تهذي القهوة، ينسكبُ الصباح
تفتتحين احتفال النص الارجواني. تهرع ملكات اللوز للخضوع بين يديك. أرفع يدي، فيرتخي الوقت لكِ. تعطينني يدكِ، فأمحو بشفتيَّ لمعانَ الثريا على أصابعكِ.
تعْتلين النصَّ، وعندما تُلْبسُني الملكات درع المبارزة، يتنفسُ في عينيك إعصارٌ حامض. تُصفقين، فيتدافع السيافون من كل جهات الحفل.
لحظة تقعُ أبصارهم عليَّ يصيبهم الخشوع ويتساقطون موتى. تلتفُّ ذارعك حول ذراعي، وعلى أجسادهم نخطو الى خارج النص.
* * *
فوق هامش هذا الظلام المتلأليء، أضع رأسي وأحاول أن أسكب على الرصيف بعض النعاس المعتّق في ذاكرتي. حاولت أن أقول لها بأن أزاراً واحداً فقط يفصل بين أن يطير من شفتيها المرجانُ، وأن يحيطها أطفال ذبحتهم غيلان المطر.
قلتُ: انصتي. ثمة طريقٌ يزحف باتجاه ضوئكِ السلسبيل، والطيور على جانبيه لا تستفيق حتى ترفعي عن فتنتكِ بللور فستانك المزركش بالظهيرة الباردة. هذا موعدنا. لا ترفعي عن معصمك الوقت، ولا تهشي الموسيقى الخافتة في انتظارك.
انصتي. غريبٌ تجرح مواطئَهُ النيازكُ وتتصارع الكواكبُ للنوم في معطفه البري. بجانب مشنقة النهار، يصرخ لليلٍ أن يُرخي عباءته الملكية. تغلي صرخاته السرمدية، فيفور الأرقُ ويظلُّ يحبس رئتيه لصدر نجمةٍ لم تُشع بعد في الأفق الزجاجي .
* * *
قطفتِ من رائحة السرير شمعةً، وابتسمتِ كرنين الصحو:
"هل أشعلها؟"
كانت الوسادةُ لا تزال تنهمر على شعرها الغاباتي. غطستْ عيناي في دبيب رموشها:
"أنت نجمة".
"حين أغادركَ لا تطفيء الشمعة".
كانت أصابعي قد اصطفّت في موكب أصابعها وكان مهرجانُ صوتها الخافتُ يزدان ببيارق من الحلوى. كان الصمت يباركنا بشهوته الطافية فوق نهر النعاس المرمري.
"أنا لستُ خائفة".
كفراشة تتبختر بحقلها، نهضتْ. توجّهت الى النافذة، وأغرتْها الستائرُ أن تغني للنور الباديء في حنجرتها العسلية، فَغَنّتْ. تقافزت سناجبُ الحديقة، وصعدتْ أغصان شجيرة الليمون، ثم سلّطت عيونها الكريستالية الى الغناء وعبق القميص الشراعي.
"أنتِ نجمة".
استدارتْ اليّ. سحبتْ الغطاء عن وجهي المختبيء ببقايا العتمة.
* * *
يا لهذا الصداع. كلما بَرَقَ العويلُ في مغاور جمجمتي المفقوءة، اشتاطُ برداً وخوفاً. وحيداً تحت سقف المجزرة الأنيقة، تتدلّى فوقي عناكبُ تنسج هداياها المفخخة على كتفيّ. صداعٌ لا يليق بحلم تَكّدّسَتْ له زنابقُ الأبهة المفاجئة.
حين توجَهَتْ لي، كانت العتبة تهتزُّ تحت قدميها. كنت لا أودُّ أن أسقط. انتفض دمي برائحة الغرفة. قبل أن أفتح عينيّ، مددتُ يدي لألتقط من أصابعها عربةً تُقلّني الى عُشّها الفضائي، لكنني صحوت. وكانت أول ما استقبلني جوارٍ مشوهات ربطن خواصرهن بسياط الشوك، وحملن علي رؤوسهن قدوراً يتقاطر منها الطين. أحسستُ أن جمراً ثملاً قد بعثهن ليَخُطن لي قبراً يناسب سريري المكتظ بالضحى والعطش.
"أيها الحلم الأليف كيف جئت؟! أيها الحلم كيف غادرتني. إنني الآن أدخل قبراً جديداً".
* * *
لتوقدْ في غيهب السواقي عشباً مكتحلاً بالرعشة. ولتحمل عني غسقَ التعب النامي في عرائش الجسد. إنني أستغيثُ ببلاط غربتكَ، فلا تدعني أنقر تمرةً لم يستو ضجيجها.
على ظهركَ خارطةٌ من كلاب الصيد، وعلى أضلعي وشمٌ لقرية غمرتها النوارس ذات صراخ، فاختفت. أتذكر؟! ركضنا معاً حتى مفرق الشجر. قبل أن أودعكَ، رأيتك ترتدي ظلّك وتمضي وحيداً.
كان النخيل ينحني لشهقات الماء، وكنتُ أبتهل الشمس أن يعود ظلك.
* * *
تجهّزتْ الوليمة للنار، واغتسلتْ الفضة بالريحان. قنديل البرهة الخائفة يسرق من الزيت بريق شهوته.
هل تجيئين؟!
تهشّمَ دورقُ الكلام، فانفرط العسل، ووجدتني أنظم لشفتيكِ عقد ابتسامات رشيقة. من صليل الشفق، انتقي لكِ أرجوحة نور وأتهيأ لاصطياد فراشات حلبتكِ المذهّبة.
تعالي. وستعرفين أن لبراري الفضاء أعراساً من أعناق الخزامى.
* * *
"إن اقتربتِ، ستصعقكِ كثبانه المرّة، وستتشقق قصائده في برد مراياكِ. سينخَرُ رمادُه خشبَ نايكِ، فلا تجدين معزفاً تخضرُ به وحدتك".
قالوا هكذا، أنه: "حطّ من وحي مسائي تحرسه بجعاتٌ رمادية. وحين خلع عنه قلنسوته، شعّ من الصخرة التي كان فوقها الظلام، وهطل من الغيمة التي كان تحتها ريش وحبر". هكذا وأنه: "لم يتشرد على أرصفة العطر من قبل، ولم تقتنصهُ شِباكُ البخور". قالوا: "هو يحتمي بصهيل الوحدة وبمواويل الرمل الشاحب، في انتظار أن تنبع من تحت قدميه بئرٌ من البياض". هكذا و: "ماذا ستغزلين من صفصاف يديه؟!"
قالوا: "شدي بساط جيادكِ وفرّي قبل أن تحطّ بجعاته الرمادية على كتفيكِ".
* * *
أنقش من درّ سهري فاكهةً تليق بجانبيْ مائدتك. كلما أرفع درّة نحو تمثالكِ، يهتاجُ الغواصون ويحتدُّ الميناء.
"لنقتسم البحر".
لكنهم يوجهون سنّاراتهم اليّ، فيصطادونك مني.
* * *
خارج قضبان السفر الذي لا ينكسر، أرى جمعاً من العرّافات يزغردن لي. وأراني أُخرِجُ يدي من فتحة في الجدار، فيلثمنَ خاتمي، عرافةً بعد أخرى.
أصيح: يا سلالة الغبار، انني أتطهر بعناقيد الهضبة الثلاثين، فاجلدوا جنيات سامركم على هضاب باديتي. كم يا غبار السلالات من جمر تبلل في أوردتي، فصار زلازلاً ثم شبحاً كلما هدّ القمر كاهل النجوم انتعشْ.
أصيح: يا بدو النوافل، هاكم الجبَّ والحنظل والهوادج المستريبة. خذوا من غشاوتي بصراً وأعطوني صحراء لا تكفُ عن الصحو. يا عرّافات اضربن الرمل عسى لتلك القضبان ألاّ تؤم صحرائي. يا سلالات. يا بدو. يا عرّافات. إن السفر خنجرٌ ينصهر بمراجل الظمأ.
* * *
التمّ القناصون على جثة القمر. أعلن القائد لهم:
"تهيأوا للجنازة".
صرختْ الفتيات اللواتي كنَّ يشربن أسرارهنَّ من نبع أخفتْهُ ضفادع خرساء:
"أيها القائد. كيف صوّبتَ الى نحورنا رصاصتك؟؟"
تجمهر الناس حولهن. صعدتْ أجملهن على مصطبة الهلع وأومأت للمرتبكين أن يحدقوا في بوابة التابوت. من كفن القمر، اندفع جحفلٌ من الفرسان البيض واعتلوا سلالم المساء.
"أيها القائد. لقد سئمنا شرف قناصيك".
* * *
ذاق الطفلُ لغزَ الشارع.
ابتسمتْ له الملوحة فمشى. مشى حتى نَبَتَ حول ساقيه خاتمُ الطريق.
سأرشُّ القيدَ بالزعفران وأقذفُ على سياج الوشاية فتائل النزهة. أوووه يا خبءَ المجرّات ويا قافلة تستظلُّ الخيامُ بأناشيدها. اجهشي بالكلام، لعل مغارة الفؤاد تستجيب لسمسم ندائكِ، فَتَدينُ الكنوزُ لنياقكِ. وحين تستلّين من سهوي عرقَ الدهشة، ستجدين أن اللغز ما زال مرّاً وأنكِ يا حبيبتي تزدادين ملوحةً.
* * *
يداي تحترقان.
مصائد القطا على بعد نافذة منا، وأنتِ سابحة في قارب مزاميري الندية. المصائدُ تتوثّبُ للطير الجائع. أريد أن أتحرك لأهشّ المصيدة، لكنني أخاف أن تستفيقَ بك ذراعي.
يدي تحترق.
الطير يلتقطُ الحَبَّ المفخّخ، فتنقضُّ مخالبُ الحديد على جناحه. تفزُّ المزامير، لكنكِ تطمأنين لذراعي ثم تعودين للندى. أضمّكِ مستجيراً بمظلتكِ الغافلة.
أنا وحدي الشاهدُ على المذبحة.
يداي تحترقان.
* * *
كان عليَّ أن أطرّز خوفَكِ بالثلج، وأن أقود سنابلكِ الى مرعى الشمس.
كان عليك أن تجدِلي هذا الثلج بهذه الشمس، لكي تَهُبُّ ظفائرُكِ في زرقة النشوة، فلربما تنبض الخلجان بالمحار، وتهتدي الأشرعةُ الى جزيرة مأهولة بتيجان العناق.
"أيها لكِ: هذيان قهوتي التي انسكبَ صباحها على يوم الصحيفة، أم صولجاني الذي أطرق به ولايات الجنون؟!"
لا تخشي حرّاسي، فلقد دربتهم أن ينحنوا لكل نظرة يسرقها خمارك المنقوش بالحياء. ولا تجزعي إن أنا وطأتُ سجاد تأتآتكِ.
أتذكرين أول راية غرستُها فوق موج شقاوتك. كنتِ تحاولين أن تصبّي النار من حنطة وجهك الى تعويذة صمتي.
أي نهايةٍ ستتفتح أكمامُها لو تسللتْ يداي الى رقصتكِ الخافتة؟! أي منجنيقٍ سَيَدُكُّ حصنَ ذلك المساء المتلبس بانهمار السوسن؟!
إن كوكبكِ الآن بوصلةً للأرق.
* * *
سأتلو في هدهدة المصابيح نشيداً يضجُّ بحباحب الشُهُب، وسأمتطي مُهرةَ الشطرنج لتقودني الى شرفة دفتركِ السرّي.
اليوم، سأجمع اللقالق حول مرفأكِ، وسأوقّع على المرساة اسم النادل الذي احتسيتُ في مقهاه نعناع مشيتكِ النافرة.
اليوم، يتثاءب الفستقُ على حبال الليلة الهلالية، فلا تَدَعيْ الموجَ يتدفق خارج كأسكِ الرملي. نسِّقي أغصان هذا الخريف على عتبة سريركِ، وانفخي فيها من روحكِ أوراقاً وبلابل.
اليوم. يشقُّ نخبي غمام السهرة الخائفة، لتفيض القرى بالمحبين.
فبرايـر 1989 م