الحمامة
أتذكر الآن كيف استيقظتُ من النوم وأنا بين ذراعيّ أبي وكان يركض بي الى الغرفة التي كنا نسميها "مخزناً".
كانت أمي تركض خلفه، وبعد أن دخلنا جميعاً، أغلق أبي الباب ووضع شرائط لاصقة على حوافه من الداخل.
لم يكن هناك نافذة، وكان الضوء ينبعثُ من مصباح يدوي كان أبي يحمله بيده اليمنى.
سمعت أمي تدعو الله دعاءً حاراً، وسمعت أبي وهو يشتم الحرب.
ضمّتني أمي الى صدرها، فنمت. وعندما صحوت، وجدتني في فراشي.
- هل كنتُ أحلم يا ماما؟!
فهمَتْ أمي الى صدرها، فنمت. وعندما صحوت، وجدتني في فراشي.
- هل كنت أحلم يا ماما؟!
فهمَتْ أمي قصدي. مسَحَتْ على شعري بحنان، ثم قالت.
- لا يا حبيبي، لم تكن تحلم.
سألتها.
- لماذا اختبأتم داخل المخزن؟!
لم تُجِبْني أمي. لقد شرَدَتْ بأفكارها وهي تمسح على شعري.
سألتها مرة أخرى.
- هل أبي جبان؟!
- لا يا بني. أبوك يخاف عليك.
- ممَ يخاف عليّ؟!
وسكتت أمي مرة أخرى.
* * *
صعدت الى السطح، وأخرجتُ صديقتي الحمامة من القفص الخشبي. صرت كعادتي أطيّرها في الفضاء ثم أنثر لها الحب على طرف الجدار.
تحط صديقتي الحمامة على طرف الجدار لتلتقط بمنقارها الحب.
أمسح بكفيّ على ريشها، فتقفز على كتفي.
كم أحب حمامتي.
* * *
قلت لصديقي الذي يسكن بجوارنا.
- هل يخاف أبوك من الحرب؟!
صرخ.
- لا، أنه لا يخاف.
أجبته.
- وأبي كذلك لا يخاف.
* * *
على الغداء، قال لي أبي.
- أريد أن أقول لك شيئاً يا بني.
أحسسته متردداً قليلاً، وأحسست أمي تطالعه بقلق.
- أنا لست جباناً يا بني، لكن الحرب مدمّرة. حين تنطلق صفارات الإنذار يجب أن نركض الى المخبأ لكي نحمي أنفسنا، وعندما تنتهي الحرب سيعود كل شيء الى حاله.
رميت ملعقتي، وركضت الى السطح. فتحت القفص الخشبي ثم أخرجت صديقتي الحمامة، ونزلت بها الى غرفتي.
- ستعيشين معي يا صديقتي الى أن تنتهي الحرب.
عندما سمعتْ صديقتي الحمامة كلمة الحرب، تكوّمتْ على بعضها وانكمش ريشها.
التذكار الأخير
كنت أعيش مع أصدقائي الخواتم على رفٍّ زجاجي في واجهة محل تجاري، أنتظر مثل أصدقائي مشترياً يضعني في إصبعه.
لم أكن كبيراً، ولم أكن متوسطاً. كنت صغيراً، ولذلك طال انتظاري.
وذات يوم دخل رجل وبرفقته طفل صغير.
سأله البائع.
- هل من خدمة؟!
أجاب الرجل.
- أريد خاتماً لإبني.
ردّ البائع.
- لدي ما تريد.
التقطني البائع، ومدّني الى الرجل.
ادخلني الرجل في اصبع ابنه، الذي شهق بفرح.
- إنه على مقاسي تماماً يا بابا.
بعد ساعات، عرفت أن الطفل اسمه هتّان، وأنه يحبني كثيراً.
هتّان يحب أصدقاءه، وأصدقاؤه يحبونه أيضاً. صار يتفاخر بي أمامهم قائلاً.
- كم هو جميل هذا الخاتم.
إنني أقضي كل الوقت مع هتان. في المدرسة، أثناء اللعب، وحتى أثناء النوم، فهو لا يخلعني من إصبعه أبداً.
* * *
ذات صباح، وقبل أن ينهض هتّان، قال لي اصبعه.
- إنني أتألم.
سألته.
- وما الذي يؤلمك؟!
- أنت.
- أنا؟!
- أجل. أنت تؤلمني. لقد كبر هتّان وازداد حجمه ولم يعد مقاسك يناسبه. يجب أن يتخلص منك.
صرخت في وجهه.
- مستحيل. هتّان لن يتخلى عني.
نهض هتّان على صوت صراخنا، فقلت له.
- اصبعك يريد أن يتخلص مني.
سأله هتّان.
- لماذا يا إصبعي العزيز؟!
أجاب الأصبع.
- ألا تشعر بالألم الذي أشعر به بسبب ضيق الخاتم.
حاول هتّان أن يحركني، لكنه لم يستطع، وشعرت بالألم على عينيه.
- تحمّل يا إصبعي. سيزول الألم قريباً.
* * *
في المساء، لاحظتْ أم هتّان الألم على وجه ابنها، فسألته.
- ما بك؟!
أجاب هتّان.
- لا شيء.
ثم خبّأ اصبعه تحت إبطه.
مدّت أمه يدها وسحبت يد هتّان. طالعت اصبعه فوجدته متورماً ومحمّراً.
حاولت الأم إخراجي من إصبع هتّان، فلم تستطع. استعمَلَتْ كل الوسائل، لكنها لم تفلح. وحين جاء أبو هتّان، ورأى ما حدث، قال.
- سنأخذه الى قسم الطواريء بمستشفى الحي، لكي يقطعوا الخاتم.
كان إصبح هتّان يصرخ من الألم، لكن هتّان كان متماسكاً مثل الرجال.
* * *
قبل أن يدخل الممرض الكمّاشة بيني وبين إصبع هتّان ليقطعني، قلت لهتّان.
- بعد أن أموت، أرجو أن تحتفظ بجسدي كتذكار لصداقتنا.
وفي اللحظة التي سبقت قطْعي، رأيت الدموع تنهمر بشدة من عينيْ هتّان.
أتذكر ذلك دوماً، وأقول لنفسي.
- لماذا لا تنسى يا سامي؟!
وأرد على نفسي.
- كيف أنسى ذلك اليوم الذي دخلّتْ فيه تلك الطيور الى بيتنا عبر النوافذ.. طيور سوداء، ذات مناقير حمراء، ومخالب حادة، وعيون يتطاير منها اللهب. كيف أنسى عندما أخذت تمزق الستائر وأغطية الأثاث، وتحكم الأواني الزجاجية، وتنشر النار هنا وهناك.
متى حدث ذلك؟ ولماذا؟
- حدث في يوم لا يشبه أي يوم عشته، أو أي يوم سأعيشه. عندما خرج أبي من منزلنا، بعد أن أقسم لأمي بأنه لن يعود أبداً. كنت أرى هداياه لي، وأحاديثه معي، وضحكاته حين كان يلاعبني، تخرج خلفه بلا رجعة.
* * *
كلما أرسم في درس التربية الفنية رجلاً يجلس على غيمة بيضاء، ويراقب منزلاً صغيراً على الأرض، تتطاير منه النار، يسألني أستاذي.
- أليس لديك غير هذا الرسم يا سامي؟!
- ألا يعجبك يا أستاذ؟
- بلى، ولكنني أريدك أن ترسم أفكاراً أخرى. أنت موهوب جدا يا ولدي.
وتسيل دمعة من عيني، لا يراها أحد، عندما يقول: " يا ولدي" .
* * *
حينما أشاهد أمي، وهي تجلس وحيدة في صالة البيت، تتنقّل من محطة تلفزيونية الى أخرى، أحتار كيف أقول لها بأنني انتهيت من مذاكرتي.
أجلس الى جانبها، وأحضن خصرها.
- أحبك يا أمي.
- ومن تحب أيضاً؟!
- أحب أبي.
وتطفيء جهاز التلفزيون، ثم تضع كفيها حول خدّي.
- هكذا أريدك دوماً يا سامي. أريدك أن تحب أبيك، وأن تفخر به أمامي وأمام الجميع .
تتكلم أمي، وخدّاي بين يديها، وكأنها تريد أن تقول.
- سامح بابا يا حبيبي.
* * *
حينما شاهد مدرس التربية لوحتي الجديدة، صرخ بأعلى صوته.
- أحسنت يا سامي.
هذا لأنني رسمت على ورقة الكرّاسة الغيمة البيضاء وعليها أبي يمد يديه الى منزلنا على الأرض، وأنا وأمي على سطح المنزل نمدُّ أيادينا اليه، وعلى أطراف الورقة هداياه وأحاديثه وضحكاته.
الصندوق
مرّت أسابيع على وفاة جدي، ولكنني لا أزال حزيناً على فراقه. لقد كان أقرب الناس اليّ.
كنت أدخل الى غرفته كل يوم، وأقضي معه أوقاتاً جميلةً. كان يقصُّ عليَّ قصصاً من الماضي حين كان يعيش في مزرعة صغيرة وسطها بيت من الطين. وكيف كان يعتني بالنخيل وجدتي تعتني بالأبقار والأغنام.
كنت أستغرب دوماً.
- كيف كنتم تعيشون بلا ثلاجة وبلا مكيّفات؟! وكيف لم تكونوا تحتاجون الى سيارة تنقلكم من مكان الى مكان، او الى تلفزيون تتسلون فيه، او الى بقالة تشترون منها ما تحتاجونه؟!
كان جدّي يضحك عندما يسمع أسئلتي، ويردُّ قائلاً.
- زماننا غير زمانكم.
مات جدّي الطيب، لكن أسئلتي لم تمت.
- ألن يعود جدّي الى غرفته يا بابا؟!
أجاب أبي.
- لا يا بني. لقد انتقل جدّك الى جوار ربه. ادعُ له بالرحمة.
ثم قالت أمي، وهي تذرف دموعها.
- رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
تقدم أبي نحوي، وركع على قدميه قائلاً.
- نريد أن ندخل الى غرفة جدتك لنرتّب محتوياتها. أتريد أن تدخل معنا؟!
شعرت بالخوف لبُرهة، لكنني تشجعت.
- أجل. سأدخل معكم.
لم يكن في الغرفة أشياء كثيرة.
كان فراشه ممدوداً على الأرض، وعلى يمينه صندوق خشبي عليه زخرفات جميلة جداً. أما على يسار الفراش فكانت طاولة صغيرة عليها علب أدوية كثيرة.
طوَتْ امي الفراش، وهي تتمتم بالأدعية. أما أبي فأخذ يجمع الأدوية في كيس كبير.
اقتربتُ من الصندوق، وأخذتُ أحدّقُ في الزخرفات المرسومة عليه.
خرجت أمي من الغرفة يتبعها أبي، وبعد أن عادا جلسا الى جانب الصندوق.
فتح أبي الصندوق ثم أخرج منه أوراقاً وأكياساً من القماش. وكان يقرأ كل ورقة ثم يضعها جانباً، ويفتح كل كيس ثم يضعه في الجانب الآخر.
في قاع الصندوق وجد أبي مصباحاً يشبه مصباح علاء الدين.
أخذ أبي يحدق فيه طويلاً. نظر اليّ، فقلت له.
- انه مصباح علاء الدين.
وتذكرت قصص جدي ومزرعته ونخيله وأبقاره، ثم قلت لأبي.
- هذا هو المصباح الذي كان جدّي يستخرج منه الجنّي ليلبّي لهم الطلبات التي لم تكن موجودة في زمانهم.
مددت يدي وأخذت المصباح من أبي.
فركتُه كما كان يفعل علاء الدين في أفلام الكرتون، لكن الجنّي لم يخرج.
سألت أبي بدهشة.
- لماذا لا يخرج الجنّي؟!
أجاب أبي مبتسماً.
يبدو أنه مات هو أيضاً.
الحبس
قالت العين للدمعة.
- اخرجي. اذا خرجت سوف يرتاح.
ردّت الدمعة.
- هو لا يريدني أن أخرج.
- لماذا؟!
- انه يعتقد أن الأطفال وحدهم هم الذين يبكون.
- وهو؟! أليس طفلاً؟!
- لا. انه لا يعترف بأنه طفل. يقول دائماً إنه صار رجلاً، وإنه يحب ألاّ يبكي.
وأضافت الدمعة.
- أنا في حيرة شديدة من أمري يا صديقتي العين. إنه يحبسني داخلك رغماً عني. أريد أن أخرج. ساعديني.
فكّرت العين طويلاً، ثم قالت للدمعة.
- ما رأيك أن نحاكمه؟!
اندهشت الدمعة.
- نحاكمه؟! كيف؟!
أجابت العين.
- انتظري، وسوف ترين.
صاحت العين.
- أيها القلب.
أجاب القلب.
- نعم أيتها العين. ماذا تريدين؟!
- أريدك أن تشاركنا في المحاكمة. ألديك مانع؟!
ضحك القلب.
- لا. سأشارككم بكل عواطفي.
نادت الدمعة بعد ذلك العقل.
- وأنت أيها العقل، هل تشاركنا؟!
لم يُجبْ العقل مباشرة كما فعل القلب، بل أخذ يفكر لبعض الوقت، ثم سأل.
- لماذا تريدين أن تحاكميه؟! ما هي تهمته؟!
أجابت العين.
- انه متهم بحبس الدمعة.
- هل لديك اثباتات على ذلك؟!
- أجل، ولذلك أريد أن أحاكمه.
صمت العقل، فبادرته الدمعة.
- مشاركتك أيها العقل ستساعدنا كثيراً في حل المشكلة.
سألها العقل.
- هل أنتِ متأكدة؟!
- أنا متفائلة.
قامت الدمعة بعمل كل الترتيبات للمحاكمة.
"الطفل خلف قفص الإتهام. العقل هو القاضي. العين هي الشاهدة التي سوف توجه التهمة للطفل".
صاح العقل.
- ومن سيدافع عن المتهم. يجب أن يدافع عنه أحد.
أجابت العين.
- في محكمتنا يدافع المتهم عن نفسه يا سيدي.
سألها العقل.
- وما هو اتهامك له؟!
قالت العين.
- إنه يا سيدي يحبس الدمعة البريئة ولا يجعلها تسيل على خده. أنت تعرف يا سيادة القاضي أن الخد هو وطن الدمعة. فلماذا يحرمها من وطنها؟!
سأل العقل العين.
- ومتى حدث ذلك؟!
أجابت العين.
- حدث هذا في الاسبوع الماضي، عندما سافر صديق المتهم مع أهله الذين انتقل والدهم للعمل خارج المدينة. هو يحب صديقه كثيراً وتربطه به صداقة طفولة حميمة. في لحظة الوداع، بكت أمه وبكت اخته. أما هو، فلم يبك. كان يريد أن يكون مثل أبيه، متماسكاً. كانت الدمعة تريد الخروج، لكنه منعها. لقد حبسها داخل قفص عينه وحرمها من الحرية. لذلك أطالب يا سيدي القاضي بمحاسبة المتهم على هذه التهمة.
نظر العقل الى الطفل الذي كان متأثراً جداً بكلام العين.
سأله العقل.
- ما قولك أيها المتهم؟!
لم يجب الطفل، فقال العقل.
- ان بمقدور الإنسان السيطرة على دموعه اذا شاء. لا نستطيع ان نعتبر هذا جريمة.
قاطعت العين كلام العقل.
- انك يا سيدي تمثل القضاء المنصف لنا جميعاً، وكلامك هذا سيكون دفاعاً عن المتهم.
رد العقل.
- انه ليس دفاعاً، انه منطق.
نهض القلب من مقعده في وسط المحكمة وقال.
- أرجوك يا سيدي العقل، أرجوكِ يا سيدتي العين. هل تسمحان لي بالكلام؟! لقد جعلتماني أشارك في المحاكمة كمتفرج فقط. هل أستطيع أن أعرف لماذ؟!
أجاب العقل.
- لأنك عاطفي أيها القلب. والمحكمة لا تعتمد على العواطف.
ردّ القل.
- ولكن الموضوع الأساسي هو العاطفة. العاطفة هي التي جعلت هذا الطفل يحزن لفراق صديقه الغالي. أليس كذلك أيها المتهم. ألم تحزن لفراق صديقك؟!
أجاب الطفل وكأنه يحدث نفسه.
- أجل، حزنت كثيراً.
سأله العقل.
- ولماذا لم تبكِ اذن؟! أتعتقد أنك صرت رجلاً. حتى لو صرت رجلاً، الرجولة لن تمنعك من أن تكون عاطفياً. الرجولة لا تعني أن تجعلني – أنا قلبك – متحجراً. صدقني لقد كنت أتمزّق من الألم لفراق صديقك.
صرخ العقل.
- أرجوك أيها القلب. كفى، لا تؤثر على المتهم.
لكن القلب لم يتوقف عن الكلام.
- اسمح لي يا سيدي العقل، انت السبب.
قال العقل.
- ماذا؟! كيف تجرؤ على هذا القول أيها القلب؟!
- نعم. أنت السبب في كل هذا. وقفت بيني وبين المتهم. جعلته يتصور أن عدم البكاء هو علامة الرجولة. جعلته يحبس الدمعة في عينه.
وأضاف القلب بصوت عال.
- أنت يا سيدي العقل المتهم في هذا الموضوع. أرجوك دع الطفل وشأنه. دعه يبكي لفراق صديقه الحبيب، صديقه الذي شاركه حياته وذكرياته وشقاوته. لقد تركه صديقه ليعيش بعيداً عنه، فماذا تريده أن يفعل؟! قل لي، ماذا تريده أن يفعل؟!التفت الجميع، العقل والعين والقلب الى الطفل، فوجدوه يبكي، الدمعة تسيل على خده ويبكي.
امتلأت المحكمة بالدموع، فغرق الجميع من الفرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق