الخميس، 7 يناير 2021

المحجر

 المحجر
 
تجمعت الخنافسُ والنمل ونشارة الخشب الجديد على جثتها، دون أن أعرف كم مضى على موتها.
كان باب البيت الخشبي الصغير موارباً. دققتَهُ مرتين أو ثلاثاً قبل أن أنادي.
-     أم عيّوش. يا أم عيّوش.
كان الأصيل يلفُّ بيوت الصفيح والخشب بعباءته الأرجوانية، فيجعل هذه المكعبات الصغيرة المتداخلة متشحة بطمأنينة غامضة. بقعُ المياه الآسنة تتناثر بين البيوت وتملأ الجو برائحة الفضلات الآدمية. أصوات الأطفال العرايا إلا من سراويل ممزقة ومسوّدة تتضاءل في هدير محركات السيارات التي تتابع في الدخول الى حي "الغالة" بعد يوم من الكد في شوارع الرياض.
حين زرت أم عيّوش قبل شهر، قالت لي.
-     عندما تزورني المرة القادمة، سأكون قد حولتُ هذا الصفيح الى بيت من الخشب. كانت هذه المرأة السمراء، الشديدة السمرة، تملك قامة حادة. كان جسدها نحيلاً لكن صلباً. يداها معروقتان وكفاها خشناوان. كانت لا تتكلم كثيراً. عيناها البراقتان هما كل ما يظهر خلف غطاء وجهها. وحين لا يعجبها شيء تغمضهما وتتمتم.
-     لا اله إلا الله محمد رسول الله.
كانت تبيع الملابس القديمة في أسواق "السدرة". تحمل كل صباح باكر صرتين كبيرتين إحداهما لملابس النساء والأخرى لملابس الأطفال. في هذا الوقت، تكون محركات قد ابتدأت في الهدير. في صندوق أول سيارة نقل تنطلق من "الغالة" الى "البطحاء". تضع صرتيها وتجلس بينهما. من "البطحاء" الى أسواق "السدرة"، تمشي أم عيوش على قدميها الصلبتين.
-     أتعرف أسواق السدرة؟!
سألني الرجل البالغ السواد وهو يرتجف.
أجبته.
-     نعم.
أكمل.
-     هناك، كل الناس يعرفونها. اسأل عن أم عيوش. امرأة بكل النساء اللواتي يشتغلن هناك. الرزق لا يعرف طريقها، لكنها لا تحسد أحداً. تأخذ قسمتها وتحمد الله وتمضي. لم يسمع أحد سوى الشهادة من بين شفتيها.
قال لي بصوت هامس.
-     أحس بأنك ستساعدني.
صاح المريض الراقد بجانبه وكان شيخاً ذا لحية حمراء.
-     لا تشغل نفسك به. انه هذيان الموت.
لم ينبس المريض الشاب الراقد بالجهة الأخرى منه بشيء. كان يراقبني بحذر ناقلاً بصره بيني وبين الشيخ والرجل الأسود.
كنت قد اعتدت حين أزور والدي في المحجر، أن أتنقل بين العنابر. فوالدي حين تبدأ الزيارة يكون متحمساً لسماع أخبار أمي وأخواتي، وفجأة يتكدر وتغرورق عيناه بالدموع، لكنه لا يبكي. يظل صامتاً غارساً نظراته في السقف. عندها أبدأ تجوالي بين المرضى حتى يشرف وقت الزيارة على الانتهاء. أعود لأجده كل مرة نائماً، يغمر وجهه المرض وضيق الحيلة.
قلت له.
-     سأساعدك.
احمرت عيناه وارتجفت ذقنه. أخذت يده بين كفي وضممتها الى صدري.
-     ماذا تريد من أم عيوش؟!
-     أريدها أن تحضر لي برتقالاً. هي تجهل أنني لا أزال حياً. حين أدخلوني المحجر، قال الناس لها إنني مت. أريدها أن تأتي وأن تحضر معها برتقالاً.
لم أجد صعوبة في التعرف على أم عيوش. كان ضجيج البائعات المختلط بروائح أجسادهن المترهلة وعطورهن الرخيصة يضفي على السوق اختناقاً شديداً. كانت كل واحدة منهن تجلس أو تقف خلف كومة من الملابس القديمة او الأحذية الرخيصة او التوابل الحادة وتصيح في المشتريات اللواتي تصحن هن أيضاً قاذفات القطع التي لا تروق لهن. ووسط هذا الزحام، يتقاطر العرق من جباه البائعات، فتبتلّ أغطية وجوههن، وتفوح روائح أجسادهن أكثر.
اقتربت منها، فلمحت في عينيها دعة حفزتني لأن أسألها.
-     أأنت أم عيوش؟؟
ردت.
-     لا اله الا الله محمد رسول الله.
دفعتني امرأة بدينة كانت تفرز ملابس الأطفال التي كانت أمام أم عيوش.
سارعت قائلاً.
-     الرجل لم يمت. انه الآن في المحجر ويطلب منك أن تزوريه وان تحضري معك برتقالاً.
تسمّرت عيناها في عينيّ.
نكّستُ رأسي، وتخلل كتفاي أكتاف النساء ثم انسحبت خارجاً. مشيت خطوات، فاذا بخطواتها تتلاطم خلفي. استوقفتني قائلة.
-     هل قال لك انه يريد برتقالاً؟؟
التفتُّ اليها. قرأتُ في عينيها عرائش من التوجس المحايد فأحسست أن فتيلاً رمادياً يوشك أن يربط وريداً مني بوريد من قامتها الحادة ثم ينفجر.
-     ويريد أن يراك.
-     أتأخذني اليه؟
فرَدَت شرشفاً أبيض على بسطتها الخشبية. تناقلت البائعات نظرات صفراء فيما بينهن، وهشّ الرجل الكهل بيده اليمنى الذباب عن وجهه، ماسكاً بيده اليسرى عصا الخيزران التي تضرب بها النساء اللواتي ينحدر الغطاء عن وجوههن.
ركبت أم عيوش في المقعد الخلفي. كانت صامتة طوال الطريق الى المحجر. كنت أراقب عينيها بمرآتي العاكسة وهما لا تبارحان فضاءً محموماً، لم أستطع جسّ حُماه.
-     قف.
وقفتُ. نزلتْ. عادتْ وفي يدها كيسٌ من البرتقال.
-     امش.
انطلقتُ خارج المدينة. على جانبنا كانت الصحراء تضغط بجلافتها على حدود سيارتي الصغيرة وتجعلني أشعر بأن مرارةً تحدّ سكينها على شهيقي. 
كان ساعتها يئن. قلت له.
-     سيعتنون بك في المحجر يا أبي.
همهم بعبارت قليلة. تداعى جسد أختي الصغرى على حضنه وبكت. أخذت تبكي حتى تبلل الشعر المهمل على خديه.
-     لا تبكي.
قال لها ثم أبعدها عنه بصلافة.
-     أخوك خير من يعتني بكن الآن.
أوقفت السيارة. نزلت أم عيوش ومشت خلفي. دخلنا المحجر وقدتها الى العنبر.
كان قلبي يطّحنُ بوجيب نافر. امشي أمامها وكأنني أمشي في جنازتي. أتنفس فكأنما استلب هواء المحجورين واحداً تلو الآخر. كنت أريد أن أوصلها لسريره قائلاً.
-     هاك إياه.
وان أذهب بعيداً في الدعاء.
وصلنا. لم يكن هناك. قال الشيخ ذو اللحية الحمراء.
-     ألم أقل لك انه يهذي. لقد مات.
سقط الكيس من يدها وتناثر البرتقال في العنبر. نقل المريض الشابُّ نظراته الحذرة بيني وبين الشيخ وبين أمّ عيوش. مددت يدي الى يدها، ففرّت أصابعها. 
خارج الأسرة، تقدمتني، فتبعتها.
-     أتأخذني الى البيت؟؟
سألتها.
-     أين تسكنين؟!
-     في الغالة.
في الطريق، كان بحراً من التهشم يصطلي أضلعي. كانت ريحاً من التوثب نحو التآكل يعتريني.
-     هنا.
أوقفت سيارتي أمام بيت من الصفيح، تتكيء على بابه فتاة لم تبالِ كثيراً بوصولنا. نزلتْ أم عيوش. وحين اقتربت من الباب قالت للفتاة.
-     مات أبوك.
ضحكت الفتاة. طالعتني بعينين مستريبتين وسألتْ.
-     من هذا؟!
دخلت أم عيوش بيت الصفيح. أسندتُ أنا رأسي لمقعدي وغمرني شعور بالكآبة.. مكثتُ أراقب بيوت الصفيح حولي. الماء هنا صعب. الهواء صعب. كنت دائماً أحس بالضيق داخل بيتنا الأسمنتي حيث الماء والهواء والضوء. تساءلتُ.
-     كيف يحسّون؟
هنا عتمة، أتربة، بقعُ مياه آسنة. عزلة، عوز، بؤس ليل يصب في هزائم النهار. 
-     ألا تتفضل؟!
رفعتُ عيناي فاذا الفتاة أمامي. كانت في العشرين. تجلو السمرة في خديها غيماً نزقاً، وصدرها خلف ثوبها الكحلي البالي يثب نشواناً مبللاً بعطش محموم.
-     أأنت عيوش؟!
انفعلت صارخة كطفلة.
-     عائشة. أنا عائشة. ذلك المريض هو الذي سمّاني عيوش.
-     أبوك؟!
-     هذا المريض. أكره عيوش التي يحبها.
كان وجهها يتقد بهشيم غامق. لكن العبرات التي خنقت مسائي القائظ، أجبرتني أن أسألها.
-     ألا تحبينه؟!
-     لا. انني أكرهه.
ابتسمت بتحفظ.
-     تفضل.
تقدمتني. كان جسدها اللدن يهتز، فيخامرني شعور بالصراخ والعويل. مددت يدي وقبضت على ذراعها.
استدارت نحوي، ففاح منها عطر الريحان الرخيص.
-     لقد مات أبوك.
ركزت عينيها في وجهي صامتة. أخذت أسارير وجهها في الانفراج شيئاً فشيئاً. اقتربت مني.
-     هل أنا جميلة؟؟
أشحت وجهي لكيلا تقرأ صراخي.
هي جميلة. جمالها جنوبي دافيء. جسدها أبنوسي يضج بالانوثة. شعرها بين الأكرد والناعم وجلدها غض ودهني.
استدارت مرة أخرى وتوجهت للبيت. همست وأنا أدخل.
-     أجل يا عائشة.
تجهم وجهها. اندفعت تلتقط الفوضى المتناثرة داخل جدران الصفيح وهي تردد.
-     مات. مات. نعرف منذ زمن طويل انه مات.
تراجعت. أحسست انه يجب أن أغادر. ركبت سيارتي. توقعت أن تلحقني عائشة لتدعوني مرة أخرى، لكنها لم تفعل.
-     انني اكرهه.
صرت كلما أزور أبي في المحجر، يرن في رأسي رأيها هذا. أطالع أبي وهو غارقٌ في نظراته العلوية، فتلدغني حموضة حارقة. أود أن أمنحه جسدي ليغادر به المحجر. ليعود الى بيتنا الى أمي الشاحبة وأخواتي المجهدات. ليدخل عليهن كما كان يفعل كل ظهيرة، فيتقافزن. أن نستدير حول سفرة الغداء بصمت تفرضه هيبته الجليلة.
-     ليتني أهبك جسدي.
في طريق عودتي من المحجر، قررت أن أزور أم عيوش. فلقد مضت أشهر لم أعدها منذ ذلك اليوم.
كان بيتها مضيئاً من الداخل. طرقت الباب، فخرجت والغطاء يعتمر رأسها.
-     أتذكرينني يا أم عيوش؟!
-     أغمضت عينيها وهمست.
-     لا اله الا الله محمد رسول الله.
-     جئت أطمئن عليك.
قلتها وأنا متردد. لم تجب. صمتت قليلاً ثم أجهشت بالبكاء. استندت على طرف الباب المتآكل، فكاد يسقط بها. استندتها، وأخذتها للداخل. كان على الأرض فراش من القطن تغطية ملاءات متسخة. مددتها عليه، وكانت حريصة إلا يسقط الغطاء عن وجهها.
بحثت عن الماء. كان ثمة صنبور في الركن البعيد، أسفله علبة بازيلا فارغة. ملأت العلبة بالماء وقدمتها لها. بعد أن أشاحت وجهها عني رفعت الغطاء وشربت بتأن ثم وضعت العلبة الى جانبها.
-     هل أنت مريضة؟؟
-     أنا بخير يا ولدي.
ترددتُ قبل أن أسألها.
-     أين عائشة؟
وضعت أصابع يدها اليمنى على عينيها. لم تبكِ لكنها تنهدت.
-     لا عائشة ولا أحد.
-     أين ذهبت؟؟
-     لا أحد يعلم أين ذهبت. بعضهم يقولون انها تزوجت شاباً في السر ثم طلقها في اليوم التالي، ولم يسمح بخروجها من بيته. بعضهم يقولون سافرت الى الجنوب وقضت نحبها في الطريق الوعر. بعضهم يقولون إنها اشتغلت قابلة في مستشفى للولادة وان الشرطة قبضت عليها مع أخريات في بيت مشبوه.
لم أكن قادراً على الرد. قلت لنفسي.
-     وتعيشين وحدك أيتها العجوز المسكينة؟! لا أحد يطرق باب وحدتك المضنية؟!
شعرت بها تنصت لهواجسي وترد.
-     أنا لا أحتاج أحداً. أم عيوش لا تحتاج أحداً. عندما تزورني في المرة القادمة، سأكون قد حولت هذا الصفيح الى بيت من الخشب.
كانت قطرة صغيرة من الماء تسيح على جانب علبة البازيلا. تابعتها بتركيز شديد حتى وصلت الأرض وابتلعها التراب.
*من مجموعة "مصابيح العزلة"، الصادرة عن دار أثر عام 2018م
كامل قصص المجموعة، متوفرة في المدونة، قسم القصص القصيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...