المدار
صاح الكوكبُ الكبير بأخيه الأصغر.
- ماذا تفعل يا مجنون؟! عد إلى مدارك.
لكن الكوكب الصغير لم يأبه بكلام أخيه، وتدحرج خارج المدار، وهو يصرخ بأعلى صوته.
- إذا كنت تريد مرافقتي، فهيا، لا تتردد.
فكّر الكوكب الكبير. ثم قال لنفسه.
- أنا أيضاً مللت من هذا المدار الذي لا يتغير. كل يوم يحدث نفس الشي، تدور حول هذا النجم إلى الأبد. هو الذي يضيء ونحن الذين نعكس ضوءَه، نتعب ونتعب وهو الذي يحصل على المجد.
قاطع الكوكب الصغير تفكير أخيه الكوكب الكبير.
- هل ستأتي أم لا؟!
- إنني خائف، إلى أين سنذهب؟! وماذا سيكون مصيرنا؟!
ضحك الكوكب الصغير.
- أي مصير سنواجهه سيكون أفضل من هذا الدوران الذي لا ينتهي حول هذا النجم المغرور الذي يعاملنا كعبيد.
وأعاد على أخيه السؤال.
- هل ستأتي أم لا؟!
أجاب الكوكب الكبير.
- لا، لقد تقدم بي العمر، واعتدت على هذا الحال، لن يكون بمقدوري أن أواجه المجهول.
فقال الكوكب الصغير.
- وداعاً إذن يا أخي الحبيب، سأتركك لهذا المدار الممل.
كان الكوكب الكبير سيقول لأخيه الكوكب الصغير؛ "أتمنى لك التوفيق في حياتك الجديدة"، لكنه كان خائفاً عليه، ولذلك بادره.
- انتبه لنفسك، فالرحلة ستكون شاقة، ولن نستطيع بعد ذلك العودة إلى مدارنا مرة أخرى.
رأى الكوكب الكبير اخاه الكوكب الصغير وهو يتدحرج في الفضاء مبتعداً عنه، فسالت من عينيه الدموع، ثم أكمل دورانه حول النجم الذي لا يشعر بأحزان الكواكب ولا يقدر تعبهم وشقاءهم.
* * *
أخذ الكوكب الصغير يتقافز من مكان إلى مكان في الفضاء الواسع وهو سعيد بحريته الجديدة.
- أنا الآن طليق من سجن النجوم، ومن قيود المدارات، أفعل ما يحلو لي دون أن يجلدني أحد بالسياط لكي أتحرك كما يشاء. أنا الذي أشاء، أدور حول نفسي وأغني الأناشيد التي أحبها.
* * *
كان الكوكب الصغير نائماً عندما داهمته نيازك ملتهبة.
صرخ قائد النيازك.
- أفق من نومك أيها الكوكب الصغير.
فرك عينيه،ثم غطى وجهه بيديه لكي لا تحرقه نار النيازك.
- ماذا تريدون مني؟!
قال القائد.
- نريد أن نعرف ما الذي تفعله هنا؟!
- إنني نائم كما ترون.
- نحن نعرف أنك نائم، إنما نسألك ما الذي جاء بك إلى هنا؟! لماذا لست في مدارك؟
تردد الكوكب الصغير قليلاً، ثم قال.
- لقد خرجت منه.
طالع قائد النيازك جنوده باستغراب.
- خرجت؟! كيف خرجت؟!
- لقد طردت منه؟!
- وماذا فعلت؟!
- لا أدري.
- أنت تكذب. أنت خائن. لقد هربت من مدارك يا مجرم.
- مجرم وخائن؟! أنا مجرم وخائن؟!
صرخ القائد في وجهه.
- نعم مجرم .أنت بخيانتك هذه ستخرب المدار الذي كنت تعيش فيه.
وأشار القائد إلى جنوده بصوت اهتزَّ له الفضاء.
- احرقوا هذا الخائن.
صرخ الكوكب الصغير بقائد النيازك.
- ارجوك يا سيدي، افهمني.
- أفهم ماذا أيها الخائن؟!
تلعثم الكوكب الصغير ثم قال.
- أنا لم أرتكب جريمة ولا خيانة. أنا هربت من المدار الذي لا يتغير فيه أي شيء، لكي أجد حياة مشوقة في مكان آخر.
أشار القائد إلى كواكب بعيدة تدور مثل الطاحونة حول نجم كبير، ثم صاح بأعلى صوته.
- ستتدمّر كل مدارات الفضاء اذا كان كل كوكب سيتركها لكي يجد له حياة اخرى.
وأكمل القائد وهو يضرب يداً بيد.
- وإذا حدث ذلك، فلن يكون هناك فضاء.
رد الكوكب الصغير بخجل.
- صدقني يا سيدي لن يخرب أي شيء، فذلك النجم الذي هربت من مداره لم يحس بهروبي وها هي بقية الكواكب تقوم بالدور.
هاج القائد قائلاً.
- ومن قال لك ذلك؟! لقد استعان النجم بنا لكي نعيدك له.
تساءل الكوكب الصغير.
- وهل تعملون له؟!
تضاحكت النيازك وردّتْ بصوت واحد.
- نحن جنوده، نحن الشرطة التي تحميه.
ابتلع الكوكب الصغير ريقه ثم سأل القائد.
- إذن ستحرقونني.
- أجل، لتكون عبرة لغيرك.
فكّر الكوكب الصغير في حيلة ليهرب بها من النيازك، وتذكر أنه كروي الشكل بينما النيازك صخور فضائية مفلطحة. ولذلك انطلق بسرعة متدحرجاً.
صاح القائد بجنوده النيازك.
- اتبعوا هذا الخائن.
فلحقوه بأقصى سرعتهن، لكن الكوكب الصغير كان يغير اتجاهه بفضل شكله الكروي. أما النيازك فإنها تضطر إلى الوقوف أولاً ثم تغير اتجاهها، لذلك لم تستطع اللحاق به، فاختفى الكوكب الصغير في الفضاء الواسع المظلم.
عادت النيازك إلى القائد مطأطأة رؤوسها، فصرخ بهم.
- أين هو؟!
- لقد توّهنا الخائن، إنه يتدحرج بشكل سحري ولم نستطع الإمساك به لأننا مفلطحون يا سيدي القائد، وكان صعباً علينا أن نتحرك مثله.
ضرب القائد بيده على وجهه.
- يا ويلنا من النجم ماذا سنقول له؟!
فكّر القائد طويلاً ثم قال.
- لقد استطاع هذا الكوكب الصغير أن يهزمني أنا وجنودي ولن تكون لي ولكم حياة بعد هذا العار.
سأله أحد الجنود.
- ماذا تقصد يا سيدي القائد؟!
فأجاب بصوت حزين.
- سنسقط جميعاً إلى الأرض. أجل سنسقط، لم يعد لنا مكان في هذا الفضاء بعد هذه الهزيمة.
وواحداً بعد واحد، تساقطت النيازك إلى الأرض، إلى أن وصل الدور إلى القائد الذي كانت عيناه مبللتين بدموع الخزي والفشل.
ومن مسافة بعيدة، كان الكوكب الصغير يراقب ما يحدث بسعادة وفرح.
- لقد تخلصت الآن من شرطة النجم.
وشدّ على قبضته بتحدٍ قائلاً.
- أما أنت أيها النجم، فلي معك ومع غيرك من النجوم شأن آخر.
* * *
صار الكوكب الصغير يسافر في الفضاء من مدار إلى مدار يروي قصته للكواكب الصغيرة التي تكره مداراتها.
ومن كل مدار، كان الكوكب الصغير يُقنع كوكباً أو كوكبين إلى أن صار له جيشاً من الكواكب. ولأن الكوكب الصغير يحب الحرية ويكره العبودية، فلقد قال لأصدقائه.
- أنا لا أريد أن أكون قائداً لكم، ولا أريد أن أوجه لكم الأوامر، أنتم الآن أحرار، فانتشروا كما تشاؤون في أي بقعة تحبونها في هذا الفضاء الجميل..
* * *
في ليلة صافية، طالع الطفل الفضاء، فسأل أباه.
- أبي انظر، هناك نجوم صغيرة تتلألأ إلى جانب بعضها في أماكن كثيرة من السماء.
ضحك الأب قائلاً.
- إنها ليست نجوماً بل كواكب.
فأكمل الطفل كلامه.
- أحسها يا أبي سعيدة، تغني معاً أناشيد جميلة، ليتني أستطيع سماعها.
المـــاء
شعرَتْ الوردةُ بالتعب، فاستندتْ بغصنها على فرع الشجرة، التي قالت لها.
- تماسكي يا صديقتي الوردة، سوف يتذكر صاحب البيت أنه لم يسقِنا.
ردت الوردة.
- نحن لم نرهُ يخرج إلى الحديقة منذ بداية الأسبوع. ماذا يفعل كل هذا الوقت داخل البيت؟!
فكّرَتْ الشجرة.
- ربما هو مريض. لقد سافرت زوجته وأطفاله قبل أسبوعين لقضاء إجازة الصيف خارج المدينة.
سألتها الوردة.
- وما العمل؟! يجب أن نفعل شيئاً لننقذه.
اتفقت الشجرة والوردة أن يمدّا جذورهما إلى أقصى حد ممكن ليصلا إلى الماء الجوفي.
وبعد أن انتعشتا ازدانت أغصان الشجرة بالخضرة وتفتّحت أكمام الوردة.
قالت الشجرة.
- الآن ستُقبل عليّ النحل.
تشاورت الشجرةُ مع العصافير، وتشاورت الوردة مع النحل.
- أيتها العصافير، صاحبُ البيتِ مريضٌ ويجب أن ننقذه.
- أيها النحل، هل تستطيعون مساعدتنا في إنقاذه.
أجاب النحل بصوت واحد.
- سندخل إلى البيت، ونرى ماذا أصاب الرجل.
طار النحل إلى البيت. ومن خلال النافذة المفتوحة، رأى الرجل ممدداً على الأرض، غير قادر على الحركة.
صاحتْ نحلةٌ.
- انه لا يزال يتنفس.
عاد النحل إلى الحديقة وأخبرا الشجرة والوردة بما حدث.
قالت الشجرة للعصافير.
- حان دوركم.
ردّت العصافير.
- أمركِ أيتها الشجرة.
- أتعرفون ماذا ستفعلون؟!
- لا تخافي. سنعمل المستحيل لانقاذه.
طارت العصافير خارج سور البيت، وأخذت ترفرف بأجنحتها فوق السور.
استغرب أحد المارة.
- لماذا تتجمع العصافير بهذا الشكل؟!!
كان سيمضي في طريقه، لولا أن مجموعة من العصافير حلّقت فوق رأسه وأخذت ترفرف وبأجنحتها أكثر وأكثر، فيما بقيت المجموعة الأخرى ترفرف فوق السور.
فهم الرجل قصد العصافير، فطرق الباب، كلن لم يجبه أحد.
طالع العصافير التي ظلت ترفرف بأجنحتها بقوة.
استعان الرجل برجال آخرين، قائلاً.
- هنالك مشكلة داخل السور. ساعدوني.
دفع الرجال باب السور بقوة حتى فتحوه.
اندفعوا إلى داخل الحديقة، والعصافير والنحل تحلق فوق رؤوسهم.
قالت الشجرة للوردة.
- لقد نجحنا.
حمل الرجال صاحب البيت وانطلقوا به وهم يصيحون.
- سيَهلك الرجل ان لم نأخذه الآن إلى المستشفى.
حين خرجوا نسوا السور مفتوحاً.
كان في الشارع طفل يراقب كل ما كان يحدث.
أطلّ برأسه من خلف الباب.
نظر إلى الشجرة وإلى الوردة بإعجاب شديد.
مشى بخوف إلى صنبور الماء. فتحه، فابتلّت التربة. صار يلاحق النحل والعصافير في الحديقة ويلعب معها بفرح شديد.
بعد أن تعب من اللعب، أغلق صنبور الماء وخرج من المنزل، لكنه لم ينسَ ان يغلق باب السور.
جواز السفر
دخل أبي إلى البيت، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وفي يده دفترٌ أخضر صغير وثلاث تذاكر.
سألته أمي.
- اذاً، هذه هي المفاجأة؟!
أجاب أبي.
- أجل. سوف نقضي إجازتنا الصيفية في مصر.
وضع الدفتر والتذاكر على الطاولة، ثم جلس يتحدث مع أمي.
التقطتُ الدفتر الأخضر، وأخذت أتفحصه.
- ما هذا يا بابا؟!
- جواز السفر.
- وما معنى جواز السفر؟!
ابتسم أبي، ثم اخذني إلى جانبه.
- جواز السفر هو وثيقة تحمل صورتي وصورة أمك وصورتكِ. ويجب أن أحمله معي حين نسافر خارج بلادنا.
- واذا لم تحمله معك، ماذا يحصل؟!
- يمنعنا البلد الذي نسافر اليه من الدخول.
أضافت أمي، وهي تضحك.
- حتى بلادنا تمنعنا من السفر خارجها بلا جواز.
* * *
في المطار، كنت سعيدة جداً، لم أنسَ أن آخذ معي دميتي الصغيرة لكي تستمع معي برؤية الإهرامات ونهر النيل.
أنا أحب مصر كثيراً، معلمة مادة الرياضيات في مدرستي مصرية وزميل أبي في الشركة مصري وسائق صديقتي مصري والمسلسلة التي أحبها في التلفزيون مصرية. لقد شاهدت الأهرام والنيل في هذه المسلسلة، وسأفرح أنا ودميتي حين نراها على الطبيعة.
- هيا يا حبيبتي.
ناداني أبي، فمشيت أمامه، ووقفنا جميعاً أمام شرطي يجلس خلف مكتبه.
أعطاه أبي الدفتر الأخضر، فأخذ يتفحصه.
- إلى أين ستسافرون؟!
ناوله أبي بطاقات السفر، وهو يقول.
- إلى القاهرة.
القاهرة عاصمة مصر. أعرف ذلك. ابتسم لي الشرطي وهو يراني أمدّ رقبتي من خلف مكتبه لأرى ما سيفعل.
بعد أن كتب بعض المعلومات على جهاز الكمبيوتر، طبع شيئاً أزرق على ورقة من أوراق الجواز، ثم ناوله أبي.
- رحلة سعيدة.
* * *
حطّت الطائرة على أرض مطار القاهرة.
وقفنا في صف طويل، فسألتُ أبي.
- لماذا نقف في هذا الصف؟!
- انه صف الجوازات.
وتذكرت شيئاً مهماً.
- بابا. هل سيقبلون أن تدخل دميتي بلا جواز؟!
أجاب مبتسماً.
- أرجو ألاَّ يفعلوا ذلك.
وعندما وصل دورنا، ناول أبي جوازه للشرطي الذي أدخل أرقاماً في الكمبيوتر، ثم قال لأبي.
- انتظر هناك.
وأشار إلى مقعد خشبي طويل، يجلس عليه بعض المسافرين.
مضى وقت طويل ونحن جالسون، وكان أبي متضايقاً جداً.
قال له أحد الجالسين على المقعد بلهجة غير لهجتنا وغير لهجة المصريين.
- لا تتضايق. سوف يسمحون لك بالدخول ولكنهم يتحققون في أمر بعض الجوازات.
ثم ضحك.
لكن أبي لم يضحك.
* * *
في سيارة الأجرة، التَفتَ أليَّ أبي من المعقد الأمامي، ثم قال بجدية.
- أرأيت يا حبيبتي، لم يسألوا عن جواز دميتكِ، ولم يشكّوا أبداً في أمرها.
- نظر إلى وجه أمي، فضحكت.
ضحك هو ثم ضحك سائق السيارة.
لم أعرف لماذا كانوا يضحكون، لكنني ضحكت معهم.
الجسد
1=2
وجدتُ هذه المعادلة الحسابية على ورقة بيضاء فوق طاولة مكتب أبي فاستغربت كثيراً.
- كيف واحد يساوي اثنين؟! ألا يعرف بابا الحساب؟!
تناولت قلماً وكتبت إلى جانب العملية اشارة (X)، وهي نفس الاشارة التي تكتبها معلمة الفصل عندما تُخطيء في الإجابة إحدى طالبات الفصل التمهيدي الذي نجحت منه هذه السنة بتفوق. وبنفس القلم كتبت تحت هذه العملية.
1 + 1=2
تركت الورقة على الطاولة وخرجت من الغرفة إلى الحديقة، وهناك صرت أفكر بالعملية الحسابية وبالأشياء التي تحيط بي.
عصفور + عصفور = عصفوران
شجرة + شجرة = شجرتان
تفاحة + تفاحة = تفاحتان
وردة + وردة = وردتان
ولا يمكن أبداً أن يكون العصفورُ الواحد عصفورين، والشجرة الواحدة شجرتين، والتفاحة الواحدة تفاحتين، والوردة الواحدة وردتين.
قلت لنفسي.
- لابد أن أسأل أمي لكي أتأكد.
ركضت إلى المطبخ، فوجدتها هناك.
- ماما.. أريد أن أسألك سؤالاً.
تركت أمي الأطباق التي كانت تغسلها، ثم التفتت اليَّ.
- وما هو يا غادة؟!
- هل يمكن أن يكون واحد يساوي اثنين؟!
- استغربت أمي ثم أجابت.
- طبعاً لا يمكن يا حبيبتي.
- إذن لماذا يخطيء بابا ويكتب على أوراقه واحد يساوي اثنين؟!
ابتسمت أمي ابتسامة عريضة ثم رفعت كتفيها.
- لا أدري يا ابنتي، اسأليه أنتِ.
* * *
يعمل أبي طبيباً في المستشفى ويعالج الأطفال الذين يتألمون. انه يأخذهم إلى غرفة العمليات ويزيل الآلام من بطونهم. الأطفال الذين يتألمون في المستشفى الذي يعمل فيه بابا كثيرون، لذلك لا أراه إلاّ نادراً، كلما أعاتبه، يقول لي.
- هؤلاء الأطفال أحبهم مثلما أحبك يا غادة، ويجب أن أجري لهم العمليات لكي تُشفى آلامهم.
وفي الأوقات التي لا أرى فيها أبي، تحكي لي أمي قصصاً كثيرة عن العمليات التي يجريها أبي. لذلك أتخيل أبي دوماً فارساً على حصان أبيض وبيده سيف لامع. أتخيله يركض بفرسه إلى الغابة التي تختطف الأطفال والتي يسكنها وحوش ذوو أشكال غريبة. أراه في خيالي يهاجم الغابة، فيطعن الوحش الأول ثم يقطع رأس الوحش الثاني حتى يقضي على كل الوحوش وتمتليء الأرض بالدماء. أتخيل أن الأطفال الخائفين يخرجون من بين الأغصان ثم يصفقون لأبي.
وحين أقص خيالاتي على أمي، تضمني بقوة وتقول لي.
- أبوك فخور بك، مثلما أنت فخورة به.
* * *
في المساء سمعت مفاتيح أبي وهي تفتح الباب، فركضت اليه. ضمني إلى صدره طويلاً، ووجدتها فرصة لأهمس في أذنه.
- لماذا أنت ضعيف في الحساب؟!
سألني مستغرباً.
- أنا؟!
- أجل يا بابا.
- كيف؟!
ركضتُ إلى الغرفة وأحضرت الورقة التي كانت على طاولته، ثم وضعتها أمام وجهه.
- هل صحيح أن واحداً يساوي اثنين؟!
ردّ أبي بابتسامة واثقة.
- أجل.
اندهشت لإجابته، لكنه حملني بين ذراعيه وأخذني إلى الغرفة ثم قال لي.
- بالأمس أنجبت أمٌ توأمتين، لكن جسدهما كان واحداً.
وأخرج من جيبه صورة لطفلتين لهما وجهان جميلان لكن بطنهما واحد.
وسألني أبي.
- كم طفلة ترين في الصورة؟!
أجبته.
- طفلتان.
- وكم جسداً لهما؟!
- جسد واحد.
ضحك أبي بصوتٍ عال ثم سألني.
- هل لا أزال ضعيفاً في الحساب؟!
حلّ أبي لغز المسألة الحسابية، لكن ذلك لم يفرحني. وعندما أحسّ أبي بحزني، بادرني.
- لا تقلقي يا غادة.. سوف يعينني الله أن أجعل لهما جسدين منفصلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الإهداء : إلى غادة بنت عبدالله الربيعة ، التي حضرتْ حفل نجاح أبيها في فصل أول توأمتين سياميتين ملتصقتين، عام 1992 م
الذكرى
عندما أشرقت الشمس، أفاق جدارُ الفصل من النوم. كانت عيناه مجهدتان، فهو لم ينم جيداً ليلة البارحة.
كان يفكر.
- غداً سيتركني الأطفال، وسأغدو وحيداً بلا صديق سوى هذه المقاعد الفارغة.
أحسَّ أحد المقاعد بحزن الجدار، فقال له.
- لماذا أنت حزين هكذا؟! هؤلاء الأطفال سيتركوننا لكي يستمتعوا بإجازة المدرسة، وسوف يعودون لنا بعد أن تنتهي.
ردَّ الجدار على المقعد.
- أنا لا أستطيع تحمل فراقهم طيلة الإجازة.
فسأله المقعد.
- هل تريد أن تحرمهم من اجازتهم؟!
هزَّ الجدار رأسه قائلاً.
- لا، أبداً. لكنني لا أدري ما أفعل؟! هؤلاء الأطفال يملأونني بنجوم اجتهادهم. أصابعهم هي الأزهار التي تفوح في الفصل، وقلوبهم هي الشمس التي تضيء دوماً، فكيف تريدني أيها المقعد أن أتحمل فراقهم.
صمتَ المقعد قليلاً ثم صرخ.
- لديّ فكرة.
بادره الجدار.
- وما هي؟!
- بعد قليل ستحضر المعلمة، وسوف أشرح لها مشكلتك، ربما تستطيع مساعدتك.
* * *
دخلت المعلمة، وقبل أن تبدأ بترتيب الأوراق على طاولتها، قال لها المقعد.
- صباح الخير يا سيدتي.
فردّت المعلمة.
- صباح الخير أيها المقعد.
ثم سألها.
- هل تستطيعين أن تحلّي مشكلة الجدار؟!
أجابت.
- الجدار؟ وما مشكلته؟!
- انه حزين جداً لأن الأطفال سيتركون المدرسة طيلة اجازة الصيف.
ابتسمت المعلمة ثم التفتَ الجدار.
- لابد أيها الجدار أن يرتاح الأطفال من عناء الدراسة.. الإجازة هي حق من حقوقهم.
وبصوت حزين قال الجدار.
- أعرف ذلك يا سيدتي، ولكنني لا أستطيع فراقهم.
ونزلت الدموع من عينيْ الجدار، لكن المعلمة اقتربت منه ومسحت الدموع من عينيه قائلة.
- لابد أن نجد حلاً أيها الجدار.
دخل الأطفال إلى الفصل وعلى رؤوسهم تحلّق الغيوم، تشعُّ خلفها أقواس قزح.
جلس كل طفل على مقعده ثم قالوا معاً.
- صباح الخير أيتها المعلمة الغالية.
ردّت المعلمة.
- صباح الخير يا حلوين.
صمتَتْ قليلاً ثم قالت.
- أريد أن أقصَّ عليكم قصة، وأريدكم أن تساعدوني في إيجاد نهاية لها.
قصّت المعلمة قصة الجدار الحزين، ثم وجهت للأطفال سؤالاً.
- هاه.. من يضع النهاية لحزن الجدار؟!
رفع أحد الأطفال يده ثم قال.
- لماذا لا نحضر لوحاً كبيراً ونرسم عليه ولداً وبنتاً ثم نعلقه على صدر الجدار، وهكذا سيتذكرنا دائماً؟!
ردّت المعلمة.
- فكرة رائعة.. ما رأيك أيها الجدار؟!
ابتسم الجدار ابتسامة صغيرة.
- أجل إنها فكرة رائعة ولكنني أريد أن أرى وجوههم كلهم.
فكّرت المعلمة، وأضاف الجدار بفرح شديد.
- كل صورهم.. كل صورهم.
* * *
بدأت الإجازة الصيفية، وأصبح الفصل فارغاً إلاّ من المقاعد والجدار.
على الجدار كانت هناك لوحة كبيرة عليها صور كل الأطفال.
أصابع البيت
حاولت "أبرار" أن تمنع نفسها عن البكاء، لكنها لم تستطع. كانت عيناها تذرفان الدموع والخوف.
قالت لها امها.
- يجب ان تبقي في البيت.
ردّت "أبرار".
- أنا خائفة.
لم تستغرب الام. مسحت الدموع التي انهمرت على خد "أبرار" الايمن، ثم مسحت خدها الايسر.
قالت الام.
- ممَ تخافين؟؟ باب البيت سيكون مغلقاً، واخوك سيبقى معك.
قبّلتْ الام رأس "أبرار" ثم نهضت باتجاه الباب.
كانت "أبرار" ستبكي بعد خروج أمها، لكنها تذكرت.
- ممَ أخاف؟؟
فمسحت ما بقي من دموعها، ثم دخلت غرفتها.
* * *
صارت "أبرار" تسمع صوت أخيها يلعب في صالة البيت، ثم صارت تذاكر دروسها.
بعد أن انتهت من أداء كل واجباتها المدرسية، رتّبت دفاترها وكتبها، ثم وضعهتا داخل حقيبتها الجلدية.
خرجت من الغرفة. بحثت عن أخيها، فلم تجده في الصالة.
فتحت باب غرفته، فوجدته غارقاً في المذاكرة.
رجعت إلى غرفتها، وأغلقت الباب.
* * *
من درج مكتبها، أخرجت "أبرار" ورقة بيضاء، وعلبة تلوين.
قالت لنفسها.
- سوف أرسم.
في أسفل الورقة، رسمت "أبرار" لوناً أصفر، وقالت.
- هذه هي الارض.
ثم رسمت بيتاً بداخله طفلة وحيدة.
قالت.
- هذا بيتنا، وهذه انا.
في أعلى الورق، رسمت لوناً أزرقاً.
- هذه هي السماء.
تركت "ابرار" أصابع التلوين، وركضت إلى النافذة. فتحت "أبرار" النافذة، وطالعت السماء.
كانت السماء صافية،و الليل يطرق على الستائر.
صارت "أبرار" تراقب نجمةً صغيرة.
صارت تراقبها وهي تزيد في الضوء شيئاً فشيئاً.
لما تحولت السماء إلى ليل كامل، اخذت النجمة الصغيرة تلمع بشدة، وإلى جانبها نجوم كثيرة أكبر منها، تلمع مثلها وأكثر منها.
* * *
سألت "أبرار" النجمة الصغيرة.
- أين أمك؟؟
ردت النجمة الصغيرة.
- كل نجمة، هي أمي.
قالت "أبرار".
- وهل تبقين وحيدة اذا ذهبت أمك؟؟
ضحكت النجمة الصغيرة، ثم قالت.
- نحن نذهب سوياً، ونأتي سوياً.
قالت "أبرار".
- متى تذهبون؟؟
ردّت النجمة.
- اذا أشرقت الشمس نغيب، واذا غابت الشمس نشرق.
استغربت "أبرار".
- أين تغيبون؟؟
قالت النجمة الصغيرة.
- في السماء.
صمتت "أبرار" قليلاً، ثم سألت.
- السماء لكم او للشمس؟؟
ردّت النجمة الصغيرة.
- السماء لنا جميعاً.
* * *
اسلتقت "أبرار" على سريرها الصغير.
تخيلت أنها نجمة صغيرة، وأنها لما أشرقت الشمس غابت.
* * *
نهضت "أبرار" من فراشها مرتبكة.
ركضت إلى طاولتها، ورأت على الورقة الرسم الذي رسمته للأرض باللون الاصفر، والبيت بداخله طفلة وحيدة، والسماء الصافية الزرقاء.
صارت تشاهد البيت مرة والسماء مرةً.
التقطت أصابع التلوين، ورسمت داخل البيت أطفالاً كثيرين، وفي السماء، رسمت شمساً ونجمة.
الخطوات
جدتي مشلولة.
منذ أن تفتحتْ عيناي على الدنيا، وهي تستلقي على فراشٍ قطني، في ركن غرفة صغيرة بجوار غرفة أمي.
أمي تعتني بجدتي كثيراً.
أنا أحب جدتي وهي تحبني وتحب أخي وتحب أمي.
جدتي تستيقظ في الصباح الباكر. تصلي في مكانها. وبعد أن تشرق الشمس، تنادي أمي بصوت عالٍ ومبحوح.
- يا موضي، يا موضي.
تنهض أمي من النوم على صوتها. تفتح بابها ثم تتوجه إلى فراش جدتي. تقبّل يدها ثم تطرق بابنا لكي نفيق من النوم، ونقبّل يد جدتنا.
قبل أن أخرج أنا وأخي إلى المدرسة، تقرأ آية الكرسي وتجعلنا نردد الكلمات خلفها، وبعد أن نعود تضمنا إلى صدرها وتسألنا.
- كيف المدرسة؟!
عندما أحفظ واجباتي، أذهب اليها وأقرأ الدرس لها عن ظهر قلب.
هي لم تدخل مدرسة في حياتها، لكنها تحب أن "تسمّع" لي دروسي. أرى على وجهها غيمةً بيضاء من الفرح عندما أكون حافظة درسي.
تأخذني إلى حضنها وتمسح على شعري وتقول.
- أتمنى أن أراكِ وقد تخرّجت من الجامعة.
في بعض الأحيان، أتشاجر مع أخي، فأذهب إلى جدتي لكي أشتكي لها، فتنادينا معاً وتهمس لنا.
- إذاً تشاجرتما ثانية، لن أسمح لكما بدخول غرفتي.
نحاول ألاّ نتشاجر حتى لا تحرمنا من دخول غرفتها، لأنها في ليال كثيرة، تجمعني أنا وإياه، وتقص علينا حكايات عن جدي.
"كان من أشجع الرجال. يحب أهل قريته المزارعين ويحبونه. كانوا يجتمعون في بيته كل مساء ويتدفأون بكرمه. لم تكن الإبتسامة تفارق وجهه. ينصر المظلوم ويحارب الظالم حتى يهزمه. لم يرفع صوته يوماً عليَّ. وعندما استلقى على فراش الموت، نظر في عيني قائلاً؛ سامحيني".
كل الحكايات التي تحكيها جدتي كانت عن جدي، وكنا نحبها ونتلهف لسماعها. كيف خنق ذئباً بيديه، كيف مشى على قدميه من القرية إلى المدينة ليجلب دواءً لمريض، كيف امتنع عن الطعام والشراب ثلاثة أيام عندما مرضت أمه، كيف دفع كل ما يملك من مال ليخرج صديقاً له من الحبس، وكيف كان يحرص على تحفيظ أهل القرية القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمعلقات الشعرية.
في بيتنا سراج واحد، هو جدتي،
جدتي المشلولة، التي تمشي كل يوم في قلوبنا بخطواتٍ لا يستطيع أحدٌ في الدنيا أن يمشيها.
الســور
كنتُ ألعبُ أنا وأصدقائي في الحديقة، حين رأينا طفلاً حزيناً يجلس وحيداً.
اقتربنا منه ثم سألناه.
- لماذا أنت حزين؟
أجاب.
- أنتم تلعبون في وطنكم. أما أنا فلا أعرف طعم وطني.
- أين وطنك؟
- بعيد.
- ولماذا لا تذهب اليه؟!
- لا أستطيع.
- لماذا؟
بكى ثم قال.
- لقد سرقه الأعداء.
بدأنا في التشاور.
- كيف نعيدُ لهذا الطفل وطنه المسروق؟!
- اقترح أحدُنا أن نبني له وطناً من الطين، وأن نصنع أعداءً من صلصال ثم نجتمع كلنا على الأعداء، ونقضي عليهم.
اتفقنا على هذا الرأي. ذهبنا إلى الطفل، وشرحنا له الاقتراح.
فرح به، ثم بدأنا في البناء.
* * *
اكتمل الوطن، واكتمل الأعداء.
ابتعدنا قليلاً إلى الوراء، ثم جعلنا أيادينا تشتبك في دائرة واسعة، وهجمنا سوياً على الأعداء الصلصال.
غسلنا أيادينا بماء النهر العذب، ثم عدنا إلى الوطن الذي صنعناه من الطين.
صرخنا فرحين عندما وجدناه، قد جفّ، فصار حجراً.
طالعنا وجه الطفل الوحيد، فإذا هو ورديٌّ مثل لون الأزهار المتفتحة في الحديقة.
سألناه.
- ما بك؟
ردّ علينا.
- هذا وطني.
قلنا له.
- لكننا صنعناه معك.
ابتسم.
- اذن هذا وطننا.
بدأنا في الرقص والأناشيد.
فجأة صاح بنا أحد الأطفال.
- ماذا لو هاجَمَنا أعداءٌ آخرون؟
طالع كل منا الآخر، ثم أجاب أحدنا.
- نقضي عليهم مرة أخرى.
سأل آخر.
- وإذا جاؤوا ونحن نائمون وهدموا وطننا؟
استغرب الجميع.
- وما العمل؟
- نصنع حوله سوراً من الأحجار.
ابتهجنا لهذه الفكرة. شددنا سواعدنا للعمل، لكن الطفل الوحيد قال.
- كيف ندخل لوطننا إن أحطناه بالسور؟
أجابه الطفل صاحب الفكرة.
- نجعل للسور باباً وقفلاً، ونعطي لكل واحد منا مفتاحاً.
* * *
صار الوطن الحجري مُسَوَّراً، الآن.
صار لكل واحد منا مفتاح، يدخل به إلى الوطن متى شاء.
وبقي الأعداء عاجزين عن دخول هذا الوطن.
* * *
قبل أن نرجع إلى بيوتنا بعد هذا اليوم المليء بالعمل، تشاورنا في الاسم الذي نعلقه على باب السور.
بعد تفكير طويل، قررنا أن نكتب، على الباب، ما يلي.
"في الداخل، وطنٌ من حجر، بنيناهُ من الطين، لطفل بلا وطن، واتفقنا أن يكون لنا جميعاً".
نجمة المطر
بحثت النحلةُ الصغيرة عن زهرة في كل البساتين، لكنها لم تجد. كان الجو حاراً جداً، لذلك ذبلتْ كل الأزهار واحترقت كل أوراق الشجر.
شعرت النحلة الصغيرة باليأس، بعد هذا البحث الطويل، فقالت لنفسها.
- يجب أن أرجع إلى الخلية.
بعد أن وصلت النحلة الصغيرة إلى خليتها، وجدتها مهدّمة، ووجدت أهلها متناثرين على الأرض، وقد تكسّرت أجنحتهم، وماتوا.
حطّت النحلة الصغيرة على الأرض، وهي تشعر بحزن شديد وخوف. تنقلت بين جثث النحل، فوجدتْ نحلة عجوزاً تحتضر.
سألتها النحلة الصغيرة، بعينيها الدامعتين.
- ماذا جرى؟!
أجابت النحلة العجوز والألم الشديد يعذبها.
- لقد هاجمنا رجل غريب. هاجمنا فجأة، لذلك لم نستطع الدفاع عن أنفسنا، فقتلنا جميعاً، وهرب بالعسل.
ثم أغمضت النحلة العجوز عينيها إلى الأبد.
بكت النحلة الصغيرة كثيراً.
حاولت أن تطير لتفارق منظر أهلها الميتين، لكن الحزن منعها. شجّعت نفسها بقوة، فطارت بعد أن قبّلت خدود النحل واحدة واحدة. دارت النحلة الصغيرة في الجو، فرأت أشجار الحقل جرداء، ورأت البحيرات جافة والينابيع يابسة.
قالت النحلة الصغيرة لنفسها.
- لابد أنها أيام عطش شديد.
ثم سألت نفسها.
- ما العمل؟
* * *
صار بطن النحلة خاوياً تماماً، فليس هناك زهرة واحدة تمتص منها الرحيق ليشفي عطشها. شعرت بأنها غير قادرة على الطيران، لكنها جاهدت حتى دخلت في سماء القرية.
شاهدت وهي في سماء القرية، أطفالاً يجلسون بصمتٍ في ظل جدار.
فكّرت.
- هؤلاء أطفال مثلي، وسوف يساعدونني بالتأكيد.
طارت باتجاههم، وعندما أصبحت قريبة منهم، صاحت بهم بصوت مملوء بالعطش.
- مرحباً أصدقائي.
- مرحباً أيتها النحلة الصغيرة.
- ماذا تفعلون؟؟
- ننتظر أبانا.
- وأين أبوكم؟؟
- ذهب يبحث لنا عن ماء.
- ألا يوجد ماء في القرية؟؟
- لا.. لقد جفَّت كل آبار القرية من شدة الحر.
- ومنذ متى خرج أبوكم؟؟؟
- منذ الصباح.
- اذن، أنتم تشعرون الآن بالعطش الشديد.
- نعم. وأنت؟؟
- أنا أيضاً عطشانة، عطشانة جداً.
- انتظري حتى يأتي أبونا، فنشرب نحن، وتشربين أنتِ.
- أنا لا أشرب الماء يا أصدقاء.
- وماذا تشربين؟؟
- أشرب رحيق الأزهار.
- لكن كل الأزهار ماتت.
- أعرف. وأهلي أيضاً كلهم ماتوا. لقد قتلهم رجل غريب وهدم خليتهم ليسرق العسل الذي جمعناه من بطوننا.
- من بطونكم؟؟
- نعم. نحن عندما نمتص رحيق الأزهار، نجعله عسلاً في بطوننا، ثم نُخرجُهُ من بطوننا إلى الخلية.
- يعني أنك بدون خلية، وبدون أهل؟؟
- أجل.
- وماذا ستصنعين؟؟
- لا أدري.
فكَّر أحد الأطفال طويلاً، ثم قال.
- وجدت فكرة.
سألَتْه النحلة الصغيرة.
- وما هي؟؟
- إذا جاء أبونا بالماء نزرع لك زهرة، ونسقيها حتى تكبر. وعندما تكبر، تشربين رحيقها.
فرحت النحلة الصغيرة بهذه الفكرة، وفرح الأطفال بها أيضاً، فصاروا يتقافزون ويدورون حول النحلة الصغيرة بسعادة غامرة.
سمع الأطفال صوت أقدام أبيهم وهو يقبل من بعيد، فتراكضوا اليه. أما النحلة الصغيرة، فلقد طارت خلف الجدار خوفاً من الأب.
أحاط الأطفال أباهم الذي كان يحمل وعاءً نحاسياً.
سألوه.
- هل عثرت لنا على ماء؟؟
أجاب الأب.
- لا. لكني جلبت لكم عسلاً.
استغرب أحد الأطفال قائلاً.
- لكننا نريد ماءً، لنروي عطشنا الشديد.
ردّ الأب.
- العسل أفضل من الماء. العسل يجعلكم تكبرون بسرعة.
سأله أحد الأطفال.
- وكيف حصلت على العسل يا أبي؟؟
قال الأب.
- من خلية النحل في الحقل البعيد.
حالاً، شعر الأطفال بالحزن العميق، فلقد اكتشفوا أن أباهم هو الذي قتل أهل النحلة الصغيرة وهدم خليتهم.
حاول الأب أن يداعب الأطفال، قائلاً.
- هيا يا أحبائي. تقاسموا العسل فيما بينكم بالتساوي، أما أنا فلقد أخذت نصيبي أثناء الطريق.
* * *
بعد أن دخل الأب إلى البيت، وضع الأطفال الوعاء النحاسي بينهم، وصاروا ينظرون اليه بقلق. قال أحدهم.
- لن أشرب من هذا العسل نقطة واحدة.
وقال البقية.
- ونحن كذلك.
بادر أصغر الأطفال بالقول.
- لقد وعدنا النحلة الصغيرة بأن نزرع لها زهرة.
فكّروا جميعاً، دون جدوي، لكن الطفل الأصغر قال لهم.
- دعونا نغرس بذرة الزهرة في الأرض، ثم نسقيها بالعسل بدل الماء لكي تكبر بسرعة.
اقتنع الأطفال بالفكرة، أحضروا البذرة، غرسوها بالتراب، وصبوا كل العسل عليها. جلسوا كلهم حول البذرة حتى جاء الليل، فدخلوا ليناموا.
* * *
نام الأطفال، وهم لا يزالون يشعرون بالعطش الشديد.
في منامهم، حلموا أن الزهرة كبرت حتى وصلت أقصى السماء.
ومن أقصى السماء أحضرت الزهرة غيوماً كثيرة، وجعلتها تمطر على القرية العطشانة.
* * *
نهض الأطفال من منامهم خائفين.
ركضوا إلى الخارج، لكن السماء لم تكن تمطر.
ذهبوا إلى البذرة ليطمئنوا، فوجدوها لم تكبر، ووجدوا التراب قد امتصّ العسل الذي سكبوه على البذرة.
زاد خوفهم، وبدأ كل واحد منهم ينظر إلى الآخر بِحَيرة ويسأل سؤالاً مختلفاً.
- لماذا لم تكبر الزهرة؟؟
- ألم يقل أبونا أن العسل يجعل الأشياء تكبر بسرعة؟؟
- لماذا لا تمطر السماء، ويتحقق الحلم الذي رأيناه في المنام؟؟
فجأة، سمع الأطفال صوت سعال أبيهم. فاندفعوا إلى البيت. فتحوا باب غرفته، فوجدوه يُمسك حلقه ويسعل بشدة.
سألوه.
- ما بك يا أبي.
ردّ عليهم قائلاً.
- العسل.
- العسل؟؟
- نعم. العسل.
- العسل هو الذي يجعلك تسعل بهذا الشكل؟؟
- أجل.. العسل يا أبنائي حلو المذاق، لذلك تجرح حلاوته الحلق، فيسبب السعال، ويزيد من العطش.
أخذ يسعل أكثر، ثم قال.
- أنا عطشان جداً.. ابحثوا لي عن الماء بأية طريقة.
في الخارج تجّمع الأطفال، وهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
- كيف نجدُ الماء.
- الحمد لله أننا لم نذق العسل.
- ليت السماء تمطر الآن.
سمع الأطفال صوت أجنحة تطير فوق رؤوسهم.
طالعوا فوقهم، فوجدوا النحلة الصغيرة تتجه اليهم.
- أهلاً أيتها النحلة الصغيرة. أين كنتِ.
- أبحث عن ماء.
- وهل وجدتِ؟؟
- لا يوجد ماء في أي مكان.
- لكن أبانا سيختنق من العطش.
- يختنق؟؟
- نعم. لقد شرب..
وفكّر الأطفال، قبل أن يكمّلوا، هل يقولون للنحلة الصغيرة أن أباهم شرب عسلاً؟؟ وسوف تكتشف النحلة الصغيرة أن أباهم هو الذي هدم خلية أهلها، وقتلهم وهرب بالعسل.
ترددوا كثيراً، لكن الطفل الأصغر قال للنحلة الصغيرة، بجرأة.
- لقد شرب عسلاً.
ففهمتْ النحلة الصغيرة كل القصة.
* * *
استغرب الأطفال لأن النحلة الصغيرة لم تغضب.
سألوها.
- هل ستسببين أذىً لأبينا؟
- لا يا أصدقائي. أنا طفلة مثلكم، والأطفال لا يسببون أذىً لأحد.
- وماذا ستصنعين؟؟
- يجب أن أجد الماء لننقذ أباكم، وننقذ أنفسنا.
- لكن الزهرة لن تنمو، ولن تكبر حتى تصل أقصى السماء، وتجلب غيوماً.
فكّرت النحلة الصغيرة ثم قالت.
- أنا أستطيع الطيران، لكن لا أدري، إذا كنتُ أستطيع أن أصل أقصى السماء، أم لا؟؟
قال الأطفال بصوت واحد.
- جربي أيتها النحلة الصغيرة.. واذا وصلت أقصى السماء أحضري غيوماً كثيرة واجعليها تمطر على قريتنا.
* * *
طارت النحلة الصغيرة في السماء.
ارتفعت.. ارتفعت..، حتى وصلتْ إلى نجمةٍ صغيرةٍ، فاستراحت على ذيلها من شدة التعب.
سألت النجمة الصغيرة النحلة.
- ما بك أيتها النحلة؟
- أريد أن أصل إلى أقصى السماء.
- لماذا؟؟
- كي أحضر غيوماً.
- ولماذا تحضرين الغيوم؟
قصّت النحلة الصغيرة قصتها للنجمة الصغيرة فضحكت النجمة قائلة.
- أنا أستطيع أن أجلب لك الغيوم أيتها النحلة الطيبة، لكن بشرط.
- وما هو أيتها النجمة الصغيرة؟؟
- أن تحمليني على ظهرك وتهبطي بي مسافة قصيرة.
- ولماذا؟؟
- أنا نجمة بعيدة كما ترين، فلو هبطتِ بي لهذه المسافة، سوف أقترب من الأرض، وأشاهد الأطفال والأزهار والجبال.
- أنت تحبين الأرض؟؟
- نعم الأرض كوكب جميل، وهو أحلى الكواكب على الإطلاق.
وافقت النحلة الصغيرة على هذا الشرط. حملت النجمة الصغيرة على ظهرها، وهبطتْ بها المسافة المطلوبة.
وبعد أن نزلت النجمة الصغيرة من فوق ظهر النحلة، شكرتها، وقالت.
- هيا أيتها النحلة الصغيرة.. طيري إلى أصدقائك، وعندما تصلين اليهم، سوف أنادي مجموعة من الغيوم، وأرجوها أن تمطر فوقكم.
عندما وصلت النحلة الصغيرة إلى الأطفال، أخبرتهم بكل شيء.
حالاً، تجمّعت الغيوم في سماء القرية، وبدأ البرق يسطع والرعدُ يدّوي،فهطلت الأمطار.
* * *
شرب الأطفال. شرب أبوهم.
كبرتْ الزهرةُ، فامتصّت النحلة الصغيرة الرحيق من بين أكمامها حتى ارتوت.
وبينما كان الجميع مشغولين، طارتْ النحلة الصغيرة إلى الحقل، لتبدأ في بناء خلية جديدة لها. وقبل أن تصل إلى الحقل، سمعت صوت النجمة الصغيرة وهي تقول بأعلى صوتها.
- شكراً لك أيتها النحلة، إنني قادرة الآن على رؤية الأطفال. انهم يتطايرون من الفرح.
سنجابة القمر
أفاقَ القمرُ من نومه، فلم يجد الى جانبه صديقته النجمة. سأل الغيمةَ، فقالت له: أنا أصوّبُ عينيّ الى الأرض، فلا أرى غير البحار والأنهار والجبال. سأل الريحَ، فهزّتْ رأسها: أنا مشغولة دوماً بدفع السحب الملبّدة من بلد الى بلد، فكيف تريدني أن أفتح عينيّ؟!
وضعَ القمرُ كفَّه على خدّه، ثم سالتْ من عينهِ دمعةٌ حارّة.
هطلتْ الدمعةُ من السماء الى الأرض، فبلّلتْ وجه سنجابةٍ، كانتْ تحمل حبةً من البندق الى جحرها أعلى الشجرة.
نظرتْ السنجابةُ الى السماء، فاستغربتْ.
- الجو صحو.
حدّقتْ في القمر، فوجدتهُ يبكي.
- سألتْهُ.
- ما بك يا قمر؟!
أجابها.
- لقد فقدتُ صديقتي النجمة. لا أدري أين هي؟!
قالت السنجابةُ، وهي تنقل بصرها في السماء الواسعة.
- النجوم حولكَ كثيرة.
- تلك النجمةُ وحدها صديقتي.
فكّرت السنجابةُ ثم استدركتْ.
- ربما هي التي سقطتْ مساء أمس الى الأرض.
اندهش القمر، ثم سأل السنجابة.
- ولماذا تسقط وتتركني وحيداً؟!
- لكي تفجّر العين التي يشرب أهل القرية منها.
- وهل ستعود؟!
ترددتْ السنجابة، قبل أن تردَّ عليه.
- لا. لقد ضحّتْ صديقتكَ النجمة بحياتها، لكي توفر الماء الصافي لأهل القرية.
أخذ القمرُ يبكي بحرقة. وهنا حذّرته السنجابة.
- لا تبكِ. البكاء سيجعل وجهك شاحباً، ولن يستمتع أهل القرية بضوئك.
- لا يهمني ذلك. لقد فقدتُ صديقتي النجمة بسببهم. سوف لن أبقى في السماء.
- ماذا تقصد؟!
- سأسقط وراءها الى الأرض.
ارتعدتْ السنجابةُ خوفاً. حاولتْ أن تقنعه بالبقاء، لكنه رفض.
رأته وهو يدحرج نفسه باتجاه الأرض الى أنْ وقعَ في عين الماء.
أظلمتْ السماءُ، فحزن أهل القرية.
بحثوا عن القمر في الغابة، فدلّتهم السنجابةُ الى العين.
صاروا كلَّ ليلة، يأتونَ من مسافات بعيدة، ليشاهدوا ضوءَهُ على صفحة الماء.
ومرّت الليالي.
بدأ الأهالي يحسّون بالمشقة من زيارة القمر، فأخذوا يقلّون شيئاً فشياً، الى أن انقطعوا جميعاً.
طفلٌ واحد فقط واظب على الحضور.
كان كلَّ ليلة، يغمسُ إصبعَهُ في الماء، ثم يرسم على السماء شكلاً جميلاً يشبهُ القمر، وشكلاً آخر يشبه النجمة.
وليلةً بعد ليلة، أخذ رسمُه يزداد جمالاً وشَبَهاً للأصل.
ذاتَ مساء، رسمَ على السماء القمر، تماماً كما هو، والنجمة، تماماً كما هي.
فجأةً، سمع صوتاً خلفه.
التفتَ، فإذا القمرُ والنجمةُ يصعدان معاً، يداً بيد.
وبعد أن وصلا كبدَ السماء، استلقى الطفلُ على صدر الشجرة.
تجمّعت السناجبُ حوله، وأخذتْ تغنّي له الى أنْ نام.
القارورة
أمامَ طاولة أدوات الزينة، وقفتْ هتون، وعلى وجهها علاماتُ حيرةٍ شديدة.
همستْ قارورةُ العطر الزرقاء لنفسِها:
-ماذا يدورُ في رأسِ هذه الطفلة الجميلة؟!
شعرتْ هتون بسؤال القارورة، لكنها لم تكنْ قادرةً على تحديد مصدر الهمس. بدأت تنقلُ بصرَها بين القوارير الزجاجية المتنوّعة، التي كانت والدتها تضعها على الطاولة.
حاولتْ قارورةُ العطر أن تلفتَ انتباه هتون. زفرتْ بقوة، فانتشرتْ رائحةٌ جميلةٌ في الغرفة. شمّتْ هتون الرائحةَ، فأخذت تبحث بأنفها عن مصدرِ الرائحة. التقطتْ القارورةَ الحمراء، ثم أخذتْ تحدِّقُ فيها:
-هذا هو أنتِ يا صاحبةَ الرائحةِ الجميلة؟!
كانت القارورةُ الحمراء، ستقول:
-لا، أنا لستُ مصدرَ الرائحة.
لكنها فكَّرتْ قبل أن تجيب:
-أنا قارورةٌ مهملة، لا أحد يستخدم عطري. تلك القارورة الزرقاءُ هي التي تحظى بكل الإهتمام.
جالتْ بعينيها على القوارير، فإذا هنَّ يطالعنها باستغراب، منتظرينَ منها أن تجيبَ على سؤال هتون.
-أجل، أنا مصدرُ تلك الرائحةِ الجميلة.
حضنتْ هتون القارورةَ الحمراء، وركضتْ سعيدةً خارجَ الغرفة.
بعيونٍ حزينة، نظرتْ القواريرُ للقارورة الزرقاء، التي ظلَّتْ مبتسمةً، وهي تستمعُ لصوتِ هتون من بعيد:
-ماما، ما أجملَ تلك الرائحة.
الخزانة
لم تتحركِ القطةُ من مكانِها على الأرض، إلى جانبِ سرير ناصر.
ظلَّتْ تراقبُ البابَ المواربَ لخزانة الملابس بحذرٍ شديد، وكان ناصر يغطُّ في نومٍ عميق.
تعوّدت أمُهُ، أن تطفئَ نورَ الغرفة بمجردِ أن ينام، وأن تُبقي مصباحَ السرير مضاءً.
بعد أن تطمئن الأمُّ على إبنها وعلى قطتِهِ، تغلقُ بابَ الغرفة بهدوء، ثم تسيرُ بخفَّةٍ إلى غرفتها المجاورة.
داخلَ خزانة الملابس، كانَ المرضُ والحزنُ يتشاوران، بخبث.
همسَ المرضُ للحزن:
-سأهاجمُ جسدَ القطَّة، دون أن تشعر. وستصحو في الغد، وقد ارتفعتْ حرارتُها، وأصابها الأعياءُ والخمول.
ابتسمَ الحزنُ ابتسامةً صفراء:
-أحسنتَ يا صديقي. وحين يفيقُ ناصر، يجدُ قطتَهُ مريضةً. ويجدني، وقد انتشرتُ في مشاعره، و جعلتُهُ يشعرُ بالحزنِ والكآبة.
هزَّ المرض رأسه فرِحاً:
-ونكونُ بذلكَ قد نجحنا في أداء مهمتنا، في نشر المرضِ والحزن.
كانتِ القطةُ، تتظاهرُ بالنوم، وتنصِتُ بتركيزٍ للحوار الذي يدورُ داخل الخزانةِ، بين المرضِ والحزن.
قالتْ لنفسها:
-سأتظاهرُ أنني أتقلّبُ أثناءَ نومي، من جهةٍ إلى جهة. ثم سوف أمددُ ذراعيَّ وساقيَّ، وأنهضُ لأمشي متكاسلةً نحو الخزانة. سيظنُّ المرضُ والحزن أنني سأغير المكان الذي أنامُ عليه. لكنني، سأندفعُ داخلَ الخزانة. سأهجمُ فجأةً عليهما، وسأمزقهما بأسناني الحادة، وأرمي بجثتيهما في حاوية النفايات، ثمَّ أغلقها جيداً. سأعودُ بعدَها للنوم إلى جانب سرير ناصر، وأنتظره لكي يصحو سعيداً، لنلعبَ سوياً، بكل نشاط، طيلةَ النهار.
السلّة
في سلّة الفاكهة، كانتِ التفاحةُ تقصُّ على البرتقالة، كيفَ أسقطتْ نفسَها من الغصن، قبلَ أنْ يقطفَها الفلاح، وكانتِ البرتقالةُ تضحكُ بسعادةٍ على القصة.
-ولماذا فعلتِ ذلك؟!
-كانتْ هذه هي أيامي الأولى، وكنت أريدُ أن ألهو معه.
-وماذا حدثَ بعد ذلك؟!
-وضعني في صندوق، وباعني في السوقِ إلى صاحب هذا البيت.
-وهل سوفَ نلهو معه؟!
-لا أعرف. منذ جئنا إلى هنا، منذ مساء يوم أمس، ونحن في هذا السلّة، وسطَ المطبخ. أشرقتِ الشمسُ، ونحن لا نفعل سوى التحدث إلى بعضنا الآخر.
على الحائط، تشيرُ الساعةُ الكبيرة للسادسة.
تدخل سيدةٌ في مقتبل عمرها، وتضعُ الماءَ في الغلاية.
سألتِ التفاحةُ البرتقالة:
-أتظنينَ أنها ستلهو معنا؟!
-أتمنى ذلك. أتمنى أن تأخذنا بين يديها، وتدحرجنا على الطاولة.
-لكنها تبدو مجهدة.
تفتح السيدةُ خزانةً علوية، ثم تخرج حاويةً زجاجية صغيرة، وتركبها فوق قاعدةٍ معدنية، يتصل سلكها بالجدار. تضغط زر صغير ضغطتين، فيصدر صوت عال من داخل الحاوية لبرهة، ثم ينقطع.
-ما هذه الحاوية؟!
-كيف لي أن أعرف؟! لا أظنُّ أنها لعبة.
تتناول السيدة سكيناً معلقةً مع مجموعة من السكاكين.
-يا إلهي! إنها تتوجه إلينا؟! ما الذي تنوي عمله؟!
لم تستطع التفاحةُ أن تتحمل النظر إلى صديقتها البرتقالة، بعد أن التقتطها أصابعُ السيدة، ثم قشَّرتها، ثم وضعتها في الحاوية، وضغطت الزر.
أصابَ التفاحة الدوار.
كل ما تتذكرة الآن، أنه كان هناك كأسٌ فارغ على الطاولة، وأن السيدة بدأت تعمل في المطبخ بكل نشاط وحيوية.
فجأة، دخل رجل إلى المطبخ. شاهدته التفاحةُ وهو يقبّل السيدة على خدها، ثم يتوجه بسعادةٍ شديدة إلى السلّة.
صاح الكوكبُ الكبير بأخيه الأصغر.
- ماذا تفعل يا مجنون؟! عد إلى مدارك.
- إذا كنت تريد مرافقتي، فهيا، لا تتردد.
- أنا أيضاً مللت من هذا المدار الذي لا يتغير. كل يوم يحدث نفس الشي، تدور حول هذا النجم إلى الأبد. هو الذي يضيء ونحن الذين نعكس ضوءَه، نتعب ونتعب وهو الذي يحصل على المجد.
- هل ستأتي أم لا؟!
- أي مصير سنواجهه سيكون أفضل من هذا الدوران الذي لا ينتهي حول هذا النجم المغرور الذي يعاملنا كعبيد.
- هل ستأتي أم لا؟!
- لا، لقد تقدم بي العمر، واعتدت على هذا الحال، لن يكون بمقدوري أن أواجه المجهول.
- وداعاً إذن يا أخي الحبيب، سأتركك لهذا المدار الممل.
- انتبه لنفسك، فالرحلة ستكون شاقة، ولن نستطيع بعد ذلك العودة إلى مدارنا مرة أخرى.
* * *
أخذ الكوكب الصغير يتقافز من مكان إلى مكان في الفضاء الواسع وهو سعيد بحريته الجديدة.
- أنا الآن طليق من سجن النجوم، ومن قيود المدارات، أفعل ما يحلو لي دون أن يجلدني أحد بالسياط لكي أتحرك كما يشاء. أنا الذي أشاء، أدور حول نفسي وأغني الأناشيد التي أحبها.
* * *
كان الكوكب الصغير نائماً عندما داهمته نيازك ملتهبة.
صرخ قائد النيازك.
- أفق من نومك أيها الكوكب الصغير.
- ماذا تريدون مني؟!
- نريد أن نعرف ما الذي تفعله هنا؟!
- لقد خرجت منه.
- خرجت؟! كيف خرجت؟!
- نعم مجرم .أنت بخيانتك هذه ستخرب المدار الذي كنت تعيش فيه.
- احرقوا هذا الخائن.
- ارجوك يا سيدي، افهمني.
- أنا لم أرتكب جريمة ولا خيانة. أنا هربت من المدار الذي لا يتغير فيه أي شيء، لكي أجد حياة مشوقة في مكان آخر.
- ستتدمّر كل مدارات الفضاء اذا كان كل كوكب سيتركها لكي يجد له حياة اخرى.
- وإذا حدث ذلك، فلن يكون هناك فضاء.
- صدقني يا سيدي لن يخرب أي شيء، فذلك النجم الذي هربت من مداره لم يحس بهروبي وها هي بقية الكواكب تقوم بالدور.
- ومن قال لك ذلك؟! لقد استعان النجم بنا لكي نعيدك له.
- وهل تعملون له؟!
- نحن جنوده، نحن الشرطة التي تحميه.
- إذن ستحرقونني.
صاح القائد بجنوده النيازك.
- اتبعوا هذا الخائن.
عادت النيازك إلى القائد مطأطأة رؤوسها، فصرخ بهم.
- أين هو؟!
- يا ويلنا من النجم ماذا سنقول له؟!
- لقد استطاع هذا الكوكب الصغير أن يهزمني أنا وجنودي ولن تكون لي ولكم حياة بعد هذا العار.
- ماذا تقصد يا سيدي القائد؟!
- سنسقط جميعاً إلى الأرض. أجل سنسقط، لم يعد لنا مكان في هذا الفضاء بعد هذه الهزيمة.
ومن مسافة بعيدة، كان الكوكب الصغير يراقب ما يحدث بسعادة وفرح.
- لقد تخلصت الآن من شرطة النجم.
- أما أنت أيها النجم، فلي معك ومع غيرك من النجوم شأن آخر.
* * *
صار الكوكب الصغير يسافر في الفضاء من مدار إلى مدار يروي قصته للكواكب الصغيرة التي تكره مداراتها.
ومن كل مدار، كان الكوكب الصغير يُقنع كوكباً أو كوكبين إلى أن صار له جيشاً من الكواكب. ولأن الكوكب الصغير يحب الحرية ويكره العبودية، فلقد قال لأصدقائه.
- أنا لا أريد أن أكون قائداً لكم، ولا أريد أن أوجه لكم الأوامر، أنتم الآن أحرار، فانتشروا كما تشاؤون في أي بقعة تحبونها في هذا الفضاء الجميل..
* * *
في ليلة صافية، طالع الطفل الفضاء، فسأل أباه.
- أبي انظر، هناك نجوم صغيرة تتلألأ إلى جانب بعضها في أماكن كثيرة من السماء.
- إنها ليست نجوماً بل كواكب.
- أحسها يا أبي سعيدة، تغني معاً أناشيد جميلة، ليتني أستطيع سماعها.
المـــاء
شعرَتْ الوردةُ بالتعب، فاستندتْ بغصنها على فرع الشجرة، التي قالت لها.
- تماسكي يا صديقتي الوردة، سوف يتذكر صاحب البيت أنه لم يسقِنا.
- نحن لم نرهُ يخرج إلى الحديقة منذ بداية الأسبوع. ماذا يفعل كل هذا الوقت داخل البيت؟!
- ربما هو مريض. لقد سافرت زوجته وأطفاله قبل أسبوعين لقضاء إجازة الصيف خارج المدينة.
- وما العمل؟! يجب أن نفعل شيئاً لننقذه.
وبعد أن انتعشتا ازدانت أغصان الشجرة بالخضرة وتفتّحت أكمام الوردة.
قالت الشجرة.
- الآن ستُقبل عليّ النحل.
- أيتها العصافير، صاحبُ البيتِ مريضٌ ويجب أن ننقذه.
- سندخل إلى البيت، ونرى ماذا أصاب الرجل.
صاحتْ نحلةٌ.
- انه لا يزال يتنفس.
قالت الشجرة للعصافير.
- حان دوركم.
- أمركِ أيتها الشجرة.
استغرب أحد المارة.
- لماذا تتجمع العصافير بهذا الشكل؟!!
فهم الرجل قصد العصافير، فطرق الباب، كلن لم يجبه أحد.
طالع العصافير التي ظلت ترفرف بأجنحتها بقوة.
استعان الرجل برجال آخرين، قائلاً.
- هنالك مشكلة داخل السور. ساعدوني.
اندفعوا إلى داخل الحديقة، والعصافير والنحل تحلق فوق رؤوسهم.
قالت الشجرة للوردة.
- لقد نجحنا.
- سيَهلك الرجل ان لم نأخذه الآن إلى المستشفى.
كان في الشارع طفل يراقب كل ما كان يحدث.
أطلّ برأسه من خلف الباب.
نظر إلى الشجرة وإلى الوردة بإعجاب شديد.
مشى بخوف إلى صنبور الماء. فتحه، فابتلّت التربة. صار يلاحق النحل والعصافير في الحديقة ويلعب معها بفرح شديد.
بعد أن تعب من اللعب، أغلق صنبور الماء وخرج من المنزل، لكنه لم ينسَ ان يغلق باب السور.
جواز السفر
دخل أبي إلى البيت، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وفي يده دفترٌ أخضر صغير وثلاث تذاكر.
سألته أمي.
- اذاً، هذه هي المفاجأة؟!
- أجل. سوف نقضي إجازتنا الصيفية في مصر.
التقطتُ الدفتر الأخضر، وأخذت أتفحصه.
- ما هذا يا بابا؟!
- جواز السفر هو وثيقة تحمل صورتي وصورة أمك وصورتكِ. ويجب أن أحمله معي حين نسافر خارج بلادنا.
- حتى بلادنا تمنعنا من السفر خارجها بلا جواز.
* * *
في المطار، كنت سعيدة جداً، لم أنسَ أن آخذ معي دميتي الصغيرة لكي تستمع معي برؤية الإهرامات ونهر النيل.
أنا أحب مصر كثيراً، معلمة مادة الرياضيات في مدرستي مصرية وزميل أبي في الشركة مصري وسائق صديقتي مصري والمسلسلة التي أحبها في التلفزيون مصرية. لقد شاهدت الأهرام والنيل في هذه المسلسلة، وسأفرح أنا ودميتي حين نراها على الطبيعة.
- هيا يا حبيبتي.
أعطاه أبي الدفتر الأخضر، فأخذ يتفحصه.
- إلى أين ستسافرون؟!
- إلى القاهرة.
بعد أن كتب بعض المعلومات على جهاز الكمبيوتر، طبع شيئاً أزرق على ورقة من أوراق الجواز، ثم ناوله أبي.
- رحلة سعيدة.
* * *
حطّت الطائرة على أرض مطار القاهرة.
وقفنا في صف طويل، فسألتُ أبي.
- لماذا نقف في هذا الصف؟!
- بابا. هل سيقبلون أن تدخل دميتي بلا جواز؟!
- أرجو ألاَّ يفعلوا ذلك.
- انتظر هناك.
مضى وقت طويل ونحن جالسون، وكان أبي متضايقاً جداً.
قال له أحد الجالسين على المقعد بلهجة غير لهجتنا وغير لهجة المصريين.
- لا تتضايق. سوف يسمحون لك بالدخول ولكنهم يتحققون في أمر بعض الجوازات.
لكن أبي لم يضحك.
* * *
في سيارة الأجرة، التَفتَ أليَّ أبي من المعقد الأمامي، ثم قال بجدية.
- أرأيت يا حبيبتي، لم يسألوا عن جواز دميتكِ، ولم يشكّوا أبداً في أمرها.
لم أعرف لماذا كانوا يضحكون، لكنني ضحكت معهم.
الجسد
1=2
وجدتُ هذه المعادلة الحسابية على ورقة بيضاء فوق طاولة مكتب أبي فاستغربت كثيراً.
- كيف واحد يساوي اثنين؟! ألا يعرف بابا الحساب؟!
تركت الورقة على الطاولة وخرجت من الغرفة إلى الحديقة، وهناك صرت أفكر بالعملية الحسابية وبالأشياء التي تحيط بي.
عصفور + عصفور = عصفوران
شجرة + شجرة = شجرتان
تفاحة + تفاحة = تفاحتان
وردة + وردة = وردتان
ولا يمكن أبداً أن يكون العصفورُ الواحد عصفورين، والشجرة الواحدة شجرتين، والتفاحة الواحدة تفاحتين، والوردة الواحدة وردتين.
قلت لنفسي.
- لابد أن أسأل أمي لكي أتأكد.
- ماما.. أريد أن أسألك سؤالاً.
- وما هو يا غادة؟!
- لا أدري يا ابنتي، اسأليه أنتِ.
* * *
يعمل أبي طبيباً في المستشفى ويعالج الأطفال الذين يتألمون. انه يأخذهم إلى غرفة العمليات ويزيل الآلام من بطونهم. الأطفال الذين يتألمون في المستشفى الذي يعمل فيه بابا كثيرون، لذلك لا أراه إلاّ نادراً، كلما أعاتبه، يقول لي.
- هؤلاء الأطفال أحبهم مثلما أحبك يا غادة، ويجب أن أجري لهم العمليات لكي تُشفى آلامهم.
وحين أقص خيالاتي على أمي، تضمني بقوة وتقول لي.
- أبوك فخور بك، مثلما أنت فخورة به.
* * *
في المساء سمعت مفاتيح أبي وهي تفتح الباب، فركضت اليه. ضمني إلى صدره طويلاً، ووجدتها فرصة لأهمس في أذنه.
- لماذا أنت ضعيف في الحساب؟!
- أنا؟!
- هل صحيح أن واحداً يساوي اثنين؟!
- أجل.
- بالأمس أنجبت أمٌ توأمتين، لكن جسدهما كان واحداً.
وسألني أبي.
- كم طفلة ترين في الصورة؟!
- طفلتان.
- هل لا أزال ضعيفاً في الحساب؟!
- لا تقلقي يا غادة.. سوف يعينني الله أن أجعل لهما جسدين منفصلين.
*الإهداء : إلى غادة بنت عبدالله الربيعة ، التي حضرتْ حفل نجاح أبيها في فصل أول توأمتين سياميتين ملتصقتين، عام 1992 م
الذكرى
عندما أشرقت الشمس، أفاق جدارُ الفصل من النوم. كانت عيناه مجهدتان، فهو لم ينم جيداً ليلة البارحة.
كان يفكر.
- غداً سيتركني الأطفال، وسأغدو وحيداً بلا صديق سوى هذه المقاعد الفارغة.
- لماذا أنت حزين هكذا؟! هؤلاء الأطفال سيتركوننا لكي يستمتعوا بإجازة المدرسة، وسوف يعودون لنا بعد أن تنتهي.
- أنا لا أستطيع تحمل فراقهم طيلة الإجازة.
- هل تريد أن تحرمهم من اجازتهم؟!
- لا، أبداً. لكنني لا أدري ما أفعل؟! هؤلاء الأطفال يملأونني بنجوم اجتهادهم. أصابعهم هي الأزهار التي تفوح في الفصل، وقلوبهم هي الشمس التي تضيء دوماً، فكيف تريدني أيها المقعد أن أتحمل فراقهم.
- لديّ فكرة.
- وما هي؟!
* * *
دخلت المعلمة، وقبل أن تبدأ بترتيب الأوراق على طاولتها، قال لها المقعد.
- صباح الخير يا سيدتي.
- صباح الخير أيها المقعد.
ثم سألها.
- هل تستطيعين أن تحلّي مشكلة الجدار؟!
- الجدار؟ وما مشكلته؟!
- لابد أيها الجدار أن يرتاح الأطفال من عناء الدراسة.. الإجازة هي حق من حقوقهم.
- أعرف ذلك يا سيدتي، ولكنني لا أستطيع فراقهم.
- لابد أن نجد حلاً أيها الجدار.
جلس كل طفل على مقعده ثم قالوا معاً.
- صباح الخير أيتها المعلمة الغالية.
- صباح الخير يا حلوين.
- أريد أن أقصَّ عليكم قصة، وأريدكم أن تساعدوني في إيجاد نهاية لها.
- هاه.. من يضع النهاية لحزن الجدار؟!
- لماذا لا نحضر لوحاً كبيراً ونرسم عليه ولداً وبنتاً ثم نعلقه على صدر الجدار، وهكذا سيتذكرنا دائماً؟!
- فكرة رائعة.. ما رأيك أيها الجدار؟!
- أجل إنها فكرة رائعة ولكنني أريد أن أرى وجوههم كلهم.
- كل صورهم.. كل صورهم.
* * *
بدأت الإجازة الصيفية، وأصبح الفصل فارغاً إلاّ من المقاعد والجدار.
على الجدار كانت هناك لوحة كبيرة عليها صور كل الأطفال.
أصابع البيت
حاولت "أبرار" أن تمنع نفسها عن البكاء، لكنها لم تستطع. كانت عيناها تذرفان الدموع والخوف.
قالت لها امها.
- يجب ان تبقي في البيت.
- أنا خائفة.
قالت الام.
- ممَ تخافين؟؟ باب البيت سيكون مغلقاً، واخوك سيبقى معك.
كانت "أبرار" ستبكي بعد خروج أمها، لكنها تذكرت.
- ممَ أخاف؟؟
* * *
صارت "أبرار" تسمع صوت أخيها يلعب في صالة البيت، ثم صارت تذاكر دروسها.
بعد أن انتهت من أداء كل واجباتها المدرسية، رتّبت دفاترها وكتبها، ثم وضعهتا داخل حقيبتها الجلدية.
خرجت من الغرفة. بحثت عن أخيها، فلم تجده في الصالة.
فتحت باب غرفته، فوجدته غارقاً في المذاكرة.
رجعت إلى غرفتها، وأغلقت الباب.
* * *
من درج مكتبها، أخرجت "أبرار" ورقة بيضاء، وعلبة تلوين.
قالت لنفسها.
- سوف أرسم.
- هذه هي الارض.
قالت.
- هذا بيتنا، وهذه انا.
- هذه هي السماء.
كانت السماء صافية،و الليل يطرق على الستائر.
صارت "أبرار" تراقب نجمةً صغيرة.
صارت تراقبها وهي تزيد في الضوء شيئاً فشيئاً.
لما تحولت السماء إلى ليل كامل، اخذت النجمة الصغيرة تلمع بشدة، وإلى جانبها نجوم كثيرة أكبر منها، تلمع مثلها وأكثر منها.
* * *
سألت "أبرار" النجمة الصغيرة.
- أين أمك؟؟
- كل نجمة، هي أمي.
- وهل تبقين وحيدة اذا ذهبت أمك؟؟
- نحن نذهب سوياً، ونأتي سوياً.
- متى تذهبون؟؟
- اذا أشرقت الشمس نغيب، واذا غابت الشمس نشرق.
- أين تغيبون؟؟
- في السماء.
- السماء لكم او للشمس؟؟
- السماء لنا جميعاً.
* * *
اسلتقت "أبرار" على سريرها الصغير.
تخيلت أنها نجمة صغيرة، وأنها لما أشرقت الشمس غابت.
* * *
نهضت "أبرار" من فراشها مرتبكة.
ركضت إلى طاولتها، ورأت على الورقة الرسم الذي رسمته للأرض باللون الاصفر، والبيت بداخله طفلة وحيدة، والسماء الصافية الزرقاء.
صارت تشاهد البيت مرة والسماء مرةً.
التقطت أصابع التلوين، ورسمت داخل البيت أطفالاً كثيرين، وفي السماء، رسمت شمساً ونجمة.
الخطوات
جدتي مشلولة.
منذ أن تفتحتْ عيناي على الدنيا، وهي تستلقي على فراشٍ قطني، في ركن غرفة صغيرة بجوار غرفة أمي.
أمي تعتني بجدتي كثيراً.
أنا أحب جدتي وهي تحبني وتحب أخي وتحب أمي.
جدتي تستيقظ في الصباح الباكر. تصلي في مكانها. وبعد أن تشرق الشمس، تنادي أمي بصوت عالٍ ومبحوح.
- يا موضي، يا موضي.
قبل أن أخرج أنا وأخي إلى المدرسة، تقرأ آية الكرسي وتجعلنا نردد الكلمات خلفها، وبعد أن نعود تضمنا إلى صدرها وتسألنا.
- كيف المدرسة؟!
هي لم تدخل مدرسة في حياتها، لكنها تحب أن "تسمّع" لي دروسي. أرى على وجهها غيمةً بيضاء من الفرح عندما أكون حافظة درسي.
تأخذني إلى حضنها وتمسح على شعري وتقول.
- أتمنى أن أراكِ وقد تخرّجت من الجامعة.
- إذاً تشاجرتما ثانية، لن أسمح لكما بدخول غرفتي.
"كان من أشجع الرجال. يحب أهل قريته المزارعين ويحبونه. كانوا يجتمعون في بيته كل مساء ويتدفأون بكرمه. لم تكن الإبتسامة تفارق وجهه. ينصر المظلوم ويحارب الظالم حتى يهزمه. لم يرفع صوته يوماً عليَّ. وعندما استلقى على فراش الموت، نظر في عيني قائلاً؛ سامحيني".
كل الحكايات التي تحكيها جدتي كانت عن جدي، وكنا نحبها ونتلهف لسماعها. كيف خنق ذئباً بيديه، كيف مشى على قدميه من القرية إلى المدينة ليجلب دواءً لمريض، كيف امتنع عن الطعام والشراب ثلاثة أيام عندما مرضت أمه، كيف دفع كل ما يملك من مال ليخرج صديقاً له من الحبس، وكيف كان يحرص على تحفيظ أهل القرية القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمعلقات الشعرية.
في بيتنا سراج واحد، هو جدتي،
جدتي المشلولة، التي تمشي كل يوم في قلوبنا بخطواتٍ لا يستطيع أحدٌ في الدنيا أن يمشيها.
الســور
كنتُ ألعبُ أنا وأصدقائي في الحديقة، حين رأينا طفلاً حزيناً يجلس وحيداً.
اقتربنا منه ثم سألناه.
- لماذا أنت حزين؟
- أنتم تلعبون في وطنكم. أما أنا فلا أعرف طعم وطني.
- لقد سرقه الأعداء.
- كيف نعيدُ لهذا الطفل وطنه المسروق؟!
فرح به، ثم بدأنا في البناء.
* * *
اكتمل الوطن، واكتمل الأعداء.
ابتعدنا قليلاً إلى الوراء، ثم جعلنا أيادينا تشتبك في دائرة واسعة، وهجمنا سوياً على الأعداء الصلصال.
غسلنا أيادينا بماء النهر العذب، ثم عدنا إلى الوطن الذي صنعناه من الطين.
صرخنا فرحين عندما وجدناه، قد جفّ، فصار حجراً.
طالعنا وجه الطفل الوحيد، فإذا هو ورديٌّ مثل لون الأزهار المتفتحة في الحديقة.
سألناه.
- ما بك؟
- هذا وطني.
- لكننا صنعناه معك.
- اذن هذا وطننا.
فجأة صاح بنا أحد الأطفال.
- ماذا لو هاجَمَنا أعداءٌ آخرون؟
- نقضي عليهم مرة أخرى.
- وإذا جاؤوا ونحن نائمون وهدموا وطننا؟
- وما العمل؟
- كيف ندخل لوطننا إن أحطناه بالسور؟
- نجعل للسور باباً وقفلاً، ونعطي لكل واحد منا مفتاحاً.
* * *
صار الوطن الحجري مُسَوَّراً، الآن.
صار لكل واحد منا مفتاح، يدخل به إلى الوطن متى شاء.
وبقي الأعداء عاجزين عن دخول هذا الوطن.
* * *
قبل أن نرجع إلى بيوتنا بعد هذا اليوم المليء بالعمل، تشاورنا في الاسم الذي نعلقه على باب السور.
بعد تفكير طويل، قررنا أن نكتب، على الباب، ما يلي.
"في الداخل، وطنٌ من حجر، بنيناهُ من الطين، لطفل بلا وطن، واتفقنا أن يكون لنا جميعاً".
نجمة المطر
بحثت النحلةُ الصغيرة عن زهرة في كل البساتين، لكنها لم تجد. كان الجو حاراً جداً، لذلك ذبلتْ كل الأزهار واحترقت كل أوراق الشجر.
شعرت النحلة الصغيرة باليأس، بعد هذا البحث الطويل، فقالت لنفسها.
- يجب أن أرجع إلى الخلية.
حطّت النحلة الصغيرة على الأرض، وهي تشعر بحزن شديد وخوف. تنقلت بين جثث النحل، فوجدتْ نحلة عجوزاً تحتضر.
سألتها النحلة الصغيرة، بعينيها الدامعتين.
- ماذا جرى؟!
- لقد هاجمنا رجل غريب. هاجمنا فجأة، لذلك لم نستطع الدفاع عن أنفسنا، فقتلنا جميعاً، وهرب بالعسل.
بكت النحلة الصغيرة كثيراً.
حاولت أن تطير لتفارق منظر أهلها الميتين، لكن الحزن منعها. شجّعت نفسها بقوة، فطارت بعد أن قبّلت خدود النحل واحدة واحدة. دارت النحلة الصغيرة في الجو، فرأت أشجار الحقل جرداء، ورأت البحيرات جافة والينابيع يابسة.
قالت النحلة الصغيرة لنفسها.
- لابد أنها أيام عطش شديد.
- ما العمل؟
* * *
صار بطن النحلة خاوياً تماماً، فليس هناك زهرة واحدة تمتص منها الرحيق ليشفي عطشها. شعرت بأنها غير قادرة على الطيران، لكنها جاهدت حتى دخلت في سماء القرية.
شاهدت وهي في سماء القرية، أطفالاً يجلسون بصمتٍ في ظل جدار.
فكّرت.
- هؤلاء أطفال مثلي، وسوف يساعدونني بالتأكيد.
- مرحباً أصدقائي.
- وجدت فكرة.
- وما هي؟؟
سمع الأطفال صوت أقدام أبيهم وهو يقبل من بعيد، فتراكضوا اليه. أما النحلة الصغيرة، فلقد طارت خلف الجدار خوفاً من الأب.
أحاط الأطفال أباهم الذي كان يحمل وعاءً نحاسياً.
سألوه.
- هل عثرت لنا على ماء؟؟
- لا. لكني جلبت لكم عسلاً.
- لكننا نريد ماءً، لنروي عطشنا الشديد.
- العسل أفضل من الماء. العسل يجعلكم تكبرون بسرعة.
- وكيف حصلت على العسل يا أبي؟؟
- من خلية النحل في الحقل البعيد.
حاول الأب أن يداعب الأطفال، قائلاً.
- هيا يا أحبائي. تقاسموا العسل فيما بينكم بالتساوي، أما أنا فلقد أخذت نصيبي أثناء الطريق.
* * *
بعد أن دخل الأب إلى البيت، وضع الأطفال الوعاء النحاسي بينهم، وصاروا ينظرون اليه بقلق. قال أحدهم.
- لن أشرب من هذا العسل نقطة واحدة.
- ونحن كذلك.
- لقد وعدنا النحلة الصغيرة بأن نزرع لها زهرة.
- دعونا نغرس بذرة الزهرة في الأرض، ثم نسقيها بالعسل بدل الماء لكي تكبر بسرعة.
* * *
نام الأطفال، وهم لا يزالون يشعرون بالعطش الشديد.
في منامهم، حلموا أن الزهرة كبرت حتى وصلت أقصى السماء.
ومن أقصى السماء أحضرت الزهرة غيوماً كثيرة، وجعلتها تمطر على القرية العطشانة.
* * *
نهض الأطفال من منامهم خائفين.
ركضوا إلى الخارج، لكن السماء لم تكن تمطر.
ذهبوا إلى البذرة ليطمئنوا، فوجدوها لم تكبر، ووجدوا التراب قد امتصّ العسل الذي سكبوه على البذرة.
زاد خوفهم، وبدأ كل واحد منهم ينظر إلى الآخر بِحَيرة ويسأل سؤالاً مختلفاً.
- لماذا لم تكبر الزهرة؟؟
سألوه.
- ما بك يا أبي.
- العسل.
- أنا عطشان جداً.. ابحثوا لي عن الماء بأية طريقة.
- كيف نجدُ الماء.
طالعوا فوقهم، فوجدوا النحلة الصغيرة تتجه اليهم.
- أهلاً أيتها النحلة الصغيرة. أين كنتِ.
ترددوا كثيراً، لكن الطفل الأصغر قال للنحلة الصغيرة، بجرأة.
- لقد شرب عسلاً.
* * *
استغرب الأطفال لأن النحلة الصغيرة لم تغضب.
سألوها.
- هل ستسببين أذىً لأبينا؟
- أنا أستطيع الطيران، لكن لا أدري، إذا كنتُ أستطيع أن أصل أقصى السماء، أم لا؟؟
- جربي أيتها النحلة الصغيرة.. واذا وصلت أقصى السماء أحضري غيوماً كثيرة واجعليها تمطر على قريتنا.
* * *
طارت النحلة الصغيرة في السماء.
ارتفعت.. ارتفعت..، حتى وصلتْ إلى نجمةٍ صغيرةٍ، فاستراحت على ذيلها من شدة التعب.
سألت النجمة الصغيرة النحلة.
- ما بك أيتها النحلة؟
- أنا أستطيع أن أجلب لك الغيوم أيتها النحلة الطيبة، لكن بشرط.
وبعد أن نزلت النجمة الصغيرة من فوق ظهر النحلة، شكرتها، وقالت.
- هيا أيتها النحلة الصغيرة.. طيري إلى أصدقائك، وعندما تصلين اليهم، سوف أنادي مجموعة من الغيوم، وأرجوها أن تمطر فوقكم.
حالاً، تجمّعت الغيوم في سماء القرية، وبدأ البرق يسطع والرعدُ يدّوي،فهطلت الأمطار.
* * *
شرب الأطفال. شرب أبوهم.
كبرتْ الزهرةُ، فامتصّت النحلة الصغيرة الرحيق من بين أكمامها حتى ارتوت.
وبينما كان الجميع مشغولين، طارتْ النحلة الصغيرة إلى الحقل، لتبدأ في بناء خلية جديدة لها. وقبل أن تصل إلى الحقل، سمعت صوت النجمة الصغيرة وهي تقول بأعلى صوتها.
- شكراً لك أيتها النحلة، إنني قادرة الآن على رؤية الأطفال. انهم يتطايرون من الفرح.
سنجابة القمر
أفاقَ القمرُ من نومه، فلم يجد الى جانبه صديقته النجمة. سأل الغيمةَ، فقالت له: أنا أصوّبُ عينيّ الى الأرض، فلا أرى غير البحار والأنهار والجبال. سأل الريحَ، فهزّتْ رأسها: أنا مشغولة دوماً بدفع السحب الملبّدة من بلد الى بلد، فكيف تريدني أن أفتح عينيّ؟!
وضعَ القمرُ كفَّه على خدّه، ثم سالتْ من عينهِ دمعةٌ حارّة.
هطلتْ الدمعةُ من السماء الى الأرض، فبلّلتْ وجه سنجابةٍ، كانتْ تحمل حبةً من البندق الى جحرها أعلى الشجرة.
نظرتْ السنجابةُ الى السماء، فاستغربتْ.
- الجو صحو.
حدّقتْ في القمر، فوجدتهُ يبكي.
- سألتْهُ.
- ما بك يا قمر؟!
أجابها.
- لقد فقدتُ صديقتي النجمة. لا أدري أين هي؟!
قالت السنجابةُ، وهي تنقل بصرها في السماء الواسعة.
- النجوم حولكَ كثيرة.
- تلك النجمةُ وحدها صديقتي.
فكّرت السنجابةُ ثم استدركتْ.
- ربما هي التي سقطتْ مساء أمس الى الأرض.
اندهش القمر، ثم سأل السنجابة.
- ولماذا تسقط وتتركني وحيداً؟!
- لكي تفجّر العين التي يشرب أهل القرية منها.
- وهل ستعود؟!
ترددتْ السنجابة، قبل أن تردَّ عليه.
- لا. لقد ضحّتْ صديقتكَ النجمة بحياتها، لكي توفر الماء الصافي لأهل القرية.
أخذ القمرُ يبكي بحرقة. وهنا حذّرته السنجابة.
- لا تبكِ. البكاء سيجعل وجهك شاحباً، ولن يستمتع أهل القرية بضوئك.
- لا يهمني ذلك. لقد فقدتُ صديقتي النجمة بسببهم. سوف لن أبقى في السماء.
- ماذا تقصد؟!
- سأسقط وراءها الى الأرض.
ارتعدتْ السنجابةُ خوفاً. حاولتْ أن تقنعه بالبقاء، لكنه رفض.
رأته وهو يدحرج نفسه باتجاه الأرض الى أنْ وقعَ في عين الماء.
أظلمتْ السماءُ، فحزن أهل القرية.
بحثوا عن القمر في الغابة، فدلّتهم السنجابةُ الى العين.
صاروا كلَّ ليلة، يأتونَ من مسافات بعيدة، ليشاهدوا ضوءَهُ على صفحة الماء.
ومرّت الليالي.
بدأ الأهالي يحسّون بالمشقة من زيارة القمر، فأخذوا يقلّون شيئاً فشياً، الى أن انقطعوا جميعاً.
طفلٌ واحد فقط واظب على الحضور.
كان كلَّ ليلة، يغمسُ إصبعَهُ في الماء، ثم يرسم على السماء شكلاً جميلاً يشبهُ القمر، وشكلاً آخر يشبه النجمة.
وليلةً بعد ليلة، أخذ رسمُه يزداد جمالاً وشَبَهاً للأصل.
ذاتَ مساء، رسمَ على السماء القمر، تماماً كما هو، والنجمة، تماماً كما هي.
فجأةً، سمع صوتاً خلفه.
التفتَ، فإذا القمرُ والنجمةُ يصعدان معاً، يداً بيد.
وبعد أن وصلا كبدَ السماء، استلقى الطفلُ على صدر الشجرة.
تجمّعت السناجبُ حوله، وأخذتْ تغنّي له الى أنْ نام.
القارورة
أمامَ طاولة أدوات الزينة، وقفتْ هتون، وعلى وجهها علاماتُ حيرةٍ شديدة.
همستْ قارورةُ العطر الزرقاء لنفسِها:
-ماذا يدورُ في رأسِ هذه الطفلة الجميلة؟!
شعرتْ هتون بسؤال القارورة، لكنها لم تكنْ قادرةً على تحديد مصدر الهمس. بدأت تنقلُ بصرَها بين القوارير الزجاجية المتنوّعة، التي كانت والدتها تضعها على الطاولة.
حاولتْ قارورةُ العطر أن تلفتَ انتباه هتون. زفرتْ بقوة، فانتشرتْ رائحةٌ جميلةٌ في الغرفة. شمّتْ هتون الرائحةَ، فأخذت تبحث بأنفها عن مصدرِ الرائحة. التقطتْ القارورةَ الحمراء، ثم أخذتْ تحدِّقُ فيها:
-هذا هو أنتِ يا صاحبةَ الرائحةِ الجميلة؟!
كانت القارورةُ الحمراء، ستقول:
-لا، أنا لستُ مصدرَ الرائحة.
لكنها فكَّرتْ قبل أن تجيب:
-أنا قارورةٌ مهملة، لا أحد يستخدم عطري. تلك القارورة الزرقاءُ هي التي تحظى بكل الإهتمام.
جالتْ بعينيها على القوارير، فإذا هنَّ يطالعنها باستغراب، منتظرينَ منها أن تجيبَ على سؤال هتون.
-أجل، أنا مصدرُ تلك الرائحةِ الجميلة.
حضنتْ هتون القارورةَ الحمراء، وركضتْ سعيدةً خارجَ الغرفة.
بعيونٍ حزينة، نظرتْ القواريرُ للقارورة الزرقاء، التي ظلَّتْ مبتسمةً، وهي تستمعُ لصوتِ هتون من بعيد:
-ماما، ما أجملَ تلك الرائحة.
الخزانة
لم تتحركِ القطةُ من مكانِها على الأرض، إلى جانبِ سرير ناصر.
ظلَّتْ تراقبُ البابَ المواربَ لخزانة الملابس بحذرٍ شديد، وكان ناصر يغطُّ في نومٍ عميق.
تعوّدت أمُهُ، أن تطفئَ نورَ الغرفة بمجردِ أن ينام، وأن تُبقي مصباحَ السرير مضاءً.
بعد أن تطمئن الأمُّ على إبنها وعلى قطتِهِ، تغلقُ بابَ الغرفة بهدوء، ثم تسيرُ بخفَّةٍ إلى غرفتها المجاورة.
داخلَ خزانة الملابس، كانَ المرضُ والحزنُ يتشاوران، بخبث.
همسَ المرضُ للحزن:
-سأهاجمُ جسدَ القطَّة، دون أن تشعر. وستصحو في الغد، وقد ارتفعتْ حرارتُها، وأصابها الأعياءُ والخمول.
ابتسمَ الحزنُ ابتسامةً صفراء:
-أحسنتَ يا صديقي. وحين يفيقُ ناصر، يجدُ قطتَهُ مريضةً. ويجدني، وقد انتشرتُ في مشاعره، و جعلتُهُ يشعرُ بالحزنِ والكآبة.
هزَّ المرض رأسه فرِحاً:
-ونكونُ بذلكَ قد نجحنا في أداء مهمتنا، في نشر المرضِ والحزن.
كانتِ القطةُ، تتظاهرُ بالنوم، وتنصِتُ بتركيزٍ للحوار الذي يدورُ داخل الخزانةِ، بين المرضِ والحزن.
قالتْ لنفسها:
-سأتظاهرُ أنني أتقلّبُ أثناءَ نومي، من جهةٍ إلى جهة. ثم سوف أمددُ ذراعيَّ وساقيَّ، وأنهضُ لأمشي متكاسلةً نحو الخزانة. سيظنُّ المرضُ والحزن أنني سأغير المكان الذي أنامُ عليه. لكنني، سأندفعُ داخلَ الخزانة. سأهجمُ فجأةً عليهما، وسأمزقهما بأسناني الحادة، وأرمي بجثتيهما في حاوية النفايات، ثمَّ أغلقها جيداً. سأعودُ بعدَها للنوم إلى جانب سرير ناصر، وأنتظره لكي يصحو سعيداً، لنلعبَ سوياً، بكل نشاط، طيلةَ النهار.
السلّة
في سلّة الفاكهة، كانتِ التفاحةُ تقصُّ على البرتقالة، كيفَ أسقطتْ نفسَها من الغصن، قبلَ أنْ يقطفَها الفلاح، وكانتِ البرتقالةُ تضحكُ بسعادةٍ على القصة.
-ولماذا فعلتِ ذلك؟!
-كانتْ هذه هي أيامي الأولى، وكنت أريدُ أن ألهو معه.
-وماذا حدثَ بعد ذلك؟!
-وضعني في صندوق، وباعني في السوقِ إلى صاحب هذا البيت.
-وهل سوفَ نلهو معه؟!
-لا أعرف. منذ جئنا إلى هنا، منذ مساء يوم أمس، ونحن في هذا السلّة، وسطَ المطبخ. أشرقتِ الشمسُ، ونحن لا نفعل سوى التحدث إلى بعضنا الآخر.
على الحائط، تشيرُ الساعةُ الكبيرة للسادسة.
تدخل سيدةٌ في مقتبل عمرها، وتضعُ الماءَ في الغلاية.
سألتِ التفاحةُ البرتقالة:
-أتظنينَ أنها ستلهو معنا؟!
-أتمنى ذلك. أتمنى أن تأخذنا بين يديها، وتدحرجنا على الطاولة.
-لكنها تبدو مجهدة.
تفتح السيدةُ خزانةً علوية، ثم تخرج حاويةً زجاجية صغيرة، وتركبها فوق قاعدةٍ معدنية، يتصل سلكها بالجدار. تضغط زر صغير ضغطتين، فيصدر صوت عال من داخل الحاوية لبرهة، ثم ينقطع.
-ما هذه الحاوية؟!
-كيف لي أن أعرف؟! لا أظنُّ أنها لعبة.
تتناول السيدة سكيناً معلقةً مع مجموعة من السكاكين.
-يا إلهي! إنها تتوجه إلينا؟! ما الذي تنوي عمله؟!
لم تستطع التفاحةُ أن تتحمل النظر إلى صديقتها البرتقالة، بعد أن التقتطها أصابعُ السيدة، ثم قشَّرتها، ثم وضعتها في الحاوية، وضغطت الزر.
أصابَ التفاحة الدوار.
كل ما تتذكرة الآن، أنه كان هناك كأسٌ فارغ على الطاولة، وأن السيدة بدأت تعمل في المطبخ بكل نشاط وحيوية.
فجأة، دخل رجل إلى المطبخ. شاهدته التفاحةُ وهو يقبّل السيدة على خدها، ثم يتوجه بسعادةٍ شديدة إلى السلّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق