الاختناق
يتشقق الفجر، فتصحو الطيور. يُفيق "عبود". ينتزعه أذان الحرم من هواجسه المبكرة ومن تدربه على لهجة أهل مكة. يطوي فراشه، يتوضأ، يصلي بكل جوارحه، وهو ابن الثالثة عشرة لا يزال.
يفتح الباب الخشبي، يطل في الشارع المبتدئ في الصباح، يبحث في نهاياته عن خطوات ساقي الماء اليماني. يسمع من بعيد أصوات السلاسل التي تربط براميل الماء بالعمود الخشبي الممتد فوق الكتفين. يخرج "عبود"، يتكئ على جدار البيت، راسماً ابتسامةً طفوليةً على محياه الضارب في السمرة.
- لا تتأخر أبداً يا أبا طارش.
- هيا يا ابني، كل شيء يتأخر ولا يتأخر الماء. وسّع.
يُوسّع "عبود" الدرب. ينحنى الساقي حتى تلامس البراميل الأرض، ترتخي السلاسل، يرفع العمود، يفصل البرميل الأول عن السلسلة، يصبه في الخزان الملاصق للجدار، يصب البرميل الثاني. يراقبه "عبود" دون أن يساعده، لأنه اذا حاول ذلك، سيقول له كالعادة.
- لا زلت صغيراً على حمل البراميل يا عبود.
يُصدر غليان الماء صوتاً مألوفاً، يملأ البخار الساخن الحمام. يتأكد "عبود" أن تلك الصابونة الصفراء الضخمة لا تزال في مكانها، داخل شق خشبي في الجدار.
يحس أن الوقت قد حان لإيقاظ السيد. يصعد درج البيت، يتوجه الى الغرفة الضخمة.
أمام الباب، يغلق كفه ثم يفتحها، يغلقها ثم يفتحها. يبتلع ريقه، يتقدم خطوة أخرى باتجاه الباب، يغلق كفه بشدة، يطرق الباب بخفة.
يمر الوقت دون أن يطرق مرة أخرى، ودون أن يجيب أحد. يطرق ثانية، وفي الثالثة يزداد طرقه قوة. يصرخ السيد من الداخل بلهجة حجازية.
- صلَّ على النبي يا عبود، أزعجت الجيران.
البيض على وشك الاستواء، وخبز البارحة على الجمر كي يستعيد حرارته. يخرج السيد من الحمام مغطيا منكبيه بالإزار الذي لا يسقط من خاصرته داخل البيت، يقطر الماء مما تبقى من شعر رأسه. يتابعه "عبود" بنظرات قصيرة وهو في طريقه الى الدرج.
- ماذا فعل حتى يستحم؟
يقشعر بدنه عندما تداهمه نفسه بالإجابة. يتذكر قدرة أبيه على التهرب من هذا السؤال الملح، وكيف اكتشف الأمر سراً من سائق الحافلة ذات المقطورة التي نقلتهم من "الرس" الى الطائف ثم الى مكة.
تأتيه صور هذا السفر بسرعة. تأتيه أحاديث الطريق بين أبيه والسائق. يملأ كلام أبيه أذنيه.
- النخل هذه الأيام لا يفتح بيتاً. التجارة في مكة قائمة في الحج وغير الحج. نوينا مكة عسى النية الطيبة ترزقنا الحلال الطيب.
يخرج السيد "فضلان" من البيت. يحمل "عبود" ما تبقى من الخبز والبيض المسلوق الى المطبخ. يعود ليجمع قشور البيض ونتف الخبز وكأس الحليب بزنجبيله الخاثر في القاع.
تصحو السيدة معلنة انتصاف الضحى، تترك الغرفة لابسة قميصها اللامع السميك، وحركات الليل الكثيرة لا تزال عالقة عليه.
لأول مرة منذ ابتداء عمله القصير معهم، تطلب من "عبود" أن يُرتّب غرفة النوم.
يقشعر بدنه لهذا المطلب. يُنكس رأسه، فيهاجمه صوتها.
- هيا.
يصعد الدرج مسرعاً، يفتح باب الغرفة بحذر، يدخل بهدوء، تصدم أنفه رائحة عطر، ورائحة أخرى.
- لعلها رائحة النوم.
تزعجه هذه الرائحة. يشعر وكأنها رائحة تعفن آدمي. يحاول أن يتناساها وأن يفتح أنفه لرائحة العطر. يختفي العطر في النهاية، ويصبح جو الغرفة مليئاً بالتعفن الآدمي.
شراشف النوم متناثرة على كل مساحة السرير، الوسائد متلاصقة بشكل أفعواني، النوافذ مغلقة بإحكام، والستائر لا تتيح دخول شيء من النور.
- كيف ينامون هنا؟
يختنق "عبود". يتعجب كيف زالت قشعريرته اللذيذة بعد دخوله الغرفة؟! يزداد اختناقه. يحاول أن يبدأ ترتيب الغرفة، لكنه يختنق تماماً.
أثناء تجهيزه لأغراضه، يحاول "عبود" أن يجد عذراً لهروبه من بيت السيد.
بعد خروجه الى الشارع، يبدأ لسان أبيه يتحرك أمام عينيه.
- إما أن تعمل صبياً عند السيد "فضلان"، وفي هذا راحة وسعة في الأجر، أو أن تصبح عاملاً تكسّر حصى جبل "الهدا" في مشروع "ابن لادن"، وفي هذا شقاء وضيق في الأجر. ولا ثالث أبداً لهذين الخيارين يا عبود.
الجبـــل
يحاصر الظلام البيوت. تحفر الكلاب أصواتها على المساحات المتلاصقة. يرسل ضوء الشارع البعيد خيوطاً من النور، لتستضيفها أعالي السطوح المنخفضة. يتسلل بعض من الخيوط إلى سفح الجبل القائم خلف هذه البيوت. يخفي المنظر الليلي الأحجار المتسلقة الى القمة، ويصير حجم الجبل الهائل هو المشهد الوحيد. في الداخل يتنامى عبق النوم الشتائي. تبعث الأغطية السميكة حفيفاً هادئاً عند انتقالها من طرف الجسد الأيمن الى الطرف الأيسر. الجدران باردة وخشب النوافذ يفصل الدفء الداخلي عن هبوب الشارع القارس.
يتوقف الصوت الكهربائي القادم من ظهر الثلاجة القديمة، ينظر "أحمد بن منصور" الى الباب الخارجي. في أعلى الباب، ينغرس لسان المزلاج في الجيب، يبدو هذا الباب قطعة من الجدار الأصم.
يتـنقل "أحمد المنصور" في البيت بصعوبة.
- أبي هو الذي يحرص على إغلاق المزلاج، هو الذي وضعه في أعلى الباب حتى لا أصله.
هذا أبي "منصور" يغط في نومه تاركاً أمي وحدها. ينام مبكراً. يهده النهار ومصلحة المياه. يدور في كل البيوت لصيانة الماء. يفتح "أحمد" الثلاجة، يثرثر صوتها الكهربائي من جديد، يهتز قدر الأدام المتجمد السطح. تفوح رائحة الدسم والطماطم المتناثرة. يتناول إناء الماء. يحاول رفعه، فلا يستطع. يقرّب جسمه، يرفعه بجهد ويقربه من فمه. يتساقط بعض نور على وجه الماء فيرى "أحمد" وجهه.
في ذلك اليوم، صعدت الجبل، حينها كان أبي سعيداً. سمعته يقول لأمي إن كل المشاكل قد زالت وإن المال قد توفر. لم أر أمي تضحك مثلما ضحكت ذلك الصباح، ولم أرها تضع يديها على صدر أبي من قبل. التفت الي، قال: هيا، ألا تريد أن تلعب؟! قلت له: أريد أن أصعد الجبل. قال: أصعد القمر إن شئت.
كان الجبل مخيفاً، عالياً وضخماً. كانت الأمهات اذا أردن إخافة أطفالهن، يقلن للواحد منهم: سوف أذهب بك الى الجبل.
مشيتُ حتى صرت في مواجهته. قلت له: ها أنا ذا في مواجهتك أيها المتغطرس. هل تظن أنك معجزتنا؟؟ هل وصل بك غرورك أن تسكن كوابيسنا؟ سوف أصعدك، سوف أطأ بأقدامي قمتك العالية، وسوف أصرخ حتى يجتمع الناس أسفلك وسيضحكون، بل سيبصقون ويتبولون عليك. يا أنت، أيها الذي تمنع عنا كل الأشياء الجميلة.
وضعت خطواتي على أول صخرة. شعرت أن للفرح أجنحة تحملني، وجاء الانتصار. بدأت أقفز من صخرة إلى صخرة. كانت الصخور بمجرد أن تنتقل قدماي عنها تتزحلق حتى تهوي في القاع. كنت أسمع صوتها وهي تصرخ بي: الرحمة يا أحمد بن منصور، الرحمة. لكنني لم أكن أعبأ بها. كنت أضغط قدميَّ بكل قوتي على الصخور كي تنصهر. لم أكن أستخدم يديَّ، كنت أرفعهما عالياً وأنا أصعد. كنت أضرب الهواء الجبلي وأهمس في نفسي: سوف تحترق أيها الهواء الفاسد ليدخل إلينا هواء نقي.
وصلت قمة الجبل. كان يملأني آلاف الأطفال وآلاف الكبار. كان الأطفال في جسدي والكبار على بعد شاسع عني. تخلصت من خيال الكبار، ووقفت شامخاً على رأس الجبل. كنت أضع جسمي على أصابع قدميّ، وصرت أفرك بهما هامته.
بدأت التلويح للناس. استخدمت كل قدرتي على الصراخ. تجمع الأطفال والرجال. خاف الأطفال وأمسكوا بثياب آبائهم الذين بدأوا بالتهليل والتكبير: اللهم احرس أحمد بن منصور.
يتأمل وجهه على ماء الإناء أكثر.
- لقد كبرت. ازداد لوني اسوداداً، ولا أحد يقص لحيتي الطويلة.
يشرب، يغلق الثلاجة، محاولاً أن يستدير، لكن الشلل الذي أوقف نصفه الأيسر عن النمو، يمنعه. يستدير من الجهة الأخرى ويمشي بصعوبة بالغة.
ينظر "أحمد بن منصور" إلى مزلاج الباب الخارجي.
- يخافون خروجي إلى الجبل ولا يدرون أنني لن أفعل. لا يدرون أنني سأخرج لأبحث عن "أحمد" آخر كي أقول له: اذا أحسست أنك انتصرت على الجبل، فكن حذراً. هناك شيء غامض خفي سيحاول دفعك من الخلف. ستسقط، سيصيبك الشلل، سينفق أبوك كل المال لعلاجك، وستجد نفسك وراء باب يغلقه مزلاج، لا تستطيع الوصول إليه.
الجدران
يعبر الهواء اليومي نافذة إحدى غرف البيت. يصدر اصطدام الدرفتين المتهالكتين صوتاً تعودت "أم الهول" على سماعه. تهتز بعض أعواد القش النافرة من طين الجدارن. يرفع الهواء الخيوط الباقية من طرف البساط القديم. تسقط الخيوط مرة أخرى على الأرض ليدفعها الهواء ثانية، فتلامس حافة الفراش المتسخ بالأتربة وبقع السوائل الجافة.
تتحرك ذبابة على حدود أقل البقع جفافاً. تدور حولها أكثر من مرة. تحط، وتحاول أن تمتص بخرطومها شيئاً من السائل الجاف. ترفع رأسها، تتراجع إلى الخلف، ثم تطير في جو الغرفة الصامت.
من جبين "أم الهول" الشاحب، تمتص الذبابة خطوط العرق البارد، يتحرك الحاجبان، فتهرب الذبابة خارج الغرفة. يتحرك حاجبا "أم الهول". تفتح عينيها. تطالع خشب السقف المتهاوي من منتصفه إلى الأسفل.
- اللهم احفظنا.
ترفع الغطاء عن رجليها. تتكئ بيديها على الأرض. ترفع ظهرها. تشد على ركبتيها البارزتين، كي تخفف الوجع الذي ينال عظامها. تزحف ببطء حتى تمسك الجدار بيديها. تنهض بجسدها الناحل وتمشي نحو الباب، فيملأ نور الصباح عينيها.
- يا الله صباح الخير.
تخرج "أم الهول" الى الفناء الترابي الضيق، وتنظر الى الأشياء كلها: البقرة الضامرة، الرحى المهملة، الجدران المتصدعة المنخفضة، أكوام الروث اليابسة، وأعواد البرسيم الصفراء. تجلس، تمسح التراب العالق برجليها، تخفي شعرها داخل غطاء رأسها، تربط أزارير كنزتها الصوفية ثم تنظر إلى الباب الخارجي.
- من زمن لم يزرني مخلوق.
تعاود إخفاء شعرها، وتبلل شفتيها.
- كيف أخرج؟ "أم الهول" تخرج؟ سوف يهتز قبره. طوال حياتي لم أشاهد الشارع، سموني الناس "أم الهول" لأنهم يخافون مني، لا يدرون من أنا، يقولون إنه متزوج امرأة من الجن.
تقف بصعوبة، تصل للبقرة، تمسح ضلوعها النافرة، تدير البقرة رأسها لكنها تعود لمضغ الهواء.
تتوجه "أم الهول" للرحى. تنحني عليه، وتحاول تحريك يده، لكنه لا يجيب. تجيب هي.
- لا خبز ولا حليب، يجب أن أخرج، سوف يغفر لي.
تمشي صوب الباب، تفتح القفل، تسحب المقبض بقوة.
تنظر إلى الشارع بدهشة. ترى الأطفال يتراكضون، يظهرون ويختفون. تُخرج يدها، تلوح لهم بفرح. يشاهدها أحد الأطفال، يتوقف عن الركض. ينظر إلى يدها من بعيد، ثم يقترب بحذر حتى يصبح على مقربة. يتأكد أن اليد تتصل بجسد، وأن هذا الجسد جسد إنسان. يحرك رأسه كي يتمكن من رؤية الوجه، يراه وجهاً مليئاً بالتعب والجوع والجدري. يخاف الطفل، ويولّي هارباً.
يمر الرجال، تمر النساء، تناديهم "أم الهول" بعينيها ويديها، لكنهم يهربون. يصيح الألم داخل "أم الهول".
- يا جماعة الخير، أنا فاطمة السَّهْلي، عشت حياتي معكم، أسمع أفراحكم وأحزانكم، كنت أقوى من الجدران التي فصلتني عنكم. عندما تزوجني، أحضرني من بلدة أهلي إلى هنا، وقال: هذا البيت بلدتك فلا تخرجي منها. لم أخرج، ولم يدخل إليّ سواه، حتى أهلي لا يعرفون أين أنا. أنا الآن عجوز مريضة، جائعة متعبة. الرحى يابسة، البقرة هدّها الجوع، والبيت سيسقط على رأسي.
لا أحد يرد، تدور الذبابة حول أذنها، فتهشها.
تستجمع "أم الهول" قواها، تفتح الباب على مصراعيه. تفك البقرة، تضربها على مؤخرتها، فتخرج البقرة مندهشة. ترى الشارع، فتركض في أي اتجاه حتى تختفي. تغلق "أم الهول" الباب من الخارج.
على جدار البيت المقابل لبيتها، تسند "أم الهول" ظهرها وتجلس. تنظر إلى بيتها، بعينين منخفضتين، تطالع يديها المرتعشتين، فينخفض رأسها أكثر، تمد يدها اليمنى باتجاه الطريق. تحس "أم الهول" بالذبابة وهي تدور داخل كفها المفتوحة للمحسنين. يملأ قلبها خوف رهيب من أن: يهتز قبره أكثر، فيصحو من سبات الموت.
الدائرة
يبدأ العمال تعبئة شاحنته بالإسمنت، يملأ رئتيه بهواء الخليج، يرفع طرفي غترته على رأسه، يفتح أزارير ثوبه كلها، يمسكن نهايتي ياقته، يهزهما.
- ترطّب أيها الجسد الجاف.
الهواء مليء بغبار الإسمنت وبرطوبة الدمام المالحة. يشترك رئيس الميناء مع العمال في أغانيهم. مرة من البداية، مرة في الوسط، ومرة في النهاية. يضيف بعد كل أغنية.
- قواكم الله يا شباب.
يصافح الرئيسَ وبعض العمال الذين أدمنوا ملاقاة وجهه القروي، يرجع بشاحنته الى الخلف ببطء، يديرها باتجاه المخرج، يلوح بيده اليمنى للأصدقاء، ويضغط بيده اليسرى منبه شاحنته معلناً لبقية السائقين رحيله إلى الرياض.
في شارع "المرقب" بالرياض، يندسّ بيتٌ طيني في آخر الشارع الضيق. داخل إحدى الغرف، تنكب "لولوة" على ورق الدرس، تقرأ شيئاً أمامها. في جمجمتها الصغيرة أشياء أخرى لا تعينها على فهم ما تقرأه. تعيد القراءة، ثم تعيدها. تمسك بقلم الرصاص، في فراغ الصفحة العلوي، تكتب:
لولوة حمود
تصل بين الاسمين بخط رفيع، تمحو الخط، ثم ترسمه بسماكة أكثر. تمحوه، فتصبح المسافة بين الاسمين ضباباً رصاصياً، ترسم دائرة حول الاسمين بحيث تلامس اللام والدال.
تعود للقراءة مرة أخرى، تتلو الدرس بصوت عال، ينخفض صوتها شيئاً فشيئاً حتى يخرج من عينيها فقط، ترفع نظرها إلى الفراغ العلوي، على خط الدائرة ترسم شاحنة.
برأس القلم تحاول أن تدفعها كي تتحرك داخل الدائرة.
يصبح الطريق أمامه كالمسطرة، يُخرج من جيبه علبة السجائر، يسحب واحدة، يتفحصها بأصابعه، تعجبه ليونتها، يفكر.
- ليت البحر لا يفارق صدري وسجائري.
يواصل تفكيره.
- في الرياض يحاصرنا الرمل والناس. ليتني لا أصادف أبا حمود عندما أصل. الرجل مشغول بالدنيا والعقار. ينظر إلينا كما ينظر إلى البهائم التي تملأ بيته. الإيجار أدفعه له رأس كل سنة، والسيارة أوقفها في إبليس حتى لا ينزعج.
يتنهد بعمق، يشعل السيجارة، يسحب نفساً عميقاً.
- الله يا هذا الزمن، منذ سنين كان أبو حمود واحداً منا. نصلي الفجر سوياً ونركب إلى شركة الكهرباء. كنت أسوق سيارة الصيانة وكان يعاونني. كنا كلما مررنا بقطعة أرض بور، يعض أصبعه. كنت أضحك وأقول له:
- لهم في الدنيا ولنا في الآخرة يا أبا حمود.
تغلق "لولوة" كتابها. تتذكر أن اسم "حمود" لازال على إحدى الصفحات. تفتح الكتاب. تبلل إصبعها وتقلب الصفحات واحدة بعد الأخرى. تتعدى الصفحة ثم تعود لها بسرعة، تمسح طرف الحاء، تمرر الماسحة على بقية الحاء بخفة، تمر عليها بقوة تمسح الميم، تتردد في مسح الواو والدال، تقرر أن تتركهما.
تنام "لولوة" وبيدها قلم رصاص.
تنام وكتابها مفتوح.
تنام ووجهها الجميل وشعرها الجميل، على صفحة الكتاب.
يدخل البيت، يجدها نائمة، يسحب الكتاب من تحت وجهها، يغطيها، تُلفت نظره الشاحنة المرسومة على خط الدائرة.
داخل الدائرة يقرأ بصعوبة.
لولوة ود
ينظر الى نومها البريء، يقول لنفسه.
- الشاحنة أنا، الدائرة السفر المستمر، لولوة ابنتي لكن الـ "ود" لمن؟
يخرج من الغرفة، وتخرج رائحة الإسمنت والقلق وراءه.
الرائحة
في منتصف الضحى الثقيل، تصحو "أم سليمان". تبحث في شق الجدار عن أوراق خبأتها قبل نومها. يحبو النعاس خارج وجهها ببطء. "طاسة" ماء المساء، تفصل بين فراشها وبين الجدار. يغطي الغبار وأعواد قش السقف وبعض البعوض صفحة الماء الراكد. تفرد "أم سليمان" الأوراق المليئة بالتعاويذ. تقلبّها، لا تفهم ما بها. تسبّح وتهلل، ترفع الطاسة، تنفخ سطح الماء. تسيل بعض الشوائب خارج الإناء ويغوص الباقي داخله. تلف الأوراق الصفراء ثم ترميها داخل الماء وتحركها بإصبعها المتورم. تحركها حتى يصفر الماء. ترفع الإناء بمحاذاة صدرها وتبدأ بالدعاء.
- باسم الشافي المعافي، باسم الله الكافي، اللهم أزل عني البلاء وامنحني صفاء النفس وحبب إليّ الناس، الناس يا مولاي.
تقرّب الإناء من فمها، تلفظ مزيداً من التسبيح والتهليل. تشرب، تعيد الإناء الى الأرض، تدخل كفيها في الإناء ثم تغسل وجهها، رقبتها وصدرها الجاف الدافئ.
كل أهل الحي يعرفون "أم سليمان". امرأة تجاوزت الخمسين. من منتصف الظُهر، تفتح "بسطتها" أمام دار ابنتها وتبيع أي شيء: الحلوى والهيل والسكر وشرائط الشعر والبسكويت. تجلس "أم سليمان" وراء هذه الكميات القليلة، ولا تتحدث إلا عندما يسألها أحد عن السعر أو عن المرض الذي يلازمها. تجاوب بالسعر أو بأنها تحمد الله على ما بها. الأطفال هم زبائن "أم سليمان"، الرزق محدود ويزداد في مواسم المدارس والأعياد.
لم تكن "أم سليمان" مريضة، ولم تكن تبيع السكر والبسكويت. في السنوات الثلاث الماضية، كان "أبو سليمان" يطرق كل أبواب العمل، لكن رجاءه يخيب. يعود في المساء وحزنه يفوق تعبه وإلحاح زوجته بالبحث عن مورد للعيش. ولأن "أبا سليمان" مسن، فلقد وافق أن يعمل منظّفاً لأنابيب الصرف الصحي.
كان "أبو سليمان" يعود كل يوم، ورائحة عمله تلتصق بشعره وأصابع قدميه. كانت "أم سليمان" تصنع له العشاء ليأكل وحده. كانت تعتذر بأنها أكلت قبله، مع أنه يعود مبكراً. ساءت حالة "أم سليمان"، وصارت تشكو لنفسها الحال.
- إن لم يعمل، نموت من الجوع، وشغله هذا يثير القرف.
نصحها "أبو سليمان" أن تعرض نفسها على عجائز الحي، فهن يعرفن حالات كثيرة كهذه. كانت تقول لهن إنها لا تطيق رائحة أبي سليمان، وإن سن اليأس قد أصابها منذ خمس سنوات. قالت إحداهن.
- قدرة الله فوق كل شيء، لعلك تحملين في بطنك جنيناً وهذا هو "الوحام".
تضحك "أم سليمان" في سرها وتقول:
- إنه على كل شيء قدير.
تطلب "أم سليمان" من زوجها أن يسمح لها بزيارة ابنتها. هناك، قررت أن تبقى. قالت عجائز الحي لأبي سليمان، إن عيناً لم تصلّ على النبي أصابت "أم سليمان". بعد صلاة العشاء، تدخل "أم سليمان" غرفتها، ترتب فراشها المنتشر على الأرض، تجلس بجانبه، وتربط أكياس الأشياء التي تبيعها في كيس من القماش الرديء. تضع المبلغ الذي كسبته وتودعه شقاً من شقوق الجدار. تحمل آلامها وهواجسها وترتمي على الفراش. في صحوها تسأل، وفي حلمها المبكر تسأل:
- هل عيناً أخرى أصابت ولدي سليمان؟؟
منذ عشر سنوات، خرج "سليمان الكبش" من بيت أبيه ولم يعد. يروي أحد أصدقائه أنه في الليلة السابقة لهروبه، سمعه يتذمر من الفقر ومن هذا اللقب الذي التصق باسمه، لمجرد أن أباه اشتهر بالحي بالشراهة في الأكل، والضخامة في الجسم، وبالرائحة النتنة، وبعدم احترامه لمعاشرة زوجته.
الغيبوبة
أفقتُ. كان الصغار حولي يغطون في نومٍ عميق، وكانت أمي خارج العش.
شهقت جوعاً.
الشارع لا زال نائماً. فتح الصغار عيونهم تباعاً، وبدأنا نشهق معاً. ضايقني عجزهم، هززت أجنحتي لهم، وضعتُ رجليّ على طرف العش وطرت. اصطدمت، أول الأمر، بأكثر من جدار، سقطت على الأرض مرات ومرات، لم أبكِ، شددتُ عضلات أجنحتي وحاولت من جديد.
عندما استويتُ في السماء، زعقتُ بصوتٍ نحيف، لم يصل إلى الجدران الطينية التي كانت أسفلي.
عُشُّنا ليس دافئاً كما ينبغي، وضع أبونا فيه بعض القش ورحل. انتظرناه طويلاً ولم يعُد، غابت ملامحه عن ذاكرتنا، صرنا إذا شاهدنا عصفوراً كبيراً، نصرخ.
- أبي، أبي، أبي.
لكنه يطير بعيداً عنا.
قلت لنفسي.
- سوف أصادف أمي، تبحث عن طعام لنا، سأقول لها: لا تشغلي نفسك بي، لقد علّمت نفسي الطيران، ولم أعد صغيراً لأنتظرك حتى تدفعين الأكل من منقارك إلى منقاري.
كنت صغيراً على كل ذلك، لكني لم أكن أتحمل رؤيتها، وهي تؤكلنا آخر لقمة لديها، لتبقى جائعةً بقية النهار.
دخل الصباح السماء.
هبطتُ على جدار كي أستريح، التفتُ، فاذا هو بيتُ صغير، ذو حوش ضيق لا يغطيه إلا التراب.
سمعتُ صوت باب يُفتح، هممتُ بالطيران، لولا أن طفلة صغيرة، خرجت من ورائه.
جلستْ الطفلة في طرف الحوش، وأخذت تبكي.
من خلف الباب، جاء صراخ امرأة.
- ماذا تنفعك المدرسة. والله لو تبكين حتى تنفجر عيونك، ما تحطي رجلك فيها.
ضربتْ الطفلة الأرض برجليها، وازداد نحيبها.
بكتْ بكتْ، وأنا ثابتٌ، أراقب باب الحوش خائفاً. كنت أخشى أن يخرج أحد عليها. خف بكاؤها، وصارت تعبث بالتراب. رفعتْ رأسها فشاهدتني، قامت، اقتربت من الجدار، مدت يدها باتجاهي.
- تعال.
لم أتحرك.
- تعال.
خفتُ، لكنها أنزلت يدها، وقالت:
- هل عندك أم؟
قلت لنفسي.
- عندي أم أهلكها الجوع والتعب.
طالعتني، وعلى وجهها، ابتسامة غلبها البكاء.
- لماذا لا تجيب؟ هل أمك ميتة؟ هل لك أب؟
ابتسمت في قرارة نفسي.
- تعال.
فكّرتُ: لعلها تحس بأنني جائع، فتحضر لي شيئاً آكله.
فجأة، قالت:
- خذني الى مكان أجد فيه مدرسة، ولا أجد فيه أماً تضربني لو أقول أريد أن أدرس.
تمنيت لو أنني قادر على الكلام، لأقول إنني جائع.
قالت:
- أنت صغير، كيف خرجت من بيتكم؟
كنت أسمع أصوات أطفال من الجهة الأخرى للجدار، لكنني لم أكن أرغب أن أرفع عيني عن حديثها.
- تعال، لن أؤذيك، سوف أصنع لك صندوقاً جميلاً أضعك فيه، سوف ألعب أنا وإياك، وسوف أقتسم الأكل معك.
فرحتُ عندما قالت إنها سوف تعطيني طعاماً. نفضتُ جناحيّ من الفرح.
في نفس اللحظة، أحسست أن الأطفال في الجهة الأخرى، قد صمتوا فجأة. أدرت رأسي لهم، فإذا هم يصوّبون حجارتهم نحوي.
جمّدني الخوف عن الطيران، فأصابني حجر على رقبتي. سقطت تحت أرجل الطفلة. حملتني، فغمرها بكاءٌ أشد وأقوى، ودخلتُ أنا في غيبوبة.
حاولت أن أفتح عينيَّ أو أن أحرك رجليّ، فلم أستطع. كان الدم ينزف من منقاري بشدة.
كان كالحلم، عندما انتزعتني المرأة من بين يدي الطفلة ورمتني الى الشارع المليء بالأطفال الذين كانوا يتصايحون.
- هاتوا عصفورنا.
عندما التقطني الأطفال، دخلت في الغيبوبة النهائية.
الفضاء
يتساقط الصباح فجأة، فيشتعل الفقراء بالضوء. يخلعون أحلامهم – هذا الجليد – ويرتدون هذا القيظ الحافي –التعب.
"عنيزة" مدينة خارجة عن حصارات الصحراء، لابسة شغباً يرتّد إلى جوع وجدب كان. ساندة ظهرها، تنتظر حكايات شعبية مملوءة بالنخيل وبالسفر. مستندة، توزع ابتساماته لكل الخارجين من بيوتهم في هذا الصباح.
يلف "عبد الله الطويطيني" غترته العتيقة على رأسه ويخرج من المسجد. ينهكه الطريق الذي لا يتغير من حيه الفقير إلى السوق. عند طرف السوق، يجلس عبد الله متكوماً صمته ولا يقوم إلا عندما تلفظ الحركة أذرعتها.
في البدء، تشتبك الأشياء باصفرار الأزقة ويفرد السوق جسده البارد ليدخل في قلق "الدلالين"، في صخب الشوارع المبكر.
طفلان يحملان حقيبتيهما المدرسيتين، والوقت يدخل في البياض. يحلم أحدهما بالحلوى ويحلم الآخر بردود على أسئلته.
- من أين جاء عبد الله؟
- يقول والدي إن سيارة من الكويت جاءت ذات ليلة ووضعته بجانب السوق. في الفجر، صلى معهم ثم اتجه صامتاً إلى عمق المدينة.
- ولماذا لا يكبر؟
- لأنه بنى سوق عنيزة، فلا يكبر هو ولا يكبر السوق.
- هل له أولاد؟
- يروون أن له بنتين، لكنهما لا تعرفانه.
- ولماذا لا يقدم لنا هذا العجوز شيئاً من الحلوى؟
- لم يذق الحلوى، وكلما أراد أحد أن يسأله من أين جاء تعاوده نوبة الصرع.
يكبر الأطفال، تزداد الحلوى والأسئلة ويفرد السوق جسده البارد كل صباح ليدخل في بعض قلق وبعض صخب. لذلك لم يتغير عبد الله.
لكنه اختفى.
رجلان يحملان حقيبتيهما الوظيفيتين والوقت يدخل في البياض.
- أين عبد الله؟
- في السجن، سرق أحدهم دكان بائع الفحم الذي كان يتوسده عبد الله منتظراً سقوط أسوار صمته.
- ثم ماذا؟
- سألوه فلم يجب وكانوا يريدون أن يختفي عبد الله ليكبر السوق. سجنوه.
- والسوق؟
- نفض عن "عنيزة" تمرها ورشقها بالنوى كي تذوب.
توغلت ملامحه في الصمت أكثر. بردت يده اليمنى وأصابها الرعاش، قال الطبيب بأن عبد الله لا يرغب في مصافحة الآتين من الأحياء المليئة بالإسمنت والسيارات الفاخرة. لكن كل "عنيزة" ازدحمت بالأسواق، الشوارع طالت، وعبد الله لا يجد المكان الظليل.
رجلان يحملان الأسئلة، يحملان صمته منذ الطفولة، يحملانه لم يتغير كما الأشياء، وجداه متشحاً جدار بيته المتهاوي، ثيابه تكحلت بتراب سنينه وبحثه، غترته العتيقة لا تزال تلف وجهه القاحل. غرقت بشرته بالسواد أكثر، والكلام نزّ صديداً من ظاهر ساقيه وقدميه العاريتين. اكتشفا أنه يميزهما دون سائر الأشياء التي تمر أمامه، مد يده اليمنى بارتعاشاتها المحزنة. صافحاه معاً، همس في أذنيهما:
- خذاني إلى "موقف" السيارات المسافرة إلى الكويت.
الماء
لم يكن أحد يعرفني هناك. انتظرته طويلاًً في هذا الشارع الضيق، فلم يجئ. كنت متأكداً أن الجو سيخذلني، وفعل. بدأ المطر وكأنه يطرق باب الأرض ليدخل، لكنه بعد دقائق استأنسها، فانهمر غزيراً. كان عليّ أن أدخل، فدخلت. عددتُ وجوههم ثم توقفت عن العد، عندما لمست عيناي وجهه القروي. قلت لنفسي.
- كيف لم تَمسَّك المدينة يا جد؟
جلست. لم يسألني المجتمعون عما أريد. لاحظوا أنني أراقب ملامحهم الصامتة. فسألت.
- أين بتّال؟
وكان في صوتي بحة، لم يُخفها صوت ارتطام المطر على النوافذ الخشبية.
- لنخرج.
همس "بتّال" في أذني ضاغطاً على يدي. استأذنتهم بلطف، ولم يكن استئذاني موجهاً إلا لهذا الوجه الذي أربكني. لم تلتفت الي أعناقهم. في الشارع، كانت السماء قد فرغت من غنائها الرطب، وفرد الجو زرقة صافية. قال بتّال.
- هذا أبي.
لم تفتح مدرستنا الليلية أبوابها بعد. قلت له.
- نتمشى في السوق حتى يجيء البواب.
قال.
- رجلاي متعبتان، نجلس بجانب الباب.
مكثتُ أتابع الناس، وهم يبتلّون ببقع الماء المنتشرة حولنا.
استدرت إلى "بتّال"، فوجدته قد أخرج فواتير الكهرباء الكثيرة، وقد انتصف في عدّها.
- كلها ستوزعها غداً؟
- نعم.
تنهد، ثم أضاف.
- هذا العمل أفضل من غيره، كلما تطرق باباً، يخرج لك وجه جديد. تعودت أن أقرأ قيمة الفاتورة قبل أن أسلمها. تعودت أن أطالع تعابيرهم، وهم يقرأونها. أحس بعضهم يشتمني وكأنني أنا الذي أقبض أجر كهربائهم. زميلي الذي يعمل في منطقة أخرى لا يطرق أبوابهم أبداً، يضع الفاتورة في الصندوق المعلق على الجدار، ثم يذهب. طلب مني مرة، أن أستبدل منطقته بمنطقتي، فرفضت.
- لكن هذا يوفر لك وقتاً، أنت في أمس الحاجة اليه.
فجأة، عاد إلى السماء صخبها. التفّتُ الغيمة بالغيمة، وصار الوقت سحاباً.
لم يكن هناك مجال لأن أسأل "بتّال" عن الصمت الذي كان يدثر مجلس أبيه.
كنت على وشك أن أسأله، عندما قال:
- أنتم هنا، تفرحون بالمطر، تغدون كالأطفال أمامه. في الجنوب، نخاف أن تهدمنا الغيوم. يحوّلنا المطر رجالاً نحيط الصغار والنساء بأذرعتنا حتى لا يجرفهم السيل، فيسحق جماجمهم الرخوة.
سمعنا صوتاً ينادي بقوة.
- بتّال النعمي، حمود الموسى.
حملنا بقايا الحديث، وقمنا إلى داخل المدرسة.
في ضوء الفصل الخافت، صار "أبو بتّال" وجهاً، يلمع على اللوح الخشبي الأسود، لم يكن وجهه يحمل خوفاً، كان مليئاً بالوداعة، وكانت عروق جبينه في حالة هائلة من التحفز.
المرآة
بحجم الجدران الأربعة، تنتصب المرايا. لولا باب الغرفة الخشبي، لوجدتْ نفسها داخل حصار زجاجي حاد.
تزداد قشعريرتها.
تصوب نظرها إلى الباب، فهو الوحيد الذي لا يعكس صورتها. وهو الوحيد الذي لو تحرك، تحركت معه أشياء غامضة، لا تعرف كيف تبدأ والى أين ستنتهي.
تفوح من الفراش رائحة القطن المندوف للتو.
- لماذا كبير إلى هذا الحد؟
تضم ساقيها الى صدرها أكثر، فتغوص في سماكة الفراش الممدود على الأرض بعناية فائقة.
لا تكاد تميز رائحة واحدة. اختلطت في الجو أبخرة قوارير كانت تراها في أحيان نادرة داخل صندوق الدلاّلة التي لا تطرق الأبواب إلا في صباحات مفاجئة.
تعود إليها ذكرى أحد الصباحات، عندما اختلست نظرة من النافذة الخشبية لتراه خارجاً من بيته.
- انه أنظف الشباب، و..
تبلع ريقها.
- وأحلاهم.
تبدأ أصوات الأطفال بالذوبان، تختفي أصوات البنات الخافتة، وتخرج ضحكات العجائز. يخرج دعاؤهن من البيت.
يطن الصمت في أذنيها المعلقتين خارج الغرفة. تحاول أن تركز سمعها على الأرض المتجهة إلى الباب.
- ماذا لو دخل الآن؟
يقرع صوت نعال بلاستيكي طبلاً في جوفها. تضع يديها على صدرها وتضغط بشدة. تزداد شفتاها اليابستان جفافاً، وينتفض وجهها.
تُدار قبضة الباب، تئن مفاصله الصدئة، تئن ركبتاها، تقف شعيرات عجزت أمها أن تنتفها من جلدها الناعم.
تدخل عجوز.
- ما بك؟ هذا أمر الله، ليس لأي واحدة منا إلا رَجُلُها. اذكري الله، لا تفشّلي أمك. أهل الرجل يمدحونها ويمدحونك، إذا اقترب منك ابتعدي عنه، شدي على ثيابك بقوة، لا تبتسمي له أبداً، ولا تردي عليه إذا سألك عن أي شيء، كلما قاومت أكثر، كلما كنت أرفع شأناً في نظره، لأن الرجل لا يعرفك أبداً.
يئن الباب، ويعود طنين الصمت القاتل.
تسمع صوتاً لأكثر من قدمين، تحسبها بسرعة.
- أربعة.
ينفرج الباب، يدخل جسدان.
يجلس إلى جانبها، يُسلم.
لا تجيب.
تصب العجوز القهوة له، يأخذ الفنجان، يشربه، تصب فنجاناً آخر، تمده لها.
- القهوة يا بنتي.
لا تجيب.
يبتسم، تبتسم العجوز بنفس حجم ابتسامته، يطلب منها أن تعطيه الفنجان، يشربه، ويناولها الفنجانين معاً.
- بَسْ.
يُخرج من جيبه حافظة نقوده الجلدية الضخمة، يرخي الرباط المطاطي الذي كان يلفها، يفتحها، يخرج من أحد مخابئها ورقتين نقديتين ويمدهما للعجوز، تأخذهما بحياء مصطنع.
- كثّر الله خيرك، مبارك إن شاء الله، منك المال ومنها العيال.
تلتقط أغراضها الملفوفة داخل قطعة قماش من ركن الغرفة الأمامي وتخرج.
يفرغ من صلاة العشاء، يخلع غترته ويتكئ إلى جانبها، يحاول أن يلمس وجهها، فتحيد عنه. تصطدم عيناها بالمرآة، فترى نفسها إلى جانب رجل ضخم قبيح، ينز العرق من ثيابه واللعاب من فمه.
تعيد رأسه إلى موضعه وتبدأ بالبكاء.
البرد
الشارع محفوف بنوم المقيل.
أخرجُ رأسي من شق الباب الذي فتحته بحذر.
للشارع نهايتان، الأولى يسدّها بقايا جدار طيني يطل على خرابة، الثانية تشتبك مع أزقة أخرى تشابكاً لا تخطئه قدماي الصغيرتان.
أشدّ ثوبي، كيما يضغط على ساقيّ، فلا يصدر صوتاً أثناء انزلاقي من رحم بيتنا إلى تراب الشارع.
أجعل جسدي يتكئ على الجدار، وأراقب النهاية المفتوحة.
الشارع محفوف بنوم المقيل.
بالأمس، وهي تدخل بيتهم، رمتْ ورقة، ثم أغلقت الباب بهدوء. تركتُ الورقة. لم يكن أحد من أطفال الحي مندهشاً مثلي بشعرها المجدول دائماً بشرائط بيضاء، بمشيها الخافت، بصوت مريولها المدرسي وهو يصنع لحناً لا يعزفه سوى احتكاك ساقيها بذلك القماش الخشن.
لما فرغت أحاديث الأطفال عن المدرسة، درس التربية الرياضية والواجبات المنزلية، توالى اصطكاك أبواب بيوتهم.
ركضتُ إلى الورقة، التقطتها. أدخلتها في جيبي. لم أكن أعرف أن للجيب المثقوب فائدة، إذ عبرتُ بيدي ثقب جيبي ودسست الورقة تحت ضاغط سروالي. أخرجتُ يدي وطرقت بها الباب بقوة.
صندوق البرتقال الفارغ، المعلق أفقياً على جدار الغرفة، هو الشيء الوحيد الذي يخصني وحدي، دون الثلاث بنات والولدين، الذين يملكون في نفس الغرفة، ما يخصهم من صناديق خشبية باختلاف أشكالها.
صندوقي مقسم – من بلده – الى قسمين: قسم أضع فيه الكتب والآخر للدفاتر.
رفعتُ كومة الكتب وسحبت بخوف كتاب "مجنون ليلى". بدا الغلاف وكأني أراه أول مرة. تذكرت كيف سرقته من مكتبة، في شارع الوزير، وكيف أنني استغفرت الله ألف مرة ليلتين متواصلتين حتى أحسست بزوال الإثم.
* لك الله يا قيس.
خبأت الورقة في الكتاب وأعدته مكانه. أسرعت إلى سفرة الغداء قبل أن يبدأ "صراخ مناداتهم المعتاد لي"، الذي غالباً ما يقاطع قراءاتي السرية.
بحثت عن زر مصباح الحمام. لأول مرة، يضيع عني مكانه الواضح. اشتعل الحمام – المظلم وسط الظهر –بالنور. رفعت ثوبي، مسكت الورقة بأصابع يدي اليمنى وسحبتها من تحت الضاغط.
حدثت نفسي.
- لو أنني جلست للغداء وهي في مكانها، كان من الممكن أن تسقط. لو سقطت، كانوا شاهدوها، لبدأ الأنبوب المطاطي عمله الجغرافي على ظهري، كما يعمل به أبي عند وقوع أقل الهفوات.
أضفت بتنهيدة.
- وما أكثر ما أهفو.
كانت اللغة المكتوبة داخل الورقة، غير اللغة التي أقرأها في كتب المدرسة، غير لغة "مجنون ليلى".
"بعد أسبوع سوف ألبس العباية، لو تريد تشوفني آخر مرة تعال بكرة قدام الباب".
* لك الله يا قيس.
الجو لهيب من نار، وأنا يدخلني برد لا أعرف من أين يجيء. بابنا تفصله شعرة عن الانغلاق، وبابهم غارق في الصمت.
أسترجع أثناء تصنمي الخائف على الجدار، قصة الرجل الأسود الذي قبضوا عليه في حينا قبل شهر، بعد أن قفز على سطح أحد البيوت.
رأيت رجال الشرطة يضعون الحديد في يديه ويضربونه على المواضع التي توجعه. يصرخون ويصرخ معهم الرجال والأطفال.
- العبد، العبد، مسكنا العبد.
كان الوقت ليلاً، أول ليل، وكنت أرتجف.
* لك الله يا عبد، إن كنت مثل قيس.
زاد البرد المجهول.
تسمرت في مكاني عندما انفرج بابهم. ازداد انفراج الباب، وبقى على هذه الحال لدقائق. بان سطل بلاستيكي مملوء بالقمامة. ظهرت كفاها ممسكتين بالسطل، ثم ظهر ساعداها العاريان، توحّد خيط رفيع بين عينينا، قطعتْه بسرعة. أفرغتْ القمامة وثار بيننا الغبار.
قبل أن أدخل، لمحتُ بصعوبة أسنانها، محاطة بشفتين شققهما التعب.
الحدود
جمعتنا يد امرأة عجوز، في ركن السطح المظلم، وقالت:
- إياي وإياكم، تقربون الحريم.
أجبرتني أمي، في تلك الظهيرة المفاجئة، أن أستحم.
قلت لها:
- هل هو العيد؟
قالت:
- عرس.
- عرس؟
ارتبكت أمي، وأشغلت نفسها بغرس مشطها الخشبي، مراراً داخل فوضى الحناء المتكومة على شعرها الطويل.
غادرتني.
أدخلتُ رأسي في نصف الباب المفتوح، فرأيتها، تحشر رأسها بين صنبور الماء الصدئ وبين الأرض.
سمعتها تغني، خُفت.
- أمي تغني؟
صارت بركة ماء أحمر، تحت رأسها. دفعتُ الباب، ووقفت فوق رأسها. رفعتْ عينيها لي، وقالت.
- ابتعد حتى لا تعدمك الحناء.
- لماذا تُغنين؟
- اليوم عرس خالتك.
- عرس؟
نهضتْ برأسها من تحت الصنبور، وظل شعرها مرتخياً الى الأسفل، أمسكته بأصابعها وصارت تعصره. من النافذة الصغيرة، كان ضوء الشمس يتسلل إلى وجهي وإلى شعرها. تخيلت، في تلك اللحظة، أن الحناء قطعة من الشمس سقطت على الأرض فالتقطتها النساء، وصرن يبللن بها شعورهن في العيد.
صرخت أمي.
- نعم، عرس.
أضافت بسرعة.
- يجب أن تكون نظيفاً مثل كل الأطفال.
أغلقت باب الحمام وراء أمي، وبدأت أخلع ثيابي.
احترت أين أرمي هذه الثياب القذرة، الأرض مبللة بماء أمي، والمسامير التي كانت مدقوقة على الجدران، أسقطتها الرطوبة.
فكرتُ.
- لن يكون العرس مثل العيد. في العيد، كل الناس تستحم، وأنا اليوم، لا أشم في شارعنا رائحة الثياب النظيفة.
فجأة، قررت.
- ما لي وللعرس، اللعب أفضل ألف مرة.
لبست ثيابي مرة أخرى، وخرجت.
التفتُّ إلى غرفة أمي، فوجدتها تطالع ثوباً لامعاً، أراه لأول مرة.
مشيتُ على رؤوس أصابعي، فتحت الباب بهدوء وركضت الى آخر الشارع. بدأ المساء يوزع التعب على الوجوه، لبس الشارع هدوءه المعتاد، فذهبت إلى البيت.
طرقت الباب، فلم يجبني أحد.
جلست.
أخذني النوم.
اهتز كتفي، فسقط رأسي إلى الجهة الأخرى قبل أن يرتطم بالأرض، صحوت، وكانت يده تمسك كتفي برفق.
لماذا لا تنام في الداخل؟!
- أهلي ليسوا في المنزل يا عم.
هز رأسه وكأنه تذكر شيئاً.
- أهلك في العرس.
تذكرت أنا أيضا العرس. سألته:
- أين العرس؟
- تعال.
جمعتنا يد امرأة عجوز، في ركن السطح المظلم، وقالت:
- إياي وإياكم، تقربون الحريم.
على طرفي السطح، كان هناك خيط واحد من المصابيح الكهربائية التي تشبه واحدة من مصابيح بيتنا.
من بعيد، كنت قادراً على التقاط ملامح النساء المجتمعات في دائرة كبيرة، في وسطها ثلاث نساء سود، يضربن على الدفوف، ويُغنّين أغنية لا أفهمها، لكنها تحمل نفس اللحن الذي كانت تغنيه أمي.
بحثت عيناي عن أمي، فلم تجدانها.
لمحتها من بعيد، تقبل حاملة صينية مليئة بأكواب الشاي، وتقدمها للنساء.
صرختُ في نفسي.
- كيف يا أمي؟
هدأت.
- كيف أصبحتِ جديدةً هكذا؟
تفحصت الأطفال الذين كانوا بجانبي، كانوا متسخين مثلي، وكان الأطفال النظيفون بجانب أمهاتهم، هناك في الركن المليء بالنور والدفوف والشاي.
همست لهم:
- لماذا نحن هنا؟
لم يجيبوا.
- قوموا.
تحفز واحدٌ منهم لكنه خاف، فجلس مرة أخرى.
قام آخر، ركض إلى الركن الثاني، راقبته حتى وصل.
جلس على ركبتيه خلف الدائرة.
رأيت امرأة تنهض من مكانها، تمسكه من يده، وتمشي به إلينا عندما جلس سألته:
- من هذه؟
قال.
- أمي.
نهضتُ.
مشيتُ بهدوء باتجاه دائرتهم، وعيناي على أكواب الشاي التي لا تزال معبأة، وعلى لساني لحن الأغنية التي تغنيها النساء بصوت واحد.
الدخول
- لو تحركت من هذه الغرفة، لو تحركت من مكانك الذي تجلس فيه..
تضغط على أسنانها بقوة، ثم تكمل.
- فلن يعاقبك وحدك، سيعاقبنا جميعاً.
تستدير، وتهم بالخروج.
قبل أن تصل الباب، تلتفت اليّ وفي عينيها غصة.
- أتفهم معنى أن يعاقبنا جميعاً؟
أُرخي عينيّ، فتقول:
- سيتحول البيت إلى جهنم أسبوعاً كاملاً.
أهز لها رأسي مرة، وقبل أن أبدأ بالثانية، يرتطم خشب الباب، الخالي من القفل ببعضه.
كنا نقتل مساءاتنا بالترصد للأطفال الجبناء، أو بقذف الحجارة على العمال الذين يمرون أمام شارعنا الضيق.
اصطادني أبي، ذات مساء، وأنا أقطع الطريق على طفل بالغ في النظافة. لحظة مددتُ يدي إلى جيب قميصه الأنيق، زعق أبي:
- يا مهبول.
وأطلقت قدميّ لشارع خلفي.
في ظهيرة الغد، كنت مستعداً لأن يركلني من الخلف، أن يبصق في وجهي، أو أن يرميني بما تصادف يده من أشياء ثقيلة.
لكنه نسي.
ولم أنسَ بعدها، أن أشتم أمامه، كل الأشياء البالغة في النظافة.
البارحة، خرج إلينا بإزار جنوبي.
بإزاره، خرج إلينا "حاسن الشدوي" وقال:
- ادخلوا.
أخفى أحدنا حجارته خلف ظهره، وتقدم ليسأله:
- عشاء؟
لم نكن نذكر أن دعا هذا الرجل أحداً إلى بيته.
كان يعمل نهاراً في شركة كبيرة اسمها مطبوع على أبواب سيارته الفريدة.
في المساء، لا أحد يعرف أين يخرج، لكن واحداً من الأطفال أقسم أنه شاهده يدير ورشة ميكانيك صغيرة.
ابتسم "الشدوي" بطيبة مصطنعة وأجاب:
- تلفزيون.
فاحت الدهشة من رؤوسنا، ونطقنا بصوت واحد.
- تلفزيون؟؟
بدأت أحاديث الأطفال تعلو حد الخرافة.
عقدتُ أصواتهم المتناحرة بإصبع كاد يدخل أعينهم:
- دعونا نرَ.
كنتُ أول الداخلين.
كانت صالة البيت صغيرة، محفوفة بالستائر التي تغطي ثلاثة مداخل لغرف مختلفة.
توقعتُ الغرفة التي سندخلها، فدخلت الغرفة المقابلة.
وجدت امرأتين، بدا على البدينة أنها زوجته.
كانت الأخرى عجوزاً، وكانت منغرسة في تقاطع الجدارين البعيدين، وكانت دلة قهوة وفناجين أمامها.
لم أتفوه بكلمة لمنظرهما الصامت. أرخيت الستارة واندفعت إلى الغرفة المقابلة، انفجر ورائي جمعُ الأطفال.
انتظمنا في صف، أمام صندوق موضوع وسط الغرفة. كان الصندوق مغطى بقماش يشبه الستائر التي أذهلنا وجودها على الجدران بدل الأبواب الخشبية. عجيباً كان شكلنا ونحن مصطفون بنفس الهيئة، ورؤوسنا مثل زهرات عبّاد الشمس المستديرة باتجاه النور.
كانت في الغرفة "حمدة"، وكان "خالد".
كانا في الطرف الذي يجلس فيه أبوهم، وقد ثنيا أرجلهما عنه ووجهاها لنا.
لم نرَ من قبل أقدامهما، تعودا أن يطلا علينا ونحن نعبث في الشارع، وعلى عينيهما كلام كثير لا نفهم بعضه لأنهم من الجنوب، ونحن لا نعرف ما هو الجنوب.
قام.
وضع يده على طرف الصندوق. سحب القماش، فظهر مكعبٌ خشبي، في وسطه زجاجة غامقة.
صاحت "حمدة":
- شغّل التلفزيون يا أبي.
فعرفنا.
شاع خبر دخولنا.
وصل الأمر إلى أبي.
الغرفة الآن، أصغر مما مضى.
أعرف أنني أستطيع التحرك من مكاني، لكني لا أقدر أن أقترب من الباب، فهذه المرة سوف يصدق تهديد أمي.
أفكر:
- لماذا يعاقِب الجميع؟ وما دخلهم؟
وأقول لنفسي بسرعة:
- ولماذا يعاقبني؟
يبدأ صوت أبي في العلو تدريجياً.
هو الآن، أمام باب الغرفة تماماً.
أسمعه يصرخ:
- تلفزيون؟
يصمت قليلاً، ثم يضيف:
- وفي بيت الشدوي؟
تسعل أمي، وهذا يعني أن سريان الخوف بدأ في صدرها.
يضيف أبي:
- هذا الرجل لا أطيقه، الدنيا همّه الوحيد. لم أشاهده يوماً في المسجد.
يصمت كل شيء.
تزداد ضربات قلبي، لكن عينيّ ترجعان الى منظر العجوز الشدوية الصامتة، التي لم تكن مزهوة بالتلفزيون مثل جارنا "حاسن"، ومثل بنته "حمدة"، وولده "خالد".
السر
كل الأزقّة معتمة، كلها ضيقة.
لكن هذا الزقاق بالذات:
العتمة، والضيق.
أخشاب سقف الزقاق، أثقلها الطين. نوتِ السقوط إلى الأرض، لكنها لا تدري ولا أدري لماذا بقيت معلقة في الهواء. جدارا البيتين اللذين يحيطانه تآكلا، مثلما تآكل الذين كانوا بهما.
وقفتُ أمامه، اتنصّتُ لتدحرج قطعة كرتون على أرضه. أغمضتُ عيني، فصرتُ أتخيل نفسي داخله. رأيت نفسي أضحك بطريقة مفتعلة كي أجتذب انتباه الناس لي.
في غمرة الضحك، تحرك جذع من خشب السقف. رفعت رأسي إليه، فإذا هو يتمدد باتجاهي، تراجعت وفمي الذي كان يضحك، لا يزال مفتوحاً. ابتلعت ريقي وتراجعت أكثر، اصطدم ظهري بالجدار.
تتابعت الجذوع في التمدد، واحداً، واحداً. بدأ الطين القاتم في السقوط محدثاً زلزلة.
زال السقف تماماً، وظهرت السماء. انتصبت الأعمدة أمامي على هيئة رجال ذوي وجوه سوداء وأجساد ضخمة. صاروا يطالعونني بحقد بالغ. قلت لهم:
- سامحوني.
قال كبيرهم:
- ماذا دخلت؟
أجبت:
- لا أدري، أنا لا أدري. كلما أحس أن هناك سراً، أحاول اكتشافه.
تشاور العمالقة فيما بينهم، ثم قال كبيرهم:
- أنت طفل شجاع وشجاعتك مزعجة. نحن لا نحب الإزعاج.
- ماذا؟
- نحب النوم.
- لماذا تنامون؟ لماذا لا تخرجون وتعيشون مع الناس.
- لأن الناس صغار، ونحن كبار.
- الصغار يكبرون.
- مهما كبروا لن يصبحوا مثلنا.
- هل أنتم جن؟
- أنتم الجن.
- إذن، أين الجن؟؟
تلعثم الكبير في الكلام. نظر الى أصحابه، فسارع أحدهم:
- لسانه يحتاج الى قطع.
أغلقت شفتي بسرعة ووضعت كفي على فمي. حاولت أن أرجع لساني إلى آخر مدى في حلقي. حاولت أن أبتلعه، لكنه كان ملتصقاً.
قال أصغرهم:
- اقطعوا لسانه.
قلت:
- لا، لا تغضبوا. نحن الجن وأنتم الأنس. ارحموني، أنا طفل والأطفال أشقياء.
أشار اليَّ أحدهم:
- أنت.
قلت:
- نعم.
قال:
- لا تعد إلى هنا مرة أخرى.
أحسست أنهم سيغفرون لي. سألته.
- أخرج؟
- نعم، وإن عدت، أسقطنا عليك الحصى حتى تموت.
قلت:
- حاضر.
رأيتهم يصعدون واحداً واحداً وينتظمون في سقف الزقاق، بنفس الطريقة التي كانوا عليها. رأيت قطع الطين تصعد وتصدر صوتاً مثل صوت تدحرج قطعة الكرتون.
سمعت أطفالاً ينادونني باسمي. فتحت عيني، فإذا أنا أمام الشارع، وصوت تدحرج قطعة الكرتون على أرضه، لا يزال يصبُّ في أذني.
التفتُ، رأيت الأطفال يلوحون لي بأن أجيء وأشاركهم لهوهم. ركضت إليهم وأنا مليء بالخوف والهلع. قال لي أحدهم:
- ما لك كنت واقفاً أمام الزقاق وكأنك تراه لأول مرة؟
قلت:
- أي زقاق؟
طالعوني كلهم بغرابة، وقلت لنفسي:
- لن أخبرهم.
- لا يمر الناس من هذا الزقاق، في جدرانه يسكن الجن والعفاريت، وفي سقفه تعيش الوطاويط. لو دخله أحد، يخرج ممسوساً، فلا تدخله.
هكذا قالت أمي وهي تمرر الليفة المعدنية على ظهر القدر السوداء.
قلت لها:
- وهل دخله أحد؟
قالت:
- لا.
هذا المساء كان مغرقاً في السكون.
وقفت أمامه، لم أسمع شيئاً. مَرّ وقتٌ وأنا واقف.
سمعتُ وقع خطى، علبة تفتح، ثم صوت احتكاك تكرر أكثر من مرة. فجأة لمعت نارٌ شاهدت بها وجهين شابين، أحدهما يمسك بين شفتيه أنبوباً ورقياً أبيض. شاهدته يقرّب رأس الأنبوب من النار، فيشتعل، ورأيت دخاناً كثيفاً يخرج من فم الشاب.
الصفيحة
أمد يدي، يضربها.
أمد يدي، فيضربها.
أمد يدي، كي يضربها، وكي ألعنه.
كلانا
يسرق ما يحب.
يطبع زيتُ الحلاوة الطحينية آثاره على لُفافات الورق المخروطية التي يصنعها "عبده الكايدي" من أوراق المجلات المصرية.
يجعل سطح اللفافة شهياً بوجه ممثلة سينمائية.
أراقبه يطوي رأس الورقة بيد، ويمسك ذيلها باليد الأخرى. تلد الورقة جوفها بين يديه، يثني الذيل كي يعمل لهذا الجوف فتحة واحدة.
يجعل "عبده الكايدي" اللفافة تدور بين أصابعه، كيما يتأكد أنها تنطق وجهاً مليحاً. يصير يراقب هذا الوجه بعينين اختلط فيهما الاصفرار والاحمرار.
يضع يده اليسرى على شعر رأسه الأكرد، يمررها على كل شعره فيثور غبار ضئيل، يشد شعره، يطلق أصابعه فتسقط يده على صدره ثم بطنه.
- هذه هي الحريم يا عبده.
يشاهدني أراقبه. يصرخ بلهجته اليمانية"
- اهرب.
- لن أهرب.
- ماذا تشتهي؟
- أشتهي الشارع، والشارع ليس ملكاً لأبيك.
يغضب، يلتقط العصا من أرض دكانه، ينطلق باتجاهي.
- الآن أهرب.
أركض داخل الشارع المقابل. يركض ورائي، أزداد في الركض. أتلفتُ، أراه فاتحاً فمه، كأنه يمتص هواء الشارع كله إلى رئتيه، أضغط على قدمي الحافيتين كي أباعد المسافة بيننا أكثر. أدخل في شارع آخر، أسمع ضرب خطواته ولا أراه خلف كتفي. أضغط أكثر، وأغيب في شوارع صغيرة وهو لا يزال.
يصبح دكانه أمامي.
أحرك ذراعي بسرعة كي أصل. أقفز داخل الدكان، بسرعة ألتقط – ما استطاعت يدي – من لفافات الحلاوة الطحينية، وأخرج.
قبل أن أنطلق في الشارع المقابل مرة أخرى، تنغرس في ظهري عصاه، التي أطلقها في الهواء. تسقط اللفافات من يدي، وتتجمد قدماي عن الحركة.
- آه.
يتغلب الخوف على الألم، أسحب رجلي وأختبئ خلف باب المسجد، أشاهده من فرجة الباب، يجمع ما انتثر من الحلاوة الطحينية، ينفخ منها التراب، ويعيدها إلى اللفافات.
- لا يصلي مع الجماعة، يغلق الدكان، لكنه داخله.
أقول للشيخ الذي يدور في الشوارع صائحاً: الصلاة، الصلاة.
أمام دكان "عبد الكايدي"، يقف الشيخ مع إمام المسجد والمؤذن وثلاثة رجال وأطفال كثيرين، لا أعرف بعضهم.
يدخل الشيخ والإمام أصابعهما أسفل قاعدة الباب، يرفعانه بقوة، فيلتف من الأعلى محدثاً صوتاً متقطعاً.
يخاف الأطفال، إلا أنا.
أمرق داخل الدكان، أشير بأصبعي إليه.
كان نائماً.
كانت مجلة مصرية تحت وجهه الأغبر.
وكنتُ
لا أرفع عينيّ
عن الصفيحة.
الصفيحة الملأى بالحلاوة الطحينية.
الظهور
لم يسبق لباب الشارع أن كان مخيفاً، مثل هذا اليوم.
همستُ لها:
- أنت وحدك تعرفين كم أكره الثوب.
هزّتْ رأسها وتابعتُ:
- لن يضيرك لو زاد من قماش مريولكِ السنوي، أن تطلبي منها خياطة بنطلون صغير لي، وهي طيبة، والله إنها امرأة طيبة.
قاطعتني.
- وأمي؟
- أفهميها أن أم عبد الحميد لمّا وجدت زيادة في القماش، ذكرتني.
كان شيئاً خارجاً عن الاحتمال، أن أراقب تلك النهارات البطيئة، تلك النهارات الحارة بالناس، وهم يدخلون بيوتهم الضيقة، وأنا على شرفة الشارع الصيفي، أنتظر أن تمر هذه الأيام السبعة
قالوا.
- نحن لا نسمح لهم باللعب معنا.
أجبتهم وأنا أضع الكرة في منتصف المساحة النظيفة من خرابة خلف بيوتنا.
- أليسوا بشراً؟
رد عليّ أمهرُ أولاد حارتنا لعباً، وهو يمضغ قطعة من قرطاسة خضراء، جعلت فمه مقززاً.
- بلى، لكنهم لا يعرفون حتى كيف يركلون الكرة.
خطف الكرة من بين رجلي، وأضاف.
- كيف يركضون، وهذه البناطيل تخنق أفخاذهم؟
استرجعتُ الكرة من بين يديه، وضعتها مرة أخرى في المنتصف، ووجهت الكلام لهم:
- المهم أنهم سيدفعون اشتراكاً.
هززت لهم رأسي، أنْ وافقوا الآن على هذا وأنا أعرف أن معظمهم لن يدفع مثلي اشتراكاً في قيمة الكرة.
- لنجرّب.
صاح، موجهاً الكلام لي، وصحت لهم.
- هيا.
همس بجانب كتفي، وهو يتكئ على حجارة الخرابة الفارغة، إلا من لون الليل الداخل تواً.
-لم تكن تلعب، كنت تراقبهم.
أحسستُ أنه كان من يراقبني أنا أيضا، فقلت:
- أرأيت كيف يلعب صبحي؟
لم أرد.
واصلت بسرعة، وأنا أنظر الى علبتي التنك التي وضعناهما مرمى لملعبنا الصغير.
- إنه هائل. لا أعرف كيف تدخل كل أهدافه المرمى، مصطدمة مرة بهذه العلبة، ومرة بالعلبة الأخرى.
ضحك، ناظراً إلى عيني:
- إن لك أهدافاً أخرى، أهدافاً في نفسك يا ملعون.
عرفتُ معنى ضحكته الخبيثة، لكني لم أستطع أن أقول له، إن إصراري على لعبهم معنا، لم يكن إلا لكي أرى كيف يمكن أن يلعبوا وأن يقفروا، وأن يركضوا، وهم محصورون داخل هذه البنطلونات.
لم أشاهد "أم عبد الحميد" من قبل.
يقولون إنها جاءت الى هذا البيت الصغير، خلف المسجد بشارعين، قبل أن نجيء نحن.
ويقولون إنها تجيد خياطة مراويل المدارس الواسعة، وفساتين الزفاف الضيقة، لذلك يصبح اسمها رطباً قبل المدارس وقبل الأعراس.
لم أشاهدها من قبل، لكني أرى نفايات بيتها خِرَقاً ملونة، فأعرف أن في الداخل أحداً.
رددتُ بخوف:
- اليوم؟
أجابتني:
- نعم.
ثم أكملت:
- لقد زاد شيئاً من قماشي، فطلبتُ منها أن تجعل منه بنطلوناً لك، فوافقت.
سألتها، بعد أن زال ترددي.
- وماذا أفعل عندها؟
- ستأخذ مقاسك.
أحسستُ أمام بيتها أني سأراها مثل نساء المستشفى العام، ممشوقة بيضاء، رابطةً شعرها إلى الخلف بشريط ملون، واضعة على عينيها زجاجتين تمتدان بعمودين معدنيين يلتويان خلف أذنيها.
فكرتُ، ماذا أقول لها؟
- مساء الخير؟
أو:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أو أدخل صامتاً.
تخيلتُ أنها لن تفتح الباب لي. سيفتحه أحدٌ آخر، وأنه سيقودني إلى غرفة واسعة، تجلس في منتصفها، وحولها ماكينات كثيرة للخياطة.
ركضتُ حتى وصلت الباب.
طرقتُ مرة واحدة، فانفتح.
دفعته، فاصطدم بشيء طري.
أدخلت رأسي فرأيتها جالسةً على الأرض، خلف ماكينة صدئة.
اخترق جسدي المسافة الضيقة بين الباب وفخذها، وصرت واقفاً أمامها.
تشبه زوجة مؤذن المسجد، يتدلى على جبينها وكتفيها المكتنزين شعر شائب يغطي جسدها المتورم ثوب ملون، متسخ عند الكوعين والركبتين.
كان قماش أختي بين أسنان ماكينتها، والقطعة الباقية إلى جانبها، مع قطع لا أعرفها.
صرتُ أطالع قطعتي.
ابتسمتْ، شدتني من يدي ووضعتني أمامها.
ضغطتْ بكفيها على خصري، ومررت أصابعها حتى كعبي.
مرّرتْ يدها دون أن ترى، إلى مكان بجانبها، فأخرجتْ شيئاً مرقماً، وضعتْ طرفه على عظمة حوضي، وأسدلته حتى كعبي، ثم أحاطت به فخذي ثم ساقي، ثم قالت لي بلهجة مثل لهجة صبحي.
- سلّم على أمك.
وددت لو أقول لها.
- قولي لأمي إنك لما وجدتِ زيادة في القماش، تذكرتني.
وتذكرت أن أختي ستقول:
كان في يديها، وهي تُقبل، لونين رماديين.
صرختُ في نفسي المنتظرة أسبوعاً مثل انتظارها.
- أيهما لوني؟
لم تقترب، لأني ركضتُ باتجاهها.
انتصف الشارع بنا.
صرخت بها:
- أيهما؟
ناولتني إياه، فركضتُ حتى التوى على عنق بابنا ركضي.
في الغرفة، فاحت رائحة القماش الجديد.
أمسكته من وسطه، فتدلتْ ساقاه.
وضعته بهذا الشكل على مراتب النوم القطنية، المرمية بإهمال في ركن الغرفة.
تركتُ الغرفة ودخلتُ الحمام.
خلعتُ ثوبي ورميته من جسدي إلى جسد الممر المنحدر من الغرفة إلى الحمام.
لم أرم فانيلتي وسروالي المتسخين.
خرجت مختبئاً بخجلي إلى الغرفة. سحبتُه من مكانه.
جلستُ على الأرض، ثم أدخلتُ ساقي في ساقيه.
قمتُ، سحبتُ وسطه حتى التصق على وسطي. ربطتُ أزاريره الثلاثة بصعوبة، تصلبت منها رقبتي.
كان نصفي السفلي جديداً، ولم يكن العلوي مناسباً.
لم أشاهد من قبل، ألبسة داخلية على أنصافهم العلوية، لكنني قلت:
- لابد أن يروا جديدي.
لم يسبق لباب الشارع أن كان مخيفاً، مثل هذا اليوم.
لم يكن خارج الأبواب، سوى أطفال لم يقطعوا لعبهم كي ينظروا الي.
كان هواء الصيف بارداً على كتفي اللتين لم يغطهما إلا حاملاً الفانيلة الشفافة.
كنتُ أضع يديّ على صدري، أول الانتفاض المفاجئ الذي غمر جلدي، وما إن استدار الشارع، حتى رأيت وجوه رجال أعرفها، ولا أعرف أسماءها.
لم يلتفتوا الي، وكأنهم الأطفال.
ركضتُ إلى موعد الكرة اليومي، في الخرابة الخلفية، فهناك سيكونون، ولا بد أن أريهم كم أكره الثوب.
ظهرتُ عليهم، وهم منشغلون بكلام حول اقتسام الساحة البيضاء قبل البدء في اللعب.
مشيتُ إليهم، وهم منشغلون بكلام حول اقتسام الساحة البيضاء قبل البدء في اللعب.
مشيتُ إلى حيث يجلس "صبحي". اتكأت بصمت، على الحجر نفسه الذي كان يتكئ عليه، وصرت أحرك رجليّ في الهواء مثله.
التفتَ إليّ بشكل طبيعي وقال:
- هل ستجعلهم يشركونني في اللعب اليوم؟
اغتظت لأنه لم يكترث بالتغيير الذي طرأ عليّ.
كان الأولاد يرفعون أثوابهم حتى المنتصف ويربطونها ويلعبون دون أن تسقط.
قمتُ واتجهت حافياً إلى منتصف الساحة.
انتبهوا جميعاً ليّ.
قال لي وهو يمضغ قطعة من قرطاسة خضراء.
- البنطلون لن يغير من لعبك، وستظل أسوأنا مهارة.
العبور
صرخت أعينهم المشرعة باتجاهي.
- أنت كبير.
رددت عليهم بهمس تخنقه مشنقتهم.
- الأمر ليس بيدي، والله ليس بيدي.
لما حاصر النوم وقتهم، تساقط الكلام من حناجرهم، ولم يبق منه، إلّا..
- تصبحون على خير.
قاموا، وظللت في مكاني، أضع كتابي فوق حِجري، وأستعيد كل ما تناثر منهم.
كنتُ أراقبه وهو يصعد الدرج إلينا. نهضت إليه وطبعتُ قبلتين على ظاهر وراحة يده اليمنى.
كان يكمل مشيه، وأنا أتبع يده التي لم تكن تعبأ بشفاهي الصغيرة.
- لماذا؟
أقول، يوميا، لنفسي، بعد هذا المشهد:
- إذا كان يكره أن أقبّل يده؟
جلستُ على بعد كاف منه.
سألني أول ما مدّد رجليه على الأرض.
- صليت العشاء؟
ارتبكت، على أنني كنت متهيئاً لهذا السؤال.
- نعم.
كنت أعرف أنه سيسألني، ماذا قرأ الإمام من سور فأكملتُ.
- فاتتني ركعتان.
- هل صليت الشفع والوتر بعد الصلاة؟
- نعم.
- ماذا قلت في الدعاء؟
ابتلعت ريقي أكثر من مرة، ثم قلت:
- اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وعافنا واعفُ عنا، إنك أنت العفو الكريم. اللهم اغفر لي ولوالديّ، ولوالد والديّ، اللهم ارحم موتانا، وألحقنا بهم مع الصديقين والشهداء، الله اشف مرضانا وأحسن خاتمتنا وخاتمتهم. اللهم ثبّتنا على القول الثابت. اللهم ثبّتنا على القول الثابت. الله ثبّتنا على القول الثابت، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
لم يرد عليّ. كان مشغولاً، أثناء تلاوتي وبعد انتهائها، بالضغط على ركبتيه المريضتين.
رفع رأسه فجأة، وقال:
- لو فاتتك ركعة واحدة بعد اليوم، أعلّقك فوق هذا الخزّان.
وأشار بيده إلى سقف حمام متهالك يزيده تهالكاً صندوق صدئ من التنك الرديء موضوع على السقف، لحفظ الماء.
بعد أن فرغ من فنجان قهوته السادس، مدّ الفنجان الى أمي، واضعاً راحة يده على فم الفنجان.
أرخت أمي الفناجين على الأرض، وقالت:
- هذا هو الأسبوع الثالث، منذ قلت إن الهيل قد انتهى.
رد أبي.
- يعني؟
- القهوة لا تَعْدِلُ الرأس إلا بالهيل.
- أنا تعدَل رأسي، هكذا، بدون هيل.
- والضيوف؟
- اصنعي لهم شاياً.
حاولت أمي أن تكمل فقال:
- في جهنم، كل الضيوف.
فسكتت.
حاولتُ أن أكون خفيفاً وأنا أطأ برجلي على ساقيه، وهو منبطح على ظهره، وإلى جانب أذنه مذياع صغير، يبث أخباراً سيئة.
كل ليلة أباشر هذه المهمة.
يؤشر بإصبعه إلى ساقيه، فأطير إليه. أبدأ أولاً بالضغط على رجليه بيديّ الصغيرتين، أضغط بكل قواي وأنا أصرخ في نفسي.
- اخرج أيها الألم، اخرج ولينقطع هذا الموال المتعب. اخرج كي أستريح، كي أستطيع الإفلات من هذا الأسر الليلي الذي يحرمني من مصاحبة أخواتي مذاكراتهن وضحكهن المكتوم القادم من الجهة الأخرى لمكاننا هذا، هذا المكان الكئيب.
عندما انتهيت من رجليه قمت.
قمتُ وبدأت أطأ ساقيه.
زلّتْ رجلي، فصرخ، فتح عينيه المغمضتين وصرخ. نهض نصفه العلوي عن الأرض، رفع يده اليمنى وصفعني.
بكيت، فقال:
- اخرس يا ثور.
حاولت الذهاب.
- اجلس هنا.
لم يعد الكتاب قادراً على فهمي.
رفعته عن حجري، أغلقته، ورميته بجانب الجدار.
اختلست النظر إلى المكان كله، فوجدتهم، ووجدتُ مستطيلات القطن التي ينامون عليها، شيئاً واحداً.
سحبتُ فراشي المتكئ على الجدار، شممته، فوجدتُ الرائحة قد خفّت قليلاً. تمددت عليه.
لم أكن أحسّ إلا بالنوم.
فجاءني بسرعة.
ماء يرتجّ في رأسي، يغسل من جمجمتي وجوهاً مخيفة، كما سعالي الأزقة المظلمة.
يمسح صوتُ الماء، عواءَ ذئاب مسعورة، ونباح كلاب تبحث عن ملامحي.
ماء يتغرغر صدري، فيملأ رئتيّ.
أحاول التنفس، فتدخلني رعشة.
أنتفض، أنتفض.
يهبط الماء إلى بطني، فيزداد جوعي.
أحاول أن أستغيث، فيعبر من منتصفي دفء رطب يبلل الفراش.
صرخت أعينهم المشرعة باتجاهي.
- أنت كبير.
رددتُ عليهم بهمس تخنقه مشنقتهم:
- الأمر ليس بيدي، والله، ليس بيدي.
القفـــص
لم يكن هذا الهواء الطالع من رئتيها هواء، ولم يكن هذا الماء المتفجر من عينيها ماء.
حاولت أن أستنشق شيئاً أو أن أشرب شيئاً، لكن الباب الخشبي الذي كان يغطي ظهري، تصلب أكثر فعجزت، عن الوقوف وعن الفهم.
- نصف دجاجة تكفينا يا فريدة.
فسألتني بلهجة قاهرية:
- كلكم؟؟
- نعم، أمي وأبي فقط، ثلاث بنات فقط، ولدان وأنا، وأنا فقط.
- فقط ماذا أيها الحلو؟
وصرختْ بغضب ودهشة، وعلى شفتيها المتورمتين ابتسامة لذيذة.
- نصف دجاجة؟
أدارت جسدها القصير الممتلئ، المغطى من الأسفل بتنورة سوداء، ومن الأعلى بكنزة شتوية حمراء.
تابعتُ قدميها الداخلتين في نعالٍ من الفرو، وأنا أحمد الله في كل خطوة تخطوها، أن وهبنا جارة طيبة، تجيد كل فنون الطبخ وتملك علبة كبيرة من الحلوى المغلفة بقراطيس ملونة، وألعاباً تتحرك بالبطاريات الجافة، وقفصاً خشبياً لعصفورتين لا تكفّان عن الغناء، وزوجاً يخرج لعمله في ساعات الصباح الأولى، ولا يعود إلا أواخر الليل.
صوَتتْ من داخل المطبخ:
- لا تقل لأهلك إني أعد الغداء لهم.
قلتُ بهدوء:
- حاضر.
قمت، ومشيت بأدب زائف إلى المطبخ. طالعتني من خلف كتفيها.
- افتح الثلاجة واملأ لك كأساً من العصير.
قلت لها:
- لا أريد.
وخفضت رأسي.
رمت السكينة من يدها، فتحتْ الثلاجة، ملأت لي كأساً وأعطتني إياه.
شربته حتى آخر قطرة.
- هنيئاً على قلبك يا حبيبي.
وأضافت وهي تستدير إلى السكنية مرة أخرى.
- هيا، اخرج كي تلعب، وبعد الظهر بساعة، تعال.
هممتُ أن أقول لها، شكراً يا خالتي، أو يا عمتي، أو يا أمي المصرية.
لكنني تذكرتُ كيف حاولتْ، ذات مرة، أن تعلّمني كيف أنطق: "طنط" فظهرت من فمي مشوهة، وكيف أنها ضحكت بطريقة خلابة، لم أسمعها من قبل، حلفتُ بعدها مباشرة، ألا أقول هذه الكلمة السخيفة مرة ثانية. وأن أكتفي بمناداتها كما تحب: "فريدة".
وضعتُ كأس العصير في يدها وركضت إلى الباب دون أن أتفوه بكلمة.
بحثتُ في الركام الهائل لبيتنا، عن أشياء لي ألعب بها، لكني لم أستطع أن أنقل رجلي من مكان إلى مكان.
قلت لأختي الكبرى، وهي تخرج من باب الغرفة الثانية، لابسة ثوباً شاحباً زادها نحافةً، وغطاءً مغبّراً، ربطته على شعرها المدهون بزيت لامع:
- أين ألبوم طوابعي؟
لم تلتفتْ إلى سؤالي. أجابتني وهي تنزع المسندة الأخيرة، الملتصقة بتراب الجدار.
- ألا ترى يا تيس أننا بحاجة الى أذرعٍ إضافية كي نرتب هذا البيت اللعين.
قلت بصوت الواثق:
- تقومون بهذا العمل مرة كل سنة، فلماذا الغضب والصراخ؟
ردّت بانفعال، حاولت كبته:
- لأن علينا أن ننتهي بسرعة وأن نجهز الغداء للبطون الفارغة التي سوف تأتي بعد ساعات.
شعرتُ بأنني سأجد حلاّ لكل هذا الارتباك.
قلت، وأنا أضع يدي على جدار مبتل:
- فريدة سوف ترسل لنا الغداء.
لم تتوقف وحدها عن العمل، بل تصاعد فجأة، صمت اشتركت فيه كل الأيدي التي كانت تعلو وتهبط، تنفض وتمسح، تغسل وتكنس.
التفتوا اليَّ، وقالت أعينهم.
- فريدة سوف ترسل الغداء؟
أجبت أبصارهم.
- نعم، أنا….
وهيأت أحداقهم أقواساً تشهر نبالها نحوي.
- أنا قلت لها، إن اليوم يوم شغلكم.
رمت أمي سهمها الأول، فأصاب عنقي.
- أرجوك يا أمي، لا تغضبي، فريدة تحبني. سألتني: كيف ماما؟ قلت: أمي لن تطبخ اليوم رزها الأبيض. سألتني لماذا؟؟ أخبرتها عن شغلكم الذي بدأتموه منذ الفجر. قامت من أريكتها ورمت المجلة المملوءة بصور الأطفال، وقالت بصوت معتاد، أو هو أكثر من معتاد: كم دجاجة تضعون على غدائكم؟ فكرت قبل أن أجيبها: هل أصْدقُها القول وأهمس لها بأننا نفرح عندما يكون على رزنا رُبْع دجاجة؟ قلت لها بسرعة: نصف دجاجة تكفينا يا فريدة.
كان "عزيز أبو عين" أول من صادفتُ قبل أن أتجشأ في الشارع للمرة الأولى، بعد هذا الغداء السحري الذي امتد على سفرة إضافية، تعبنا كي نجدها. كان لحماً لدجاجتين، وسلطة تسبح في ملح لا يُرى، وفاكهة وخبزاً، ليس من "فاسد الصنعاني" الذي كان يطأ العجين برجليه ثم يرميه بعصا ملطخة ببقايا الذباب إلى نار من خشب يجمعه من خرائب حارتنا.
قال "أبو عين" وهو يغمض عينه اليسرى إمعاناً في رغبته للكشف:
- ألا تحمد الله عندما تتجشأ؟
كنت أعرفُ أن أمهات حارتنا يحذرن أطفالهن منه. فهو "أبو عين" هذا الذي يحسد كل ذي نعمةٍ بعينه التي لا يستطيع إغماضها.
قلت له بتبجح:
- عندما تأكل لحماً وخضاراً وفاكهة، هل يمكن أن تحبس هواء معدتك عن الخروج؟
امتص شفته السفلى، المشقوقة من الوسط وكأنها شفة بعير.
- خيراً إن شاء الله. جاءكم العيد دون أن يمر على الناس؟
كان ضمن التحذيرات التي كنا نتلقاها من أمهاتنا أن نقول: الله أكبر، ثلاث مرات في قلوبنا اذا قال "أبو عين" ما يدل على نيته الحسد.
شعرت بأنني لستُ بحاجة الى تنفيذ هذا التحذير، فلقد كنت راغباً في اللعب، بعد فرحتي الكبرى بهذا الغداء.
قلت له:
- نعم، مثلك لا يمر العيد عليه، لأنه لو مر فسوف تحسده، ولن يعود مرة أخرى.
اندهش "أبو عين" لكلامي هذا، ومرّت على وجهه سحابة حزن لم أرها تعبر بين عينيه المفتوحتين فزعاً، من قبل.
نهض عن الحصاة التي كان يجلس عليها، ونقل قدميه تباعاً وببطء على تراب الشارع، حتى وصل بيتهم. دخل وأغلق الباب وراءه دون صوت.
لاحقتُ خيوط الشمس الشارعة بالرحيل، رغبةً في تدفئة جسدي، بعد أن أصابني برد غريب لزوال بقايا ما أكلت بعد ظهر هذا اليوم.
رأيته يقبل من آخر الشارع، حاملاً صحفاً وأوراقاً وكيساً بلاستيكياً.
أخذ يقبل أكثر وأنا لا أزال مذهولاً لمجيئة المبكر جداً.
مر بجانبي دون أن يدير عنقه نحوي.
راقبته حتى دخل، والصدمة تلفني من رأسي حتى معدتي الفارغة.
لم يجئ في ذهني سوى "أبو عين". قلت لنفسي:
- إنه سحر أبي عين، جاءتنا النكبة من عينه.
هممت بتلاوة التعويذة، لكن.
- كيف والنكبة حلّتْ، وكان ما كان.
اقتربتُ من الباب، فلم أسمع شيئاً. صرتُ تحت النافذة تماماً، أحاول أن أمدّ أذني.
- لا فائدة.
انطلقت إلى بيتنا وعلى وجهي سؤال لأمي، قررت أن أدفعه لأذنيها.
ما إن دخلت حتى قابلتني وفي يدها أوانٍ نظيفة:
- خذها الى فريدة، وقل لها: أنعم الله عليك يا ابنة الأصول.
التقطت الأواني بخفة، واتجهت إلى الشارع.
فتح الباب. طالعني دون أن يتكلم، ترك المقبض ودخل حتى وصل الى الأريكة التي كانت فريدة تجلس عليها، ومن صدرها يخرج هواء قاتم ليس بالهواء، ومن عينيها يتفجر ماء ليس بالماء.
كانت صحفه وأوراقه وكيسه، مرمية في مدخل الغرفة، باستثناء ورقة واحدة، كانت لا تزال في يده.
تجمّدت يداي على الأواني، وتجمّد الباب على ظهري، وأنا أسمعها تقول أشياء متناثرة عن الأطفال والغربة والوحدة والفراغ والاختناق. وسمعته لا يقول إلاّ شيئاً واحداً، دخل الى أذني واضحاً وغامضاً.
- العيب مني، وهذا أمر الله.
حاولتُ أن أصرخ، دون أن أعي شيئاً.
- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. لكن..
- كيف، والنكبة حلّتْ، وكان ما كان.
أغلقت الباب وأنا أمسكه بكلتا يديّ، حتى تلامس وجها القفل في عناق بارد.
أدرتُ رأسي جهة الركن الآخر للزقاق، فإذا "عزيز أبو عين" يجلس على عتبة بيتهم، ولا زالت نفس السحابة الحزينة تمشي على وجهه.
مررتُ أمامه، وقد جعلته يحس بأنني لم أره، وأنا أحمد الله في كل خطوة أخطوها أن وهبنا جارة طيبة، تجيد كل فنون الطبخ، وتملك علبة كبيرة من الحلوى المغلفة بقراطيس ملونة، وألعاباً تتحرك بالبطاريات الجافة، وقفصاً خشبياً لعصفورتين لا تكفّان عن الغناء، وزوجاً هادئاً يقول لزوجته وهو يضع يده اليمنى على كتفها، ملوّحاً بورقة في يده اليسرى.
- العيب مني، وهذا أمرُ الله.
الهـــواء
تجمع الناس حول البيت لكن أحدهم لم يتحرك من مكانه إلى الداخل.
كان جسدي الصغير قادراً على عبور الحائط الذي صنعته ظهورهم الصلبة. كان رأسي العاري في تلك اللحظة، لا يحمل إلا أذنين وعينين.
سمعت أذناي.
- لا حول ولا قوة الا بالله.
ورأت عيناي "أم الحصني" تدخل. و"شمروخ الغادي" يدخل.
خنقتني فاتحة البكاء. أمسكتُ بذيل أقرب الثياب اليّ، فانحنى عليّ. وضع كفيه على رأسي الحليق وهمس في أذني.
- الدائم وجه الله.
وصارت تموج في ذاكرتي صور كثيرة.
تعودتُ أن أسأل:
- من أين جئت وكيف جئت الى هنا؟
لكنني عندما شاهدتُه ثم شاهدتُ أباه ينقل حقائب كثيرة، من سيارة نقل كبيرة إلى البيت الواقع طرف الشارع، سكتُّ. بل امتطيت سيارة النقل وبدأت أحمل معه بعض الأشياء الخفيفة التي استطعت حملها.
كلما أمرّ أمام بيتهم أجده جالساً أمام الباب مرتدياً ثوباً نظيفاً وعلى جبينه خصلة من شعر ناعم تلامس بعض عينيه اللتين تحملان ضوءاً غامضاً يمنعني أن أسأله:
- لماذا لا تذهب مثلنا الى المدرسة؟
ذاك الصباح كانت السماء حافلة بالغيوم وكانت الشمس متوعكة فتأخرت بالمجيء.
كنتُ أحبُ أن يكسر الغيم كتف الصباح. أجدني في مثل هذه الصباحات قادراً على فهم المدرسة على حقيقتها، لذلك لا أفكر في الاقتراب من بوابتها.
قلت لنفسي.
- اجلس بجانبه واضعاً ظهري باتجاه الشارع فلا يرى أحدٌ وجهي.
بادر فسألني.
- لماذا لم تذهب الى المدرسة؟
قلت وأنا أتعمد ألا أحرجه.
- أكره المدرسة.
بدأت أراقب جسده الناحل الذي بدأ عن قرب وكأنه مجموعة من العظام الصغيرة المتشابكة بعضها فوق بعض.
طالعتُ في عينيه فوجدته يراقبني. قلت:
- هل تصير صاحبي؟؟
قال:
- أبي يمنعني أن أصاحب أحداً.
- هو الذي يمنعك من الذهاب إلى المدرسة؟
هز رأسه. فقلت:
- أحسن.
لكني صرت أفكر في أبيه الذي لم أر رجلاً بمثل طيبته. كان يبتسم لي بحنان عندما كنت أساعده أول ما قدموا الى شارعنا في حمل بعض الأمتعة الصغيرة، حتى إنه أعطاني قطعة نقدية عندما تحركت السيارة الكبيرة خارج الشارع.
فكرتُ أيضاً.
- هل يمكن أن يحرم هذا الرجل الطيب ابنه من اللعب؟
صرتُ أحاول نقل هواجسي الى أشياء أخرى لأكسر هذا الصمت الذي لم أعتدهُ مع أطفال غيره، لكنه بدأ يسعل فانقطعت هواجسي.
سعل أكثر، فجحظت عيناه من شدة السعال. أخرج من جيبه منديلاً لا هو من قماش ولا من قطن، منديل مربع رقيق أبيض شفاف لا وسخ به من قبل.
وضعه على فمه وصار السعال يواصله فظهرت على المنديل بقع حمراء.
انفتح الباب وخرج ساعدُ امرأة، التقطه من يده وانغلق.
سألت أمي، في مساء لم أجد فيه من أحدثه.
- من هي؟
قالت وهي تغمض عينيها وتحرك لسانها بشيء ما:
- عمته.
رددتُ عليها بصوت فقد قدرته على الخروج:
- ولماذا عمته؟
فتحتْ عينيها وطالعتني بلمعان دهشة وحزن:
- الله أعلم.
أرسلني أبي بقارورة ماء الى "شمروخ الغادي"، وقال يُحرصُني قبل أن أتركه:
- لا تنكبُّ قطرة منها وأنت عائد.
كانت قارورة كبيرة وثقيلة، تذوقت ما بها فوجدته ماء. كببت منها كي يخف وزنها.
دخلتُ على "شمروخ الغادي" في المسجد، فسألني:
- هل انكب منها شيء؟
قلت:
- لا.
طالعني بغضب بعد أن أدار القارورة بين يديه أمام عينه التي لم يصلها البياض كالأخرى.
بدأ ينفخ في ماء القارورة وهو يحرك لسانه مثلما كان يتحرك لسان أمي عندما سألتها عن المرأة.
طال نفخه وطالت حركة لسانه، فقلت:
- ألا تتعب؟ كل يوم تصلي بالناس خمس مرات، ألا تتعب؟
رمى عينه باتجاهي، لكنه أكمل النفخ والأدعية الصامتة.
بعد أن انتهى ناولني القارورة وقال:
- قل لأبيك أن يشرب منها قبل النوم وقبل صلاة الفجر، وقل له: شمروخ الغادي يسلم عليك ويدعو لك بالشفاء من ضيقة الصدر.
قلت:
- طيب.
رفع أصابعه عن القارورة وصرخ:
- هذا دواء فيه اسم الله. احرص ألا يسيل منه نقطة حتى تسلمه لأبيك.
مشيت بالقارورة بهدوء تام وعيناي لا تنتقلان عنها.
تذكرتُ وأنا خارج المسجد أن أسأله اذا كان قادراً على شفاء سعال الولد.
وضعت القارورة عند الركن الخارجي للمسجد وعدت اليه.
وجدته منهمكاً في صلاة. بعد التسليمة الثانية قمت اليه. سألني:
- أعطيته القارورة؟؟
تذكرت أني تركتها في الشارع، فقلت: نعم.
قال:
- أنت ولد مبارك، لولا أن لسانك يفلت منك أحياناً.
لم أعر كلامه انتباهاً، وسألته:
- أتعرف أبا الولد الساكن طرف الشارع؟
قال: نعم.
- لماذا لا تشفي ولده من السعال؟
قال:
- الشافي هو الله. يقول أبوه إن هواء شارعنا هو العلاج الوحيد لصدره.
- ما دام هواؤنا علاجاً فلماذا لم يُشف؟ لماذا لا يذهب الى المدرسة ولماذا لا يلعب معنا؟
رفع عينيه عني وقام يصلي صلاة ثانية.
تفقدتُ النساء اللواتي جئن لزيارة أمي، فلم أجد وجهاً جديداً. كلهن أعرفهن وأعرف أبناءهن الذين يشبهونهن أو لا يشبهونهن.
لم أجد رغبة في أن أطالع إليهن، ما عدا هذه العجوز المشوهة "أم الحصني".
مشيت وسط النساء حتى وصلتها فجلست أمامها.
حاولت أن تجرّني إلى جانبها فرفضت.
قالت:
- عيب أن تعطي خالاتك قفاك.
قلت لها:
- دقيقة وأقوم يا أم الحصني.
قالت بغضب:
- ألم أقل لك ألف مرة أن أسمي أم الحصيني وليس أم الحصني؟
قلت لها:
- أبي هو الذي يقول.
ضحكت النساء، ولما لم تكن أمي موجودة همست إليّ:
- وماذا يقول أبوك عني؟
صمتن وبدأت أتحدث بصوت عالٍ:
- يقول أنك دجالة وأن ادعاءك باستحضار الجن كذب وباطل، وأنك تغشين الناس بقولك إنك ترفعين السحر عنهم.
أحسّت "أم الحصني" أن مكانها غير قادر على حملها. اصطنعت الابتسام ثم قالت:
- وماذا بعد؟
- يقول إن ابنك مخادع مثلك، مخادع كبير، حصني وأنت أم الحصني يا أم الحصني.
رفعت يدها وضربتني.
- قم يا كذاب.
استقبلت ضربتها على جانب مؤخرتي وقلت لها بسرعة:
- هل في الولد الساكن طرف الشارع سحر؟
سكتن كلهن فأكملتُ:
- الولد، هذا الولد الذي لا أتمنى إلا أن أكون مثله.
في هذه اللحظة كانت أمي تقبل. ركضت باتجاهي وضمتني الى صدرها وهي تقول:
- اسم الله عليك.
كنت أتمنى أن تسألني إحداهن:
- وبما يزيد الولد عنكم؟
لأرد عليها:
- جمال وجهه ونظافة بدنه.
لكنهن قلن بصوت واحد:
- اسم الله عليك.
فقمت كارهاً وتركت مجلسهن.
انتظرت خارج البيت. رأيتهن يخرجن واحدة بعد الأخرى، وكل واحدة تقول قبل أن تخرج:
- أكرمك الله.
لم تخرج "أم الحصني"، فدخلت.
وجدتها تُخرجُ من صدرها رباطات ملونة صغيرة ثم تغرسها داخل كف أمي.
عندما شاهدتاني توقفتا، طالعتا بعضهما ثم طالعتني "أم الحصني" وقالت بصوت مكسور:
- الولد ليس مسحوراً يا بني.
جاء أكثر من نازل جديد. كل نازل يمسك بيده أطفالاً كثيرين. كل طفل يبحث في حارته الجديدة عمن يلعب ويتكلم معه.
وفي فوضى اللعب والكلام كنت أرسل بصري الى باب أطرف بيت في الشارع فأجده مغلقاً دوماً ومفتوحاً أحياناً فتحة ضيقة لا تتسعُ إلا لعينيه الصغيرتين.
قالوا لي في ليلة الأضحى إن الذبح غداً سيكون كثيراً وإن الأضاحي سوف تستلقي على الأرض لينفجر الدم من أعناقها، وإن اللحم الطازج سيكون كثيراً.
نصحوني ألا أفكر بالحلوى، فغداً يوم اللحم فقط.
تقلبت في فراشي كثيراً لأن حديثهم عن الذبح كان كثيراً.
أفقت صباح العيد والحمى تملأ جسدي.
قلت: هذا من حلم البارحة.
حاولت أن أستعيد الحلم، فاستعدته:
رأيت الناس في شارعنا وقد اصطفوا في صفٍ طويل وفي يد كل منهم كبش ينزف من عنقه.
في آخر الصف كان أبو الولد يحمل ابنه والدم ينزف من فمه. كان الدم النازف منه أكثر من دماء كل البهائم.
رأيتني أمشي على دماء الأعناق حتى وصلت إلى الولد.
جلست أمامه وبدأت أغسل وجهي بدمه وأنا أنتفض.
لم أحاول تفسير الحلم لأن ضجة الشارع المفاجئة، كانت هائلة.
لم يكن منظر الأب الصامت وهو يحمل جسد ابنه العظمي، ولم يكن منظر المرأة الباكية محاطة بـ "أم الحصني" و "شمروخ الغادي" كافيين لأن أدخل في بكاء حارق، لكن الأخشاب المسندة على الجدران والمعلقة عليها هذه اللحوم الطازجة، جعلتني أتمزق بكاء وسعالاً أشعر به لأول مرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق