المحجر
تجمعت الخنافسُ والنمل ونشارة الخشب الجديد على جثتها، دون أن أعرف كم مضى على موتها.
كان باب البيت الخشبي الصغير موارباً. دققتَهُ مرتين أو ثلاثاً قبل أن أنادي.
- أم عيّوش. يا أم عيّوش.
حين زرت أم عيّوش قبل شهر، قالت لي.
- عندما تزورني المرة القادمة، سأكون قد حولتُ هذا الصفيح الى بيت من الخشب. كانت هذه المرأة السمراء، الشديدة السمرة، تملك قامة حادة. كان جسدها نحيلاً لكن صلباً. يداها معروقتان وكفاها خشناوان. كانت لا تتكلم كثيراً. عيناها البراقتان هما كل ما يظهر خلف غطاء وجهها. وحين لا يعجبها شيء تغمضهما وتتمتم.
- أتعرف أسواق السدرة؟!
أجبته.
- نعم.
- هناك، كل الناس يعرفونها. اسأل عن أم عيوش. امرأة بكل النساء اللواتي يشتغلن هناك. الرزق لا يعرف طريقها، لكنها لا تحسد أحداً. تأخذ قسمتها وتحمد الله وتمضي. لم يسمع أحد سوى الشهادة من بين شفتيها.
- أحس بأنك ستساعدني.
- لا تشغل نفسك به. انه هذيان الموت.
كنت قد اعتدت حين أزور والدي في المحجر، أن أتنقل بين العنابر. فوالدي حين تبدأ الزيارة يكون متحمساً لسماع أخبار أمي وأخواتي، وفجأة يتكدر وتغرورق عيناه بالدموع، لكنه لا يبكي. يظل صامتاً غارساً نظراته في السقف. عندها أبدأ تجوالي بين المرضى حتى يشرف وقت الزيارة على الانتهاء. أعود لأجده كل مرة نائماً، يغمر وجهه المرض وضيق الحيلة.
قلت له.
- سأساعدك.
- ماذا تريد من أم عيوش؟!
اقتربت منها، فلمحت في عينيها دعة حفزتني لأن أسألها.
- أأنت أم عيوش؟؟
- لا اله الا الله محمد رسول الله.
سارعت قائلاً.
- الرجل لم يمت. انه الآن في المحجر ويطلب منك أن تزوريه وان تحضري معك برتقالاً.
نكّستُ رأسي، وتخلل كتفاي أكتاف النساء ثم انسحبت خارجاً. مشيت خطوات، فاذا بخطواتها تتلاطم خلفي. استوقفتني قائلة.
- هل قال لك انه يريد برتقالاً؟؟
- ويريد أن يراك.
فرَدَت شرشفاً أبيض على بسطتها الخشبية. تناقلت البائعات نظرات صفراء فيما بينهن، وهشّ الرجل الكهل بيده اليمنى الذباب عن وجهه، ماسكاً بيده اليسرى عصا الخيزران التي تضرب بها النساء اللواتي ينحدر الغطاء عن وجوههن.
ركبت أم عيوش في المقعد الخلفي. كانت صامتة طوال الطريق الى المحجر. كنت أراقب عينيها بمرآتي العاكسة وهما لا تبارحان فضاءً محموماً، لم أستطع جسّ حُماه.
- قف.
- امش.
كان ساعتها يئن. قلت له.
- سيعتنون بك في المحجر يا أبي.
- لا تبكي.
- أخوك خير من يعتني بكن الآن.
كان قلبي يطّحنُ بوجيب نافر. امشي أمامها وكأنني أمشي في جنازتي. أتنفس فكأنما استلب هواء المحجورين واحداً تلو الآخر. كنت أريد أن أوصلها لسريره قائلاً.
- هاك إياه.
وصلنا. لم يكن هناك. قال الشيخ ذو اللحية الحمراء.
- ألم أقل لك انه يهذي. لقد مات.
خارج الأسرة، تقدمتني، فتبعتها.
- أتأخذني الى البيت؟؟
- أين تسكنين؟!
- في الغالة.
- هنا.
- مات أبوك.
- من هذا؟!
- كيف يحسّون؟
- ألا تتفضل؟!
- أأنت عيوش؟!
- عائشة. أنا عائشة. ذلك المريض هو الذي سمّاني عيوش.
- هذا المريض. أكره عيوش التي يحبها.
كان وجهها يتقد بهشيم غامق. لكن العبرات التي خنقت مسائي القائظ، أجبرتني أن أسألها.
- ألا تحبينه؟!
- لا. انني أكرهه.
ابتسمت بتحفظ.
- تفضل.
استدارت نحوي، ففاح منها عطر الريحان الرخيص.
- لقد مات أبوك.
- هل أنا جميلة؟؟
هي جميلة. جمالها جنوبي دافيء. جسدها أبنوسي يضج بالانوثة. شعرها بين الأكرد والناعم وجلدها غض ودهني.
استدارت مرة أخرى وتوجهت للبيت. همست وأنا أدخل.
- أجل يا عائشة.
- مات. مات. نعرف منذ زمن طويل انه مات.
- انني اكرهه.
- ليتني أهبك جسدي.
كان بيتها مضيئاً من الداخل. طرقت الباب، فخرجت والغطاء يعتمر رأسها.
- أتذكرينني يا أم عيوش؟!
- أغمضت عينيها وهمست.
- لا اله الا الله محمد رسول الله.
- جئت أطمئن عليك.
قلتها وأنا متردد. لم تجب. صمتت قليلاً ثم أجهشت بالبكاء. استندت على طرف الباب المتآكل، فكاد يسقط بها. استندتها، وأخذتها للداخل. كان على الأرض فراش من القطن تغطية ملاءات متسخة. مددتها عليه، وكانت حريصة إلا يسقط الغطاء عن وجهها.
بحثت عن الماء. كان ثمة صنبور في الركن البعيد، أسفله علبة بازيلا فارغة. ملأت العلبة بالماء وقدمتها لها. بعد أن أشاحت وجهها عني رفعت الغطاء وشربت بتأن ثم وضعت العلبة الى جانبها.
- هل أنت مريضة؟؟
ترددتُ قبل أن أسألها.
- أين عائشة؟
- لا عائشة ولا أحد.
- لا أحد يعلم أين ذهبت. بعضهم يقولون انها تزوجت شاباً في السر ثم طلقها في اليوم التالي، ولم يسمح بخروجها من بيته. بعضهم يقولون سافرت الى الجنوب وقضت نحبها في الطريق الوعر. بعضهم يقولون إنها اشتغلت قابلة في مستشفى للولادة وان الشرطة قبضت عليها مع أخريات في بيت مشبوه.
لم أكن قادراً على الرد. قلت لنفسي.
- وتعيشين وحدك أيتها العجوز المسكينة؟! لا أحد يطرق باب وحدتك المضنية؟!
- أنا لا أحتاج أحداً. أم عيوش لا تحتاج أحداً. عندما تزورني في المرة القادمة، سأكون قد حولت هذا الصفيح الى بيت من الخشب.
*من مجموعة "مصابيح العزلة"، الصادرة عن دار أثر عام 2018م
كامل قصص المجموعة، متوفرة في المدونة، قسم القصص القصيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق