها، أجلستها، ثم طلبتُ من الخادمة أن تعود إلى غرفتها. قلت لزوجتي بأنني سأتحدث مع الخادمة بمفردي، فرفضتْ قائلةً: رجلي على رجلك. دخلنا على الخادمة، وهي لا تزال تنتحب، قلت لها: إذا لم تقولي، سأذهب بكِ إلى الشرطة وسوف يعذبونك حتى تعترفي. أرختْ رأسها، فصرخت زوجتي بها: قولي يا بنت الحرام. زعقت الخادمة خائفة: أريد أن أعود إلى بلادي. رددتُ عليها: اذا اعترفت لنا، سأعيدك، وكأن شيئاً لم يكن. قالتْ بإنكسار: أخوكَ هو الذي أغراني، كان يجيء في الصباح حين تكون أنت والمدام  في الشغل، كان يحضر لي هدايا وأشرطة الأغاني الرومانسية، كنت في أول الأمر، أسمح له أن يقبّل خدي فقط. لكنه قبل شهر قبّل شفتيَّ، ثم أجبرني أن أنام معه. أخذتْ تبكي. قالتْ زوجتي، وعلامات الأسى بادية على وجهها: قبّحكما الله، أما أنا فلقد دارت الدنيا أمام عينيَّ، فهذا هو أخي الوحيد.  لا يزال في مقتبل حياته. سألتها: هل يعرفُ أنك حامل؟! هزّت رأسها وهي تقول: لا، أغلقتُ الباب عليها، ثم اتصلتُ على أخي، بعد نصف ساعة جاء، طلبتُ منه أن يدخل إلى غرفة الاستقبال. أغلقتُ الباب، وجلست إلى جانبه، أخبرته بالقصة، فارتبك. سألته، وأنا أراقب يديه اللتين أخذتا ترتجفان: هل حدث هذا فعلاً، أجابني: أجل، ابتلع ريقه قبل أن يسألني: هل عرفتْ زوجتك؟! رددت عليه منفعلاً: أتهمك سمعتك إلى هذه الدرجة؟! لماذا لم تفكر بها قبل أن تفعل فعلتك الشنيعة هذه؟! تمالكتُ أعصابي ثم قلت له: ألم تخف من الله؟!

رنَّ هاتفي، فالتقطته.

قالتْ لي ماريان:

- وليد غير موجود في البيت، قالتْ لي زوجته أنه خرج قبل قليل إلى المستشفى.

قلتُ لها:

- وليد عندي الآن.

ثم بادرتُه.

- أنا آسفه، يبدو أننا أزعجنا زوجتك، لقد طلبتُ من ماريان أن تتصل على بيتكَ لتعرف لماذا تأخرت.

- لا بأس، هي لم تذهب إلى العمل اليوم على أيه حال، قالتْ إنها لن تترك بيتها حتى أُسفّر الخادمة إلى بلادها، لقد عشتُ البارحة ليلة عصيبة، كان تشقُّ رأسي هموم ثلاثة، أخي الذي طعنني من ظهري، خانَ حرمة بيتي من أجل نزوة طارئة، زوجتي التي حلفتْ بالله ألاَّ تطأ قدمها مكاناً فيه أخي، والمشاق التي سأتكبدها للحصول على تأشيرة ثانية.

سألته:

- هل قررتُ أن تسفّرها فعلاً؟!

- ليس لدي خيار آخر، وسأعطيها مبلغاً من المال لكي تجهضَ الجنين.

قال، وهو يقوم:

- ليتنا لم نعرف طريق الخادمات، لقد كانت حياتنا قبلهن، تسير على أفضل حال، لا أدري ما الذي طرأ علينا؟! حتى الإبرة، صرنا لا نعرف كيف نشبك الخيط فيها، دون خادمة.

رددتُ عليه:

- إذا كنت متعباً، تستطيع العودة إلى البيت.

- سأبقى حتى العاشرة، أستأذنكَ بعد ذلك لأذهب إلى وزارة الداخلية، لكي أبدأ في إجراءات استخراج تأشيرة خروج نهائي لها.

قبل أن يخرج، سألني:

- أتريد أن أُنهي شيئاً قبل العاشرة؟!

أخذت أقلّبُ الأوراق التي أمامي، كي أجعله يحس بأنني أحاول أن أتذكر ماذا أريد منه.

- أريدكَ أن تُحضر لي واحدة من المتطوعات.

سألني مندهشاً:

- أي واحدة منهن؟!

- هيفاء، أعتقد أنها في عيادة الأطفال، أليس كذلك؟!

حكَّ رأسه، ثم أجاب:

- بالضبط، إنها في عيادة الأطفال، لماذا تريد أن تراها؟! أتريد أن تصبَّ على رأسها دوشاً حارقاً في كيفية التعامل مع المرضى؟!

تقدم باتجاهي، وهو يقول:

- أرفق بهن يا أخي، إنهن متطوعات.

ابتسمتُ له.

- هذه بالذات من أفضل المتطوعات، أريد أن أشكرها على حسن أدائها.

- لم لا تكتبُ لها خطاب شكر؟!

أحسسته سيغلق السُبل في وجهي، فقلتُ له:

- أتريد أن تستدعيها لمكتبي، أم أبحثُ عنها بنفسي؟!

قال مبتسماً:

- لا يا رئيسي العزيز، ابقَ في مكتبك، وسوف أستدعي لكَ من تشاء، يكفي أنك ستعفيني من العمل بقية اليوم.

أوصيته قبل أن يخرج:

- قل لها، إنني أريد أن أناقشها في الأوراق التي قدّمتْها لي، وأنني أفضّل أن أراها في مكتبي قبل استراحة الغداء.

- ليس لديَّ عِلمٌ بهذه الأوراق، هل لها علاقة ببرنامج التطوع؟!

- إنها مجرد اقتراحات، طلبتُ منها أن تسجلها لي، سوف أحيلُ لك صورةً منها، بعد أن أصيغها بالشكل النهائي.

ولكي أمنعه من طرح المزيد من الأسئلة، قلت له:

- هيا، لا تُضيّعْ الوقت على نفسك.

أطلَّ نوّاف، موظف التشريفات، من خلف كتف وليد، الذي كان ممسكاً الباب نصف المفتوح.

ربتّ نواف على كتف وليد، وقال وهو يطالعني:

- هل متطوعاتكم الجميلات مستعدات للحرب؟!

امتعضَ وليد بمجرد أن سمع صوت نوّاف، فكأن تعابير وجهه، كانت تريد أن تقول لي، إنه لا يطيق هذا الصوت.

استدار وليد، متجهاً إلى مكتبه، دون أن يردَّ على السؤال.

أمسك نواف الباب، لكيلا ينغلق.

سألني مبتسماً، غير مكترث بتجاهل وليد له:

- هل أنت مشغول؟!

رددت عليه:

- حيّاك الله يا نواف، تفضّل.

- هناك أوراق لدى المدير، سأجلس معكّ، ريثما يوقّعها.

أطلقَ الباب، فانغلق.

اقترب مني، ثم وضع يده على جيبي.

- هل لديك سجائر؟!

كانت العلبة على طرف الطاولة الآخر.

تناولتها، وأنا أسأله:

- ما نوع سجائرك؟!

- لا يهم، المهم النيكوتين، نحن لا نستطيع أن ندخن في مكاتبنا تنفيذاً لتوجيهات معالي المدير.

أشعلتُ له السيجارة، ثم جلس.

سألته:

- هل يخاف أن يدخل عليكم أحد الوجهاء فجأة؟!

هزَّ رأسه، وهو يبتلع دخان السيجارة.

- الوجهاء لا يأتون فجأة، إننا نرتب لهم مواعيدهم بالدقيقة والثانية.

أشعلتُ سيجارة، ثم ارتشفتُ بعضاً من قهوتي الباردة.

وضعتُ كوبَ القهوة إلى جانب المنفضة، التي كنا أنا وإياه نشترك في وضع سيجارتينا عليها،

قاطعته:

- أتشرب قهوة أمْ شاي؟!

- هل لديك شيء بارد؟!

طلبتُ من ماريان أن تحضر له عصير برتقال.

طالعتُ في عينيه لأتذكّر ماذا كان يقول.

التقط مجلة "اليمامة"، الموضوعة على الطاولة الصغيرة مع صحف اليوم. 

سألني، وهو يقلب الصفحات الرياضية للمجلة:

- هل هذا هو العدد الجديد من المجلة؟!

سرح فكري بمنيرة.

- لماذا انقطعتْ عني؟!

واسترسلتُ في تفكيري.

- هل لا يزال عبدالعزيز في المخبأ؟! وما هي أخبار زوجته نورة؟! ألا تزال راغبةً في الانضمام لبرنامج التطوع؟!

تذكرتُ أن اليوم هو الثلاثاء، فأجبتُ نواف:

- أجل، إنه عدد اليوم.

- كنتُ أتوقع أن ينشروا حواراً مع رئيس نادي الشباب السابق، ليوضح أسباب تدهور النادي.

رددتُ عليه، بشكل لا ينمُّ عن اهتمامي.

- أنا أعرف أن نادي الشباب متفوق في جميع المجالات، حتى المجال الثقافي.

دخل العم إبراهيم. ودون أن يسألني، وضع العصير أمام نواف.

التقط كوب قهوتي، ثم سألني:

- هل أغيّره لك.

- ليس الآن. شكراً يا عم إبراهيم.

بعد أن شرب نواف شيئاً من عصيره، قال:

- مقياس سمعة النادي لدينا، هو كرة القدم، النشاط الثقافي مسألة تكميلية فقط.

وضع الكأس على الطاولة، ثم أكمل، وهو يلتقط سيجارته من المنفضة:

- شهرة النادي الرياضي، ترتبط بحصول فريق كرة القدم على كأس خادم الحرمين الشريفين، أو درع الدوري، أي لاعب كرة قدم سعودي، يحلم باللحظة التي يصافح فيها الملك، ليحصل بعد ذلك على مكرمات الوجهاء، الفلل والسيارات والسفر إلى أمريكا وفرنسا وبريطانيا، والسهر والمعجبات.

دقَّ وليد الباب، ثم أطلَّ برأسه من خلف الفتحة الصغيرة لكيلا يرى نوّاف.

- سأذهب إلى عيادة الأطفال.

هززتُ له رأسي، فأغلقَ الباب.

سألني نواف، وهو يشير بإصبعه إلى الباب:

- ما به وليد؟!

- لا شيء.

- إنه على غير عادته، أنا أعرف وليد جيداً.

مللتُ من رائحة التبغ، فأطفأتُ سيجارتي بقرف.

سألني، دون أن يلاحظ مللي:

- هل تعرف أنه كان لاعباً مشهوراً؟!

- سمعتُ أنه كان لاعباً، لكنني لا أعرف إلى أي مدى كانت شهرته، منذ أن عمل موظفاً في مكتبي، وأحاديثنا تتركز في العمل، إنه شعلة نشاط وحيوية.

- لكنه سيء الحظ، لقد ترك الملاعب قبل بداية الطفرة، قبل الفلل والسيارات، ضاق ذراعاً بالأجواء الفاسدة للأندية الرياضية، فهجر كرة القدم، واشتغل بالمستشفى بمرتب زهيد، لأنه لا يحمل إلاّ مؤهلاً دراسياً بسيطاً، إنه واحد من ضحايا الملاعب.

رنَّ هاتفي، فالتقطته.

سألني المدير بعصبية:

- هل نواف عندك؟!

أجبته، وأنا أطالع نواف:

- أجل يا دكتور، إنه عندي.

- دعه يأتيني في الحال.

بعد أن خرج، أخذتُ أرتب المعاملات المتكومة على مكتبي.

التقطت المظروف، وقبل أن أُدخله في الدرج، مددتُ أصابعي إلى داخله، وأخرجتُ الأوراق منه.

تأكدتُ أن سيرتها الأصلية موجودة، يحيطها مشبك، غير المشبك الذي يحيط أوراق السيرة التي كتبتُها.

أحسستُ بأن ثمة شيئاً ناقصاً.

حاولت أن أتذكر، فلم أستطع.

خانتني ثلاثون ساعة من الصحو المتواصل، لذلك أخذت أعيد ترتيب ذاكرتي.

شهقتُ:

- الرسالة!!

بحثتُ جيداً بين الأوراق، فلم أجدها.

أيقنتُ أنني تركتها على طاولتي في البيت، وحاولت أن أطمئن إلى هذا اليقين.

تساقطتْ كلمات الرسالة، وكأنها أمامي.

- "هذه سيرةٌ لم ولن يطلّع أحد عليها سواك.

هي حياتي، ظلامي، متاهتي وغنائي، أقرأها، ثم أفعل بها ما تشاء".

امتدّتْ يدي إلى علبة السجائر، لكنها تراجعتْ.

- "ظللتُ أسبح، لا لكي أصل إليك، بل لأصل إلى وجوهك، لذلكَ، لا تعتبرْ تطفلي عليكَ بحثاً رومانسياً عن دفء رجل غامض".

امتدّتْ يدي مرةً أخرى إلى علبة السجائر، فلم أستطع إيقافها.

وعلى خيط الدخان، الذي تصاعد أمام عينيَّ، تساقط مزيد من كلماتها.

- "المدة قصيرة، مدة تعارفنا قصيرة جداً، وها أنا ذا أفتح لكَ مغاليقي وأقول....

فتحتْ "تهاني"، المشرفة على إدارة علاقات المرضى، الباب.

- هل أستطيعُ الدخول؟!

أشرتُ لها بأصابعي أن تدخل، وأنا أدسُّ الأوراق في المظروف مرة أخرى، ثم أدخله في الدرج.

وضعتْ على طاولتي شريطاً، ثم جلستْ أمامي، شابكةً أصابع يديها، واضعةً إياهما على ركبتها، وكأنها تنتظر مني رداً.

لمحتُ في عينيها قلقاً أكبر من قلقها الدائم الذي تعوّدتُ عليه.

كانت دائماً إذا واجهتْ هي أو إحدى البنات اللاتي يشتغلن معها في علاقات المرضى، مضايقات من مريض أو موظف، تأتي إليَّ.

- إن لم تجد حلاً، سأستقيل، لقد تعبت.

سبقَ أن أخبرتني تهاني، في إحدى حالات إحباطها، أنها عاشتْ تجربتين عاطفيتين فاشلتين. في الأولى، اعترض حبيبها على ساعات العمل الطويلة، واشترط أن تترك المستشفى لكي يتم زواجه بها، فرفضتْ. في الثانية، فسخ خطيبها خطبتها، لأنه سمع أن واحدةً من موظفات المستشفى، كانت تقابل خطببها في كافتيريا فندق حياة ريجنسي، أعطاها الخاتم، وقال لها، بأن سمعة بنات، المستشفى سيئة.

سألتها مازحاً:

- ما هذا؟! هل هو شريط أغنية عاطفية، أهداكِ إياه أحدُ المرضى؟!

أجابتْ بحدّة:

- بل هو محاضرة.

رددت عليها:

- نفس الأشرطة التي يضعونها على مكاتبكن كل يوم؟!

كان بعض المراجعين، وبعض موظفي المستشفى، يضعون أشرطة المحاضرات، أو الكتيبات على مكاتب البنات، أو في صناديق بريدهن، لكيلا يدخلوا في حوار مباشر معهن.

كانت الأشرطة، أو الكتيبات تتناول ضرورة العودة إلى الله، وتستشهد بتوبة الممثلتين المصريّتين شمس البارودي وهناء ثروت، أو المطربة شادية، وكيف أنهن بعد رحلة الغواية، تحجبنَ وزهدن في الدنيا، وندمنَ على حياة الفسق والضلال.

أجابتني بانكسار:

- هذا الشريط يتناولني أنا شخصياً.

سألتها مندهشاً:

- يتناولك؟! وماذا فعلتِ يا تهاني؟!

- اسمعه، وستعرف كل شئ. أنا لا أريد أن أبقى يوماً اضافياً في هذا المستشفى.

ارتجفتْ ذقنها، لكنها تمالكتْ نفسها.

قلت لها:

- أنت تعرفين أن مدير المستشفى يثق فيك كثيراً، وأنه يعتمد عليك في كل أمور علاقات المرضى.

- وهل سيحميني مدير المستشفى من ألسنة الناس، لقد تعرض الشريط لي بالاسم ألا يكفي ما أنا فيه يا ناس؟!

قامتْ، أغلقتْ باب المكتب، ثم جلست على كرسيها مرة أخرى، وهي تنخرط في البكاء.

سمعتُ طرقاً على الباب.

دفع الطارق الباب وحين وجده مقفولاً، مضى.

مسحتْ تهاني دموع عينيها بمنديل ورقي وهي تقول:

- يجب أن أنصرف.

- لن تذهبي حتى تقولي ماذا في الشريط.

رنّ الهاتف، فلم ارفعه.

طالعتُ الأزارير، فاذا خط وليد هو الذي يضيء.

أنتظرتُ حتى توقف الرنين.

قلتُ لتهاني:

- تكلّمي.

- أنت تذكرُ أن مجلة "سيدتي" أجرتْ حواراً مع المتطوعات، في نهاية الحوار، سألتني المحررة، بصفتي مشرفة على إدارة علاقات المرضى، التي تتبعُ المتطوعات لها، هل تواجهن مشكلة في التعامل مع الرجال؟!! أجبتها إن طبيعة عملنا تفرض علينا التعامل معهم بشكل مستمر.

تنهدّتْ، ثم أضافتْ:

- كنت أتكلم بصدق وبتلقائية، لم أتوقع أبداً أن يستغل صاحب الشريط كلامي، ليشهر فيَّ وفي المستشفى وفي برنامج التطوع، لقد اعتبرنا سافرات كافرات.

رنَّ الهاتف مرةً اخرى.

كان ضوء الأزرار يقول إنها ماريان.

التقطته، وقلتُ قبل أن أسمعها:

- ماريان، أنا مشغول، لا تحولي لي أي مكالمة، إلاَّ إذا كان هناك شيء ضروري.

قالت لي:

- لقد طلب وليد مني أن أبحث عنك؛ لأنه وجد مكتبك مقفلاً. يقول إن هيفاء ستحضر لك الآن....

قاطعتها:

- حسناً. حسناً. هل هنالك شيء آخر؟!

- لا.

وضعتُ سماعة الهاتف، وطالعت تهاني، وهي تضع المنديل في جيبها.

قالت، دون أن أطلب منها إكمال حديثها:

- نحن على أبواب الحرب، أهلي يصرّون أن نسافر من الرياض؛ لأنها هدف صداّم الأساسي. قلت لهم: إن سافرتم، سأبقى. صرخ أبي في وجهي، أنا لا تهمني قرارات المستشفى، لا يهمني سوى حياتكِ، أنت بنت، أين ستسكنين إذا سافرنا وتركناكِ؟! أجبته، المستشفى في حالة الحرب، سيؤمن لنا سكناً. نجحتُ بعد جهد كبير أن أجعلة يرضخ، لكنه بعد أن استمعَ إلى الشريط، سألني: كيف سيحمي المستشفى سمعتك؟!

أجبتها بتوتر:

- كلنا نتعرض للضغوط نفسها يا تهاني، إنها أصعبُ تجربة نمرُّ بها.

قاطعتني:

- لا تقارني ببنات المظاهرة، هؤلاء وضعنَ أعناقهن للذبح، لقد كنَّ يعرفن أنهن سيتعرضن لكل هذه المصائب، أما أنا، فلم أؤدِّ غير واجبي الوظيفي اليومي، أنا لم أتظاهر، ولم أطالب بالتغيير مثلهن.

- أنت لا تقدرّين أنكِ في هذه الوظيفة، تقدّمين صورةً للمرأة العاملة التي تلتزم بمبادئها، من دون أن تخدشَ دينها، أو عادات مجتمعها.

- ولماذا لا تصعد على منبر وتقول هذا الكلام، لتردَّ عليهم؟!

استطالَ رماد سيجارتي، التي لم أسحبْ منها شيئاً، منذ دخول تهاني.

ضغطتُ العقب في المنفضة، ثم نهضتْ تهاني.

فتحتْ قفل الباب، ثم خرجت، من دون أن تردَّ عليَّ.

شعرتُ بحموضة حارقة.

طلبتُ العم إبراهيم، فلم يجبْ.

طالعتُ ساعتي، فاذا هي تتجاوز الثانية عشرة.

استدعيتُ ماريان.

عندما حضرت، طلبتُ منها أن تجلبَ لي كأس حليب.

رفعتُ السمّاعة، واتصلتُ على مكتب عبدالعزيز.

بعد أن رنّ هاتفه خمس مرات، قررت أن أضع السماعة، لكنني انتظرت.

بعد الرنين الخامس، رُفعتْ السماعة.

سألتُ متردداً:

- هل عبدالعزيز موجود؟!

أجابني صوت رجل مصري.

- لا.

- هل أنت زميله في المكتب؟!

- أجل، من المتحدث؟!

- أنا صديق قديم لعبدالعزيز.

وأضفتُ:

- هل حضر اليوم؟!

- عبد العزيز مسافر في إجازة اضطرارية، منذ ستة أيام.

- أتعرف متى يعود من السفر؟!

- لا.

قلت لنفسي:

- إذن لا يزال في المخبأ إياه.

- أأستطيع أن أخدمكَ ؟! أنا أُديرُ المؤسسة نيابةً عنه.

سألته، وأنا أحسَّ بأنه يعرف كل شيء.

- كيف تسير أعمالكم؟!

- إنها على خير ما يرام، وكأن عبدالعزيز موجود.

- سأعطيكَ رقم هاتفي، وبمجرد أن يعود عبدالعزيز، أو أن تعرف عنه أي معلومات جديدة، اتصل بي، أنا كما قلت لك، صديق قديم وحميم لعبدالعزيز.

وضعتُ السمّاعة.

سحبتُ نظارتي من عينيّ، ورميتها على الطاولة.

فركتُ عينيَّ بأصابعي، ثم مسحتُ وجهي بكفي.

طالعت كفي، فإذا إفرازات الدهن تلمع عليها.

قمتُ بتثاقل.

خرجت من مكتبي، وتوجهت إلى الحمّام المجاور.

غسلتُ وجهي بالصابون، ثم أخذت أحدّقُ فيه بالمرآة.

ذقني طالتْ أكثر، عظمتا خديَّ ازدادتا بروزاً، والهالتان اللتان تحيطان عينيَّ إسودّتا.

عدّلتُ شماغي، فلاحظتُ أنني لم أُنشّيهِ.

كنتُ أستمتع بكي ملابسي بنفسي.

في مساءات الجمعة، وبعد أن ينام الأطفال، أعمل لنفسي إبريقاً من النعناع، أجمع الملابس التي غسلتْها فاطمة يوم الخميس، وأبدأُ في كيّها، واضعاً المذياع والنعناع في متناول يدي.

أكوي الملابس على مرحلتين، الأولى مستخدماً رذاذ الماء. وفي الثانية، أرشُّ النَشاء على أطراف الملابس، فتبدو في النهاية منتصبةً كرمح.

في الأشهر الأخيرة، صار كي الملابس عبئاً يثقل كاهلي.

أخذ الوقوف يتعبني.

أمضي كل الوقت في إدارة مؤشر المذياع من محطة إلى محطة، وتبقى المكواة مسنودةً على طرف الطاولة، زرُّها يضيء، ثم ينطفئ، من دون أن أستخدمها.

بعد أن يملأني اليأسُ، من سماع نشرة مفرحة، أمررُ المكواة على الملابس حتى تزول منها تجعّدات الغسيل.

كانت فاطمة تقول لي:

-لم لا تأخذها إلى المغاسل القريبة من بيتنا، سيكوونها خلال ساعة.

- سنحتاج عندئذ بنداً خاصاً في ميزانيتنا.

وأضيف لها:

- إنها مرحلة مؤقتة، وسيعود كل شيء إلى حاله.

وكانت تهزُّ رأسها وكأن الأمرَ لا يعنيها.

حاولتُ في إحدى جلساتنا الهادئة، أن أحدثها عن خلفيات الاجتياح العراقي، فقطعتْ الطريق عليَّ.

- اتركنا من السياسة، إن لم يكن لديك ما يشغلك، فدعنا نذهب إلى محل الفيديو، لنجلب الجزء الثاني من مسلسل ليالي الحلميّة.

خرجتُ من الحمام، ثم دفعتُ باب مكتبي، فغمر أنفي عبقٌ أعرف حديقتَهُ.

شاهدتها جالسةً على الكرسي المجاور لطاولتي.

حييتُها بإنكسار:

 - أهلاً يا هيفاء.

لم أصافحها.

جلستُ خلف طاولتي.

وضعتُ نظارتي على عينيّ، فلمحتُ في عينيها تهيؤاً مالحاً.

- هل قرأتَ سيرتي؟!

دخلتْ ماريان، وهي تحمل كأس الحليب، وقد وضعته في طبق صغير، على طرفه مكعبات السكر، وملعقة.

طالعتها بعينين ممتنتين. وهمست لها:

- شكراً يا ماريان.

بعد أن خرجت، فتحتُ الدرج، وأخرجتُ المظروف.

ناولته هيفاء، وأنا أقول:

- لقد أعدتُ كتابة سيرتك كاملة.

تناولتْ المظروف مني، وهي تبتسم.

- هذا يعني أنها مملوءة بالأخطاء.

لم أرد عليها.

سحبتْ الأوراقَ المشبوكة في مجموعتين.

وضعتْ المجموعة الأولى على فخذها فوق المظروف، ثم أخذت تحدّقُ في الصفحة الأولى للمجموعة الثانية.

سألتني:

- أبواب الحمّى؟! أليس هذا هو عنوان قصتكَ التي كنت تنشرها على حلقات في جريدة الرياض؟!

اجبتُها، بعد أن ارتشفتُ بعضاً من الحليب.

- بل كانت شهادات الحمّى.

وضعتُ الكأس على الطاولة، ثم قلت:

- هل تصدقين أنني نسيتها تماما، عندما وضعتُ هذا العنوان لسيرتك؟! ربما لأن هناك تشابه بين القصتين.

سألتني:

- من أي ناحية؟!

 - لا أدري، لكن من المؤكد أن الحمّى هي التي تجمعهما.

أخذتْ تقرأ السطور الأولى.

طالعتُ ساعتي، فرفعتْ رأسها لي.

وضعتْ المجموعتين بعضهما فوق بعض.

أدخلتْهما في المظروف، ثم نهضت، قائلة:

- أعرف أنه موعد خروج أطفالك من المدرسة، هل أستطيع أن أراك قبل السادسة؟!

نهضتُ، فشعرتُ بدوار مفاجئ.

كنت سأتهاوى على الكرسي مرةً أخرى، لكنني استندتُ بيديَّ على الطاولة، وظللتُ واقفاً، أنتظر أن يخفَّ الدوار.

تقدمتْ هيفاء خطوتين باتجاهي.

من دون أن تسألني ما بي، ضغطتْ كتفي بيدها اليمنى إلى الأسفل لكي أجلس.

وضعتْ ثلاث مكعبات من السكر في كأس الحليب، وأخذتْ تذيبها بالملعقة.

كنتُ أحسُّ بغثيان، وحرقة انتشرتْ على كل أجزاء صدري.

ناولتْني هيفاء كأس الحليب:

- اشرب.

شربتُ نصفه، فمدّتْ يدها اليسرى تدفع قاع الكأس:

- أكمله.

ثم أضافتْ:

- أنت مجرد كومة من العظام.

دفع مدير المستشفى باب مكتبي دون أن يطرقه، ثم وضع أوراقاً أمامي، قائلاً:

- سأذهب إلى الغداء، أريدكَ أن تراجع هذا التقرير بأسرع وقت ممكن.

سأل هيفاء، وكأنه لم يستغربْ وقوفها إلى جانبي.

- أنت متطوعة، أليس كذلك يا ابنتي؟!

أجابتْهُ، وهي تنكّس رأسها.     

- أجل يا دكتور.

- نريد أن تُبيضنَ وجوهنا، لن ينفعنا أثناء الحرب، سواكنَّ.

التفت إلي:

- بلّغني مباشرةً بطلباتهن واحتياجاتهن، لا تجعلهن يواجهن أي مشكلة.

ردّتْ هيفاء عليه، وهي تطالعني.

- هو لم يقصّرْ معنا في شيء، ليته يهتم بنفسه.

التقط علبة السجائر من فوق طاولتي، ورماها في سلة المهملات.

- لو يسمع كلامي، ويقلعُ عن هذا السم، لصارتْ حالته أفضل.

بعد أن خرج، طالعتُ هيفاء، بابتسامة خافتة.

سألتْني:

- أتشعر بتحسن الآن؟!

قلت لها متلعثماً، وأنا أنهض.

- تأخرتُ على هاجر وهزيع.

في الطريق إلى مدارسهما، أخذتُ أضغط على كتفي الأيمن.

لم تزلْ الحرقةُ تشتعل في صدري، وعروق النوم بدأتْ تنبض في جفنيَّ.

فتحتُ المذياع على محطة درع الصحراء، فسمعتُ المذيع يتحدث عن عيد الشكر، الذي يوافق آخر خميس من شهر نوفمبر.

كان يقول، موجهاً كلامَه للمجندين الأمريكين:

- ستجدون لحم الديك الرومي في مراكز التموين الخاصة داخل وحداتكم. استعدوا من الآن، فالرئيس جورج بوش وحرمه باربرا سيكونان في الخليج، ليتناولا عشاء عيد الشكر معكم. لم يبقَ سوى عشرة أيام، الرئيس يدعو لكم دائماً؛ ليبارككم الله.

عندما أوقفتُ سيارتي أمام البيت، ترجل هزيع منها راكضاً إلى الباب، أما هاجر، فنزلتْ على مهل، وأخذتْ تمشي متثاقلة، وهي تنوء بحِمِل حقيبتها.

ناديتها، قبل أن تدخل، فالتفتتْ اليَّ.

- إسألي ماما إذا كانت تريد شيئاً، قبل أن أرجع إلى المستشفى.

أسندتُ رأسي على ظهر المقعد، وأنا أضع كفي على عينيَّ المجهدتين، لكيلا تحرقهما شمس الظهيرة.

عاد هزيع لي راكضاً.

قال وهو يلهث:

- ماما تريدك.

أطفئتُ محرك السيارة، ثم نزلتُ.

عبرتُ غرفة الضيوف، معتقداً أنها في المطبخ أو في الصالة.

سمعتُ صوتها يناديني:

- أنا هنا.

رجعت إلى غرفة الضيوف، فوجدتها تجلس على الكرسي خلف طاولتي.

قالت لي:

- أغلق الباب وراءك.

كان هزيع خلفي.

همستُ له.

- هيا اذهبْ وبدّلْ ملابسك.

سألني:

- هل ستتغدّى معنا.

- لا يا حبيبي، سأرجع إلى المستشفى.

دفعتُ كتفيه، فذهب.

أغلقتُ الباب، وطالعتُ فاطمة.

كان وجهها يحملُ ملامحَ حيادية، طغَتْ الجدية عليها.

قالتْ لي:

- اجلس.

جلستْ، وأنا أحدق في جديتها.

- ماذا هنالك يا أمَّ هاجر؟!

- أريد أن أسألك سؤالاً.

- اسألي.

رفعتْ غرّة شعرها عن جبينها. أغمضتْ عينيها وهي تتنهّد.

- هل قصّرتُ معك في شيء يوماً من الأيام؟!

ابتسمتُ ابتسامةَ دهشة.

- هل استدعيتني لتسأليني هذا السؤال الغريب؟!

عضّتْ على شفتها السفلى بقوة، تنمُّ عن عصبية.

- أرجوك، أجب.

قلت كي أخفف توترها:

- سأجيب إذا عرفتُ لماذا تسأليني هذا السؤال، في هذا الوقت.

التقطتْ ورقةً كانت تضعها على الطاولة المرتّبة.

نهضتْ، ثم ناولتني إياها.

طالعتُها، فإذا هي رسالة هيفاء.

أغمضتُ عيني لبرهة.

نكستُ رأسي، ثم رميتُ الورقة إلى جانبي.

قالتْ:

- لقد لاحظتُ صباح اليوم أنك لم ترتبْ طاولتك منذ مدة طويلة، فأردت أن أرتبها لك، كانت هذه الورقة مفتوحة أمامي، ووجدتني أقرأها لا إرادياً.

صمتتْ، وهي تنقر بأصابعها على طرف الطاولة، ثم أكملتْ، بعد أن رفعتُ رأسي لها:

- أنت تعرف أنني لا أقرأ أوراقك أبداً، ولا يهمني ما بداخلها، كأن القَدَرَ ساق عينيَّ لتلك الورقة خصوصاً.

سألتْني، وهي تضع مرفقيها على الطاولة:

- من هي هيفاء هذه؟! وما حدود علاقتكَ بها؟!

أجبتُها بصوت بَحَّهُ الإجهاد والسهر.

- وهل ستصدّقينني؟!

- سأكتشف إذا كذبتَ عليَّ.

استرخيتُ على المقعد، وصرتُ أطالع السقف.

- إنها واحدة من المتطوعات في المستشفى، تحب الكتابة، لذلك طلبتْ مني أن أقرأ قصةً كتبتْها.

- كنتُ أحسبُ أن عمل المستشفى يأخذ كل وقتك، لم أتوقع أنكم تتبادلون القصص والرسائل الغرامية.

رددتُ عليها، وأنا لا أزال مسترخياً:

- أرجوكِ يا فاطمة، انتبهي لكلامك.

قالت منفعلةً:

- انتبه أنت لكلامك، ألمْ تلاحظ أنك كنت تتحدث عنها وأنت مسترخ، مغمضاً عينيك؟!

نهضتْ، ثم مشتْ باتجاهي.

التقطتْ الورقة، وأخذتْ تقرأ أحد مقاطعها، بانفعال.

- اسمع، "أشعر أنني أعرفكَ منذ زمن لا تصله ذاكرتي، عندما تحدثتُ معك لأول مرة وبالتحديد في 7 نوفمبر 1990م، كنتُ أريد أن أقول لك، كل الذي لم أقله، في هذا اليوم، أمطرتْ سحابتي التي خبأتها في قفص جفافي، لذلك، سمّيتُ هذا اليوم باسمك".

رمتْ الورقة باتجاه وجهي، ثم أكملتْ:

- وتريدني أن أنتبه لكلماتي، ماذا يمكن أن تقول بعد ذلك؟!

نهضتُ، أمسكتها من كتفيها.

- فاطمة، أرجوكِ اهدأي، الأمر ليس كما تتخيلين.

رفعتْ يديَّ عن كتفيها، وجلستْ على الكرسي الذي كنتُ أجلس عليه، جاعلة ظهرها يواجهني.

قالتْ وهي تبكي:

- لقد أفنيتُ عمري صابرةً عليك، كل حياتكَ عمل وكتابة وحزن وخيبة وتوتر. لقد مللتُ هذه الحياة، بيت، ومشكلات أطفال. هذه ليستْ عيشة. إنها حبس، وفي النهاية، أجدكَ مثل المراهقين، تتبادل رسائل حب مع بنت طائشة.

تركتُها تبكي حتى أفرغتْ دموعها.

قلت لها، دون أن ألمسها:

- سأترككِ تهدأين، وسنتناقش في الموضوع بعدما أعود.

طالعتني بمرارة، والدموع تملأ عينيها.

- طبعاً، تريد أن تذهب لها.

مسحتْ دموعها.

- ليكن في علمكَ، بأنني لا أريد أن أراك، اتصلْ بمروان ودعهُ يأتي  إليَّ.

تركتُ رسالة هيفاء على الأرض، وخرجتُ.

أمام مفترق الطريق الذي سيأخذني إلى المستشفى، هطلتْ والدتي على قلبي، فغيّرتُ اتجاهي.

دققتُ الباب، ففتحتْ سونيتا لي.

- هل ماما موجودة؟!

- أجل.

دخلتُ عليها، فإذا هي تطالع التلفزيون.

قبّلتُ رأسها، ثم يدها، وجلستُ إلى جانبها.

استدارتْ لي، مندهشة.

- ليس من عادتك أن تزورني في هذا الوقت.

ابتسمت لها.

- لقد اشتقتُ إلى أكلة من يديكِ الدافئتين.

طالعتُ الشاشة، فإذا المذيع ينتهي من نشرة الثانية والنصف ظهراً.

سألتها:

- هل قالوا شيئاً جديداً؟!

ردّتْ، وهي تضع أصابعها على عصابة رأسها، التي تخففُ بها صداع الشقيقة الذي يلازمها.

- يا لطيف ألطف بنا، لقد عرضوا قبل قليل صور السفن الحربية والطائرات والمدافع والجنود. لقد قالوا إن كل شيء جاهز للحرب. الله يستر يا وليدي.

جاءتْ سونيتا، من دون أن تطلبها والدتي.

- هل أضع الأكل يا ماما؟!

- أيوه.

تناولتُ شيئاً من الشوربة، وقطعة صغيرة من الخبز الأسمر.

رن جهاز النداء الرقمي.

أخرجتُه من جيبي، وطالعتُ في شاشتة الصغيرة.

كان رقم ماريان.

قمتُ عن السفرة، واتصلتُ عليها.

سألتني:

- هل أنت خارج المستشفى؟!

- أجل، أهناك أشياء مستعجلة؟!

- متى ستعود إلى المكتب؟!

- أنا متعب، وسأبقى في البيت.

رفعتْ والدتي عينيها عن طبق المكرونة، وصارت تطالعني.

سألتُ ماريان.

- هل اتصل بي أحد؟!

- سأل عنك مدير المستشفى، يقول إنه ينتظر التقرير، هيفاء، اتصلتْ بك أكثر من مرة، مدير المطبعة يريدك أن تتصل به في أمر مهم، ومنيرة اتصلتْ مرتين.

- أهذا كل شيء؟!

- أجل.

فكرت قليلاً، ثم قلتُ لها:

- إذا سألوا عني مرة أخرى، قولي لهم بأنني متوعك، وسأكون في مكتبي غداً صباحاً، وبالنسبة إلى الأشياء الضرورية، تستطيعين أن تحيليها إلى وليد.

- لكن وليد مجازٌ اليوم، هل نسيت؟!

رددتُ متذمراً.

- إذن، ضعي كل شيء على مكتبي.

قالت بصوتٍ هادئ:

- أتمنى لكَ وقتاً هانئاً، إلى اللقاء.

- أراكِ غداً ياماريان، شكراً لكِ.

جلستُ إلى جانب الهاتف.

خلعت شماغي، ثم تمددتُ على الأرض.

سألتني والدتي:

- هل تريد أن تنام؟!

- أجل.

نادتْ سونيتا، ثم طلبتْ منها أن تجهزَ لي الغرفة.

قالتْ لي:

- نمْ في غرفتي.

دخلتْ سونيتا إلى الغرفة.

رفعتُ السماعة، واتصلت على مروان.

أجابني:

- اشتقتُ لك.

- الحمد لله أنني وجدتُك، لقد خفتُ أنك لا تزال في الكلية.

- محاضرات يوم الثلاثاء تنتهي، عادةً، في حوالي السابعة مساءً، لكنني زوَّغْتُ عن بقية المحاضرات، لأنني على موعد اليوم مع مُهرة جديدة.

لم أبادله الضحك، فسألني.

- ما بك؟! مكتئب؟!

- فاطمة تريدكَ أن تذهب لها.

- متى؟! الآن؟!

- حسب راحتك، هل ستتأخر في موعدك؟!

- اذا كان الأمر ضرورياً، فسوف ألغي موعدي، أنت تعرف أنه للتسلية لا أكثر.

تهدّجَ صوتي، وأنا أقول له:

- المهم أن تذهب إليها الليلة.

سألني بإلحاح:

- قل لي، ماذا هناك؟!

قامتْ أمي لتغسل يديها.

رويتُ له ما حدث باختصار، فأخذ يضحك.

قال لي:

- لم يسبق لكَ أن حدثتني عن هيفاء.

- سأحدثك بكل شيء لاحقاً، المهم الآن أن تذهب إلى فاطمة.

- سأتدبّر الأمر لا تقلق، عندما ترجع الليلة، ستجد كل شئ منتهياً.

قبل أن أُنهي المكالمة، سألني ضاحكاً:

- أتريد أن أمرَّ عليك في المكتب، لتحدثني عن هيفاء، لكي أكون في الصورة قبل ذهابي إلى فاطمة.

رددتُ عليه بجدية:

- أنا لستُ في المكتب، إنني في بيت أمي، سأنام عندها بضع ساعات.

- انها المرة الأولى التي تنام فيها ظهراً.

- أنا مُجْهد بعض الشيء، وأريد أن أرتاح قليلاً.

- هذا أفضل لك، إلى اللقاء.

دخلتُ غرفة والدتي.

أغلقتُ الباب ورائي، أسدلتُ الستائر، ثم أطفأتُ النور.

تمددت على السرير، دون أن أخلع ثوبي.

أغمضتُ عينيَّ، فازدادتْ الظلمة داخلي.

شعرتُ بأن جسدي يتخبط في حواجز العتمة، ولم أعرف بالضبط متى سقطتُ.


 

الرياض -9:

14 نوفمبر 1990م

 

صحوتُ من النوم مخنوقاً.

كانت والدتي تحيطُ رأسي بيديها، وقد اسندتْهُ على صدرها.

كانت تضع رأسها على الوسادة الملاصقة لوسادتي، مستغرقةً في نومها، والإعياءْ بادٍ على وجهها.

سحبتُ رأسي بهدوء، لكيلا أوقظها، وأخذتُ أتنفس بعمق.

انتابني سعالٌ، حاولتُ أن أمنعه، فظهر مخنوقاً.

فزّتْ والدتي مرعوبةً، ويداها تتناولان رأسي:

- ما بك يا حبيبي؟!

جلستُ على السرير، وأنا لا أزال أسعل:

- لا شيء يا أمي.

مدّتْ يديها إليّ.

- إذن عُدْ إلى النوم، أنت لم تنمْ طوال البارحة، ظللتَ طوال الليل تتقلبُ وتتأوه وتهذي بكلام غير مفهوم.

ابتسمتُ لها قائلاً:

- هكذا هو نومي يا أماه.

جلستْ إلى جانبي.

- لا يا عمري، أنت تغالط نفسك، لقد جاءت فاطمة هي وأخوها ليلة البارحة إلى هنا ليطمئنوا عليك.

سألتها خائفاً:

- وهل قالتْ لكِ شيئاً.

-لم تكن ترغب في الحديث، لكنني أجبرتها، قلتُ لها: تعوذي من إبليس، ولا تهدمي حياتك وحياة أطفالك، أخذت تبكي بحرقة، وقالت: إنك جرحتها.

تنهدتُ، وأنا أطالع ثوبي المجعّد، ثم أضافتْ:

- سأقول لك شيئاً يا بني، ولكن لا تزعلْ مني.

رددتُ عليها، وأنا أطالع سماحة عينيها:

- قولي، لا حرمني الله منك.

أمسكتْ يدي، وأخذتْ تمسح كفها بكفي:

- أنت تدلّع فاطمة أكثر مما يجب، المرأة تحتاج رجلاً صلباً ينهرها، أنت تُلبي كل طلبات فاطمة على الفور، لو تقول لكِ: أحضرْ لي لبن العصفورة، لقلت لها: أبشري، وهذه هي النتيجة، حتى أوراقك تقرأها.

- لا تظلميها يا أمي، لقد وقعتْ الورقة بين يديها بالمصادفة.

- أرأيت؟! ها أنت تدافع عنها.

- إنها زوجتي، وأم أطفالي، كيف لا أدافع عنها؟!

- أنت تكتم مشاكلكَ داخلك، لا أحد يعرف ما بك، وعندما اسودّتْ الدنيا في وجهك، جئت لتنام عندي، وليتك نمت بعد الكابوس الذي أصابكَ، وبعد ماء زمزم الذي سقيتك إياه، أخذتَ تتقلب وتهذي، وهذا يعني أن في داخلك جمراً، لا يطفئه شيء.

كنت قد نهضتُ مرعوباً في حوالي التاسعة من مساء أمس.

منذ دخلت للنوم، في غرفة والدتي، وأنا أصحو بمعدل مرة كل ساعة، وكلما أصحو، أطالع عقارب المنبّه الذي وضعته والدتي على طرف سريرها، فإذا هي تتحرك ببطء.

لم أكن أرغب في مغادرة السرير.

كان جسمي مهدوداً، وقواي خائرة، لذلك كنتُ أجبر نفسي، كل مرة، على العودة إلى النوم.

حلمتُ بأنني أمشي تحت سقيفة طالها الخراب.

دكاكين عتيقة متلاصقة بعضها ببعض، أبوابها محطّمة، ورمادُ الحرائق يملأ جدرانها.

بائعون مشوّهون، ثيابهم ممزقة ومبقّعة بالدم، يعرضون تمراً فاسداً، وبطيخاً مشققاً تلتفُّ الصراصير والفئران عليه.

لم يكن يمشي تحت السقيفة غيري.

كانوا يطالعونني، وهم يضغطون جراحهم، فينزُّ منها القيح، ويتقاطر على التمر.

كنتُ أحسُّ بشرايين قلبي تزحف كالدود مخترقة سقف حلقي، لتضخَّ في فمي دمها الكبريتي.

ظللتُ أمشي حتى صادفتُ طفلاً يعرضُ بضاعته إلى جانب أحد الدكاكين.

كان منكساً رأسه، يلعق بلسانه الطويل رئتيه المسودّتين اللتين خرجتا عن قفصه الصدري.

جلستُ أمامه فرفع رأسه إلي، فإذا هو هزيع، بنفس عمره، لكن شعره قد شاب.

طالعت البضاعة التي يعرضها للبيع، فوجدتُها ساعته التي أهديتها له في عيد ميلاده السادس، وألعابه التي اشتريتها بمناسبة نجاحه.

عندما رآني شهق، ثم تشنّجتْ أطرافه.

التقطته بين ذراعي، وصرتُ أنفخ في وجهه لكي يعود الزفير إليه، لكنه ظلَّ في شهقته.

ركضتُ به.

خارج السقيفة، كانت الظلمة حالكة.

أصواتُ مدافع، وطائرات تقذف قنابلها على أناس يصرخون.

ظللتُ أتخبط في الرمال والطين، وحلقي يحرقه طعم الكبريت.

أحسستُ قدميَّ تغوصان في الوحل، فأخذتُ أرفع هزيع عالياً، وأنا أصرخ.

قبل أن يصل الطينُ إلى مستوى عنقي، لمحت طائراً أبيض مضيئاً، يقترب مني.

التقط هزيع من بين ذراعي، فحدّقتُ في وجهه.

صحتُ به:

- أبي.

سقطتْ ريشةٌ مضيئة من جسده، ثم حطّتْ على مقربة مني.

بضوئها، رأيتٌ فاطمةَ تجلسُ إلى جانب الوحل.

صرتُ أنفضَّ ذراعي وساقيَّ جاهداً، وأنا أستنجدُ بأعلى صوتي:

- أغيثوني.

فتحتْ والدتي الباب، وركضتْ إليَّ.

حضنتني، وهي تبسمل.

أخذت تقرأ آية الكرسي والمعوذات.

ضممتها خائفاً.

قبّلتْ جبيني المحموم، وهي تسألني:

- كابوس؟!

- أجل، كابوس مرعب يا أمي.

جعلتني أتمدد على السرير مرةً أخرى، ثم خرجتْ، دون أن تغلق الباب.

تنامى إلى مسمعي صوت الإشارة الموسيقية لأخبار التلفزيون، فعرفتّ أن الساعة تشير إلى التاسعة مساءً.

عادت أمي، وهي تحمل كأساً معدنياً من الماء.

ناولتني إياه، وأنا أتكوّم حول نفسي، لأخفف ألم صدري.

- اشرب. هذا ماء زمزم.

قبل أن أشربه، قالتْ:

- سَمِّ بالله.

ناولتها الكأس، فصّبتْ ما بقي منه على أصابعها، ومسحت به وجهي وشعري وصدري، وهي تتمتمُ بالأدعية.

قلتُ لها:

- سأقوم لأستمع للأخبار.

وضعتْ يدها على كتفي.

- لن تقوم، كل مشاكلك هذه من الأخبار، الصباح رباح يا ولدي.

أغلقتْ الباب، ثم تمددت إلى جانبي.

أخذتْ تمسحُ بأصابع يدها اليمنى، شعري، وتهش بيدها اليسرى الغربان عن سماء جثتي.

اطمأن سريري للنوارس التي أقبلتْ عليَّ، فركضتُ إلى بحيرة النوم.

رددتُ عليها:

- أنت يا أمّاه الماءُ الذي يطفئ جمري، عندما جئتُ إليك، لم أكن غاضباً من فاطمة، بل كنتُ مشتاقاً لوسادة قلبك.

- غضبكَ على زوجتك ليس عيباً، مجيؤكَ اليَّ كان عين العقل، عندما تحدثت معها، أخبرتها بالكابوس الفظيع الذي جعلك تصرخ وأنت نائم، ربما تحس بالندم.

سألتُها:

- متى جاءتْ إلى هنا؟!

- في حوالي الحادية عشرة ليلاً، قلتُ لها إنكَ كنتَ تريد المبيتَ في منزلك، لكنني أنا التي منعتك، سألتْني: هل أخبرك ابنكِ بما حدث؟! رددتُ عليها: وماذا حدث؟! حاولتْ أن تتهرب، لكنني أجبرتُها أن تخبرني بكل شيء.

نهضتُ وأنا أطالع الساعة، وهي تشير إلى الخامسة والنصف فجراً.

قلت لها:

- ما كان يجب أن يحدث كل هذا.

خلعتُ ثوبي، ورميته على السرير.

دخلتُ إلى الحمام، لكي استحم.

قبل أن أخلع ملابسي الداخلية، دقّتْ والدتي الباب عليَّ.

سمعتها تقول:

- خذ.

فتحتُ الباب، فناولتْني منشفةً، وغيارات نظيفة.

سألتها من خلف الباب:

- هذه منشفتي وملابسي،كيف جاءتْ إلى هنا؟!

ناولتني علبة الحلاقة وفرشاة الأسنان والمعجون والكولونيا، وهي تقول:

- اتصلتُ البارحة على أخيك راشد. أخذني إلى بيتكَ، وأحضرتُ لكَ كل لوازمكَ من هناك.

- ولماذا لم تطلبي من فاطمة أن ترسلها لك مع مروان، لقد فضحتينا يا أمي.

- لم أتذكر إلاَّ بعد أن خرجتْ مع أخيك، وبيتك، لم يصله الهاتف بعد.

أضافتْ:

- اطمئنْ،لم أخبر راشد بأي شيء، وحتى هو، لم يسألني.

بعد أن خرجتُ من الحمام، جمعت ملابسي القديمة، ووضعتها في كيس بلاستيكي.

بحثتُ عن أمي، فوجدتها قد جهّزت لي إفطاراً في المطبخ.

 تعرفين يا أمي أنني لا أفطر.

- بل ستفطر، أنت لم تتناول شيئاً منذ اللقمتين اللتين أكلتهما على غداء الأمس.

غمست قطعة خبز بالفول، وأكلتُ قبلها شريحة جبن أبيض.

شربتُ قليلاً من الشاي، ثم نهضتُ.

- هل تعتبرُ هذا أكلاً؟!

- لقد حان موعد المدرسة، ستكون هاجر الآن واقفةً على الباب.

قبل أن أخرج، شدّتْني والدتي من ساعدي.

- أريد أن أطلب منك طلباً.

توقعتُ أن تذكّرني بأن أكون صارماً مع فاطمة.

قلت لها، وأنا أبتسم:

- كل طلباتكِ مجابةً يا قرّة عيني.

- هل تحلف بالله أن تنفّذه لي.

- أحلفُ بالله.

- دع الطبيب يكشف على صدرك.

سألتها، مصطنعاً الدهشة:

- وما به صدري؟!

- لقد كنتَ طوال الليل تضغطه بيديك، لا تنسَ أنك أُصبتَ بالربو في طفولتك، وأن أباك، مات بالذبحة الصدرية.

قبّلتُ رأسها، ثم قلتُ لها:

- لا تقلقي يا أمي.

وجدتُ سيارة مروان واقفةً أمام بيتي.

دخلتُ.

كان مروان ينام في غرفة الضيوف، متمدداً على فراشي نفسه، وإلى جانبه ديوان شعر.

وجدت هاجر وهزيع، يتناولان إفطارهما على طاولة المطبخ.

كانت فاطمة منشغلة بتجهيز فطائرهما، ولم أكن أرى إلاّ ظهرها.

كان ضوءُ النافذة الشرقية للمطبخ، يشعُّ على جسدها، فيظهرُ كأنه ظِلالٌ حبستْها قضبان الشمس.

قفز هزيع اليَّ.

حضنتُه، ثم أخذ يطالع هاجر، وهي تمدُّ خدها لي.

- هل أفطرتما؟!

أجابتني هاجر:

- هزيع لم يأكل بيضته.

قال، موجهاً كلامه لها:

- لقد قلت لكم، سأنتظر بابا حتى يعود.

ردّتْ هاجر عليه:

- ماما افهمتكَ أن بابا مناوب في المستشفى.

طالعتُ فاطمة، وهي تستدير باتجاهنا، فيسقط الضوء على خصلات شعرها المتساقطة على عينها اليسرى.

قلتُ لها، وهي تُناولُ هاجر وهزيع أكياسَ فطائرهما:

- صباح الخير.

لم ترد.

وضعتْ كفيها على ظهريهما، ودفعتهما خارج المطبخ.

- هيا إلى السيارة، ستتأخران عن المدرسة.

خرجتُ خلفها.

فتحتُ لهما باب السيارة، فركبا.

سألتني هاجر، وهي تطالع سيارة مروان:

- هل خالي نائم عندنا؟

- ألم ترينه البارحة؟!

- لا.

قال هزيع:

- يا خسارة، لقد نمنا قبل أن يجيء.

كنت أستمع قبل وصولي إلى المستشفى برنامج "نسيم الصباح" الذي تبثه إذاعة الرياض.

أثناء البرنامج، استعرض المذيع عناوين الصحف المحلية ليوم الأربعاء.

(خادم الحرمين الشريفين يستقبل وزيري الدفاع البريطاني والكندي). (سمو ولي العهد يستقبل المشايخ والمواطنين). (بناء على فتوى كبار العلماء، وزارة الداخلية تؤكد منع جميع النساء من قيادة السيارات في المملكة). (مدير المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية: مكانة المملكة ستتعاظم دولياً، سواءً انتهت الأزمة بالحل السلمي أو العسكري). (المقاومة الكويتية، أشاعتْ الرعب بين جنود صدام، فتحولوا إلى وحوش). (تركيا تقوم بتدريبات على الحماية من الغارات الجوية).

دخلتُ مكتبي، فوجدتُ أن لا شيء تغيّر على طاولتي.

تناولت تقرير مدير المستشفى.

وجدته يحتوي على معلومات شخصية لمجموعة من الفتيات الكويتيات الراغبات في الانضمام لبرنامج التطوع.

راجعتُ المعلومات، فإذا اثنتان منهن تنتميان للأسرة الحاكمة.

حملت التقرير، وذهبتُ إلى مكتب وليد.

ألقيتُ عليه التحية، ثم جلستُ أمامه.

سألته:

- هل من جديد في موضوع الخادمة؟!

- لقد استخرجتُ لها تأشيرة خروج نهائي، لكنني لم أجدْ لها مقعداً في الطائرة. إلاّ يوم الأحد المقبل.

- وهل ستصبر زوجتك حتى هذا الموعد؟!

ضحك بتهكم.

- هل تمزح؟! لقد أصرتْ ألا أبقيها في البيت.

- وأين ستذهب بها؟!

- إلى مكتب مكافحة التسول، إنهم يحتفظون هناك بجميع الخادمات الهاربات، ويجب أن يدفع الكفيل مبلغ مئة ريال عن كل يوم تبقى فيه خادمته، إلى أن يحين ترحيلها.

- ألم يجدوا غير هذا المكان؟!

- ليتكَ ترى كيف حالتهن، آلاف من الخادمات من كل الجنسيات محشورات في مبنى واحد.

كان وهو يتحدث، يرسم خطوطاً متعرجة على ورقة بيضاء، كانت أمامه.

وضعت التقرير بين قلمه والورقة لكي أجذب اهتمامه.

سألني:

- ما هذا؟!

- مجموعة من المتطوعات الجدد.

- لكننا اكتفينا، برنامجنا ابتدأَ منذ أسبوعين.

أخذَ يقلّبُ الأوراق، دون أن يقرأها.

- أتريد أن نبدأ معهن من جديد؟!

- هؤلاء متطوعات كويتيات، لقد وافق مدير المستشفى، أن يلتحقن بالبرنامج.

- ألم نشترطْ أن تكون المتطوعة سعودية؟!

دخلتْ ماريان مكتب وليد، فاستغربتْ وجودي.

سألتني:

-كيف حالك اليوم؟!

- أفضل بكثير.

- أتريد أن أطلب قهوتك هنا؟!

- لو سمحتِ.

بادرَها وليد:

- اطلبي لي قهوة معه.

قلتُ له، إكمالاً لحديثنا:

- لا بد أن أحداً ما أحرج المدير، لِمَ لا تطالع الصفحتين الأولتين؟!

قرأهما، وعلامة الدهشة على وجهه.

- إنهما شيختان.

رددتُ عليه:

- اتصل بهن جميعاً، وأخبرهن أن هناك مقابلات شخصية نحدد بعدها إمكانية انضمامهن إلى البرنامج من عدمه.

ناولني التقرير، معترضاً:

- لا، أرجوك، اتصل بهن أنت، أتريد أن اتصل بشيخة، لأقول لها، يجب أن نجري لكِ مقابلة شخصية قبل الموافقة على قبولك؟!

- ولمَ لا؟! ألمْ نفعل ذلك مع خمس من بنات آل سعود، قبل أن نقبلهن في برنامجنا؟!

- أنت تجهل الشخصية الكويتية، إنها متغطرسة، يحسبون أنفسهم أفضل شعوب الخليج. يعاملوننا كأننا بدو، ويكرهوننا كرهاً شديداً.

رددتُ عليه بإنفعال:

- قد أقبلُ هذا الكلامَ من مشجع كرة قدم متعصّب، متأثر بالتنافس الكروي بين السعودية والكويت.

- انسَ كرة القدم، واسأل أي مواطن سعودي عن كيفية تعامل الكويتيين النازحين إلى المملكة بعد الاحتلال العراقي لأراضيهم، المفترض أن يعتبروا أنفسهم لاجئين، وأن يحترمونا لأننا نستضيفهم. الذي حصل، أنهم يتكلمون معنا من أطراف أنوفهم، مما أفقدهم احترامنا.

- ربما هي حالات استثنائية، ألا تطالعهم كل مساء في الرسالة التلفزيونية، وهم، يمتدحون السعودية والملك فهد.

- ولماذا لا يلتقي التلفزيون مع الكويتين الذين فرّوا إلى لندن ومونت كارلو وباريس والقاهرة؟! هؤلاء يستلقون على الشواطئ تحت أشعة الشمس، أو يسهرون في الملاهي حتى الصباح، وكأن الأمر لا يعنيهم.

نظرتُ في عينيه:

- ليتك يا وليد تقرأ مقالات بعض المثقفين الكويتيين الجادين، إنهم يصرخون بالصحراء أن تغرس رملها في معطف الوحدة الذي أثبتتْ الأزمة، أنه لا مناصَ لنا من ارتدائه.

شعرتُ أنه أحس بحالة الكآبة التي انتابتني، لذلك حاول أن يغير الموضوع.

قال لي:

- اليوم الأربعاء، موعد محاضرتك للمتطوعات.

- حين يحين موعدها، مُرْ عليَّ في المكتب.

بعدما خرجتُ من مكتبه، شاهدتُ تهاني تتحدث إلى العم إبراهيم أمام مكتبي.

كان يشير بإصبعه باتجاه مكتب وليد، عندما شاهدني.

- هذا هو.

عندما وصلتهما، التقطتُ كوب قهوتي من الصينية التي كان يحملها، وقلت لتهاني:

- صباح الخير.

دفعتُ الباب، وأمسكته لها لكي تدخل.

بعد أن جلستْ، سالتُها:

- كيف أنت اليوم؟!

- مثل كل مرة، كلما أتيتك مهددةً باستقالتي، تمتصُّ غضبي بكلماتكَ المقْنِعَة.

- لو لم تكوني مهيأةً، لما اقتنعتِ.

نهضتْ، وهي تقول:

- لقد مررتْ فقط لكي أُريكَ الجريدة. لقد اشتريتها للتو من محل بيع الهدايا في الدور السفلي، قرأتُ هذا الخبر، وأردتُ أن أعرف تعليقك عليه.

أخرجتْ جريدة "الجزيرة" من ملف أوراقها البلاستيكي الأنيق.

فتحتْ صفحاتها، ثم طوتْ الصفحة التي تحمل الخبر، ووضعتها أمامي، مشيرةً بإصبعها إلى موقعه، ثم جلستْ مرة أخرى.

أخذتُ أقرأ.

- "صدر عن وزارة الداخلية البيان الآتي:

تود وزارة الداخلية أن تعلن لعموم المواطنين والمقيمين أنه بناء على الفتوى الصادرة بتاريخ 20 ربيع الآخر 1411هـ الموافق 7 نوفمبر1990م من كل من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وفضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء وفضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن غديان عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء، وفضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة وعضو هيئة كبار العلماء، بعدم جواز قيادة النساء السيارات ووجوب معاقبة من يقوم منهن بذلك بالعقوبة المناسبة التي يتحقق بها الزجر والمحافظة على الحُرَم ومنع بوادر الشر، لما وَرَدَ من أدلة شرعية توجب منع أسباب ابتذال المرأة أو تعريضها للفتن. ونظراً إلى أن قيادة المرأة السيارة يتناقض مع السلوك الإسلامي القويم الذي يتمتع به المواطن السعودي الغيور على محارمه فإن وزارة الداخلية توضح للعموم تأكيد منع جميع النساء من قيادة السيارات في المملكة العربية السعودية منعاً باتاً ومن يخالف هذا المنع سوف يطبق بحقه العقاب الرادع".

رفعتُ عيني عن الجريدة.

أدخلت يدي في جيبي، لأخرج علبة السجائر، فلم أجدها.

بحثتُ فوق الطاولة، وفي الأدراج، ثم تذكرت أن مدير المستشفى رماها يوم أمس في سلة المهملات.

- هل تبحث عن شيء؟!

تجاهلت سؤالها، ثم قلت:

- هذا يعني أن قيادتكن السيارة أصبحتْ ممنوعة رسمياً وشرعياً.

- أنا لستُ ضد هذا القرار، أنا حزينة على بنات المظاهرة، لقد فُصلنَ من أعمالهن وجامعاتهن ومدارسهن.

- كنتُ أعتقد أنك معترضةً على ما قمن به؟!

فكّرتْ قليلاً، ثم قالت:

- نحن البنات لا نعرف ماذا نريد، منذ أن حدثتْ المظاهرة، وأنا أسمع آراء متناقضة للبنات السعوديات. في لحظة، نقول إننا نريد أن نقود السيارة، وفي اللحظة التالية، نقول العكس. مرة نؤيد البنات، ومرة نعترض على مظاهرتهن، إحدى زميلاتي كانت تحسد البنات على الشهرة التي حصلن عليها بعد مسيرتهن وتقول: ليتني كنتُ معهن، بعد حرمانهن من أعمالهن، صارتْ تدعّي بأنها غير متفقة مع مبدأهن.

صمتتْ، ثم واصلت كلامها:

- هل لديكَ مسوغ لتناقض النساء هذا؟!

- سوف أجيبكِ إذا وجدتُ تبريراً لتناقض الرجال.

- هل تناقضتم تجاه المظاهرة أيضاً؟!

- أجل، وبشكل أحد منكن.

ردّتْ، وكأنها تذكرت شيئاً:

- معك حق، لقد سمعتُ أن زوج إحدى المتظاهرات تبرأ منها، وقال إنه لا علم له بالمظاهرة، وعندما اجتمع الأمير سلمان بأولياء أمور البنات، وبخّه قائلاً: هذا عذر أقبح من فعل، لأن هذا الزوج، كان يدّعي أنه ينتمي للمثقفين.

رنَّ الهاتف.         

قالت ماريان:

- مدير المطبعة، الذي اتصل أمس، يريدك.

استأذنتْ تهاني قائلةً:

- سأذهب إلى مكتبي.

ضغطتُ زر الخط الخارجي.

- أهلاً.

قال لي مدير المطبعة:

- البروفات النهائية لمطبوعاتكم جاهزة منذ أمس، نريدك أن تَمرَّ علينا لتطلَّعَ عليها قبل الطبع.

فكّرت، ثم قلتُ له:

- سوف أمرُّ عليكم غداً، متى ينتهي دوامكم؟!

أجابني:

- دوامنا أيام الخميس ينتهي في الرابعة عصراً.

- إذن، سأكونُ عندكم في الثالثة ظهراً.

بعد أن وضعتُ السماعة، سحبتُ ورقة بيضاء، وبدأتُ أحاولُ تسجيل محاور المحاضرة التي سألقيها على المتطوعات ظهراً.

كان المفروض أن أُلقي عليهن درساً في كيفية محافظتهن على رباطة جأشهن، عندما نبدأ في استقبال ضحايا صواريخ صدّام الكيماوية، وعن الدور المحدد المنوط بهن.

تخيلتُ عبدالعزيز يطالعني وهو يضحك.

- أي هراء هذا الذي أنت فيه؟! ستهرب متطوعاتكم المترفات خارج الرياض، بمجرد أن تبدأ الحرب، وستجد نفسك وحيداً، تندبُ حظك على الوقت والجهد اللذين أضعتهما.

التقطتُ خطة الطواريء، وأخذت أراجع قائمة الأطباء المكلفين.

وقعتْ عيناي على اسم الدكتور طلعت، ااإستشارى المشارك لأمراض القلب، فتذكرت اليمين الذي اديتهُ لأمي.

طلبته على الجهاز، فردّتْ ممرضته، ببرود:

- الدكتور طلعت في وحدة القثطرة القلبية. هل أترك له رسالة؟!

- أرجو أن يتصل بي حالما ينتهي.

عدتُ لأقرأ بعض الصفحات المهمة في خطة الطوارئ، لأستعيد بعض التفاصيل.

طرقَ مروان الباب، ثم دخل.

كان يرتدي قميصاً حريرياً فضفاضاً، وبنطلوناً ذا كَسْرات حديثة.

سألته، بعد أن حييتُهُ:

- ما كل هذه الأناقة؟!

ردَّ عليَّ، وهو يجلس:

- إنها الملابس التي قابلتُ بها مهرتي البارحة، هل هي أنيقة فعلاً؟!

- إنها آخر صيحة على ما يبدو.

- إذا أردتَ أن تقابل بنات العز، فألبس أفخم ما لديك.

- وكيف تعرفتَ عليها؟! رميتَ رقم هاتفك في سيارتها كالعادة؟!

- لا، لا، هؤلاء صنف آخر، لا تقابلهن إلاّ في معارض "كارتييه" أو "فتيحي" أو "معوض". تراهنَّ، تشترين أفخم المجوهرات، ثم تناولن البائع اللبناني بطاقة الفيزا. همستُ لها، وكأني ابن عز مثلها: أريد أن أشتري هدية لاختي، لكنني في حيرة. هل أشتري لها خاتماً أم أقراطاً؟! أشاحتْ بوجهها عني ضاحكة. استدرتُ من الجهة الأخرى، ناولتها رقم هاتفي مكتوباً في ورقة، كنتُ قد أعددتها قبل أن أدخل وراءها إلى المعرض، وقلتُ لها: فكري في الأمر، ثم اتصلي عليَّ، أخذتْ الرقم مني، وهي تهمس: يا مجنون.

- أنت فعلاً مجنون، ماذا لو صفعتكَ؟!

- هؤلاء البنات لا يفعلن ذلك.

طالع ملابسه مرةً أخرى، ثم أضاف:

- خرجتُ منها، وذهبتُ مباشرةً إلى فاطمة، خفتُ لو أذهب وأبدّلْ ملابسي، أتأخرُ عليها.

رنّتْ ماريان الهاتف عليَّ.

قالت لي:

- هيفاء على الخط. تريد أن تكلمك.

رددتُ بعدّ تفكير:

- قولي لها، إنني في اجتماع مع مدير المستشفى.

التفتُ إلى مروان، وسألته:

- أليس لديك جامعة اليوم؟!

- لا، محاضراتي اليوم بعد الظهر، سأفطر معك، ثم أذهب إلى بيتي، ومن هناك، إلى الجامعة.

طالعتُ ساعتي، فإذا هي تقترب من العاشرة.

- لكن كافتيريا المستشفى تغلق أبواب الفطور في الثامنة والنصف.

- لنفطر إذن في أي مطعم خارج المستشفى.

تذكرت أن في النادي الإجتماعي ركناً يقدم مأكولات خفيفة.

- ماذا تريد أن تأكل بالضبط؟!

- أي شيء، دونات وقهوة، سوف تفي بالغرض.

اتصلتُ على ماريان، وقلت لها بأنني سأخرج من المكتب، وسأعود خلال نصف ساعة.

أشار مروان بإصبعه، وهو يهمس:

- بل ساعة.

وضعتُ السماعة، وخرجنا سوياً.

على طاولة صغيرة، جلسنا.

قبل أن يبدأ بالأكل، سألته:

- هل معك سجائر؟!

أخرج العلبة والولاَّعة من جيب قميصه العلوي، ووضعها على الطاولة.

أشعلتُ سيجارة، فسألني:

- لماذا لم تطلب شيئاً؟!

- لقد أفطرت.

أخذتُ أتناول القهوة، وأنقل بصري بين المقاعد الفارغة.

بعد إن انتهى مروان من تناول قطعة الدونات، فتح كيس الحليب، ونثره في كوب القهوة.

وضع أربعة قطع من السكر، ثم حركها بالملعقة.

شربَ رشفةً، ثم وضع الكوب على الصحن.

تناول علبة السجائر، أخرج واحدةً، ضربها على الطاولة، ثم أدخلها فمه.

أشعل السيجارة، ثم سحب هواءها بقوة.

كنتُ أراقب هذه التفاصيل الاعتيادية منتظراً أن يبدأ بالكلام، الذي أعرف أنه جاء من أجله.

حين لم يفعل، سألته.

- هل تحدثتَ مع فاطمة؟!

- أجل، لقد أعطتني رسالة هيفاء، بعد أن قرأتَها، سألتْني: هل يمكن أن تكتب امرأةً كلاماً كهذا لرجل، إن لم يكن قد أعطاها ريقاً حلواً؟! كان في الرسالة مقطع يقول ما معناه، إنها لا تتطفل عليكَ بشكل رومانسي، قلتُ لها إنكَ لو كنت قد أعطيتها هذا الريق، لما قالتْ هذا الكلام، شرحتُ لها كل مقاطع الرسالة، محاولاً إيجاد التبريرات المقنعْة، لكنها صرختْ في وجهي: أنت تدافع عنه، وأضافتْ: كلكم من نفس الطينة.

- هذا يعني أنها مؤمنة بخيانتي لها.

- ولا أحد يستطيع أن يزعزع إيمانها هذا، لذلك، طلبتُ منها أن تعطيك فرصة، قلتُ لها، بأنكَ تمر بوقت حرج، واستشهدتُ بالكوابيس التي اخبرتْنا أمكَ عنها، أتعرف ماذا قالتْ؟!

- ماذا؟!

- قالتْ إن هذه الكوابيس تأتيك َ نتيجة الصراع الذي تعيشه؛ لأنكَ لا تملك الشجاعة بالإنفصال عنها، وأنها سبق أن كاشفتْكَ بهذا الموضوع.

سألته مندهشاً:

- الانفصال؟!

- لا تأخذ على كلامها، فهي تحس أن الرسالة جرح لن يندمل، وأنا أعرف أنه سيندمل، لأنها ستكتشف في النهاية حقيقة الأمر، هي الآن ثائرة، وكل قراراتها انفعالية.

- هل قررتْ شيئاً؟!

ضحك، وهو يراقبني وأنا أطفئ سيجارتي ببطء.

- تقول: إنها ستأخذ طفليها في إجازة نصف العام الدراسي إلى الطائف، وإنها لن تعود إلى الرياض أبداً.

حسبتُ المدة الزمنية، ثم قلت له:

-لم يبقَ على الإجازة سوى شهر.

- صدقني، سترجع الأمور إلى مجاريها قبل هذا الوقت، ستذهبُ في الإجازة إلى الطائف، كعادتها، وستعود إليكَ، وكأن شيئاً لم يكن.

وضع كفه على كتفي.

- يبقى دوركَ أنت.

سألتهُ:

- وما دوري؟!

- احتفظ بأوراقكَ ورسائلكَ الخاصة في المكتب، وحاول أن تطيّبَ خاطرها بكلمتين حلوتين، دعوة عشاء في فندق، باقة ورد وبطاقة، قطعة مجوهرات.

أطفأ سيجارته، ثم أكمل:

- أنا أعرف أنك تغمرها دائماً بهذه اللمسات الرومانسية.

أشعل سيجارة ثانية، قال وسحابة من الحزن تعلو وجهه.

- لا بأس، استحمل، اعتبرْ هذا الموضوع حجراً طارئاً، وسوف يسقط من جبلك.

ابتسمتُ له ممتناً، ثم بادرته:

- ألن تسألني عن قصة هيفاء؟!

- قصتها معك، أم قصتها لك؟!

أعجبني سؤاله الذكي، فشددتُ شعره.

- هل صدّقتَ كلام فاطمة، بأننا طينة واحدة؟!

- أنا أعرف أننا لسنا كذلك، لهذا أجدني مشدوداً لك.

رنَّ جهاز النداء الرقمي.

أرخيتُ رأسي، وطالعتُ شاشته.

قمتُ إلى الهاتف المعلّق على الجدار، وطلبتُ الرقم.

عندما سمعتُ صوته بادرته:

- أهلاً يا دكتور طلعت، أرجو ألاَّ أكون قد أزعجتك.

- بالعكس، لقد كنت أفكر فيك قبل يومين.

- خيراً أم شراً؟!

- لا أستطيع أن أحدد، لقد كنت أقرأ خطة الطوارئ، فتذكرتكَ، قلتُ لنفسي: هذا الرجل حاد، يريد أن ينجز كلَّ شيء بدقة. في الحرب، لا أحد يعرف ماذا سيحصل، هل سنكون منظمين كما يريد، أمْ ستجعلنا الأهوال نتخبط في الممرات.

- عموماً، لم أتصل بكَ بخصوص الخطة.

- اذن، سوف تحيل لي مريضاً جديداً.

- أجل، وأنا هذا المريض.

تغيرتْ لهجة المزاح التي كان يتكلم بها.

- سلامات.

- أبداً، حلَّفتني أمي أن أعرض نفسي على اختصاصي قلب، قلت: الدكتور طلعت أقربهم إلى قلبي.

عاد إلى المزاح:

- قلبكَ السليم إن شاء الله.

- متى أستطيع أن أمرَّ عليك؟!

- الآن إذا أحببت، عندما تصل، بلّغ الممرضة أنك وصلت.

عندما أنهيتُ المكالمة، كان مروان قد دفع الحساب، وأخذ ينتظرني، واقفاً إلى جانب الطاولة.

مشيت إليه، وخمّنت خلال المسافة التي قطعتها، أنه لم يسمع ما قلته للدكتور طلعت.

قال لي:

- أنت مشغول، وأنا يجب أن أذهب.

ناولني علبة السجائر.

- احتفظ بها، سأشتري أخرى.

- دعها معك، هناك سوق في النادي.

- اذهب أنت إلى عملك لكيلا تتعطل، سأدخل أنا لهذا السوق.

وصلت إلى عيادة الدكتور طلعت، الواقعة في الدور الثاني للعيادات الخارجية.

عندما خرجتْ الممرضةُ، عرَّفتها على نفسي.

- سيراك الدكتور حالاً، لديه حالة مستعجلة الآن، لماذا لا تنتظر في غرفة استراحة الموظفين؟!

- حسناً.

تقدمتْني.

عندما وصلتْ الغرفة، أدارت مقبضها فوجدته مقفلاً.

قالتْ لي مبتسمة:

- لا يقفل الباب إلاّ الموظفات السعوديات.

رددتُ عليها.

- سأنتظرْ في القاعة.

- لا عليك، اصبرْ.

دقّتْ الباب ثلاث دقات متفرقة وكأنها إشارة متفق عليها، فانفتح.

دخلتْ قبلي، وهي تقول:

- تفضل.

ثم قالتْ للتي فتحتْ الباب:

- إنه موظف مثلكن.

دخلتُ، فإذا هيفاء تجلس مع إحدى طبيبات قسم الأطفال، التي ما إن رأتني، حتى ارتدتْ بالطوها، ثم وضعتْ الغطاء على شعرها.

- بعد إذنكما.

وخرجتْ هي والممرضة، التي أغلقتْ الباب وراءها.

نهضتْ هيفاء إلى ركن الغرفة، حيث أدوات الشاي.

سألتني، وعيناها لا تزالان تتّقدان بالمفاجأة:

- أأصنع لك شاياً؟!

- لا، شكراً.

- هنالك قهوة أيضاً.

- لا أريد شيئاً، صدقيني.

عندما جلستْ، أحسستُ أنها بدأت تستفيق.

قالتْ لي:

- معقول؟! منذ أمس وأنا أبحث عنك، ثم تجيء اليّ بنفسك؟!

أطرقتْ قليلاً، ثم سألتْني.

- لماذا جئتَ إلى هنا؟!

أجبتها مازحاً:

- ربما لأراكٍ أثناء استراحتك.

- لقد أتحتُ لك رؤية كل تفاصيل حياتي، أنسيت؟!

- وكيف أنسى يا هيفاء، سيرتكِ عمل رائع، لقد كنت محظوظاً لأنني اطلعت عليه.

- لماذا؟!

- لقد أضافتْ لي أجواء لم أعشها.

- ألم تسافر إلى أمريكا؟!

- المسألة ليستْ في السفر إلى أمريكا، لقد طرحتِ في قصتك تجربة مثيرة، بأسلوب جريء.

- أنا لم أفعل شيئاً أكثر من تدوين مذكراتي كما هي، أنت الذي حوّلتَ النص إلى عمل أدبي.

- أأعجبكِ؟!

سألتني مستغربة:

- ألم تقرأ رسالتي؟!

- أية رسالة؟!

- لقد تركتُ رسالةً على مكتبك، لم أجدكْ، فوضعتها على طاولتك.

قلت لها:

- منذ أن خرجتُ من مكتبي قبل ساعة، لم أعدْ إليه حتى الآن.

- لن أقول لك ما كتبته.

وضعتْ كفها على عينيها، خجلاً.

- أنا لا أعرف كيف كتبته.

سألتها كي أغيرَّ الموضوع.

- هل تعملين في عيادة الطبيبة التي كانت هنا؟!

- في البداية لم أكن أعمل معها، لكنني ارتحتُ لتعاملها الطيب مع الأطفال، ثم رجوتُ رئيسة قسم التمريض أن تجعلني أعمل معها، إنها امرأة واعية، كنا قبل أن تدخل نتحدث عن المظاهرة.

- ما رأيها فيها؟!

- هي تتفق معي أن البنات لم يخترن الوقت، أو الأسلوب المناسبين.

- هل هذا هو رأيكِ فعلاً؟!

- أجل، لقد عرفتُ مصادفة عن المظاهرة، قبل أيام من تنظيمها، أخبرتني صديقةٌ لي تعمل أستاذة في جامعة الملك سعود، بأن مجموعة من المثقفات، سينظمن مسيرة يوم الثلاثاء، وأنهن يحاولن أن يقنعن أكبر عدد ممكن من البنات للمشاركة في هذا العمل. صرتُ أوجه لها السؤال تلو الآخر، سألتها عن كل شئ، كنتُ أطالبها بإجابات محدودة وواضحة. قالت لي: لماذا كل هذه الأسئلة؟! ألاَ تريدين أن تطالبي معنا بحق من حقوقك المشروعة؟! سألتها: هل ستشاركين أنت معهن؟! ردَّتْ عليَّ بالإيجاب. أفهمتْني أن لديها كل الدوافع للمشاركة، وأنه لا يهمها النتائج طالما الدولة لا تعترض على المبدأ. حاولتُ أن أستشف منها، كيف استطاعتْ البنات أن يعرفن أن الدولة موافقة، فأخبرتني أن أستاذة تحمل درجة الدكتوراه، تعمل في اليونيسيف، وعلى علاقة مهنية مع أحد الأمراء، أخبرتهن أن الدولة لا تعترض على موضوع قيادة المرأة للسيارة، وأن هذا هو أنسب الأوقات لتنظيم المظاهرة، لوجود كل وسائل الإعلام العالمية. وأكدّتْ لهنَّ أن لا أحد يستطيع أن يمسهن بسوء بعد ذلك؛ لأن العالم كله عندئذ سيعرف. سألتها عن اسم الدكتورة أو اسم الأمير، فحلفتْ لي بأنها لا تعرف. وعندما سمعتُ منها مزيداً من الأجوبة، شككتُ في كلامها؛ لأنها نقلتْ هذا الكلام عن لسان صديقتها التي لا أثق فيها كثيراً. قالت لي: أسئلتكِ توحي بأنكِ لست مقتنعة بمشروع المظاهرة. رددتُ عليها: أنا لا أراهن على فرس غامض.

أحسستُ أنها تريد أن تتوقف عن الكلام، فسألتها.

- إذن، كنتُ تعرفين عن المظاهرة قبل أن تتم؟!

- أجل، لقد ظللتُ ليلتين أتصارع مع ذاتي، أأشارك، وأحقق عملاً أؤمن بمبدئه، متجاهلةً الظروف الغامضة التي تدبره؟! أم أبقى متفرجةً، أنتظر نتيجته، وبذلك أحمي نفسي من غياهب المجهول؟!

- ورفضتِ المشاركة؟!

- أجل، لقد كان قلبي يقول لي: إن المظاهرة عمل ارتجالي، وإنه سيجرُّ كثيراً من المصائب. وحدث ما توقعت، استغلَّ البعض هذا الحدث ليوجهوا للدولة ضربتهم.

- هل تعتقدين أن المظاهرة كانت عملاً ارتجاليا؟!

- أرجو ألاَّ تفهم أن كلامي هذا تجريحٌ للبنات، لكنني أثق أن بعضهن لم يشارك إلاَّ لمجرد حب الظهور.

- لذلك لم تشاركي معهن؟!

تنهدتْ، فشعرتُ أن أسئلتي ضايقتها، فقلتُ لها:

- أنا آسف يا هيفاء، لقد أحببت أن أعرف رأيك.

ابتسمتْ.

- أتريد أن أستكمل سيرتي؟!

صمتت، وكأنها ترتب أفكارها.

- لا بأس، سأقول لك، إذا كنتَ تريد ذلك فعلاً، بعد سليمان، أصبحتْ خولة عالمي الكبير. تقدّم لي خطّابٌ كثيرون، لكني ظللتُ أوصدُ أبوابي ونوافذي، كنتُ أعرف أن قلبي لن يخفق لرجل غيره، كنت أتابع أخباره عبر الصحف بصفته مسؤولاً كبيراً، كنتُ أضع الجريدة أمامي، وأحدّق في صورته، وكأنني أرى سليمانا آخر، أتخيلني أقول له: ها قد أصبحتَ ثرياً، تزوجتَ فتاةً لا تحاصرك بالأسئلة التي تكرهها، لكنني لا أزال أرى في أقصى عينيكَ خجلاً عميقاً.

- ألا تزالين تحبينه؟!

- بل أعطف عليه، فمهما بلغ في الغنى، فإنه لا يستطيع أن يمحو بريق الرفض الذي كان يشعُّ في دمه، يعتقد أن الثراء والسفر وزوجته الرقيقة البسيطة، أخمدتْ بركانه إلى الأبد.

- هل تظنين أنه سينفجر يوماً ما؟!

- أتحسبُ أنني بعد تجربتي معه، سأراهن عليه؟! لقد جعلني، منذ انفصالي عنه، أضع التناقض هاجساً في علاقاتي مع الآخرين. صار مقياسي، الذي أحدّدُ من خلاله صدقهم، لذلك، لم أشترك في المظاهرة، كيف تريدني أن أُراهنَ على أكثر من أربعين امرأة، لكل واحدة منهن نارٌ، لا أعرف حطبَها ؟!

لم أجد جواباً لها، فقالتْ:

- يبدو أن سيرتي اكتملت الآن.

- لا، هناك مرحلة ناقصة. مرحلة تهمني كثيراً.

- أية مرحلة؟!

- مرحلة ما بعد انفصالك عن سليمان، لقد سبق أن قلتِ لي إنك بعد أن جئتِ من أمريكا، صرت تبحثين في القصص والروايات عن أجوبة لأسئلتك.

- نعم، أذكر أنني قلت لكَ ذلك، حين تحدثنا بالهاتف يوم الخميس الماضي.

-لم لا ترصدين هذه المرحلة؟! هذه الكتب، وهذه الأسئلة، أنا متأكد أنها هي التي شكّلت لديك هذه القدرة الأدبية، لولاها، لما استطعتِ تسجيل هذه السيرة بهذا الشكل الرائع، ولضاعتْ كما تضيع معظم التجارب الحقيقية.

- أتعتقد حقاً أن ما كتبته مسألة مهمة؟!

- بل بالغة الأهمية، عالم المرأة هنا عالم مجهول، معظم الكاتبات يتناولن في قصصهن ومقالاتهن موضوعات وجدانية، نحن نحتاج إلى من يكشف عوالمكن الموصدة.

- لكنني لستُ كاتبة، سيرتي مجرد تسجيل ليوميات عادية، قد تحدث لأي امرأة، أنت الذي حوّلتها إلى عمل أدبي.

قبل أن أردّ عليها، فتحتْ الممرضة الباب، ثم أشارت بيدها.

- الدكتور طلعت ينتظرك.

سألتْني هيفاء، وأنا أنهض:

- اذن، جئتَ لترى الدكتور طلعت؟!

أجبتها:

- أجل، سأناقشه في بعض تفاصيل خطة الطوارئ.

قالتْ:

- وستكون الخطة موضوع محاضرتك لنا بعد ساعة.

- هذا صحيح.

دخلتُ على الدكتور طلعت، فطلب مني أن أستلقي على السرير.

- هكذا، مباشرة؟!

- لا أريد أن أضيع وقتك.

بعد أن استلقيت، سألني:

- هل يضايقك شيء معين؟!

- أشعر بين كل فترة وأخرى بألم في منتصف صدري وفي كتفي الأيسر ورقبتي وحنكي.

وأخذتُ أشيرُ إلى مواقع الألم.

- متى تشعر به بالضبط؟!

- عندما أبذل مجهوداً جسدياً أو نفسياً.

قال، وهو يضع السماعة في أذنيه:

- طبعاً، لن أسألك عن الإجهاد النفسي، أنت شخصية متوترة، إنني أعرف ذلك عنكَ، قبل أن يكون هناك أزمة وقوات أمريكية وخطة طواريء.

أخذ يفحص صدري بدقة، وهو مقطبٌ حاجبيه.

سألته، وهو يرفع السماعة عن صدري:

- ما أخبار سفرك إلى كندا؟!

- اخلع ثوبك.

ردَّ على، وأنا أخلعه:

- حين تنتهي الأزمة، سأسافر.

- سوف تترقى من استشاري مشارك إلى استشاري، أليس كذلك؟!

- هذا إذا وفقني الله، الإدارة تدعم الأطباء السعوديين، لكن رؤساء الأقسام الأجانب لا يريدوننا أن نتطور، ليظلّوا هنا أطول فترة ممكنة.

- وأين هم الآن؟! لقد فروا وتركوا المستشفى لكم.

- هذه واحدة من إيجابيات الأزمة، لقد كشفتْ لنا حقائق كثيرة، من كان يصدق أن دُولاً ستنقلبُ علينا، ونحن الذين كنا ندعمها بمئات الملايين سنوياً، أعرف صديقاً كان يصرخ في المجالس بأعلى صوته: لماذا تدعم الحكومة المجاهدين الأفغان وثوار نيكاراجوا؟!

جذبَ جذعي إلى الأعلى.

- أريد أن أفحص ظهرك.

صار ينقل سماعته من مكان إلى مكان، وهو يطلب منى أن أتنفس بعمق، يضع كفه اليسرى على ظهري، ثم يدقّها بأصابع يده اليمنى.

استلقيت مرة أخرى، وأخذ يفحص أصابع قدمي، ثم أصابع يدي.

- كم سيجارة تدخن باليوم؟!

- في الأشهر الأخيرة، صرت أدخن علبة ونصف تقريباً.

- وقبل ذلك؟!

- لا أكمل العلبة.

- منذ متى وأنت تدخن؟!

- منذ اثني عشر عاماً.

توجه إلى المغسلة، ثم بدأ يغسل يديه.

لبستُ ثوبي، وأخذ يكلمني وهو يطالع وجهي في المرآة.

- سأطلب لك فحوصاً عاجلة.

- هل هنالك شيء؟!

- الفحوص هي التي ستثبت ذلك؟! سأطلبها لك اليوم.

- اليوم أنا مشغول، أنت تعرف أن الأربعاء دوامه قصير وأعماله كثيرة، وغداً تبدأ عطلة نهاية الأسبوع.      

دخلتُ مكتبي، ثم طلبتُ ماريان.

لمحتُ إلى جانب الهاتف هدية ملفوفة بورق بنفسجي، أسفلها بطاقة.

- هل اتصل أحد؟!

- اتصلتْ منيرة، وتركت رقم هاتفها، تريدك أن تتصل بها قبل الواحدة ظهراً.

فتحتُ الهدية، فوجدتها قارورة عطر.

قرأتُ البطاقة:

"لم أكن أتوقع، في يوم من الأيام، أن أكون بطلةً لعمل أدبي.

لقد جعلتني رمزاً، وأنا أعي أنني قد لا أستحق أن أكون كذلك.

حوّلتَ مذكراتي المكتوبة بأسلوب مباشر إلى قطعة أدبية.

في أبواب الحمّى، اكتشفتُ قدرتك على التقاط أبسط التفاصيل.

لم أكن أشعر بمقدرتك هذه من قبل، لذلك أعدت قراءة أعمالك، فاكتشفتُ أن التفاصيل الصغيرة هي شغلك الشاغل.

وجدتك أنت أنت، في كل أعمالك، عدسة تلتقط أدقَّ الأمور، ثم تعرضها على شاشة أوراقك.

أتخيلك تجمع الناس، وتعرض عليهم شاشتك، تبقى في مؤخرة القاعة خائفاً إلى أن ينتهي العرض، ثم تنصرف محترقاً بنار بوحكَ.

إنني أصفّق لكَ.

وأصفق لنفسي؛ لأنني استطعتُ أن أدخلَ جنّةً مشتركة معك.

                                    هيفاء

                                    13 نوفمبر 1990م"

فتح وليد باب مكتبي، وهو يحمل التقرير.

وضعه على مكتبي، وهو يقول:

- ستتصل بهن كما اتفقنا، وسأتولى أنا بقية الإجراءات.

- لكن هذا هو عملك أنت.

- أرجوك. اعفيني.

- حسناً، لكن بشرط.

- ما هو؟!

- ستلقي أنت المحاضرة للمتطوعات بدلاً عني.

ردَّ مندهشاً.

- وماذا سأقول لهن؟!

فكرتُ قليلاً، ثم قلت:

- لتكن المحاضرة اليوم مفتوحة، دع كل واحدة تقول اقتراحاتها وتصوراتها، وسجّلْها في ورقة.

- كان من المفروض أن تلقي عليهن محاضرة عن خطة الطوارئ.

- اعتذر لهن، أخبرهن أنني ارتبطتُ بمهمة عاجلة، وأن هذا الموضوع سيتأجل إلى الأسبوع المقبل.

بعد أن خرج، اتصلتُ على الرقم الذي تركته منيرة.

ردّتْ عليَّ امرأة ذات صوت خائف ومتعب.

طلبتُ منيرة، فسألتني عن اسمي.

ذكرته لها، فقالت بصوت أوضح.

-  أهلا بك، أنا نورة زوجة عبد العزيز.

-  أهلا يا نورة، كيف حالك؟!

- لا بأس.

- أليس هناك أخبار عن عبدالعزيز؟!

- إنه لا يزال هناك.

قلت لها:

- منيرة تركتْ لي هذا الرقم.

 -أجل، إنها عندي.

انتظرتُ لبرهة، ثم سمعتُ صوتها، وهي تحييني بلهفة.

- أهلاً بك يا منيرة.

- كيف حالك، صدقني أنا مشغولة عليك.

- أنا بخير، لكن صوت نورة يقول إنها متعبة.

- هذا صحيح، لقد اتصلتُ بها البارحة، فوجدتها محبطة تماماً، لذلك أتيت عندها قبل ساعة.

- ما بها؟!

- أنت تعرف أنها تواجه عدة أزمات في وقت واحد، عبدالعزيز من جهة، والبيان الذي صدر أمس بتحريم قيادة المرأة من جهة، وحرمان البنات من أعمالهن من جهة، إنها خائفة من أن المظاهرة كانت سبباً في ازدياد الحصار على النساء.

تنهدتُ، ثم قلتُ لها:

- ابقي إلى جانبها، إنها في حاجة إليك.

- ليتني أستطيع ذلك، هذه الزيارة اختلستها خلسة، أمي وأبي يحاصراني حصاراً مريعاً، لا يريدون أن أتصل، مجرد اتصال على أي من البنات، حاولوا أن يقنعوا خطيبي بالإسراع بالزواج، لكنه اعتذر. قال لهم: نحن على أبواب الحرب، فكيف تريدوننا أن نقيم عرساً؟! وأوضح لهم أنه يأوي في بيته ثلاث عوائل كويتيه من أقاربه، وأنه غير مهيأ أبداً لإقامة هذا الفرح.

- أليس هناك طريقة ما لمساعدتها؟!

- المشكلة إنها تتابع كل التطورات المحبطة. 

- هل أحسستِ أنها نادمة على المشاركة في المظاهرة؟!

- أبداً.

- أكانت تتوقع أن تتسبب المظاهرة في كل هذا؟!

- كلنا لم نتوقع ذلك.

فكرتُ ثم قلت لها:

- لم لا تحاولي إقناعها بالانضمام لبرنامج التطوع، ربما يخرجها هذا من الطوق الذي يخنقها.

- وهل ستسمحون لها؟!

- ولِمَ لا؟!

- إنها محرومة من العمل.

- هذا ليس عملاً رسمياً. إنه تطوع.

- سأخبرها بذلك.

- سلّمي لي عليها.

قبل نهاية الدوام، اتصلتُ على والدتي.

أخبرتُها، بأنني ذهبتُ إلى الطبيب كما طلبتْ مني، وأنه أعطاني موعداً يوم السبت ليجري لي كل الفحوصات المطلوبة؟!

- هل ستنام عندي الليلة؟!

- لا، سأذهب إلى البيت.

تذكرتُ أن اليوم هو موعد اللقاء العائلي الأسبوعي، فسألتُها.

- أين سيجتمع أقاربنا الليلة؟!

- عند أخيك راشد.

عندما وصلتُ البيت، كانت الساعة تشير إلى السابعة إلاَّ ربعاً.

استقبلتني هاجر، وعلى وجهها كآبة.

كانت قد أخبرتني عندما أحضرتها من المدرسة بعد ظهر اليوم، أنها ستأخذ معها "أوتوغرافها" للقاء العائلي، وأنها ستطلبُ من أعمامها وعماتها، أن يكتبوا لها مشاعرهم تجاهها.

استغربتُ.

خفتُ أن تكون فاطمة قد أخبرتْها عن قرار السفر النهائي، لكنني استبعدتُ ذلك.

سألتها متحمساً:

- وهل ستتركين لي صفحة في الأوتوغراف، لكي أكتب لكِ؟!

- أنت يا بابا ستكتبُ في أول صفحة.

- ومتى تريديني أن أكتب ؟!

- بعد أن يكتب الجميع، لا أريدهم أن ينقلوا من كلامك.

وضعتُ ذراعي على كتفها.

- لماذا أنت حزينة؟! هل أغضبكِ هزيع؟!

- أنا وهزيع زعلانين من ماما.

- لماذا؟!

- تقول لن نذهب إلى بيت عموّ راشد ولا إلى غيره. تريدنا أن نبقى في البيت، لا نخرج إلاَّ إلى المدرسة، حتى تبدأ عطلة الربيع، ونسافر إلى الطائف.

امسكتْ يدي، وكأنها تريد أن أفعل شيئاً.

- أريدهم أن يكتبوا في أوتوغرافي.

مسحتُ على شعرها بكفيَّ.

- إذا رجعتم من الإجازة، سيكتبون لكِ.

أرختْ ذراعيها إلى الأسفل بقوة.

- ماما تقول إننا لن نرجع، إنها تجهّز حقائبنا من الآن.


 

الرياض -10:

15 نوفمبر 1991م

أفقتُ من النوم على رنين جهاز النداء الرقمي.

طالعتُ الساعة، فإذا هي التاسعة والربع صباحاً.

ضغطت زر الجهاز، فظهر على شاشته رقم هاتف والدتي.

مرتبكاً، لبستُ ثوبي، وخرجت.

استأذنت البائع الباكستاني في السوق المركزي، بأن أستخدم الهاتف.

- تفضل يا دكتور.

سحبَ الهاتف المخبأ داخل الطاولة التي تحمل الآله الحاسبة.

اتصلتُ على منزل والدتي، فأجابتني.

- صباح الخير يا أمي.

- صباح النور يا ولدي.

سألتها:

- خيراً إن شاء الله؟!

- لقد انشغلتُ عليك، لماذا لم تحضر البارحة إلى بيت أخيك؟!

حاولت أن أجد عذراً مقبولاً.

تلعثمتُ وأنا أقول لها:

- لقد زارني فجأة زميل قديم مصطحباً زوجته وأطفاله، وبقوا عندنا حتى العشاء.

- ولماذا لم تتصل لكي تطمئنني؟!

- لقد خرجوا متأخرين، وكان السوق التي أكلمكِ منها الآن، مغلقاً.

سألتني، وكأنها لم تصدقني:

- أهذا هو السبب؟! لا تكذب عليَّ.

- ولماذا أكذب عليك؟! أتعتقدين أن هناك سبباً آخر؟!

- لا أدري، قلبي يقول لي: إن مشكلتكَ مع فاطمة هي السبب.

- لا تقلقي يا أمي، إنها مشكلة بسيطة، يومان، وتنسى فاطمة ما حدث.

- لا أظنُّ يا ولدي، فاطمة عنيدة، ولن تنسى الموضوع بسهولة، لقد ظللتُ البارحة أتقلّبُ في فراشي حتى الفجر، إنني خائفة عليك.

قلتُ لها بود:

- لو كان هنالك شيءٌ، لقلت لكِ، هيا يا أمي، حاولي أن ترجعي إلى النوم.

- ليس لديَّ رغبة في النوم، تعال افطر معي.

- لدي أعمال كثيرة، يجب أن أنجزها في المكتب.

قالتْ، وكأنها تحذرني:

- لا تعتذر لفاطمة، إن فعلتَ، ستجعلك تعترف بخطئك، وستبدأ تصطاد زلاّتكَ، ثم تحوّلُ حياتكَ إلى نكد.

وأضافت:

- يكفي ما أنت فيه.

-لم تفعلْ فاطمة شيئاً يستحق كلامك هذا.

- بل فعلت، أتحسب أنني صدقتُ قصة زيارة زميلك؟! أنا أعرفكَ ياولدي، كما أعرف خطوط كفي.

قلتُ لكي أختصر مدة استخدامي الهاتف:

- سنتناقش في الموضوع فيما بعد يا أمي.

- متى؟!

- إذا انتهيتُ من عملي باكراً، سوف أمرُّ عليك.

وضعتُ السماعة.

التقطتُ واحدة من سلال التبضع، وأخذت أتجول في السوق.

اشتريت خبزاً وحليباً وبيضاً وفاكهة وعصائر طازجة وحلوى.

عبرتُ أمام ركن المكسرات.

كانت فاطمة تحب لوز "الكاجو" وكنتُ انبهُها.

- إنه غني بالدهون.

ثم تسألني:

- ألا يعجبك جسمي؟!

- بل يعجبني.

- أعرف أن الرجال يحبون المرأة النحيلة، ها أنذا أحاول أن أخفف وزني بالقدر الذي أستطيعه، المرأة عندما تحمل وتلد أكثر من مرة، يتكوّمُ الشحمُ على جسدها.

- لماذا لا تمارسين الرياضة بالجهاز الذي أحضرته لك؟!

- لقد حاولتُ أكثر من مرة، لكنني أملُّ، تخيل نفسكَ وأنت تركض على جهاز ثابت في مكانه، ليتنا نستطيع أن نركض في الشارع، كما تفعلون أنتم.

- تستطيعين أن تمارسي رياضتك في نادي المستشفى أو في المسبح.

- يا ويلي، أتريد أن أفعل مثل الأمريكيات؟! هؤلاء، فسخنَ الحياء عن وجوههن، لا أدري كيف يتجرأن ويظهرن أجسامهن أمام الآخرين.

- المسبح خاص بالنساء يا فاطمة.

- ولو، تصوّر أنني ألبس مايوهاً، وأسبح أمام أخواتك، قسماً بالله، سيَشْنِقْنَني، لا،لا،  أرجوك، لأكن سمينةً، هذا أهون.

- أنت لستِ سمينة، لو تصبرين على التمارين الرياضية شهراً واحداً فقط، فسوف تستطيعين أن تتخلصي من هذه الكيلوجرامات القليلة التي تشغلك، وتصلين إلى الوزن الذي تحلمين به.

كانت تشير إلى بطنها وأردافها.

- المشكلة هنا، قبل أن أحبل بهاجر، كان وزني مثالياً.

- أنت التي كنتِ تصرين على الإنجاب، لقد كنت أقول لكِ، دعينا نعيش حياتنا حُرّينْ. الأطفال سيقيدوننا.

- كنتُ أخاف أن تفرَّ من بين يدي.

- وهل كنتِ تتصورين أن الأطفال هم الذين سيحمونكِ من فراري؟!

- هكذا كانت تقول أمي، أوصتني أن أحبل منكَ في الليلة الأولى، بعد أن أنجبتُ هاجر، قالتْ لي: الرجال لا يحبون البنات، انجبي له ابناً، لكي يُغليك.

التقطتُ علبة كاجو، ووضعتها في السلّة.

وقفت أمام البائع، وأخذ يجرد مشترياتي.

أشار إلى حامل الصحف، قائلاً:

- جريدة الشرق الأوسط، وصلت.

أخذت نسخة، وأضفتها إلى مشترياتي.

أثناء إنشغاله بالجرد، أخذت أقرأ الصفحة الأولى:

"أجمع عددٌ من المحللين وقادة المعارضة العراقية في الخارج على أن الأنباء التي تأكدتْ حول إعدام 126 ضابطاً عراقياً منهم ستة برتبة فريق لرفضهم المشاركة في غزو العراق الكويت، يعكس مدى الاضطراب الذي تعيشه القوات المسلحة العراقية، وقال المراقبون إن القيادات المؤهلة من العسكريين العراقيين، تدرك أن صدام بتحديه المجتمع الدولي سيجر البلاد إلى الخراب".

سألني البائع:

- هل رأيتَ صور الطائرة المقاتله ب-52، والطائرة الشبح التي لا تستطيع أجهزة الرادار أن تلتقطها؟!

أجبته، وأنا أرفع عينيَّ مضطراً، عن بقية الخبر:

- أجل.

- كيف سيستطيع صدام مواجهة هذه المقاتلات الحديثة؟!

لم أرد عليه.

اقترب مني، هامساً:

- أمريكا هي التي تعيّنُ الرؤساء، وهي التي تُسقطهم، نصبّتْ هذا الدكتاتور ضياء الحق رئيساً على باكستان، وبعدما بدأ يلعب بذيله في أفغانستان، اغتالته، هو وسفيرها الأمريكي في حادث طائرة، وأوهمتْ العالم أن ما حدث كان قضاءً وقدراً.

أخرجتُ محفظتي لكي أدفع الحساب له، فوجدتُ أن ما بها لا يغطي المبلغ.

كنتُ سأقول له:

- سأعيدُ بعض المشتريات.

لكنني وجدته يبادرني، بعد أن رآني أبحثُ في جيوبي.

- إذا لم يكن معك، سددْ لي في المرة القادمة.

سقطتْ عيناي على ورقة التقويم الهجري المعلّقة خلفه.

قلت له:

- اليوم هو الثامن والعشرون، بعد يومين، أتسلم راتبي.

سألني، وهو يضحك مستغرباً:

- هل ينتظر طبيبٌ مثلك أواخر الشهر كما نفعل نحن؟!

وجدتُ نفسي مضطراً لأن أصحح خطأه.

- أنا لستُ طبيباً، أنا موظف إداري في مستشفى.

ردَّ، دون أن تظهر عليه علامات الخيبة:

- لكنكَ تفهمُ كثيراً في الطب، لقد استفدتُ كثيراً من توجيهاتك.

سألته بفضول:

 إلى أي مرحلة وصلتُ في التعليم؟!

- أنا أحمل دبلوماً في صناعة النسيج، لكن التأشيرة التي استطعت الحصول عليها للعمل في السعودية تشترط أن أكون محاسباً، دفعتُ للوسيط عشرين ألف روبية، أنا أعمل هنا منذ سنة ونصف، ولم أجمع حتى الآن ما يسدد هذا المبلغ.

- ستجمعه إن شاء الله.

قال، وهو يناولني الكيس:

- هذا إذا لم تقمْ الحرب.

وضعتُ الكيسَ على طاولة المطبخ.

كنتُ سأتركه كما هو، لكنني أفرغتُ الأشياء منه، ثم رميته في سلة النفايات.

وضعتُ علبة الكاجو على طرف الطاولة، لكي تنتبه لها فاطمة، ثم أخذت الجريدة، وخرجتُ من المطبخ.

فتحت غرفة هاجر وهزيع، فإذا هما نائمان.

لمحتُ أوتوغراف هاجر على (كومودينو) سريرها.

تناولته، وأخذتُ أقلب صفحاته، فإذا كلها بيضاء.

على أريكة الصالة، جلستُ.

أشعلتُ سيجارةً، وعلى صفحة (الأوتوغراف) الأولى، بدأت أكتب.

"حبيبتي هاجر.

أريد أن أكونَ أولَ عصفور يحطُّ على شجرة دفتركِ، ويغني لك.

دعي العصافير الأخرى تنظرُ إليَّ، وتقلّد غنائي.

أتذكرين القصيدة التي ألفتُها كي أعلمكِ الكلام على موسيقاها؟!

سأغنيها الآن على شجرتك:

 

                   هــاءٌ، هـاءٌ              هــاءٌ، هـاءْ

                   قوسٌ يحــرسُ          عيـنَ المــاءْ

                  خلفي النــونُ            أمامي الــواوُ

                  نرقـــص لليـــــاءليِ البيــضاءْ

                   هــاءٌ، هـاءٌ             هــاءٌ، هـاءْ

                   بابا يــعشقُ             حرفَ الــهاءْ

                   حرفٌ عَذْبٌ            حرفٌ رطـبٌ

                   هــودجُ قافلـــــــةِ الشعـراءْ

 

أنت يا هاجر أغنيتي، دعي العصافير تقلدني، وأنا أهزُّ ريشي فخراً بك.

أراكِ تكبرين يوماً بعد يوم، وتزدادين جمالاً.

عندما تصبحين امرأةً، سوف أسافر أنا وإياكِ إلى كل بلاد العالم، يدي تمسكُ يدك.

وحين يسألني أحد.

- من هذه؟!

أردُّ عليه:

- صديقتي.

ستكونين صديقتي.

معك يا هاجر، لن أحتاج لأي امرأة".

أحسست أنني تجاوزتُ لغةَ الأطفال في المقطع الأخير، فشطبته، وجعلتُ الرسالة تنتهي بالمقطع الذي يقول. أهزُّ ريشي فخراً بك.

وضعتُ (الاوتوغراف) على وسادتها، وخرجتُ إلى المستشفى.

بعد أن جلستُ على مكتبي، أخذتُ أفكر.

- لماذا لا أذهب إلى المطبعة الآن، ما دام ليس هناك شيءٌ أفعله؟!

أخرجتُ بطاقة هيفاء من الدرج، وبدأتُ أقرأها مرةً أخرى.

صرتُ أحدق في خطها الرفيع الأنيق، وأنا أعبثُ بذقني التي بدأت تأخذ في الطول.

أشعلتُ سيجارةً، فأنفرطتْ هواجسي.

- لو تتركني فاطمة، سأتخبط في الرماد، لقد اعتدتُ على عصاها، التي تشقّ بها بحرَ فوضايَ، فأترتب.

رنَّ الهاتف، فتجاهلته.

ظلَّ يرنُّ، وكأن الذي يطلبني يعرف أنني أتجاهله.

قمتُ إلى نبات الظل، وأخذتُ أنزع الأوراق التي اصفّرتْ، وأرميها في سلة المهملات.

أحسستُ بأنني كنتُ اقتلع أطرافي التي أنهكتْها جهاتٌ متناحرة.

أخذتُ أطالع الورقة المصفّرة، وهي ترتجف.

تابعتُ الإرتجاف، فوجدته في أصابعي.

شددتُ عضلاتِ يدي لكي أتحكم فيها، فلم أستطع.

تذكرتُ الدكتور طلعت.

- أتكون العلّةُ في قلبي؟!

رنَّ الهاتف مرةً أخرى، فالتقطته بسرعة.

بصعوبة، ميزّتُ الصوت الذي قال لي:

- كنتُ متأكدة أنك ستكون في المكتب.

- أهلا يا تهاني.

- أرجو ألاّ أكون قد أزعجتك.

- بالعكس.

ضحكتْ، ثم قالت:

- أبي يريد أن يتحدث معك.

ثم سمعتهُ وهو يقول:

- أهلا بك يا أستاذ.

- مرحباً يا أبا تهاني.

- هل أزعجناك؟!

- أبداً.

كان صوته منْتشٍياً.

سألته مازحاً:

- هل أقنعتَ تهاني بالسفر معكم خارج الرياض في حالة الحرب؟!

سمعتُ قهقهته، ثم ردَّ عليّ:

- بل هي التي اقنعتني بالبقاء.

سألني بجدية مفاجئة:

- هل تتوقع أن الحرب ستقوم فعلاً؟!

أجبته:

 ليتني أعرف مَنْ يجيبُ عن هذا السؤال.

فعاد إلى انتشائه.

- دعنا من الحرب الآن، أنا سعيد بالتحدث معك، تهاني تصرَّ عليَّ دائماً بأن أتعرّف إليك. لكنكَ تعرف العمل في الشركات، إنها تمتص وقتنا كله.

رددتُ عليه مجاملاً:

- هذا لطف منكما.

أكملَ:

- لماذا لا تشرفنا بزيارتك، إننا نحتفل الليلة بخطوبة تهاني، حفل بسيط، دعيتُ له مجموعةً من أصدقائي في الشركة.

قلتُ مبتهجاً:

- ألف، ألف مبروك.

- شكراً جزيلاً، هل ننتظرك؟!

- طبعاً، أنا أكنُّ لتهاني احتراماً كبيراً.

- وهي أيضاً تحترمك.

ثم قال:

- لحظة، تهاني تريد أن تكلمك.

سألتها معاتباً:

- لماذا لم تخبريني بالموضوع من قبل؟!

- خفتُّ ألاَّ يتم، لقد جعلتْني التجربتان الماضيتان أخاف من الشباب.

استغربت.

توقعتُ أنني لم أفهم ما قالته.

- هل تقصدين أن خطيبكَ ليس شاباً؟!

- بلى. لكنه....

استأذنتني قائلة:

- سأكلمك من الخط الآخر.

بدأ القلق يساورني.

أشعلتُ سيجارة، وأخذتُ أنتظر.

سمعتُ صوتها يعود اليَّ، فسألتها مباشرةً.

- لكنه ماذا يا تهاني؟!

- إنه متزوج.

صحتُ بها:

- متزوج؟! وكيف ستتزوجينه؟!

- مثل كل الناس، أنا لستُ الأولى التي تتزوج على ضرّة.

حاولت أن أكتم غيظي، لكنني فشلتُ.

- توقعتكِ أكثر نضجاً يا تهاني، كيف تقبلين أن تشاركك امرأةٌ أخرى في رَجُلك؟!

- سيؤمن لي بيتاً مستقلاً، إنه رجل ميسور الحال.

- المسألة ليستْ في البيت، انها في قلبه، أترضين أن تظفري بنصف قلبه يا تهاني؟!

- وهل لديكَ حلٌ آخر؟! لقد جربتُ حظي مرتين، انكسرتُ مرتين متتاليتين. الأول يريدني أن أترك العمل، ليحولني إلى جارية، تنتظره عندما يعود من عمله لتغسل قدميه بالماء المالح. الثاني يعتقد أن عمل المستشفى جريمة أخلاقية، لقد حوّلتني الصفعتان إلى امرأة يائسة.

تغيّرتْ نبرةُ صوتها، وتوقعتُ أنها ستبكي، لكنني قلت:

- ولماذا لا تصبري يا تهاني؟! هاتان التجربتان ليستا نهاية العالم، كأنكِ غريقٌ يتعلّق بقشَّة، تقوده إلى مجهول أصعب، هل أنت واثقة أن حياتك مع رجل متزوج، هي الحياة المناسبة لك؟!

- ربما لن تكون، لذلكَ حاولتُ أن أضع شروطاً قد تضمن لي حياةً مستقرة على الأقل. إنه يحبني كثيراً، زوجته الأخرى لا تمثل له شيئاً، تزوجها إرضاءً لأهله، إنها ابنة عمه، امرأة قروية وساذجة، لا تتوافق معه في أي شيء.

- كل الرجال يقولون هذا الكلام عندما يريدون الزواج بأخرى.

- لا، لا، إنه رجل متعلمٌ وواع.

- إذا كان واعياً كما تقولين، فلماذا لا يطلّق زوجته؟!

- لقد قلت لكَ إنها ابنة عمه.

وأضافتْ:

- أهله قرويون، لا يعارضون زواجه الثاني.

صمتتْ، ثم سألتني:

- هل ستحضر الليلة؟!

- سأحاول قصارى جهدي.

- أرجوك أحضر، أريدكَ أن تراه، وأن تقول لي رأيكَ فيه.

- وهل سيغير هذا شيئاً في الموضوع؟! هذا خياركِ أنت، أنا معترض كلياً على المبدأ يا تهاني. أرجوكِ، لا تغضبي مني.

- أنا أقدّر وجهة نظرك، لكنكَ تظل رجلاً، هناك أشياء لن أستطيع شرحها لك، كل ما يهمني في هذا الزواج، أنني لن أخسر استقلاليتي، التي بنيتُها بعرقي وشقائي طيلة السنوات الماضية.

- أي استقلالية تعنين؟!

- عملي في المستشفى، إنه حياتي كلها. من دونه، أشعر أنني طائر في قفص.

تذكرتُ حديثها صباح الأمس عن التناقض، فقلتُ لها:

- هذا هو التناقض الحقيقي يا تهاني، تدافعين عن استقلاليتك في عملك، وترضين في نفس الوقت أن تكون امرأة ثانية في بيتك؟!

أجابتْ بحسرة، وهي تتنهد:

- أنا لا أنكرُ تناقضنا، هل نسيتَ أنني أنا التي لفتُّ نظركَ إليه؟!

قبل أن تنهي مكالمتها، قالتْ:

- لقد نسيتُ ملف أوراقي في مكتبي، هناك أشياءٌ مهمة بداخله، أنا في حاجة إليها.

- هل تريدنني أن أحضره لك؟!

ضحكتْ لتحمسي.

- لا، سأرسل سائقي ليأخذه منك، أريدكَ فقط، أن تفتح مكتبي، وستجد الملف على الطاولة.

- متى سترسلين سائقكِ؟!

- بعد قليل.

نزلتُ إلى مكتبها.

فتحته، فثارتْ رائحة عطر نسائي رقيق.

تذكرتُ هيفاء.

تخيلتها تجلس على كرسي تهاني.

جلستُ على المقعد المواجه لها، ثم أسندتُ رأسي على ظهر المقعد.

تخيلتها تسألني:

- ما الذي يقلقك؟!

تقاطر في أذنيَّ موسيقى خافتة، ثم صوت بوب مارلي وهو يغني كلمات حزينة.

- هذه أغنية الجسر، أتعجبك؟!  أتخفف من قلقك؟!!

رفعتُ كفيْ عن عينيَّ.

التقطتُ الملف البلاستيكي، وخرجتُ، يملؤني الهلع.

ترددتُ، قبل أن أصعد إلى مكتبي.

أحسستُ أنني أحتاج أن أشمُّ هواء نقياً، فقررتُ أن أنتظر سائق تهاني خارج البوابة الداخلية لمبني المستشفى.

كان البائع الأريتيري في محل الورد الملاصق للبوابة مشغولاً بتنسيق باقة جميلة.

سألته، وأنا أشير لها:

- هل هي مطلوبة؟!

- لا إنني أجهزها للزوار، مساء الخميس، هو أكثر المساءات بيعاً، معظم الناس يفضلون الخميس لزيارة مرضاهم؛ لأنهم في إجازة من أعمالهم.

- سآخذها.

مدَّ لي مجموعة من البطاقات، وهو يسألني:

- إلى أي غرفة تريديني أن أبعثها؟!

- سأرسلها خارج المستشفى.

- لكننا لا نوصل الوردَ إلى خارج المستشفى.

- سيأتي سائق تهاني ليأخذ هذا الملف.

ناولته الملف، وأكملت:

- أعطه الباقة أيضاً.

سألني، وعلى وجهه ابتسامة شفافة:

- أنت تقصد تهاني، الموظفة في المستشفى؟!

- أتعرف سائقها؟!

- أنا أعرف كل سائقي البنات، إنهن ينزلن من سيارتهن كل صباح أمام المحل.

وأضاف:

- ألا تريد أن تكتب لها شيئاً؟!

التقطتُ بطاقة من بطاقات المحل.

أخرجتُ قلمي، وكتبت:

"تهاني.

حين يتفرعُ البحرُ إلى أنهار، يفقد ملوحته، وتقلُّ أسماكه.

لا يزال لديكِ متسعٌ من الوقت، فالشمس لم تغب حتى الآن.

تستطعين أن تُبقيها مشرقةً إلى الأبد على ماء بحرك، لكيلا ينقطع عنا مطركِ.

                                          الساعة الثانية ظهراً

                                        الخميس 15نوفمبر 1990م       

 

ملاحظة، لن أحضرّ الليلة.

أكره أن أرثي الشمس".

دسستُ البطاقة مقلوبة بين أغصان الورد.

سألني، وهو لا يزال يبتسم:

- أهو عيد ميلادها؟!

- بل خطبتها.

- أليس غريباً أن تحتفلوا بهذه المناسبات والحربُ توشك أن تبدأ؟!

- إنها مجرد خطبة، أتريد أن يُوقفَ الناس حياتهم في انتظار حرب قد لا تبدأ؟!

- لكن نظرات الرعب المرتسمة على وجوه الناس تقول: إنها قائمة قائمة.

سألته، وهو يغلّف الباقة.

- وأنت؟! ألستَ خائفاً؟!

- نحن الأريتيريون مولودون في الحرب، حياتنا كلها قتال وجوع وتشرد، إنها أصعب من حياة الفلسطينيين واللبنانيين، نحن نعيش في بلادكم داخل خرائب، ونشتغل في أقذر الوظائف، لا تتعاطفون معنا، كما تتعاطفون مع أبناء الجاليات البيضاء. تتزوجون منهم، تعطونهم الجنسية السعودية، وتشغلونهم في أرقى المناصب.

سألته مازحاً:

- هل تتوقع أنها تفرقة عنصرية؟!

ضحكَ، وهو يضع الباقة جانباً.

- وهل هناك اسم آخر لها؟! 

كتبَ إيصالاً بمبلغ الباقة، وهو يتنهّد.

قرأت الإيصال، فوجدتُ أن المبلغ مائتان وخمسون ريالاً.

قلت له، وأنا أتظاهر بأنني أبحث في جيوبي:

- محفظتي في المكتب.

- لا بأس، تستطيع أن تدفع لي أثناء خروجك.

دخلتُ مكتبي.

تناولت الهاتف، واتصلتُ على مدير المطبعة.

قلتُ له:

- قد لا أتمكن من الحضور اليوم، هل أستطيع أن أؤجل حضوري إلى السبت؟!

- كنتُ أتوقع أنك تريد المطبوعات في أسرع وقت ممكن.

- أنا فعلاً أريدها اليوم قبل الغد، لكنك تعرف أن المطبعة بعيدة، وقد لا أستطيع الحضور قبل انتهاء دوامكم.

فكّر قليلاً، ثم قال:

- هل لديك ما يشغلك غداً صباحاً.

- هل تفتحون أبوابكم أثناء الإجازة؟!

- لا، لكني سأترك لك البروفات النهائية لدى حارس المطبعة، قبل صلاة الجمعة، سيكون في انتظارك، ستطّلع على البروفات، وتوقّع عليها، وبمجرد أن نبدأ بالعمل صباح السبت، سنشتغل على مطبوعاتكم.

- فكرة جيدة، أشكر لكَ تعاونك معي.

عندما وضعتُ السماعة، أحسستُ بأنني ارتحت.

قلت لنفسي:

- ليس لديكَ أي التزام الآن.

لكنني عدت، فاحترت.

- هل أذهب إلى أمي؟!

وجدتني أتحدث بصوت مسموع، وأنا أحرك أصابع يدي:

- ستعود لتحدثني عن فاطمة، أنا أريدها أن تنسى هذا الموضوع، فاطمة ستجد علبة الكاجو على الطاولة، وستفهم، إنها حذقة.

لاحظتُ أنني كنتُ أكلم نفسي فانتفضت.

كانت هذه أول مرّة أواجه فيها هذا الموقف.

كنتُ عندما أرى شخصاً يكلم نفسه وهو يقود سيارته، أو يمشى وحيداً في  ممر المستشفى، أرثي لحاله، وأتمنى لو أوقفه، وأقول له:

- تحدث معي أيها البائس، سأصغي إلى كل كلمة تقولها، سأعوضكَ عن كل الذين فقدتهم.

تذكرت في تلك اللحظة صديقي مهيوب.

فتحتُ الدرج.

أخرجت رواية "انتفاضة المشانق"، التي كنت أخبيء رسالتَهُ فيها.

أخذتُ أطالع سطور الرسالة، دون أن أقرأ.

أحسستُ دمي ينتفض في خلايا وجهي، وأن كلماتها تقفز رغماً عني إلى عينيّ:

"كنتُ وأنا أقرأ أحاولُ أن أُسمعكَ حرقتي، أراقبكَ وأنت تغمض عينيك، وكأنكَ تستمع إلى مطر نَذَرَ إيقاعه لتأوهات العشب.

لم يعد العشب يليق بالمطر.

قال لي صاحبُ المكتبة:

- أبحث لكَ عن رزق بعيداً عني.

ومن عمل إلى عمل، كانت التربة تضيقُ بي.

إنني الآن في نهاية شارع بفانوس واحد.

ها أنا ذا أغادر، والفانوس ينطفئ ".

وضعت الرسالة على الطاولة أمام وجهي.

أرخيتُ رأسي، حتى لامس جبيني الورقة، فأحسستُ بيد مهيوب، تجسُّ الحمّى لديّ.

- حرارتك مرتفعة.

- بل هي حرارة الظهيرة يا مهيوب، خذ هذه القائمة وجهز لي الكتب في أسرع وقت ممكن.

- هذه الكتب ليستْ لك.

- وكيف عرفت؟!

- إنها دواوين شعر رومانسي، أنا أعرف أنك غير مهتم بهذا الجانب.

- لكل فنان امرأة يرسم عبرها نزقه.

- إلا أنت، دائماً أتساءل، أليس في حياتك امرأة؟!

- الكتابةُ هي امراتي الوحيدة. هل تصدّق أنني عندما أنتهي من كتابة عمل ما، أغدو وكأني كنت مع امرأة؟!

- حتى ولو لم يكنْ هذا العمل يتناول امرأة؟!  

- أجل، أنا أستغرب لماذا يحدث هذا، أتذكر عندما جئت لزيارتك في شقتكَ قبل شهر، طلبتَ مني ليلتها، أن أكتب لكَ شيئاً عن صنعاء، لتعلّقَهُ على الصورة الكبيرة التي اشتريتَها لسد مأرب، في تلك الليلة، تخيلتُ أنني أنزعُ الجبال عن جسدها، فتظهر مفاتن أوديتها، وأنني أسبحُ في أساطير عريها الأخّاذ.

- أتظن أن ما كتبته لصنعاء تلك الليلة، هو الذي استحضَر المرأة داخلك؟!

- أجل.

- أنسيتَ أنك بعدما أنهيتَ كتابتك، حكيت لي عن امرأة ظلَّتْ تستفزُّ عواطفكَ برسائلها الغامضة، وأنك كنت تتعمد تجاهلها لتجعلها تكتب أكثر.

- لا أعرف لماذا حكيتُ لكَ عنها.

- لأنك تعتبرني ظلّك الأليف، كنت تقول لي: أنت فضتي التي أرى على لمعانها وجهي الحقيقي، فكلما افتقده، أنظر إليك يا مهيوب.

أحسستُ أن دموعاً ترجُّ قضبان عينيَّ، وأنها تصرخ معي.

- جبيني يشتعل يا مهيوب.

خفتُ أن تحترق رسالته، فرفعتُ رأسي عن الورقة.

 

 

الرياض - 11:

16نوفمبر 1990

انتهيت من قراءة رواية "انتفاضة المشانق" في تمام الساعة الثانية والثلث صباحاً.

لا أعرف متى بدأت فيها.

اتصل مروان على هاتفي المباشر، مساء أمس.

سألني:

- ألا تزال في المكتب؟!

لملمت الأوراق التي كانت متناثرة على مكتبي، ثم أجبته.

- لم أنته بعد.

- ومتى ستنتهي؟! الساعة الآن الثامنة والنصف.

استدرت بعنقي إلى الخلف.

أزحت ستارة النافذة، فإذا الظلام ينشب حلكته في الزجاج.

- ربما أسهر هنا.

رد متهكماً:

- أتريد أن أمضي بقية حياتي في بيتك؟! أنا لم أتعود أن أبيت في منزل يخلو من الهاتف، إذا لم يكن إلى جانب رأسي، لا يمس النوم جفنيّ.

سألته:

- كيف فاطمة الآن؟! ألم تراجع قرارها؟!

لم نتحدث البارحة في الموضوع، ظلت تشاهد التلفزيون، وهي صامتة، بعد أن انتهى الإرسال، دخلت إلى غرفتها لتنام.

- هل كانت تبدو حزينة؟!

- لم تكن تظهر على وجهها انطباعات محددة، كانت تنظر طوال الوقت إلى زاوية خارج الشاشة، حاولت أن أكتشف من مكاني إلى ماذا كانت تنظر، فلم أستطع، بعد أن دخلتْ غرفتها، قمتُ وجلست في نفس مكانها.

قاطعته:

- وماذا رأيت يا مروان ؟!

- ربما كانت تنظر من خلال النافذة المفتوحة إلى شجرة الليمون العالية، التي تهتز بثمرها الربيعي، لقد كانت أضواء السور الخارجي تتوهج خلف أغصانها، وتضيف إلى حبات الليمون اصفراراً ناعساً. قلّبتُ عينيّ أبحث عن زاوية أخرى، فلم أجد. حملتُ صينية الشاي، وصحن المكسرات، وضعتها على طاولة المطبخ، ثم نمت على أريكة الصالة.

بادرته، وأنا أرسم على صوتي ابتسامة قلقة:

- هل أعجبتكما المكسرات؟!

ردّ بنبرة مختلفة، وكأنه استغرب سؤالي.

- فاطمة لم تأكل منها، وأنا لا أحب الكاجو، لقد أعدت الصحن كما هو.

ثم أضاف:

- لا تقلق عليها، صمتها يدل على أنها بدأت تراجع حساباتها، ربما تعرف فاطمة أكثر مني، لكنها عندما تتأزم، لا تُفضي بأسرارها لسواي.

صمتُّ، لكي أشعل سيجارة، فقال:

- ألا تريد أن تأتي؟!

- بلى، لكنني قد أتأخر.

ردَّ محتدّاً:

- أودُ أن أسمع منك، لا أدري لماذا تشيّد كلَّ هذه الجدران حولك؟! قلْ ما يعتريك.

رنَّ الهاتف الداخلي، فاستأذنتُ مروان.

- لحظة من فضلك، سأردّ على الهاتف الآخر.

- عموماً أنا أكلمك من هاتف عملة، وهذه هي الهللات الأخيرة التي بحوزتي.

رفعتُ السماعة بسرعة، معتقداً أنه المدير المناوب، فوجدته مأمور السنترال.

قال لي:

- معي على الخط امرأة تريدك في أمر ضروري جداً، حاولتْ أن تتصل بك عبر خطك المباشر، لكنها وجدته مشغولاً.

- هل سألتها عن اسمها؟!

- تقول إن اسمها هيفاء، هل أحوّلها عليك؟!

- أجل.

كان صوتها مرتبكاً.

- أهلاً يا هيفاء.

- أنا آسفة جداً لإزعاجك، لقد توقعت أنك موجود في المكتب، لذلك اتصلت عليك.

- ماذا هناك؟!

- خولة لديها مغصُ شديد، إنها لا تستطيع الوقوف على قدميها من شدة الألم، أعطيتها حبوباً مهدئة، لكنها لا تزال تتلوّى.

رددت عليها بقلق:

- ولماذا لا تحضرينها إلى قسم الطواريء؟!

- لقد خفتُ أن يقولوا إن حالتها ليست مستعصية، ثم يحيلونها إلى مستشفى آخر.

- لا عليك، أحضريها الآن، وسأهتم أنا بالأمر.

التقطتُ هاتف مروان، فلم أجد صوته.

قلتُ لنفسي:

- لابد أنه سمعني وأنا أذكر اسمها، سيحتدُّ أكثر معتقداً أنني باقٍ في المكتب لكي أتحدث مع هيفاء، وحين يراقب فاطمة وهي تحدق في الشجرة، سيتصور أنني أنا الذي سأُسقِطُ ثمارها.

غرستُ شجرة الليمون بيديَّ، عندما انتقلنا إلى هذا البيت.

كان منزلنا القديم شقة صغيرة، ولم يكن فيها فناء، وكنت أضطر أن آخذ هاجر وهزيع في إجازات الأسبوع إلى الحدائق العامة، لكي يركضوا على عشبها.

قلت لهما في اليوم الأول لانتقالنا:

- ما رأيكما أن نزرع حديقة؟!

ذهبنا إلى المشتل، وانتقينا بذوراً لورد الجوري والفلّ والريحان والياسمين وملكة الليل. اقترح علينا البائع أن نشتري شتلات أشجار صغيرة ونزرعها حول الحديقة.

- لكن حديقتنا صغيرة، لن تتسع لأكثر من شجرة.

سأل هاجر:

- أي شجرة تحبين يا حلوة؟

صرخ هزيع، وهو يمدُّ عنقه للبائع:

- شجرة ليمون.

ضحك البائع، ثم ضحكت هاجر.

- ما رأيكِ، شجرة الليمون ثمارها كثيرة.

هزّتْ رأسها موافقة.

حفرتُ التربة، وإلى جانبي هاجر وهزيع يمسكان الشتلة.

كانت فاطمة تطل علينا من نافذة البيت، وهي تصيح بي سعيدة.

- أغرسها جيداً لكيلا تموت.

بعد أن غرستها، ناديت فاطمة.

انضمَّت إلينا، فقلت لهم مبتهجاً:

- اسمعوا، يجب أن يرسم كل واحد منا بظفره خطاً على الجذع الرقيق، وسوف تكبر الخطوط مع الشجرة.

سألَتني هاجر:

- وإلى متى ستبقى الخطوط يا بابا؟!

فردّت فاطمة:

- إلى الأبد إن شاء الله. 

كنتُ لا أزال ممسكاً بسماعة الهاتف.

لاحظتُ أن ارتجاف يدي ازداد منذ الظهيرة.

وضعتُ السماعة، ثم اتصلتُ على مكتب المدير المناوب.

أخبرته أن مريضةً اسمها خولة ستأتي بعد قليل إلى الطواريء.

- خولة من؟! أقصد ما اسمها الثلاثي؟!

تخيلتُ سليمان، بشعره الآفرو، وصلعته الخفيفة التي تعلو جبيناً لوَّحتْه الشمس وهو يشير إلى هيفاء قائلاً: أقسم لكِ ولأمي التي فتحت حقيبتي في هذه المدينة البائسة لأول مرة، وجدتها قد دسَّتْ لي مصحفاً صغيراً وثلاثاً من خواتمها الذهبية العتيقة التي لا تملكُ سواها، أنني سأعود لكي أوقف المجزرة التي تخطط أمريكا لغرسها في لحمنا.

رددتُ عليه:

- لا أعرف لقب عائلتها، أعرف أن اسم أبيها سليمان.

- لا يهم، سنحصل على كل المعلومات المطلوبة عندما تأتي.

- أرجو أن تهتم بها.

- سأفعل، لا تشغل بالك.

أخذت أكمّل ترتيب أوراقي.

وضعتُ رسالة مهيوب داخل الرواية، ثم أسندتّها واقفةً على الجدار الملاصق لطاولة الهاتف. ألصقتُ ورقة ملاحظات صفراء على تقرير مدير المستشفى، وكتبت عليها:

"الأخت تهاني

أرجو الاتصال على المتطوعات الكويتيات الموضح أرقام هواتفهن داخل التقرير وإبلاغهن بأن موعد المقابلة الشخصية سيكون يوم الاثنين 20 نوفمبر 1990م".

ثم كتبتُ على ركن الورقة السفلي، بخط صغير جداً: "مبروك"، لكنني عدتُ وشطبتها.

- هي الآن توشك أن تمنح قدميها المجروحتين لرماله المتحركة.

مثل صاعقة حبيسة، انشقَّ الجدار الذي أمامي، ورأيت مسخاً مروعاً يقف في مواجهتي.

كان رأسه مقسوماً من المنتصف إلى فلقتين، يغلي المخُ بينهما، وتتصاعد منه رائحة نتنة، جلده شفاف، يظهر خلفه لحمٌ أزرق، يتطاير الذباب حوله، يداه على شكل قوائم ذئب وقدماه مفلطحتان، تنتهي كل منهما بمخلب واحد.

عوى بصوت يشبه صوتي:

- أتعبتني معك.

- أهذا أنت؟!

- أجل هذا أنا أنت، ولن تتخلص مني حتى تميط لثاماتك التي أتعبتني، متى ستميطها؟! متى؟!

لم أحرِ جواباً، فرأيتُ عنقَ المسخ، وهو يستطيل ثم ينحني باتجاه صدره، يُدخل أنيابه في اللحم، ثم يقتلع قلبه، يرميه على الأرض والشرايين تنزف دماً ثم يأخذ يدوسه بقدمه المفلطحة وهو يضحك، ويقول:

- أعرف كيف أجعلك تتكلم.

أحسستُ في نفس اللحظة التي عضَّ فيها قلبه، بألم يمزق قلبي.

سقطتُ على الأرض وأنا أحيط صدري بذراعيّ، وأصرخ:

- أرجوك، ارحمني.

- إن لم تنزع لثاماتك، سأقتلك.

رفعتُ رأسي لكي أتوسل إليه، فإذا هو يلتقط قلبه بأنيابه، ويعيده إلى صدره، ثم يتلاشى في الجدار.

بدأ الألم يخفُّ تدريجياً، لكن شوكته ظلّت مغروسة في أنحاء صدري.

نهضتُ.

عدّلتُ شماغي، ودون أن أجلس على الكرسي، فتحتُ درجي.

أخرجت ُ قارورة عطري، فوجدتها فارغة.

بشكل لا إرادي، وجدتني أفتح غلاف العلبة التي أهدَتني اياها هيفاء، لكنني رميت القارورة المملوءة في الدرج، من دون أن ألمس غطاءها، ثم أغلقته بقوة.

خرجتُ من المكتب.

مشيتُ عبر ممرات الدور الثاني، باتجاه المصعد.

حين وصلته، وجدتُ على بابه لافتةً تقول: "معطّل. قيد الصيانة"، فاتجهتُ إلى الدَرَج. صادفتُ في طريقي فني التخطيط، الذي أجرى لي فحص القلب يوم السبت الماضي، وهو يخرج من وحدة الإنعاش القلبي.

استوقفني سائلاً:

- هل زرت الطبيب بشأن قلبك؟!

- أجل.

- أي واحد منهم؟!

- الدكتور طلعت.

هز رأسه بإعجاب.

- إنه طبيب ماهر ومتفانٍ في عمله.

قال وهو يمسك يدي:

- تعال معي.

فتح باب الوحدة، ثم دخلت وراءه.

همس لي:

- أترى المريض الراقد على السرير رقم 7؟!

كان رجلا في الأربعين من العمر، يغمر وجهه الحزن والكآبة، تمتد من صدره وذراعيه، أسلاك موصولة بشاشة صغيرة تعرض إيقاع قلبه.

- ما به؟!

- لقد أحيل إلينا من المنطقة الشرقية، بعد الاجتياح العراقي بأسابيع، كان يعاني من تصلب حاد في الشرايين، أجرى له الدكتور طلعت عدداً من عمليات القثطرة البالغة الصعوبة، إلى أن تحسنت حالته.

- ولماذا هو حزين هكذا؟‍‍‍‍‍‍‍

وضع كفه على كتفي، وهو يمسك باب الوحدة.

خرجنا سوياً، ثم أجابني:

- لديه حالة فوبيا، خوف وهلع شديدان من الحرب.

رنّ جهازه الرقمي، وحين طالع الرقم، قال:

- يريدونني في وحدة العناية المركزة للمواليد، عندما أصل هناك، يستدعوني لوحدة الإنعاش مرة اخرى.. وهذا المستشفى، مسافاته متباعدة.

ابتسمت له:

- ألا تحب المشي؟‍

- بالعكس، المشي أفضّل رياضة للقلب.

نزلتُ الدرج.

دخلت قسم الطوارئ، وأخذت أبحث عن هيفاء في غرف العلاج، فوجدتها في إحدى الغرف، تتحدث مع المدير المناوب، وهما يقفان على جانبي السرير الذي كانت ترقد عليه خولة، وفي ذراعها حقنة الغذاء الوريدي.

قبل أن أطرق إطار الباب المفتوح، قطعتْ هيفاء حديثها، ثم التفتت باتجاهي، وكأنها أحست بوجودي.

قالت لي، وهي تبتسم:

- تفضل.

- كيف خولة الآن.

رد المدير المناوب ضاحكاً:

- إنها بخير، لقد فحصها الطبيب، وقال: إن لديها مغصاً كلوياً بسيطاً، وأعطاها حقنة وريدية مهدئة للألم.

أضاف، وهو يشير إلى قارورة المحلول الموصولة بالحقنة:

- بمجرد أن ينتهي المغذي، تستطيع أن تذهب إلى البيت.

كانت هيفاء ترتدي عباءة حريرية فوق كتفيها، وتلف الغطاء على مؤخرة شعرها.

قالت للمدير المناوب:

- أتعبناك معنا.

رد عليها، وهو يطالع خولة:

- هذا واجبنا.

ثم خرج.

اقتربت من خولة.

وقفت إلى جانبها، فصار سريرها بيني وبين هيفاء.

أخذت أحدق في وجه خولة، وهي نصف نائمة.

قالت هيفاء:

- كنت أنتظر مجيئك.

رددت عليها، وعيناي لم تفارقا وجه خولة:

- إنها فعلاً تشبهك.

- جميلة، أليس كذلك؟‍

أدارت خولة رأسها إليّ ببراءة، فسألتها:

- في أي مدرسة تدرسين؟

أجابتني بحياء.

- في مدارس "نجد".

- وأي الدروس تفضلين؟

- أنا أحب دروس الموسيقى.

حضنت هيفاء بكفيها يد خولة، ثم قبلتها:

قالت موجهةً الكلام إليّ:

- مدارس نجد متطورة جداً.

- لكن تكاليفها باهظة.

- أنا لا تهمني التكاليف، يهمني أن تدرس ابنتي في أرقى المدارس الخاصة، أريدها أن تستمتع بطفولتها، أن تتعلم الموسيقى والسباحة والكمبيوتر، نحن لا نجِدُ كل هذه المزايا في المدارس الحكومية، المتكدسة بمعلمات متناقضات، لا يهمهن سوى حشو عقول طالباتهن بالخوف والاتكالية.

رفعتْ خصلات شعرها الحنائي عن جبينها.

- هل تستأمن معلمة تعاني من انفصام في شخصيتها على ابنتك هاجر؟!

رددتُ عليها:

- هاجر تدرس في مدرسة حكومية.

وحين لم ترد عليّ، قلت لكي أقطع صمتها، بما حضر في ذهني تلك اللحظة:

- سمعت أن مدارس نجد تتبعُ لشركة "سعودي أوجيه"، التي  يمتلكها رفيق الحريري.

- هذا صحيح.

- إذن، لا تستبعدي أن يفتتح بنفوذه المالي، أول جامعة أهلية، تكون امتداداً لمدارس نجد.

- كل الآباء الذين ألحقوا أطفالهم في مدارس أهلية، يتمنون ذلك؛ لأنهم يخشون أن يخسر أبناؤهم في الجامعات الحكومية كل ما تعلموه في تلك المدارس.

سألتْ خولة أمها:

- كم عمر ابنته؟!

- إنها أصغر منك بسنة.

- ولماذا لا أتعرّف إليها يا ماما؟!

دخل الممرض حاملاً بعض الأدوية وأشار بيده إلى هيفاء، بأنه يريد أن يتحدث معها على انفراد.

قبل أن تخرج قالت لخولة:

- اسألي أبوها هذا السؤال.

التفتت خولة إليَّ.

- لماذا لا تحضرها يا عمّو إلى بيتنا؟! لديَّ أورغون كهربائي، سنعزف عليه أنا وإياها، سنسبح سوياً في مسبحنا الكبير، وبعد ذلك ستقص علينا ماما حكايات ألف ليلة وليلة، إنها حكايات جميلة يا عمو، هل تحبها؟!

- أجل يا حبيبتي.

- وهل تقرأها على ابنتك؟!

دخلتْ هيفاء، وهي تحمل كيس الأدوية. طالعتُ قارورة المحلول، فإذا بها توشك على الانتهاء.

قالتْ خولة لهيفاء:

- عمّو لا يشبه الصورة.

سألتُها بفضول:

- أية صورة يا خولة؟

قاطعتْها هيفاء والإرتباك بادٍ على وجهها:

- ستأخذين هذا الدواء يا حبيبتي لمدة ثلاثة ايام.

دخل الممرض واقترب مني قائلاً:

- سأنزع الحقنة من يد ابنتك.

لمحتُ هيفاء تراقبني، وأنا أضمُّ يد خولة بين كفيَّ إلى أن انتهى الممرض من عمله.

نزلتْ خولة من جانب السرير الذي كنت أقف ملاصقاً له، أحطتُ كتفيها بذراعي اليسرى ثم أمسكت يدها اليمنى.

مشت هيفاء إلى أن صارت إلى جانبنا وانحنت لتساعد خولة على ارتداء حذائها.

ترنّحت خولة، فأسندتها على طرف السرير.

قلت لهيفاء:

- سأحضر كرسياً متحركاً.

ساعدتُ خولة في صعود السيارة السوداء الفخمة، قبلتُها على خدها ثم قلت لها:

- لا تهملي الدواء يا حبيبتي.

فتح السائق الفلبيني الباب الآخر لهيفاء فركبت.

قبل أن أغلق باب خولة قالت لي:

- أنت لطيف جداً يا عمّو.

مدّتْ هيفاء عنقها لكي تتمكن من رؤية وجهي.

- لقد أحبَّتك خولة.

عدت إلى المكتب، كل شيء على الطاولة كان مرتباً.

وبشكل عفوي، التقطَتُ أصابعي رواية "انتفاضة المشانق"، التي لم أكن قد قرأتها حين استعارها مني مهيوب.

سألني:

- هل لديك روايات مكسيكية؟!

- لديّ رواية واحدة فقط.

- هل أستطيع استعارتها؟!

- أنا لم أقرأها بعد.

- وماذا تقرأ الآن؟!

- رواية يابانية لـ "كوبو آبي" اسمها "امرأة في الرمال".

- إذن، أعرني الرواية المكسيكية، وسأعيدها لك قبل أن تكمل أنت روايتك.

شممتُ في صفحات الرواية رائحة "جراك باعشن"، الذي تعوّد مهيوب كل ليلة أن يعبيء به موقد "شيشته" ويدخن، منسجماً بالتبغ والقراءة.

كان عندما تفعل الشيشة فعلتها برأسه يتمتم:

- لا ينقصني الآن، إلاّ القات.

وكان يصّر.

- يجب أن تذهب معي إلى صنعاء مرة.

وذهبت.

أخذني إلى "المقيل" حيث يجتمع عدد من المثقفين والموظفين والعمال عصر كل  يوم،  يمضغون أوراق نبات "القات" ويخّزنونه في جهة واحدة خلف أسنانهم.

كان الحوار وقتها يدور حول الظروف الغامضة لاغتيال عبد الفتاح إسماعيل، أمين عام الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي.

قال مهيوب، وهو يعدل موقد شيشته:

- لقد مضتْ على أحداث يناير عدة أشهر، كل المؤشرات تقول: إن صراعات الحزب الدموية، لم يكن هدفها الإصلاح بل التخريب.

ردَّ أحدهم، وهو يبصق ماء القات داخل علبة صدئة.

- يجب أن تؤمن بحكمة الحزب.

فقال آخر، متفقاً مع مهيوب:

- أي حكمة تلك التي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء؟

تشنّج ثالث:

- لكل ثورة ضحايا، الطريق إلى رفاهية الشعب محفوف بالدم وبالشهادة.

ناول مهيوب مبسم الشيشة للذي بجانبه.

- أتسمي ما نحن فيه في اليمن الشمالي، أو الجنوبي رفاهية؟! إننا نعيش بؤساً وتخديراً وجهلاً وتخلّفاً، ولن تنقذنا إلاّ الوحدة.

- وماذا ستقدم الوحدة؟! سيتحالف النظامان المتسلطان، وستزداد السيوف على رقابنا.

قلتُ لمهيوب:

- أين الحمّام؟!

خرج أمامي، فتح لي باباً خشبياً متآكلاً تفوح من خلفه رائحة النشادر والفضلات الآدمية.

دون أن أغلق الباب، أفرغتُ القات الذي في فمي ثم تقيأت، غسلتُ وجهي من ماء الصنبور المثبّت أسفل الجدار. 

كان مهيوب ينتظرني.

- ما بك؟!

- أحس بغثيان فظيع.

- ألم يعجبك القات؟!

سألته، والخدر يدغدغ صوتي.

- هل هذه صنعاء؟!

وقبل أن يجيب، فتحت الرواية.

تعودت ألاّ أقرأ المقدمة التي يكتبها النقاد في الصفحات الأولى، إلا عندما أنتهي من قراءة العمل.

لم تعجبني لغة الرواية، لذلك لم أقرأ كل المقدمة النقدية التي كتبها الروائي اللبناني "الياس الخوري" واكتفيتُ بالمقاطع التي وضع مهيوب تحتها خطاً بقلم الرصاص.

"الرواية، إذن، تأخذ حالة خاصة، هي حالة الفلاح كنديدو، الذي اضطر لبيع نفسه للمقاولين من أجل إنقاذ حياة زوجته المريضة. الزوجة تموت، والذلّ والهوان والفقر يحيط بكنديدو، في الغابات الاستوائية المتوحشة، حيث نعيش من خلاله قصة آلاف الهنود الذين يعاملون وكأنهم ليسوا بشراً. فمن خلال معاناة الهنود، داخل الغابات، نكتشف وببطء، ومن خلال التفاصيل الصغيرة، الكيفية التي يتكون فيها الوعي الثوري، الوعي لا يسقط من الخارج، إنه محصلة ممارسة يومية، وهو يكشف عن نفسه من خلال الحياة كما يعيشها الناس. فالوعي ليس مجرد مفاهيم مجردة، بل هو الممارسة كما تقدّم نفسها، هو الحياة حين تنفجر وتعيد ترتيب معطياتها المتعددة. إن هذه الرواية التي تسجل الإنتفاضة المكسيكية في بداية هذا القرن، لم يكن بوسعها أن تقدم أبطالها إلا بهذا الشكل. فالعالم الذي تصفه ينقسم إلى قسمين واضحين. وفي ظل شروط من هذا النوع، فإن الكتابة-الشهادة، لا تستطيع إلا أن تكون منحازة، وبهذه الطريقة".

سألت نفسي، وأنا أضع الرواية جانباً:

- هل كنت في "أبواب الحمّى" منحازاً لهيفاء، أم لتفاصيل سيرتها؟!

شعرتُ بحموضة شديدة.

كان ألم صدري، وارتجاف يديَّ، قد أخذا يزدادان منذ اقترابي من نهاية الرواية. أغلقتُ مكتبي، وقبل أن أصل إلى مواقف سيارات المستشفى، تذكرت كلام فني التخطيط.

- المشي أفضل رياضة للقلب.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشر دقائق صباحاً، تجاوزتُ المواقف وتوجهتُ إلى البوابة الخارجية، عبرتها ومشيت على الرصيف باتجاه الشارع العمومي. كان مبنى جريدة "الجزيرة" لا يبعد سوى كيلو متر، جنوب المستشفى، قررت أن أمشي إليها لكي أجلب نسخة من عدد الجمعة.

لم يزل الشارع ساهراً، سيارات تروح وتجيء، الأضواء الكاشفة لمحطة الوقود، حوَّلت الرصيف إلى نصف نهار. 

لم تعتدْ الرياض على النوم في الليل، يخفّ ضجيجها، لكنها تظلُّ توقد حطب السمر لأشقياء الظلام.

شقيٌ أنا بحب هذه المدينة.

من أجلها، أطلق نبال مواويلي، إلى نحور الذين يحاولون ابتلاع مرمر ابتهالاتها الخاشعة، وحين تفرغُ جعبتي من النبال، أغرس أظافري في رملها وأجعل خربشاتي تصعد غباراً في وجوههم.

أمام بوابة الجريدة، كان العمال الهنود يعبئون أعداد الجريدة في أكياس بلاستيكية، ويرصونها في سيارات التوزيع، كان ثمّة موظف سوداني يشرف على عملية التحميل، قلت له:

- صباح الخير.

- صباح النور.

- هل أستطيع أن أحصل على نسخة من الجريدة؟!

سحب نسخة من الأكوام التي أمامه.

ناولني إياها، فأخرجتُ ريالين من جيبي ومددتهما له.

دفع يدي رافضاً.

- إذا أحببت، أعطيتك نسخة ثانية.

عدتُ ماشياً على الرصيف المقابل.

صرتُ أقلّب الجريدة ابتداءً من الصفحة الأخيرة وأنا أطالع الصور.

استرجعت صورة هيفاء وهي تنحني تحت قدميْ خولةّ، وصورة فاطمة وهي تحدّق في زاوية شجرة الليمون.

- بعد سليمان، أصبحتْ خولة عالمي الكبير، تقدّم لي خطّاب كثيرون، لكنني ظللت أوصد أبوابي ونوافذي، كنت أعرف أن قلبي لن يخفق لغيره.

- لم تكن تظهر على وجه فاطمة انطباعات محددة، كانت تنظر طيلة الوقت، إلى زاوية خارج الشاشة، حاولتُ أن أكتشف من مكاني إلى ماذا كانت تنظر فلم أستطع.

دخلتُ المستشفى عبر البوابة الخارجية، ثم توجهتُ إلى موقف السيارات.

ركبتُ سيارتي، أدرت المحرك وأبقيت باب السيارة مفتوحاً.

على ضوء السيارة، وأضواء المواقف، أخذتُ أقرأ الجريدة في انتظار أن يسخن المحرك. كان على الصفحة الأولى عناوين عريضة ملّونة لحوار مع وزير الداخلية.

"الامير نايف في حوار صريح وشامل مع جمهور نادي مكة الثقافي والأدبي (...) هذه البلاد تدفع الشر ما استطاعت، وإذا اعتُدي عليها، فإنها قادرة على الدفاع عن نفسها (...) نصرّ على عودة الكويت حرّة مسلمة مستقلة بقيادتها الشرعية (...) لابد أن تتوحد الجهود داخلياً، وأن لا نترك ثغرة لعدو أو حاسد أو جاهل (...) أقول لهؤلاء النسوة القلّة، إنهنّ لم يراعين الدين والوطن والعرف".

فتحتُ الصفحة الداخلية التي تحمل نص الحوار، كانت أجوبته تتركز على الموقف الداخلي الموحد تجاه الاجتياح العراقي، وعلى إصرار الحكومة السعودية على دعم كل الجهود الدولية لانسحاب صدام حسين سلماً او حرباً. وعن بعض السلبيات التي برزت نتيجة أحداث الخليج مثل مطالبة بعض النساء السعوديات بقيادة المرأة السيارة.

أطفأت محرك السيارة، وأخذت أقرأ الإجابات التي نقلتها الجريدة، كما كان الأمير يقولها.

"إنه لأمر مؤسف أن يحدث ما حدث، يؤسف أن يكون هذا ينسب إلى نساء من نساء هذه البلاد. ولكن أحب أن أؤكد أنهن قلة، وقلة جداً لا تتعدى أكثر من 47 امرأة اللائي قمن بهذا العمل. ولاشك نحن نعرف هذا الأمر، أن فيهن من تربى على غير هذه الأرض وفي غير هذه البيوت التي هي بيوتنا الإسلامية التي تعرف كيف تربي رجالها ونساءها. ومن المؤسف كذلك أن يكون بعض أولياء أمر هؤلاء النساء قد أجاز لهن ذلك العمل. وكما تعلمون أنه لم يسمح للمرأة بقيادة السيارة ومن الأساس طبعاً، لأنها لا تعطى رخصة قيادة، ولم يسبق لأي إدارة مرور أن تلقت طلباً، أو أصدرت رخصة قيادة لأية امرأة. وكما قرأتم ما نشر في بيان وزارة الداخلية عن رأي الشرع فيها. فهذا ليس شأني ولكن شأن من حكّموا في هذا الأمر وخرجوا بأن هذا مفاسده كثيرة. ولذلك يجب أن يُمنع. ونحن أكدّنا أمراً معمولاً به ومؤكداً. ولهذا أحب أن أقول وليعلم الجميع إننا لن نتساهل بأي حال من الأحوال في مثل هذه الأمور، وأحب أن أقول لهؤلاء النساء القلة أو لمن يؤيدهن إنهن لم يراعين الدين في ذلك، ولم يراعين وطناً في ذلك ولم يراعين عرفاً تعارف عليه المجتمع، ولم يقدرّوا الوقت الذي نعيشه".

أحسست أن التعب أرخى مفاصل عظامي، وأنني لن استطيع أن أقود سيارتي إلى البيت. أرخيت مقعد سيارتي إلى الوراء، ونمت.

صحوتُ على حرارة الشمس، وهي تسقط على وجهي، طالعت ساعتي، فإذا هي تشير إلى العاشرة والنصف صباحاً.

كنت جائعاً ومحموماً، وكان يجب أن أذهب إلى المطبعة.

رفعت الجريدة عن حضني، أدرتُ محرك السيارة وأرجعتها مباشرة إلى الخلف.

في الطريق السريع، كانت أشجار السرو المزروعة بين الاتجاهين، تعبر إلى يساري بسرعة مذهلة، وكأنها نساء يستعددن للصلب.

كانت محطة "درع الصحراء"، تبثُّ موسيقى صاخبة، وكانت سرعتي تتزايد شيئاً فشيئاً.

أشعلت سيجارة ثم وضعت العلبة على (التابلوه). وقعت عيناي على مؤشر السرعة، فإذا هو يصل إلى مئة وعشرين كيلو متراً في الساعة.

انقطعت الأغنية وبدأ المذيع في قراءة موجز الحادية عشرة.

"قام رئيس العمليات البحرية الأدميرال فرانك كيلسو يوم أمس الخميس بجولة داخل المدمرة الأمريكية (أوبرين) الراسية في الخليج العربي، من أجل إحكام تنفيذ العقوبات الاقتصادية ضد العراق. ولقد ذكر البنتاغون أن مناورات (الصاعقة الأمريكية) التي بدأت أمس الأول جنوب الكويت، ستكون أكثر من تدريب إنزال عادي، وستتيح اختبار قدرات التنسيق بين الأمريكيين والسعوديين، خاصة على الصعيد الجوي. وقال البنتاغون إن حوالي 1100 طائرة هيلوكوبتر أمريكية تشترك في هذه المناورات، التي ستنتهي في 21 نوفمبر الجاري. وذكر بيتر ويليامز المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية أن جميع وحدات السلاح الجوي في ساحة العمليات ستقوم بدور في هذه المناورات. وأوضح أن عدداً كبيراً من الطائرات بينها المقاتلات الخفية اف/117، ستؤدي دوراً في العملية. وعلى الصعيد البحري، أضاف المتحدث باسم البنتاغون أن البارجة (وسكونسن)، الموجودة حالياً في الخليج وحاملة الطائرات (ميدواي)، ستشاركان في المناورات إلى جانب عدد من سفن الهجوم البرمائي، التي تنقل بعضها زوارق إنزال ذات مراتب هوائية".

كانت أمامي سيارة نقل صغيرة، تحمل أربعة براميل من زيت المحركات، وكان الزيت يتسرب من أحدها، فينتشر على الأسفلت.

رأيت سائقها يؤشر بذراعه من نافذته، بأن أخفف سرعتي.

لو أضع قدمي على الكابح فستنزلق السيارة، أخذت أضغط ذراع الأنوار الأمامية لسيارتي، لكي يفسح الطريق لأتجاوزه. كتمتُ أنفاسي، وأنا أقبض على المقود بكلتا يدي.

- أتريد أن أبدأ بخط الحياة؟!

- كما تشائين.

- خط الحياة يقول: إنك ستموت في حادث سيارة.

- كنت أعرف أنك ستقولين ذلك، أنت عرّافة فاشلة، كان ينبغي ألاّ تمهّدين للمشهد. 

تجاوزت سيارة النقل، ثم بدأت أقلّل من سرعتي لكي أسلك المنعطف الذي يقود إلى المطبعة. 

أمام البوابة أوقفت سيارتي، فتحت الباب ونزلت، أحسست وأنا أنزل بألم شديد في صدري. اتكأت على السيارة، لكنه لم يخف، أطلّ حارس المطبعة الأفغاني من خلف البوابة وسألني.

- هل أنت مندوب المستشفى؟!

تنفست بشدة.

- أجل.

- أوراقكم عندي، ليتك تعجل في مراجعتها، لكي لا تفوتنا صلاة الجمعة.

مشى باتجاه المكتب ومشيت خلفه.

وضع بروفات الملصقات أمامي وقال.

- سأذهب لأتوضأ.

أمسكتُ الملصق الأول، فأخذ يرتجف بين يديّ.

وضعته على الطاولة، وأخذت أقرأ الإرشادات المهمة الموجهة لموظفي المستشفى بخط أحمر عريض.

"عندما تطلق صفارات الإنذار، توجه أنت وعائلتك إلى المخبأ، وتأكد أن الجميع يلبسون الأقنعة بشكل صحيح".

صارت الكلمات تتقافز من مكانها، والألم يشتد في صدري أكثر.

سمعت شيئاً يتحرك خلفي، وتوقعته الحارس، أحسسته يطير في الهواء، فرفعت رأسي فزعاً.

كان المسخ، وقد ازدادت فلقتا رأسه انقساماً، وصار المخ يتناثر على جلده الشفاف، مفسِّخاً لحمه، يحمل في يده رمحاً طويلاً ذا رأس مدبب.

خرج من بين أنيابه الحمراء عواءٌ مدو، وهوى بالرمح كالطلقة على كتفي الأيسر.

انغرس الرمح فيَّ، حتى وصل إلى قلبي.

صرختُ بأعلى صوتي من شدة الألم، ثم فقدت وعيي.

 

 

الفصـــــــــل الاول

جبلٌ يطلُّ على غابة صغيرة، تحفّها الأشجارُ العالية، وتغرّد على أغصانها الهداهد والعصافير الملوّنة، إلى جانبها بحيرة زرقاء صافية، يغمرني ماؤها البارد بالانتعاش.

أغوص، فتحيطني الأسماك الصغيرة ثم تداعب ساقيّ.

أغادر الماء، فتستقبلني فاطمة، وقد غزلتْ على جسدها أوراق التين.

تضع على جسدي العاري جلد النمر، الذي دبغتُهُ بنفسي، وصرتُ لا أرتدي غيره.

أمشي أمامها، والماء يتقاطر من جلدي.

أصعد الجبل، وقبل أن أدخل إلى الكهف، ألتفتُ إليها.

أحركُ أصابعي بلغة الإشارة:

- أين الأطفال؟!

تحركُ فاطمة أصابعها، فأفهم.

- هاجر تجمع الثمار، وهزيع يصطاد الطيور.

أضحك.

- يريد هزيع أن يتعلم مني، كيف أصطاد بسهامي الغزلان والأرانب، صنعتُ له من خشب الخيزران نبالاً صغيرة وقوساً وقلت له: تدرّب على الطيور، وبعد أن تكبر ستشاركني الصيد، وسوف نشوي لحم صيدك للغداء.

تمطر السماء.

أشير إلى فاطمة أن تدخل الكهف.

أصعد على صخرة، أطلق صراخاً يشبه خوار الجاموس.

أرى هاجراً تركض إلى الكهف، تحمل سلة من الخوص بداخلها برتقالٌ وإجاصٌ ورمان وتفاح وعنب، ثم أرى هزيع يقبل، وخلف ظهره قوسه، وبين يديه عصافير تتدلى رؤوسها إلى الأسفل.

داخل الكهف نجلس جميعاً حول النار.

أحرك أصابعي مشيراً إلى هاجر:

- هيا أرقصي.

يُحضِر هزيع طبلتي التي صنعتها من جلد الغزال، ثم يحضر طبلته الصغيرة.

نبدأ أنا وإياه نقرع لحناً سريعاً.

ترقص هاجر وهي تهز رأسها فيتناثر شعرها الطويل، ثم تهز ردفيها المستورين بسروال صنعتهُ فاطمة من جلود الثعابين، وخاطته بليف النخيل. 

تصفق فاطمة، وهي تبتسم.

يترك هزيع طبلته فجأة، ثم يركض إلى خارج الكهف.

يعود بسرعة.

يشير بأصابعه إليّ:

- توقف المطر.

تركض هاجر باتجاه شجر الغابة. 

أتمدد على السرير الحجري، المغطى بفراء الثعالب.

تخرج فاطمة ثم تعود وعلى وجهها القلق.

تقول لي بحركات أصابعها:

- هناك شيء غريب في الأفق.

أقوم، ثم أصعد الصخرة. أضع كفي أعلى عيني، كي أستطيع الرؤية.

أرى في الأفق البعيد جداً، طيوراً غريبة تحلّق في الجو، وتقذف من جسدها بيضاً أسود، بمجرد أن يصل الأرض يتفجر، وتتحول الأرض إلى حريق هائل.

أنزل من الصخرة.

بأصابعها تسألني فاطمة:

- ما الأمر؟!

- أظن أن الغابة المجاورة لنا تحترق.

- تحترق؟!

- ربما أغضبوا الله.

ترفع بصرها إلى الأعلى.

- أنا خائفة.

أضع ذراعي حول كتفيها العاريين.

- نحن لم نرتكب معصية، إننا نعيش في غابتنا في حب وسلام، بعيداً عن آثام الغابات الأخرى، لقد اخترتُ هذا المكان القصي لنكون في معزل عن قوى الشر، لا يشاركنا في هذه الغابة سوى الطيور والأسماك والشجر.

أدخلُ الكهف.

أتمدد على السرير، مرة أخرى، خائر القوى.

أصير أعبثُ بذقني الطويلة، ثم أغمضُ عينيَّ.

بارتخاء شديد افتحهما.

أرى فوق رأسي شاشةً تعرض إيقاع قلبي.

تترك أصابعي ذقني الطويلة، وأبدأ أتلفّتُ حولي، فأرى أنني أرقد على سرير أبيض، فوقه رقم  (6)، مكتوب باللون الأسود على قطعة بلاستيكية مربعة، وحولي أسرّة أخرى، يرقد على كل واحد منها مريض تتصل بصدره أسلاك موصولة بشاشات مثل شاشتي. 

تنتبه الممرضة أنني استيقظت، فتلتقط سماعة الهاتف، ثم تطلب رقماً.

أسمعها تقول:

- دكتور طلعت، لقد أفاق مريضُك من غيبوبته.

التفتُ إلى المريض الراقد على السرير الذي بجانبي والمكتوب أعلى رأسه رقم (7).

يمدُّ يدَه لي، وعلى وجهه كآبة وحزن شديدان.

أمدُّ يدي له، وأنا أسأله:

- هل قامت الحرب؟!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...