العطش
قافلة
مدّ الشيخ صوته للمراعي النابتة بالإبل.
لم يعد لنا مكان.
نهض الرجال عن عصيهم، هشّتْ النساء القطعان الساكنة، وتقافزت أرجل الأطفال الحافية. التفّوا جميعا حول الشيخ. بلّلَ الشيخ بصعوبة طرف لفافة التبغ وألصقها على أسطوانة الورق المحشوة. بصق على يساره وثبّت اللفافة بين شفتيه الجافتين. أشعلها وسحب دم هوائها بنَهَم.
لم يعد للعشب ماء.
سألتْ المرأة، وهي تضغط على رضيعها.
- وكيف نخرج من هذه الصحراء؟؟
زعق الرضيع، فهمس لها زوجها.
- هناك بوابات كثيرة، ولابد أن يجد الشيخ مكاناً لنا.
ركض الولد الى الشيخ. التقط العباءة الشهباء، وفردها له. وقف الشيخ، وهو ينظر لوجه الطفل المغبّر بالأسئلة. ارتدى الشيخ عباءته، فارتدى الرجال عباءاتهم. وضع اللثام على وجهه، فوضعوا اللثامات على وجوههم. رفع يده للصحراء. وابتدأ في الخروج.
ارتفعت أقدام الرجال والأطفال، ثم ارتفعت أقدام النساء والقطعان. صارت الأقدام تتابع على الخط الذي تجرّه قدما الشيخ الراحلتين.
بعد أن التهم الأفق إنحناءات أكتافهم، خرجت الفتاة من خيمة قصوى، وعلى وجهها لؤلؤ النوم. مسحت عينيها المكتحلتين، فتساقطت من رموشها كواكب الصحراء. لم تصرخ وهي ترى الريح تمسح آثار أقدامهم الحارة. عادت الى خيمتها في سكون شاسع. فكّت ضفائرها. جعلت شعرها المائل للحناء يهطل على براري ظهرها المبتل، ثم ناولتها الأرض المتشققة فراشها كي تعود للنوم.
سماء
ضغط الولد على حفنة من الرمل، فانتثرتْ رائحة السواد من بين أصابعه. غمس كفه في الرمل مرة أخرى. بكى حتى تمرّغتْ عيناه، فصارتا عاجزتين عن تمييز جثث القوم المتناثرة على المدى.
هشيم
سألني البائع.
- علبة أم علبتين؟؟
كان أول الليل، وهذه الدكاكين تغلق أبوابها باكراً.
أجبته.
- اثنتين.
قبل أن يعيد لي بقية النقود، فتحت العلبة الأولى وأخرجت لفافة تبغ. أشعلتها، ثم نظرت الى واجهة البراد الزجاجية، فرأيت القوارير يقفن والندى مثمر على قاماتهن. شعرت بعطش بالغ. تحركت الى البراد. فتحته. مدت يدي الى داخله، وانتزعت أبعدهن. ذاب الندى في يدي، فتقاطر الماء. خلعت غطاءها بتوتر شديد. قرّبتُها من شفتيَّ بهدوء، وأفرغتها في دمي. صاح البائع بي.
- النقود.
كان أول الليل، وهذه الدكاكين تغلق أبوابها باكراً. انتزعتُ واحدةً أخرى. التقطتُ من البائع بقية النقود، وغبت في الشارع المظلم.
اختباء
أشعلتُ عودَ ثقاب كي أرى أين أنا في الغرفة. كان الظلام يغرس أشواكاً في عينيَّ، وأنا أهذي، كي أقاوم خوفي.
- ألمْ تجد الكهرباء غير هذا اليوم لتنقطع؟؟
بدَتْ الأشياء في ضوء الثقاب كبيرة، وظهرتْ الأوراق التي استهلكتُها لكتابة المقاطع الأولى للقصة كثيرة جداً. أشعلت عوداً آخر، ليقودني الى درج الطاولة. في الدرج، وجدتُ شمعةً قصيرة. أشعلتها، فتطاير النور داخل الغرفة. وضعتُ الأشياء التي معي على الطاولة. جمعتُ الأوراق المتناثرة. رتّبتها ثم أعدت قراءة ما كتبت. شعرت بالعطش مرة أخرى. حركت أصابعي ببطء على الطاولة، باتجاه القارورة. لمستها، فأحسست بالرطوبة، واجتاحت يدي برودتها الغامرة. صرت أنشب أصابعي في اتساع قامتها، وكانت تلين ثم تشتدُّ، لأضغط أكثر. تبللت عروقي باحتقاناتها. دفعتها نحوي، فاهتزت الشمعة ثم سقطت. احتشد الظلام في الغرفة مرة أخرى، لكن يدي بقيت مضيئة.
- لماذا الصحراء؟؟
التصقتْ شفتاي بها، وأفرغتها أيضاً في دمي. تركتها، وبحثت بحركة هستيرية عن الشمعة تحت أرجل الطاولة. أشعلتها بعود الثقاب الأخير. لمحت قامتها وسط الطاولة فاذا هي فارغة، ورائحة الندى تفوح في أنفي. كان القلم مختبئاً تحت الأوراق سحبته وكتبت المقطع التالي.
سماء
توسّد الولد ناصية الرمل. حاول أن يطعن صدر البكاء، لكن خنجره التوى، ليفتح للحزن مرمى داكناً. صاح بحرقة وألم.
- من يجفف نارك أيتها الشمس؟؟
لكن الصحراء صمتت. فعرف الولد أن البوابة التي ابتلعتْ قافلة الشيخ والرجال والنساء والأطفال والقطعان، تُنكرُ أنه بقي خيمة قصوى، خيمة لم تمسسها الشمس، وأنه كان بداخلها فتاة مبتلّة بالفيء وبالنوم.
توسد الولد ناصية الرمل ومات.
أوردة
رن الهاتفُ فانتفضتُ. أبعدتُ الكرسي وصرت أُدير رأسي بسرعة باحثاً عن مكانه. ركضتُ خطوتين أو ثلاث. رفعته.
- أهلاً.
سمعت صوتها يأتي ملتفّاً بخوف زجاجي شفاف.
- أنا آسفة. لم أجد وسيلة أراكَ بها.
رددتُ كي أحمي زجاج صوتها.
- لا بأس يا حبيبتي.
وأحسست أن كلماتي هي التي تخرج مهشمة.
سألتني.
- ما بك؟
أجبتُها.
- أنا خائف.
ردتْ.
- أنت؟؟ مم؟؟
قلت وأنا أحبس رئتيَّ عن الهواء.
- أحس أن الصحراء ستداهمني.
بدأ ضوء الشمعة في التقطع، ثم التلاشي.
استأذنتها. مشيت الى الشمعة. حين اقتربتُ منها انطفأت، وتصاعد خيط رفيع من الدخان، ليشعل ظلاماً جديداً. عادت خطواتي العمياء الى الهاتف، رفعته بسرعة، وهمست لها:
- أنا..
لكن، لم يكن أحد هناك. أرخيت الهاتف، ثم ارتميت على السرير الملاصق لساقيَّ. شعرت برغبة في إشعال لفافة تبغ. نهضت. مشيت الى الطاولة بحذر. لمستْ كفي الأوراق، القلم، علبة التبغ، صندوق الثقاب، ثم القارورة. تناولتُ التبغ فتذكرت أن الثقاب قد نفذ. رفعت يدي، فاصطدمت بالقارورة الواقفة. كانت فارغة، والبرودة لا تزال تصطفيها، وكنت قد بدأت أشعر بالعطش والكتابة. لم أجد صعوبة في التقاط قلمي. أمسكته من منتصفه. رميته داخل جوفها، فابتهلني النوم.
قبل أن أغفو، قررت أن أمزق الأوراق التي ابتدأت بها كتابة القصة، تماماً مثلما قررت في الليلة الماضية.
الرياض – اوائل 1986م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق