كتاب الشتات‎


الأبطال

 فُتحتْ الأبواب دفعة واحدة، فاندفعت جموع الناس الى المدرجات، يسابق كل منهم الآخر في فورة طاغية، غير عابئين بمن تعثر او بمن صاح بهم لكي يسلكوا الطريق الصحيح.

امتلأت المدرجات شيئاً فشيئاً، حتى غصّتْ بالناس.

وقف الذين كانوا قد تمكنوا من الجلوس.

بعض الذين تمكنوا من الوقوف صعدوا على أطراف السياج، وساريات الأعلام.

الظهيرة تلفظ أنفاسها الحارقة على رؤوسهم العارية، التي لا تحميها القبعات البيضاء في شيء، فالصيف قد دقّ مسماره وسط الموسم الجهنمي.

عندما أطل الذين يقفون في أعلى المدرجات الى الخلف، وجدوا عربات الماء المثلج اليدوية قد انقلبت على جوانبها فارغةً، مخلفة مستنقعات صغيرة ومتفرقة من الطين وآثار الأقدام.

باعة الماء لم يستطيعوا مواجهة الجموع، فلقد احاطوا العربات أثناء دخولهم، التقطوا القوارير المثلجة، رموا العملات النقدية في وجوه الباعة، وانطلقوا الى ممرات المدرجات.

حين فرغت العربات، فرّ الباعة لاحقين بالناس ليأخذوا مكاناً بينهم.

سالت قطرات عرق من جبين صبي على خدّه، ثم رقبته.

أراد أن يمسحها فاضطر أن يجرّ ذراعه المحشورة بين جسده وجسد الذي بجانبه. مسح العرق والتفت الى الرقاب التي حوله، فرآها تمتد باتجاه الساحة التي تحيطها تلك المدرجات.

خلف البوابتين الرئيسيتين للساحة، الواقعتين في طرفيها الشمالي والجنوبي، كانت الحركة واضحة ولا تتوقف: رجال يظهرون برهة ثم يختفون ليعاودوا الظهور مرة أخرى، أو ليظهر غيرهم، وهكذا.

في ركن المدرج البعيد بدأت مجموعة من الشباب بالغناء.

صارت الأنظار تتوجه إليهم. لكن القيظ جعل قليلين لا يعبأون بالإزدياد الواضح في عدد الذين بدأوا يغنون مع المجموعة. واكتفت تلك القلّة بمراقبة البوابة الشمالية حيناً والجنوبية حيناً آخر.

اشتّدتْ حمّى الغناء في الركن الآخر من المدرجات، وناضل كثيرون لكي يُخْرجوا أذرعتهم المحشورة ليصفقوا بصعوبة بالغة، بينما الذين على السياج وساريات الإعلان يهزون رؤوسهم وأكتافهم.

فجأة، انفتحت البوابتان، وانطلقت من كل بوابة سيارات مصفحة، يغطي الحديد الأسود كل سطحها، مما يجعل رؤية من فيها أمراً مستحيلاً.

على خط منتصف الساحة وقفت السيارات متقابلة، فأصبح من السهل تحديد عدد ونوع ولون السيارات الشمالية او الجنوبية.

انكتمت الأنفاس تماماً، ولم يكن يُسمع سوى صوت المحركات وهي تُخرجُ عادمها من أنابيـبها الخلفية.

فكر الصبي فيمن سيعطي الإشارة للبدء.

رائحة الوقود بدأت تتصاعد في أجواء المدرجات الملتهبة مما زاد في ضيق الناس وخوفهم وتوترهم.

معاً، صرخ الشباب الذين كانوا يقودون الغناء في ركن المدرج البعيد، صرخة واحدة، ثم صفقوا ثلاث مرات.

أشار أحدهم للناس في المدرجات أن يفعلوا مثلهم.

صرخت المدرجات مجتمعة صرخة واحدة، ثم صفقت ثلاث مرات.

انطلقت السيارات المصفحة في صدامٍ حامٍ وشديد من لحظاته الأولى.

كانت سيارات كل فريق تنطلق بأقصى سرعتها لتصطدم بسيارة الفريق الآخر.

كان الإصطدام يزداد شراسة مع مرور الوقت، وكان العادم يزداد في السيطرة على هواء المدرجات.

لم يظهر ما يدل على أن لهذا الذي يدور وقتاً محدداً، فلقد استمرت السيارات في تصادمها العنيف حتى هبط الليل.

كان الضوء الوحيد هو الشرارات الصغيرة التي يولدها احتكاك السيارات ببعضها.

أحسّ بعض الناس بالاختناق بعدما تلوث كل الهواء بالعادم الذي ظل يتصاعد لساعات.

ترك هؤلاء أماكنهم وهبطوا درج المدرجات باتجاه ممرات الخروج، لكنها كانت مغلقة.

اتكأوا على جدران الممرات وأصيب أكثرهم بإغماء.

بعد أن اشتد الظلام، استحال على الناس أن يروا كم بقي من السيارات داخل الساحة.

معاً، صرخ الشباب الذين كانوا يقودون الغناء في ركن المدرج البعيد، صرخة واحدة، ثم صفقوا ثلاثة مرات.

بكل تهالك، صرخ الناس في المدرجات صرخة واحدة وصفقوا ثلاث مرات.

شعّت المدرجات بأنوار ساطعة، جعلت كل الناس يحمون عيونهم بأيديهم.

عندما تمكنوا من الإبصار، رأوا أن سيارتين فقط لا تزالان قادرتين على المواصلة.

تهيأت كل سيارة منهما للحظة بدتْ وكأنها حاسمة ونهائية.

من الطرفين الشمالي والجنوبي، انطلقت السيارتان بسرعة هائلة جداً.

لم يكن ليتنفس أحدٌ في تلك اللحظة.

على خط المنتصف، سقطت كل عيون الناس في انتظار اصطدامهما النهائي، وجهاً لوجه.

بشكل غير متوقع، انحرفت الجنوبية عن الشمالية في اللحظة الأخيرة، ولكنهما استمرتا بنفس سرعتهما لتصطدما بالبوابتين، ولتستحيلا كتلتين من اللهب الذي تصاعد في الهواء المشحون برائحة الوقود.

 

 

البخار

 هو الحادي، وأنا الباديءُ من شمع الخندق الأرجواني. أقصُّ على أكياس الرمل كيف بايعتُ خطوات امرأةٍ سقطتْ في الطريق الى ملجأ دمي. كانت على مرمى ظهيرة القنّاص الصامتة. وفي الظهيرة، تتخاصم العناوين مع الذاكرة، والذاكرة مع الأسماء الساقطة من رطوبة البندقية. كيف أصفُ الرصاصة وهي تخترق الوقت، لتخرج من الطرف الآخر لظلمات طوفانها البدائي.

متى استجمع كريات وشوشتي لأصرخ.

- يا أيها الحادي، تلاءمْ مع رياحكَ، وأطلق صفّارة الغبش في أوراق التين. أنا عين بن عين. عار إلا من حثالة الحبر. هكذا، سأقود البخار الى عنجهية السر الذي خبأتْهُ حبيبتي. وسأكشف ما في ودَعِ البصّارة من مراكب لم تبحر سوى داخل قوارير الزينة.

.. ولأصرخ.

- أيها الحادي، اضرب في أحراش العتمة موعداً، كي يرنّ النزال في مَدرَج أضلعي. إنني منذ قفزتْ عيناها سياج شتائي، أستظلُّ بصليل مبارزتك، فأضرب.

ثم..

نفض الحادي نشارةَ بياته. استلّ الصحو من جراب التقويم، ولبس عدّة الشارع البارد.

قبل أن يخرج، قال لي.

- في أي رملٍ نحن؟

أشرتُ الى النافذة، فبصقَ على الأرض.

- القناصون الكلاب، منذ ألف سنة يطلقون النار عليّ. وحين صرتُ كبريتاً، خافوا أن يرموني، فانفجر بهم. 

وضعتُ يدي على كتفه. طالع نظرتي المتوسلة.

- أريد أن أخرج مثلك.

- تعلّم أولاً كيف تؤقت الموت.

- علمني.

- لا وقت لدي الآن. سأخرج.

- هل ستعود؟

- حين لا تتواطأ الجغرافيا مع هؤلاء الأوغاد، سأرجع حتماً اليك.

وبقيتُ وحيداً.

أبلّل أصابعي بمجرى النور الذي يسيل من النافذة، ويصبُّ بجانبي، ليفصلني عن بقية الغرفة. من المجرى، تخرج كائنات غريبة بحجم اليد. وبانتظام تجلس في صفوف خلف بعضها، ثم تبدأ في النظر اليّ.

انتابني هلع المسرح، فوقفت. صفقوا، ولم أنحنِ.

- ما الذي سأقوله لهم؟

فكرتُ..

ودون إعداد، بدأت في الدور.

(بقلق) كيف أؤقت الموت؟ (يزداد صوتي حدةً) كيف. كيف؟! (أتوجه إلى النافذة. أمسكُ قضبانها، وأصرخ) تفو عليكم أيها القناصون الكلاب. (صمت تام. صوت خارجي لحمامة تطير، تتبعها أخرى. صوت آخر لحجر يتدحرج على سقف بيت صفيح. صمت تام. صوت سعال عجوز ثم خطوات بطيئة تبتعد. أترك قضبان النافذة. أعودُ إلى مركز الغرفة. ترتخي ذراعاي) تفو عليّ أنا. لماذا لا أخرج؟! (أنظرُ الى الباب) هناك سوف أبحث عن جثتها (أنظر الى الأرض وأؤدي الدور وكأن الجثة موجودة) ها هي. (بحزن شديد) يا إلهي (أتحسسُ الجسد الوهمي) لقد مزقوا جسدها. (أضعُ كفّي على وجهي وأبكي بحرقة. صمت تام. صوت الهواء وهو يحرك خشاش الأرض. شهقات بكائي تتباعد حتى تنتهي. أمدُّ يدي باستغراب الى جانب الجثة. ألتقطُ شيئاً وهمياً كأنه علبة ملفوفة بورق هدية. أنزع الورقة بسرعة. قبل أن أفتح العلبة، أتوقف) ماذا بداخلها يا ترى؟ (بتساؤل وخائف) قنبلة؟ مستحيل. مستحيل. إذن، وردة؟ (أبتسمُ ببراءة وكأني أسترجع تفاصيل محببة) كانت تحب الياسمين (صوت خارجي لشخص يطارد شخصاً آخر. صمت تام. يتصاعد ضحك مهووس ثم يختفي تدريجياً) وتحب طيور الكناري (أتجهم فجأة) لمَ لا تكون قنبلة هيأتْها لأحد هؤلاء القناصين؟ (بحزن) مسكينة. لقد اغتالوا انتقامكِ. (أعترض) معقول؟ انها أرقُّ من غيم الحلم (أنظر الى الجثة. أمسكُها من كتفيها برفق) حبيبتي. أيمكن أن تفعلي ذلك؟ (أضمّها. صوت خارجي لشاب خائف يقول: لكني أحبكِ ولن أغادر بدونكِ. يتصاعد صوت الثرثرة ليغطي ما يقوله الشاب. تخفتُ الثرثرة مرة أخرى حتى تختفي. صوت صرصار الليل، ثم صوت خطوات خائفة تمشي في أحراش كثيفة. أضعُ رأس الجثة على الأرض. أسألها بحب) أتريدين أن نسميه اسماً شعرياً أم اسماً حربياً. (بإحساس أبوي) لا. لا. نريد أن يفخر باسمه عندما يكبر. (بجنون مفاجيء، ألتقط العلبة. ومن بين قضبان النافذة، أرميها إلى الشارع. أمكثُ أراقب ما يحدث. صمت تام. عيار ناري واحد. يعود الصمت. أرجع إلى مركز الغرفة. وبجزع شديد. أتهالك إلى جانب الجثة وبحزن أسرد ما جرى) حين سقطت العلبة على الأرض، التقطها طفل. فتحها. من داخلها أخرج طير كناري ميت. رمى الطفل جثة الطائر على الأرض. ركض قط الى الجثة. التقطها بين أسنانه وركض باتجاه آخر. صوّب قناص بندقيته الى رأس القط... (يخفت صوتي تدريجياً، الى أن أصير أتكلم دون صوت. يخفت النور الساقط من النافذة الى داخل الغرفة. تعود الكائنات الغريبة الى المجرى الخافت. ثم تختفي بالتدريج.. وبالتدريج تظلم الغرفة).

 

 

البياض

 فتح صحيفة المساء، فوجد صورة جثة، تتوسط الصفحة الأولى.

ضحك.

سألته زوجته.

- ما بك؟

أشار بإصبعه للنادل كي يحضر، ليستلم قيمة ما شرباه.

- لكننا لم نأكل بعد يا حبيبي.

- تذكرت الآن بأن أمامي سفراً طارئاً.

- وحدك؟

- سيكون الجو هناك قارساً على وجهك الرقيق.

التقطتْ حقيبتها من فوق الطاولة، ووقعت عيناها في نفس اللحظة على قائمة الطعام المتآكلة، المبقعة بالزيت من كل جوانبها.

خرجا من المطعم.

وفي الشارع الضيق، مشيا مهرولين باتجاه الشارع العمومي.

حاول أن يوقف سيارة أجرة، لكن سائقي السيارات التي عبرت، لم يلتفتوا الى اشارته، على الرغم من أن سياراتهم كانت خالية من الركاب.

بدأ القلق يساور زوجته.

- ما الأمر؟

- لا شيء.

- لماذا لا تقف سيارات الأجرة؟!

- يبدو أن أشكالنا لم تعجبهم. ربما شعروا أنني قد اختطفتك. ألست صغيرة وجميلة، وأنا قد وخط البياض كل شعري؟!

هي تعرف أنه ساخر، وتعرف أيضاً أنه يمارس هذه السخرية في أكثر المواقف صعوبة وخطورة.

- دعك من بياض شعرك. وقل لي ما الذي يجري؟!

ابتدأ مرور السيارات يقل شيئاً فشيئاً حتى انعدم.

أمسكها من يدها وصارا يسيران على طول الشارع.

- إلى أين؟! هذا ليس اتجاه بيتنا؟!

- لن نجد سيارة تأخذنا الى البيت.

- الى أين سنذهب اذن؟!

- سنحاول أن نصل الى مصب النهر.

- ستستقل قارباً؟!

- كوني صبورة وهرولي معي.

أصبح لخطواتهما صوت تضايقت له كثيراً، ثم أخذ يخيفها تدريجياً.

- أين الناس؟! لماذا اختفوا؟! إن لم تخبرني، سوف أقف.

نظر الى عينيها وكأنه يراها لأول مرة.

خرج صوتها مخنوقاً.

- أنا خائفة.

- أعرف.

مشى بها قليلاً. اتكأ على سياج الرصيف المطل على النهر.

أحسّت بالهبوب الرطب يلاعب خدها الذي ناله دفء المعطف الصوفي.

طالعت في السماء فإذا هي مظلمة لا يضيئها سوى نجوم انتشرت بكثافة تبعث خوفاً أشد.

- هل أنت خائف مثلي؟!

أحسّت بوجهه يتلون بابتسامة طفل، كعادته حين يسأله أحد عن الخوف والموت.

- لم أكن أود أن تكون معي في ظرف كهذا.

- ألستُ زوجتك؟ لأكن معك في كل شيء.

- إلا هذه اللحظة؟

- لماذا؟! ما الذي سيجري؟

- من الأفضل أن نسرع. لقد أضعنا وقتاً كثيراً.

تشابكت أيديهما، وانطلقا بمحاذاة السياج النهري.

لم يكن أمامهما سوى طريق طويل ومصابيح خافتة جداً في ليل الطرف الآخر للنهر، ونوارس تجفل بين الحين والآخر لخطواتهما السريعة المضطربة.

بنَفَس قلق، قال لها.

- ستتعبين.

- أعرف ذلك.

كان صوتها متكسّراً خافتاً وبطيئاً.

- سوف ننجو. لا تخافي.

سمعا صوت سيارة قادمة من بعيد.

صرخت له.

- سيارة. صوت سيارة.

- لقد سمعتها.

التفتا إلى الخلف. فشاهدا ضوءاً قادماً باتجاههما.

- يجب أن توقفها. اعترض طريقها. يجب أن يساعدنا ركابها.

سحب يدها، وجعلها تمشي معه الى أقرب فتحة في السياج. حيث عبراها باتجاه شجرة عتيقة.

- لنختبئ.

مرت السيارة أمام السياج، فإذا ركابها يحملون أسلحة نارية ويتلفتون في كل الاتجاهات.

- لا تخافي. لن يلحظوا وجودنا.

تساقط جسدها على الأرض من شدة الإعياء الذي حوّل إحساسها إلى جليد عام.

- وماذا فعلنا؟!

لم يجبها. ظل صامتاً حتى اختفت السيارة في آخر الشارع.

مدّ يده ليساعدها على النهوض، فسألته بإحساس متبلد.

- لماذا شعرك أبيض الى هذه الدرجة مع أنك ما زلت شاباً.

امتلأ وجهه بغضب هائل، استطاعت هي أن تراه وسط الظلمة الحالكة.

نهضت دون أن تجعله يساعدها. وبدأت تركض أمامه.

بالقرب من مصب النهر، كان الجو ساكناً.

مشياً بحذر شديد الى حيث يستطيعان أن يجدا قارباً.

حين شاهد المنظر، ضغط على يدها وسحبها الى صدره.

كانت كل القوارب محطمة، وعلى صفحة النهر طفت جثث على مد البصر.

مشى بها إلى الرصيف. ورجعا من حيث أتيا.

 

 

الحبل

أبشع ما في ذلك الشارع، أنه كان طويلاً لا ينتهي أبداً. على جانبيه، أصطفّ الناس مادّين أجسادهم النحيفة المتفحمة نحو العربة التي كانت تسير ببطء.

كان في العربة أنا وحبيبتي وشخص غريب لم أره من قبل: أنا أقود العربة، وهي في المقعد الملاصق لي، وهو في المقعد الخلفي.

لما ابتدأنا هذا الشارع، بكيت بكاءً مراً. كان يتصاعد من عينيّ دخان كثيف لا يجعلني أرى بوضوح، لكني كنت أحسُّ بحبيبتي وهي تلعق كتفي العارية، ضاغطة بأصابعها على شفتيّ.

بيدي اليسرى، فتحتُ زجاج نافذتي لكيلا يخنقنا الدخان. بعد أن انفرجت النافذة، دخلتْ يدٌ معروقة جافة باتجاهي، لكني عدت وأغلقت النافذة بهلع شديد مرة أخرى، لتنحبس اليد بين الزجاج والحديد.

شددتُ على يده بالزجاج حتى انفصلتْ وسقطتْ بين قدميّ.

حاولت أن أزيد سرعة العربة، لكن السيارت المهجورة التي تناثرت وسط الشارع منعتني. ضغطت زر المذياع، فسمعتُ صوت عصافير تغرد مجتمعة. استمر التغريد لفترة ثم انقطع دفعة واحدة. بدأ المذيع يتلو بياناً ملخصه أن امرأة كانت ستقذف بنفسها في بئر، لكن شاباً أنقذها. وبعد أيام وجد الناس الشاب على رأس جبل وقد تحول الى حجر.

ضحك الشخص الغريب الجالس في المقعد الخلفي بشدة، وطلب مني أن أحرك مؤشر المذياع الى محطة أخرى.

من المحطة الأخرى، سمعنا نفس التغريد الجماعي ومذيعاً آخر يتلو بياناً جديداً عن أن ملايين الحلاقين نظموا احتجاجاً عارماً لاختفاء الأمواس من محلات البيع.

غرس الشخص أصابعه في مؤخرة رأسي صارخاً.

- قف.

توقفت حبيبتي عن لعق كتفي. رفعت أصابعها عن شفتيّ، ثم همست في أذني.

- أريد أن أعود.

أوقفتُ العربة، ونزلتُ منها. انتقل الشخص الغريب من مقعده الخلفي الى مقعد القيادة. ودّعتْني حبيبتي، ثم انطلق الشخص بالعربة وهو يضحك بشدة. على أحد جانبي الشارع، وقفت، مع الناس ذوي الأجساد النحيفة المتفحمة، ولاحظتُ أن رجلاً يركض من الجانب الآخر باتجاهي ومعصمه تنزف دماً.

كنت لا أزال أبكي بكاءً مراً، وكان لا يزال يتصاعد من عينيّ دخان كثيف.

 

 

الحقل

على شاطيء هذا المساء الرطب، تعبق رائحة صبرها الذي طال، منذ لوَّح لها وقال.

- سأعود.

النافذة تطل على جرح ضيق يفصل بين البيوت الصغيرة المحتشدة بأجساد هدّها هؤلاء الذين لم يعودوا بعد.

من كل بيت خرج رجل، وفي كل رجل، كانت الحرب.

قالوا لهم.

- ستقابلون عدواً أصفر. كلما ستطلقون عليه قذيفة يكبر أكثر. تجعله النار يتمدد في كل الاتجاهات. والدم يحيله الى راقص لا يكل ولا يمل.

- سأل أحد الرجال مرتعداً.

- وكيف سنواجهه؟!

أجابوا.

- بالطين.

صار الرجال يطالعون بعضهم البعض غير مصدقين.

- نعم. على كل واحد منكم أن يرفع في وجهه الطين. لهذا العدو أذرعته الصغيرة التي ستتناثر في ساحة الحرب. كل ما عليكم هو أن تدفنوا أذرعته بما تستطيع أكفكم أن تحمله من الطين. وسوف ينتهي أمره لا محالة.

- وهل سنخرج الآن للحرب؟!

- بل مع غروب شمس الغد.

- نحارب في الظلام؟!

- من المستحيل أن تروا هذا العدو في النهار، فهو يأخذ أشكال كل المخلوقات. في الليل عندما يزداد هياجه، وتزداد جثثه، يظهر على حقيقته: أصفر، بأذرعة لا تحصى، ورأس شقها شبقُ القتل الى نصفين.

رجع الرجال الى بيوتهم الصغيرة، استعداداً لحرب الغد.

قال لها.

- سأعود.

نثرت رأسها على صدره، وانخرطتْ في بكاء.

بصوت تصاعد من حرقة صدره، صار يغني أغنية رملية.

توقفت عن البكاء ورفعت رأسها لتراه مغمضاً عينيه. ومن بين شفتيه تخرج الأغنية مثل جمرة تستوي على عرش شتاء.

- كنتَ تغني لي هذه الأغنية كلما صادفتني أعبر حقلك.

- وكنت تُخفين في مشيك رقصاً بحجم الأفق.

- عندما تجرأتُ وناديتني، وقفت. أحسستُ بفراشات الحقل يطرن اليَّ وبأزهار الليمون يتحولن الى مصابيح خافتة.

- قلتُ لك: هذه السواقي تعزف لحن الأغنية. أتعجبك؟!

- نعم. وحطّتْ على شعري غيمتان، ورأيتكَ ترقص. ترقص حتى تحوّل الحقل إلى مهرجان من الضوء.

- قلت لي: أتحب النهار؟؟

- أنتَ نهاري الذي إن جفّ جاء الليل محمولاً على جياد من السكر.

- مددتَ يديك. وانتابتني رعشةُ برعم أصابه الندى.

- مددتِ يديكِ، فاذا المساء يشير الى الكون أن يستحيل غطاءً لأصابعنا المرتجفة.

- وهل ستتركني الآن؟؟

- سأعود. سأنثر الطين على أذرعة العود، وأعود.

- الحرب لا تعيد أحداً.

- سأعود.

- لقد دخلتنا الحربُ يا حبيبي.

- يا لهذا العدو الأصفر. من زرع أذرعته؟! من ركّب رأسه المشقوقة الى نصفين؟! من إذابه في نهارنا، وأهاجه في ليلنا؟! من أعطاه القدرة على مقاومة القذائف والنار؟!

- لقد دخلتنا الحرب.

- حين كان الحقل مملكتنا، كان الناس يصطفون سياجاً لأغانينا. كنا نقتسم الليالي المقمرة، كما نقتسم أرغفة الحنطة. كنا نجتمع لسامر واحد ونصعد على درج واحد باتجاه المطر.

- ولم يكن هناك الأصفر.

- سأعود. سنغرقه بالطين، وسأعود.

مع غروب شمس الغد، تجمع الرجال على طرق الحقول.

قالوا لهم.

- خلف هذه التلال، سوف يفاجئكم العدو في أي لحظة. لا يدخلنّ الخوف قلوبكم. ارموا أنفسكم على أذرعته التي ستطلع لكم من كل مكان، من خلف كل حجر، من وراء كل شجرة. من الأعلى، من الأسفل، من كل الاتجاهات. لا تترددوا في نبش أصابعكم في الطين. غطّوه بالطين. ولا تعودوا إلا برأسه المشقوقة.

تحرك الرجال للحرب، وفي قلب كل واحد منهم وعدٌ بأنه: سيعود.

 

 

 الدهليز

 يخرجُ صوتُه كألواحٍ من برد أزرق.

- هل تريد أن ترى؟

أنكّسُ رأسي النابت من عينين جلدتهما شعيرات دمي الذي صار هواء خانقاً، وأقول بصوتٍ خافتٍ.

- لا أريد.

يرفع يديه نحو قامتي المتكومة على آخر السرير، وينهالُ ضرباً على هذا الحلم الذي داخل ثيابي. أكون سأبكي، لكني أتذكر أن ممرضه ستدخل في المساء، وأنها ستعطيني حقنة لأنام.

- لا أريد أن أرى.

أقولها وأنا أمر بإصبعي المتورم على خارطة أضاءتها الأرض التي لم توضع للمشي ولا للجلوس ولا للكلام.

تفور هذه الأرض، فأرى رؤوساً منفصلة تتطاير في الهواء، بينما يتقاطر منها صديد ملتهب وزعيق.

أصرف عيني عنها، وأتابع المدن التي على الخارطة.

يهاجمني رأس يابس، ثم يطلق ضربة خارقة الى صدري. أرتمي على ظهري، فتهاجمني كل الرؤوس.

أصرخ.

- لا أريد أن أرى.

تتجمع الرؤوس حولي وتجبرني على الرؤية.

تنفتح شاشة في الهواء، فأشاهد عليها نفس الرؤوس وقد صارت قامات مهيبة بثياب ناصعة. أسمعهم يقولون للناس.

- من منكم يريد أن يرى.

لا يجيب أحد، فالناس في الشاشة ينظرون لجهة أخرى، حيث أطفالهم داخل حظائر من حديد.

وأكتشف أنني لا أرى الآن شيئاً جديداً.

تقترب الممرضة مني.

تسألني.

- أين تريد الحقنة اليوم؟

أقول لها.

- لا يهم يا عزيزتي. اغرسيها في أي مكان.

تملأ الحقنة بمحلول أسود، وألاحظ أن قارورة اليوم أكبر حجماً.

أسألها.

- ألا تشعرين بالملل معي؟

تقول.

- بالعكس.

أضحك وأنا أرفع الكم عن ساعدي الأيسر.

تقول.

- هنا.

أردُّ بسرعة.

- نعم.

لكنها تغرس الإبرة في جمجمتي.

بعد أن تلقي غطاء السرير على جسدي، أسألها.

- لماذا تبدين اليوم أكثر شحوباً؟!

كان دهليزاً فاقعاً في السواد، وكنت عندما أحوم حوله، يضربني أبي بكل قسوة، فأركض الى حضن أمي، التي كانت تقول لي كل مرة.

- ألا تخاف يا بني أن يحبسك أبوك في هذا الدهليز؟

وكنت أردُّ عليها دائماً بلثغة البكاء والشقاوة.

- سوف أرى الدهليز، يعني سوف أرى الدهليز.

كبرت جدران البيت. كبرت جدران البيوت المجاورة، وصارت تخرج من الجدران عيون، بعضها يراقب الحزن، وبعضها ينتظر الفرح.

وبقي الدهليز غاية في الظلام.

صرت لما أخلع عن الشارع خطواتي ثم أدخل البيت، أخاف أن أنظر الى هذا الممر التحتي.

يصرخ أبي في وجهي.

- دهليز.

أقول له.

- أعرف.

يركز عيناه في عيني.

- ألا تريد أن ترى؟

أردُّ وأنا أشيح بوجهي عنه.

- لا.

يشير بأصبعه الى الباب الخارجي.

- لا تجعلني ألمح وجهك بعد اليوم.

لكن نبض قلبه ينكسر، فيموت في نفس اللحظة التي سأخرج فيها، فلا أعود ألمح إلا خياله الذي يأتيني كل ليلة ليسألني.

- هل تريد أن ترى؟!

وأجيب.

- لا أريد.

وأنا خائف أن يقرأ في وجهي هذا الهلع الذي يهدُّني منذ استرقت، بعينيّ الشابتين، النظر الى الدهليز، فرأيت في داخله وجوهنا، وقد انشدّ جلد كل وجهٍ منا بسلكين من الأسلاك الشائكة.

 


الراية

خفضتْ رأسها لكيلا تراها النسور الجارحة، التي تتناوب في التحليق فوق مخبئها. كان ما بينها وبين بقعة الماء الصغيرة لا يتعدى صخرتين. استلقتْ على بطنها وزحفت بحذر شديد.

تناهى إلى سمعها وقع خطوات قادمة.

تراجعت الى مخبئها مرة أخرى.

شاهدت زوجاً من الوعول الجبلية يمشيان مع بعضهما، أحدهما يتقدم الآخر.

لمحت عينُ الوعل ذي القرون الطويلة الحادة، بقعة الماء.

التفت الى أنثاه التي كانت تقضم عشبة اقتلعتها من خلف صخرة صغيرة.

خفّتْ خطواتهما إلى الماء.

على طرف واحد من البقعة، صارا يشربان.

فجأة، وكالنيازك الملتهبة، هجمتْ النسور على أنثى الوعل وصارت تغرس مخالبها في عينيها وعنقها وظهرها.

حاولت أنثى الوعل أن تتقافز لتطرد النسور، لكن المفاجأة، وعينيها اللتين تفجرتا بالدم، جعلتا قواها تخور مباشرة وتسقط في بقعة الماء.

حلّقتْ النسور مرة أخرى، لتترك ذكر الوعل في دهشة بحجم الجبال التي ردّدت صدى رفيف الأجنحة الهاربة.

صار ينظر الى السماء بعد أن اختفت منها النسور ولم يبق سوى غيمة تقطّعت على اتساع الأفق الأزرق.

أرخى رأسه الى الأرض، فوقعت عيناه على جسدها وهو ينتفض نازفاً دماً حاراً.

اقترب منها، وجعل رأسه يلامس رأسها. وأنف كل منهما يرتعش.

ظل هكذا حتى سكن جسدها. وتوقف الدم عن النزف.

صار يدور حول جثتها ببطء وهو يلامس بأنفه كل الجروح التي تناثرت على جلدها.

رفع عنقه الطويلة الى الأعلى وأطلق في الهواء صوتاً كعواء الذئب.

غادرت قدماه البقعة التي تحول ماؤها الصافي الى دم.

ابتعد تدريجيا عن المكان، الى أن غاب نهائياً خلف صخور الجبل المقابل.

قالت لنفسها.

- ستعود النسور لتجهز على اللحم. عليّ أن أترك المخبأ حالاً.

ركضتْ في نفس الاتجاه الذي غاب فيه الوعل.

في الهواء، كانت تنتشر رائحة ماء ودم وغروب.

ضوء النار المشتعلة وسط المعسكر تسقط على الخيام الصغيرة المقامة على مسافات متباعدة. في واحدة من الخيام، كانت تتمدد منهكة القوى، شاحبة الوجه.

حاولت أن تُسلم نفسها لسلطنة النوم، لكن التعب وقف بأساوره الحديدية أمامها.

كان مشهد ذكر الوعل وهو يضع أنفه المرتعشة على أنف أنثاه، يؤرقها.

استرجعتْ اليوم الذي قال لها فيه.

- لقد قضى هذا السل عليّ. وها أنا لم أجعلك تذوقين يوماً هنيئاً. لم أمنحكٍِ طفلاً يقفز على كتفيك اللذين هدهما العمل من أجل دوائي وراحتي.

- لماذا تقول هذا الكلام الآن؟

- لقد رفع جسدي رايته. خذيها وخيطي بها كفناً لما تبقى مني.

ارتعشت ذقنه، لكنه قاوم وأكمل.

- ستتذكرينني. أليس كذلك؟!

- دائماً سأتذكرك.

هبّت على وجهه ستائر من الوجد.

- لقد قلتُ لك يوم تكاشفنا بالحب بأنني أقوى الرجال. وستعيشين على كفي مثل أميرات الأنهار الأسطورية اللواتي يعبرن المحيطات على أجنحة المارد الخفي.

- وأنتَ دائماً ماردي الواضح.

سعل بشدة، فدمعتْ عيناه.

- بل أنتَِ اسطورة كل محيطات الكون.

- لولاكَ لما عرفتُ بأن الدنيا تحتمل أن أقف في وجهها رافعة ذراعيّ، ملتقطة الكواكب التي تناسب لون وجهي.

- سأنام الآن بلا كواكب.

- كل كواكبي لك يا حبيبي.

وقبل أن يذهب في النوم الأخير، همستْ له.

- سأقاتل.

على دقّات ضوء الفجر تصحو.

تحس بأنها نامت ليلاً خاصاً أذاب كل تعبها وأرقها وذكرياتها.

من مطّارتها المعلّقة على طرف الخيمة الصغيرة، شربتْ حتى ارتوت كل مفاصلها.

بوق المعسكر جعل الجميع يخرجون.

أمام الصف الطويل، وقفت بصلابة.

- سأقوم بإرشادكم الى مكان القرية.

سألها الفتى في القرية الصغيرة.

- هل تحبين الوعول؟

- أجل.

- انظري. هذا الوعل فقد أنثاه أمس.

طالعتْهُ فعرفته من آثار الدم على قوائمه.

- كيف فقدها؟!

- النسور هاجمتها كما هاجم السل قريتنا الصغيرة فجأة.

- لا تخف نحن هنا لنقضي على السل. لقد جلبنا معنا كل الأدوية.

أشار الفتى الى السماء بقلق.

- وهذه النسور لم نعهدها في سمائنا. كأنها جاءت وراءكم.

استغرقتْ في تفكير عميق، ثم ركضتْ الى رفاقها الذين انهمكوا خلف الجبال في تجهيز الأدوية، وكأنها اكتشفت أمراً خطيراً.

وأقسم أولُ من زار أرض القرية، بأن السل قد نال من كل أهلها وحوّلهم الى عيدان ذابلة.

- وهؤلاء الذين وفدوا لمحاربة السل؟!

- لقد مزّقتْ النسور أجسادهم وأدويتهم.

هي وحدها التي استطاعت النجاة.

امتطتْ ظهر وعل جبلي ذي قرون طويلة وحادة، واختفى بها خلف جبال لا يصلها أحد. في ليالي القرية الهادئة يسمع المسلولون صوتاً بين الصراخ الآدمي وعواء الذئب.

 

 

المعلّمة

-لماذا تسافر الى هذا الحد؟! من قال بأن المسافة خارج هذه المدينة تغدو ستائر مفتوحة لشمسٍ أقل أسئلة. ما الذي يخيفك؟! ما الذي يشع في أوردتك، فيجعل راحتيك مبللتين دوماً بملح لا ينضب؟! أهي تلك الأشرعة التي قيدتك لهواء لا يهب؟! أم هي النار التي جففت رطوبة غنائك الموسمي؟! أعرف أن الأسئلة تفتح في فضائك ممرات ذات صدى لا ينتهي. وانك تفضلنا، أنا وأنت، صامتين في بلاط كتاب يحب الناس، أو في أغنية لساحر تطارده الأرصفة، أو في فيلم يقطف للمتعبين ورد انتصاراتهم.

-أنتِ تعلمين بأنني سأموت، وأن ما بقي من الوقت لا يكفي لأن أرشدك الى أماكن كل الأشياء، لكن هذه الشقة الصغيرة كانت شاهدة على ما فعلوه بي.

لقد قرعوا الباب مرتين.

خرجتُ، فإذا هم ثلاثة.

سألوني.

- هل تسمح لنا بالدخول؟!

- تفضلوا.

دخلوا.

أغلق آخر واحد منهم الباب قبل أن أغلقه وقال.

- أرجوك أدخل.

استغربت.

تقدمتهم وأشرت لهم بدخول غرفة الاستقبال. جلسوا وبادر أكبرهم سناً بالقول.

- نحن هنا لأمر مهم ويجب أن تصغي جيداً.

لم أكن لأخاف في أحوال كهذه. لكني هذه المرة، بدأت بالاضطراب.

قلت.

- تكلموا أنا منصت لكم.

بدأت تعابير وجه الأوسط في التهجم. ثم بدا وكأنه في أول بكاء.

أشار له الأكبر بعينيه، فانقشعت الحالة عن وجهه، ثم حكى الكبير قائلاً.

- نحن نسكن في مدينة صغيرة، مدينة ليست كمدينتكم هذه، توفيت أمنا منذ زمن بعيد وتكفلت بنا أختنا الكبرى التي تحولت شيئاَ فشيئاً الى أمنا، صارت تصوم من أجلنا عن كل شيء إلى درجة أننا بدأنا نحس بأنه مهما كبرنا، فإننا سنظل أطفالاً لعينيها الشاسعتين. منحت تفاصيل قلبها لنا بالتساوي ولم تعط لحالاتها قلباً. كان أكبر ما تفعله لنفسها أن تقرأ.

- ماذا تقرأ؟

- كتباً، صحفاً، مجلات، كانت تقرأ بشكل يجعلنا نحسُّ تحس بأنها تبحث عن شيء ما.

- مثل ماذا؟

- لا أدري، ربما عن الرجل المستحيل.

طالع الأوسط وجه أخيه، لكنه تجاهله وأكمل.

- ذات مرة قلت لها: من تحبين أكثر، نحن أم هذه الأوراق التي تقرأينها. أجابت: أحبكم جميعاً. بعد ذلك بفترة صحوتُ من النوم على صوتها وهي تجهش بالبكاء. طرقتُ الباب عليها، لكنها لم تجب. دفعته، فوجدتها تمسح الدموع من عينيها. سألتها: ما بك يا مهجة القلب؟ ضممتها، فصارت تحاول إخفاء بكائها بابتسامة مصطنعة. قالت: كنت أحلم بأنني أركض خارج الأرض وأنكم من شدة بعدكم عني، تحولتم الى بذور. حاولتُ أن أخفف عنها بقولي أن هذا الكابوس كان نتيجةً للجهد الذي تبذله في العمل.

- تقصد في البيت؟

- هي تعمل معلمة للأطفال، وبعد عودتها تحمل بيتنا على رأسها.

- أكمل لو تكرمت.

- بعد شهور، بدأ هذا الكابوس يتكرر الى درجة أنه صار يلازمها كل يوم. صارت شاحبة وبدأت عيناها تفقدان بريقهما. قررنا أنا وأخوتي أن نكتشف حقيقة الذي يجري لها، فأخذها أخي الأصغر لزيارة قريبة لنا، وقمت أنا وأخي الأوسط بتفتيش أوراقها. لم يكن بداً من ذلك.

- وماذا وجدتما؟!

- وجدناك.

صُعِقَتُ. ثم شعرت بخنجر يخترق خاصرتي. ابتلعت ريقي وسألت.

- لم أفهم.

- وجدنا قصصك التي تكتبها في كل أدراجها. إنها تحتفظ بكل شيء عنك.

نظر اليّ الأوسط نظرة فيها عتابُ كل العصافير السجينة، وهمس.

- لماذا لا تكتب إلا عن السفر؟!!

**​**​**

لا تتركيني أموت هكذا كما تموت زواحف الصحراء النادرة. انتظري حتى يقرعوا الباب.

من المؤكد أنهم سيعودون فجأة كما تركوني فجأة.

عندما يعودون قولي لهم أنني مت هنا. على فراش صغير هنا، وأنني لم أسافر.

 

 

الغربان

مرّي بأصابعك على الخارطة التي رسمناها خلسةً فوق جدار البيت المطل على خراب متسع. وقت بدأتُ برسمها، صرختْ.

- قف.. وتوقفتُ.

ابتسمتْ كشمعة تستهلّها النار.

- أتريد أن ترسم الخارطة وحدك؟!

رفعتُ قطعة الحجر الجيري عن الجدار، وفكرت قليلاً قبل أن أجيبك.

- أتريدين أن تكون الخارطة مملوءة بأغنيات البحر والرمل والصبار والقرنفل وأعياد الأطفال، أم تريدينها دولاً في دول، ومدناً في مدن؟!

أغمضت عينيك لتسأليني.

- ونسافر في القرنفل والأعياد بدل العواصم والبلدان.

*​*​*

قال حارس البناية.

- سيارة الأجرة انتظرت طويلاً.

لم يكن يرى الى أي درجة كنتُ مبعثراً، صامتاً، واقفاً وسط الشقة الصغيرة، غير مصدق أنني سأخرج بهذا الشكل.

لمستْ يده كتفي بحنان حارق.

تنهدتُ.

استدرتُ.

استدرتُ باتجاهه وسرنا معاً.

كانت العصا التي اعتمد عليها تأخذ شكلاً جديداً، وكأني لم أستعملها منذ أن فقدتْ ساقي اليسرى قدرتها على الحركة.

كان هذا قبل أشهر. بعدها لم أغادر الشقة.

*​*​*

- هل تودين أن نركض على اتساع الخارطة التي رسمتها أصابعك السمراء هذه؟

- وهل ستجيد المشي على الجدار؟!

- أستطيع أن أجعل ساقيّ تملآن قلب هذه الأرض الممتدة بيني وبينك.

- أنت عنيد. يكفي أن نرسم.

- وساقيّ ماذا أفعل بهما؟!

- أركض.

- بدونكِ؟!

- أعطني واحدة.

ابتسمت، ثم واصلت.

- تخيل أنك منحتني شيئاً من عنادك هذا. من إصرارك على اختصار الدنيا في قرنفلة نهرية. تخيل أنك أهديتني نصف أحلامك ونصف بكائك ونصف عطشك، ونصف نجومكِ.

- هل تمنحني ذلك؟!

- كنت تعرفين بأنني سأقول.

- لا.

*​*​*

عندما شاهدني سائق سيارة الأجرة، هبط من سيارته بعد أن أطفأ سيجارته. ساعد بواب البناية في صعودي للمقعد الخلفي.

همست لهما.

- شكرا.

*​*​*

 كم تشعلين في وحدتي الأسئلة. لا تستطيعين فهمي، ومع ذلك أراك أكثر من يفهمني. تبتسمين حين أقرأ لك مقطعاً من قصيدة، وتحزنين عندما أكون مهتاجاً أشتم كاتباً أو مسؤولاً.

لم تكوني جميلة الى هذا الحد. كنت فقط تملكين غيمة بالغة في الحزن، أراها تسبح في وجهك برفق دون أن تستجدي العطف من أحد.

كنت أحسها تجلدني.

يوماً ما، تجرأتُ وقلت لك.

- هل أنت حزينة؟!

انفجرت يومها في وجهي غاضبة.

- هل نحن هنا للحزن؟!

صمتِّ قليلاً، ثم استطردت.

- متى تتعلم كيف تفرح بي؟!

*​*​*

مقابل مبنى المطبعة، وقف السائق. فتح الباب لي، فشكرته وناولته المبلغ الذي حدده لي.

صارت المسافة بين الشارع وباب المطبعة دهراً غامقاً. فأنا الآن أمشي على ساق وعصا.

*​*​*

ليلة ما حدث، كان السرير يضجُّ بجسدي المتكوم على قلق باهت.

كانت الغرفة تمتليء بأصوات فرقعة أصابعك التي تعودت أن تفعلينها حين تملّين من حديثي الجاد عن غموض السنوات المقبلة.

هتفتُ باسمك.

- توقفي. أنا الآن لا أقول شيئاً.

لكن أصابعكِ واصلتْ الفرقعة.

وعلى إيقاعك بدأت أغني بهدوء، فتوقفت.

- أريد الآن أن أمنحكِ ساقاً تركضي بها. أريد من يشاركني هذا التعب القاتل. أليس هذا ما كنتِ ترغبينه؟!

رائحة غبار متعفن صارت تنساب الى أنفي. برودة مثل هذه التي تصيب من ينتظر موعداً فجائياً، انتابتني. حاولت أن أمنع الذي سيحدث لكنه حدث.

أشباه غربان حطّتْ على ركبتي اليسرى، وأخذت تنقر عظام ساقي.

 

 

الفأرة

 كنتُ أركز عينيّ على الشبكة التي علّقها أبي أثناء حياته على حائط الغرفة الضيقة، وكانت أمي ممددة على فراش متسخ تهذي بعبارات لا يربط بينها سوى الاستغاثة.

سألتها.

- لماذا هذه الشبكة كبيرة يا أمي؟

لم تعرْ سؤالي اهتماماً. أخرجتْ يدها من تحت الغطاء ثم التقطتْ من الأرض حجراً قذفته بقوة ناحيتي ليثقب جبهتي تماماً بين عينيّ.

نزفتُ بشدة حتى فقدتُ قدرتي على الإبصار.

كان قط العائلة يتجول خارج الغرفة. وعندما شمّ رائحة الدم، دفع الباب برأسه ودخل.

سمعتُ أمي تستغيث بعبارات أكثر توسلاً. مسحتُ الدم عن عينيّ، فاستطعت أن أرى القط وهو يمزق جسدها.

حاولتُ أن أنتزع الشبكة من الجدار، ففشلت.

تحشرج الصوت في حلقي.

- أرجوك يا أبي. أرجوك. أطلقها.

قفزتْ الشبكة من تلقاء نفسها في الهواء ثم سقطت على جسدي بكامله، فتكبلتُ تماماً.

لم أستطع أن أواصل النظر الى ما حدث، بل شغلتُ نفسي بمراقبة جحر صغير في الركن السفلي للغرفة.

فجأة، دخل الى الغرفة رجلٌ مهيب، يلفّ على وجهه شالاً صوفياً تحيط جسده فروة من الوبر. انتاب جسدي قشعريرة لا أعرف أي أجزاء جسمي انتفض لها أولاً.

حاولت أن أنطق:

- أبي. يا أبي.

لكنه بدأ يؤشر بحاجبيه للقط الذي استجاب مباشرة، ثم خرج من الغرفة مطأطئ الرأس مرتخي الذيل.

دخل الرجل الغرفة عابراً الشبكة دون أن يرمقني بأية التفاتة.

رفع الغطاء عن أمي التي كانت تنزف بشدة. خلع شاله وفروته، ثم استلقى الى جانبها مطبقاً الغطاء عليهما معاً.

توقفت صرخات الألم التي كانت تطلقها أمي، وانبعث من الجحر صوت لكائن يتحرك.

كانت فأرة تتردد في الخروج.

التقتْ عيناي بعينيها الجاحظتين الساطعتين. صرتُ أحدّق بشدة في عينيها آملاً أن تفهم حاجتي لمساعدتها.

ولأني حدّقتُ كثيراً، سقطتْ دمعة واحدة من احدى عينيّ.

ارتعش جسد الفأرة كما تفعل كل الفئران عندما تنوي التحرك للأمام أو للخلف، فتوقعتُ أنها ستهرب إلى الداخل.

تكررت ارتعاشاتها أكثر من مرة، وعيناها تحدقان بعينيّ اللتين احمرتا بشدة.

بحذر، تقدمتْ باتجاه الشبكة وأنا ساكن لا أتحرك.

بحذر أشد، بدأت تقرض خيوط الشبكة حتى تخلصت.

صارتْ تتفرّس فيّ بعينيها الجاحظتين الساطعتين.

تحركتُ، فتبعتْني.

خرجنا سوياً من الغرفة.

أمام الباب، صادفنا قط العائلة.

وضعت قدمي العارية فوق عنقه بخفة ناعمة، فاستسلم مغمضاً عينيه بغنج.

صرت أضغط ببطء شديد حتى صار عنقه بين قدمي وبين الأرض، وهو ما يزال منسجماً لملاطفتي إياه.

فاجأته بأن وقفتُ بكامل ثقلي على عنقه حتى تفجرتْ عيناه وانقطعت أنفاسه.

صارت الفأرة ترتعش الى الأمام والى الخلف غير مصدقة ما ترى.

 

 

المذبحة

غرقت النخيل بالمطر، فلم يستطعْ ناظرُ المزرعة أن يخرج من عريش العنب. قال لنفسه: سيتوقف المطر وستشربه الأرض، فأخرج.

كان الفصل شتاء وملابسه قد بللتها فاتحة المطر. صار جسده الصغير يرتعد، وتذكر يوم ولدت زوجته مولودها الوحيد.

كان وقتاً مشابهاً، تضوع به رائحة النخيل المبتلة بالماء والهواء القارس.

كان المولود يشبهني، لا تزال بقع الدم تغطي بعض جلده، وكان يرتعد. ضممته الى صدري الذي صار مثل ساحات البلدة شاسعاً ومضيئاً.

- أخاف عليكَ يا لون وجهي وقامة كبريائي.

قلتها هامساً، لكن زوجتي سمعتني، فردت بصوت بحّتْه آلام الولادة: سيعيش كما حلمت. طيراً أخضر، يفتدي النخلَ بجناحيه المرفرفتين دوماً.

ابتسمتُ لها وفي عينيّ حقولٌ بلا مدى، نركض فيها نحن الثلاثة ومن حولنا الناس جميعاً.

ازداد المطر حدّةً، وأخذ البرد يشاركني رئتيّ. أخذتني موجة من السعادة عندما ورد الى خاطري مشهده وهو يرقص ويقول:

- كم أنت صبوراً يا أبي.

من أجل ماذا أصبر؟! لم تعد النخيل فرحتهم، وهامتهم، وحكاياتهم.

أفرك راحتي ببعضهما، فيتداخل مع صوتهما صوت آخر. انظر باتجاه الصوت، فإذا طائر صغير، يحاول أن يختبيء داخل ورقة جافة في ركن العريش.

دون أن يبدي أي مقاومة، التقطته لأمنحه بعض دفء من راحتيّ.

سألته: هل سينتهي هذا المطر؟!

صار يغمض عينيه مستجيباً للدفء.

صنعتُ له مكاناً صغيراً من بعض الأوراق الجافة ووضعته داخله.

هل سيغرق النخيل وينتهي كل شيء؟! إذا كان كذلك فسوف أخرج عارياً لكي لا أشهد المذبحة. لقد قال لي ولدي: الى متى تظل أجيراً ترعى نخيل الناس وبيتَكَ جافٌ، لا ترتوي فيه عشبة.

صرختُ في وجهه: ألا تستحي يا ولد؟! أنا لست أجيراً. أنا أعمل في بلدة هي لنا كلنا، وليست ملكاً لأحد. من قال إنني أجير؟! أنا أحمي قامات النخيل لكي تبقى مهيبة.

- ومن ذا الذي يحمي قامتك يا أبي؟!

- أنت.

- أنا أبحث عمن يحميني.

- أتريدني أن أقوم أنا بحمايتك.؟!

- يا أبي. يا بخوراً يفوح في هوائنا الفاسد. أنا لا أريد منك سوى أن تتمدد داخل قلبي. وهناك أزرع لك نخلة وغنِّ لها ليل نهار.

- قل لي يا ولد: أتخاف مني؟!

- أخاف أن تموت وحيداً.

بدأ العصفور ينفض ريشه. صار يطالعني ثم يطالع المكان. قد يكون الآن في دفء أرحم.

أخاف أن ليس هناك فرق بين هذا العريش وبين بيتي. ولكن لا بأس، طالما أن زوجتي رحلتْ الى حيث لا يرجع الناس، إلا في حلم حزين.

لقد حلمت بها تدعوني، والأموات لا يدعون الأحياء إلا إذا اقترب أجَلُهُم.

هل سينتهي هذا النخيل وأنا غرقاً؟!

لن أغرق هنا.

سأخرج لأغرق بين تلك النخيل السامقة. هذا أفضل من أن أموت داخل بيتي الخاوي. يجيء ابني من بيته، من الجهة الجديدة للبلدة، فيجدني جثة بين هذه الجدران القاتمة.

لا.. لا.

أخذ العصفور يطلق أصواتاً أشبه ما تكون بالضحك. اقتربتُ منه، وضعتُ اصبعي على منقاره، ففتحه. بحثت حولي، فإذا تمرة جافة. قطعت منها جزءاً صغيراً ومددت له، فالتقطها.

شعرت بجوع كجوع العصفور، فأكلت بقية التمرة. وبحثت عن أخرى.

كان في العريش العديد من التمر الجاف.

شعرنا معاً بالشبع.

صار العصفور يهز جناحيه بقوة.

وضعت له كفي فقفز إليها. حركتها إلى الأعلى فطار في مساحة العريش وصرت أُلاحقه.

بدأ الدفء يسري في جسدي.

بعد دقائق وجدتني أجلس في ركن العريش وأنا أدندن بأغنية شعبية، حفظتها عن جدي الذي كان أشهر ناظر نخيل في البلدة.

غفوت.

وبعد مدة لا أعرف مقدارها، صحوت على أشعة الشمس تسطع في وجهي، وعلى العصافير تملأ العريش.

خرجت، فلم أجد أثراً لأي نخيل.

 

 

الملوحة

تخلع الصدفةَ عيناه. يبحث في رتابة الشاطيء عن مفردة تملؤه وحده. يستفيق الغناء من الخليج الملوث، لكنه يبيح لأصابعه أن تغتال مواويل دجلة، فيغادر النهرُ انتظاره.

في المقهى، تتشابك المقاعد الخاوية. الأواني لا تزال تحتفظ ببعض الحكايات وبرائحة التبغ والشاي والأمنيات. سترة النادل صارت بحجم الشارع الشعبي كي تبعد الأطفال عن الأسئلة.

اتكأ فراغُ الحارة على صوته الخافت. أجبرته المدينة المندهشة أن يمسح عن جدرانها أجساد الأصدقاء واحداً واحداً.

- ما لنا ولهذه الحرب؟

من تلك القهوة التي تحرق جوفه، اختلس لحظات كان ينقشها على عينيها الخائفتين. الكتابة لم تنصفه واللحن في ذلك المساء وقف عند جنود الإذاعة المحزنة. في المنفضة، كان يرى أعقاب طرق مدينته تتحول الى رماد أزرق. داخل كراسة لوحاته المتعبة، كبّ محتويات المنفضة وبكى. بكى حتى صارت الأرض أقبية من جليد.

- لماذا اندلعت الحرب؟

خرج. فتش في طفولته عن موقع كان يرويه بالأجوبة. أزاح بقايا حطام المدينة بكفيه. صار يدوّر بسبابته عن موقع تكبر فيه البلاد. كل المواقع كانت مليئة بالحرس. لما انتهى لم يجد سبابته. أقفل طفولته وصار يركض باتجاه الشط.

النهران يتفجران زيتاً ودماً. ملأ راحتيه، شرب، ونثر على وجهه. انتظر قليلاً، لكن الأجوبة لم تأتِ. عرف أن المسافة باقية على قدميه وأن الطريق الى الأصدقاء مثل الطريق الى القصيدة.

السفر ملوحته كافرة والطريق الى الخارج يحفل بمزيد من الأسئلة. خبأ ترابها في عينيه واستغرق في حلم الرحلة الحي.

- الى أين والقرى تستغيث؟

أخفى عذاباته داخل تأشيرة السفر.

- أبحث عن دواء.

في بلاد مطرها محزوم على خاصرة الغامضين، صار يفتح قصائده للذين يشربون غروب الشمس كل يوم. شاهدته يتلّمس لوحة بيضاء، بيضاء تماماً. قلت له: ما أروع أن نميّز العلاقة بين الألوان. ظل صامتاً. رفعتُ يديه عنها وطالعت بصمات أصابعه. كان لخطوط بصماته استقامة مذهلة. قال: هل تشاركني السفر؟! ضحكت وأخرجتُ له لفافة تبغ.

 

 

العريف

وحده بيتك الذي لم يقفز الى الأسمنت.

كل يوم، ترجع إليه مرجوماً بالظهيرة، محمولاً بالمدرسة، وبغبار الأطفال الذين عندما تصيح فيهم أن يلزموا الدرس، يزدادون في الغبار.

- أليس غباراً جميلاً؟

- بلى. لكنني أريدهم أن ينصتوا للدرس.

كم تنهشك اللغة، وينهشك الشارع الذي قفز.

ترفع ثوبك، وأنت تعبر ذهاباً وإياباً، أكواماً لوحل المباني الجديدة.

- يجب أن يكون المدرس نظيفاً كي يحبه الأطفال.

لكن البيوت التي حول بيتك تتهيأ لنظافة ستحزنك.

تحاول أن تلوذ باللغة، فتنكسر.

- إنني خائف على الفصحى.

تخنقك أيام الإجازة الأولى. تخنقك الجدران التي تجاورك وهي تصعد ممزقة أحجار قلبك.

أغاني العمال، وهي تتطاول على السقالات تحرمك من قمر فصيح تحاول أن تتلوه على فراغك الصيفي.

تغلق بابك، وتسافر خارج المدينة، حيث القرى تزدحم بأطفال لا يجدون مُعلّماً يعبرون به الفرصة الثانية.

على جدار مدرستك الأولى تتكيء.

تبحث في شقوقها التي ازدادت عن حروفك الأولى، وأقلامك الأولى.

تفتش عن خوفك الأول، الذي كان يعصرك عندما يتنامى صوت أقدام المدرس. يصيح العريف، بالفصل الذي صار موطئاً جامداً.

- قيام.

فتنتصب الأرض بأقدام نصفها حافية. وتنفتح الدفاتر على الأصابع التي تشير، وهي تنتفض، الى صفحة المبتدأ.

منظر بيتك، وهو يضيع وسط اسمنت المدينة الجديد، ومنظر الأطفال وهم يرجمون الفصحى، يشتبكان يداً بيد، ولا يتيحان لك الغرق أكثر في أشيائك الأولى.

لا تدري لماذا يغمرك خيال بأن الأسمنت سيتطاير من جدران المدينة، وسوف يستقر على ألسنة الناس.

يجتمع حولك أصدقاء لم يبارحوا القرية قط.

يسألك أحدهم.

- لماذا يضعف بصرك سنة بعد سنة؟

مطاردٌ وحدك باسمنت المدينة، وبصر القرى.

ها انتهى صيف من حائط التقويم، وها أنت تعود بعد أن غرست في مهجتك مزيداً من عشب الفصحى التي لم تترك دفاترها يديك طيلة الصيف أو طيلة القرية.

تستهل دخول المدينة بشارع المدرسة، فلا تجدها.

تسأل وجوه الأطفال في شرفات بيوتهم الجديدة.

- انتقلت.

تذهب حيث صارت، فتجدها غاية في الحدائق والزجاج والملاعب. تدخل.

تبحث عن لوحات كنت قد خَطَطْتها بمقاطع من شعر أبي تمام وأبي الطيب المتنبي، وزخرفت بها الجدران القديمة.

يرشدك الحارس لغرفة مستودع.

تفتح بابها.

تقرر البحث، لكن هواء المكيف يُرخي مفاصلك المغبرة بالسفر.

تضع حقيبتك. تستلقي على السجاد بخدر.

وبخدر، تفكر كيف تجعل الأطفال يخافون عندما يتنامى صوت أقدامك اليهم.

تتساءل.

- هل سيقبل أحدهم أن يكون عريفاً؟

يُقرع الجرس، فتهرول إلى الفصل.

واسع هذا الفصل، أبيض، ذو نوافذ كثيرة، وطاولات متباعدة ومرتبة. الأطفال يجلسون بكل أدب وترتيب ورهبة. يفتحون دفاترهم على صفحة واحدة.

تندهش عندما ترى أنها صفحة المبتدأ.

تبحث بين الأطفال عن أطولهم قامة.

تشير اليه بثقة.

- أنت.. ستكون العريف.

- حاضر يا أستاذ.

تفرح لهذا الإفتتاح، وتتجه الى السبورة، لكنك تشاهد سُحباً من الأسمنت تدخل من النوافذ، لتملأ الفصل.

عندها، يقوم الأطفال من مقاعدهم.

يجتمعون على العريف.

يحملونه معاً، ثم يرمونه من النافذة.


حربُ الحرب

 رجع الرجالُ الى بيوتهم، استعداداً لحرب الغد.

قال لها.

-سأعود.

أسندتْ رأسَها على صدره، وانخرطتْ في بكاء.

بصوتٍ تصاعدَ من حرقة صدره، صار يغني أغنيةً رملية.

توقفتْ عن البكاء، ورفعتْ رأسها لتراه مغمضاً عينيه، ومن بين شفتيه تخرج الأغنيةُ مثل جمرةٍ تستوي على عرش شتاء.

-كنتَ تغني لي هذه الأغنية، كلما صادفتَني أعبرُ حقلَك.

-وكنتِ تُخفين في مشيك رقصاً بحجم الأفق.

-عندما تجرأتَ وناديتَني، وقفت. أحسستُ بفراشات الحقل يطرن اليَّ، وبأزهار الليمون يتحوّلنَ الى مصابيح خافتة.

-قلتُ لكِ: هذه السواقي تعزف لحنَ الأغنية. أتعجبكِ؟!

-نعم. وحطّتْ على شعري غيمتان، ورأيتكَ ترقص. ترقص حتى استحال الحقلُ مهرجاناً من الضوء.

-سألتكِ: أتحبينَ النهار؟؟

-أنتَ نهاري الذي إن جفَّ، جاء الليلُ محمولاً على جياد من السكّر. مددتَ يديكَ، فانتابتني رعشةُ برعمٍ أصابه الندى.

-ومددتِ يديكِ، فاذا المساءُ يشير الى الكون أن يستحيلَ غطاءً لأصابعنا المرتجفة.

-وهل ستتركني الآن؟؟

-سأعود. سأنثر الطين على أذرعة العدو، وأعود.

-الحربُ لا تعيد أحداً يا حبيبي.

-من أجلكِ، سأحاربُ الحرب، وسأعود.

 

 الأرض مزدحمة بالأسفلت، وأنا أمشي منقطعاً من الماء والهواء.

ليس غير الأسفلت، يغطي المسافة من قدميّ الى كل الاتجاهات، وليس غير العتمة، تمتدُّ من عيني الى النبض المخيف الذي أسمعه يدوّي في الاتساع الذي لا أراه.

أظلُّ أمشي، كي أمنح خوفي شيئاً من العري ليسبح في رجاء، أو بعض رجاء. أسمع الغربان ترفرف فوق رأسي، وأحس أنني عاجز عن هشها حتى لا تعرف موقع لحم جمجمتي، فتنقض عليه.

- لا داعي للركض.

أقول لنفسي.. لكن ساقيّ تهتفان للهواء، فأصير أهرول في اتجاه واحد.

من بعيد، ألمح شيئاً كالضوء.

أركض الآن.

أركض، أركض، حاملاً رئتيّ اللتين أنهكهما سعالٌ قديم.

يبتعد الضوء، أو أنني لا أركض.

لكنني أركض.

- ربما الى الخلف؟

أتساءل.

أسقط، وأنا أمدّ كفيّ نحو الضوء.

تتأرجح الإغماءة على حبل انغرس على جبيني، لكنني أقتلعها.

أرفع عيني، فأرى الضوء يضج بجواري.

أركز بصري في هذا الضوء، فأجده خارجاً من قلعة ملونة.

أندهش لشكل هذا البناء الخارج فجأة من قاع الاسفلت، ولهذه الأصوات المختلطة التي تأتي من خلف أسوار هذا البناء.

أحاول الصراخ. أبتدأُ المحاولة، لكنهم فجأة يصمتون.

أصمت.

ينفتح الباب، فتخرج مجموعة من الأطفال.

يسحبونني من ذراعيّ، ويجعلون ساقيّ تزحف على الأسفلت.

يدخلونني إلى القلعة، ثم يغلقون بابها الضخم بأطراف أصابعهم.

يضعونني وسط الساحة حيث تمتليء بحشود من الأطفال الذين يلبسون ثيابا بالية.

يطلب واحدٌ من الأطفال الذين يمسكونني أن أفرغ ما في جيوبي.

بتوتر شديد، أخرج كل ما في جيوبي: "علبة سجائر جافة، محفظة ليس بها إلا هويتي الممزقة، وصفحة من رسالة امرأة لا تعرفني، كنت قد رسمت على ظهرها شمساً مكسورة".

يضع هذا الطفل محتويات جيوبي في كيس صغير ويطلب مني أن أتقدم أكثر، حتى أصير في منتصف الساحة تماماً.

يصنع الأطفال دائرة واسعة حولي.

بإشارة من طفل يجلس في منارة القلعة، تهبط الغربان اليّ.

تنقر الغربان جمجمتي، فينفجر مخي.

تضيق الدائرة التي حولي، ليشاهد الأطفال قاع جمجمتي.

ينذهلون عندما يشاهدونها مليئة بوجوه، تشبه وجوههم.

يبدأون في البكاء، فترحل الغربان تاركةً جثتي هامدة.

 

 

ملجأ الصبر

 بدا من رسالتِها التي لم تحملْ سوى جملةٍ واحدة، أنها نفضتْ الضبابَ عن كتفيها قبل أنْ تكتب، تماماً كما يفعل الذين لا يهابونَ نافلةَ الحبر، أو كما يفعل المرتدّونَ عن هجير الصمت.

قرأتُ جملتَها بتروٍ شديد:

-"من سجّاد المدنِ لمظلَّاتها،

كفاكمْ حجباً للمطر".

أعرف أنها لم تخرج يوماً عن ملجأ الصبر، لكنَّها حين تبوحُ بأنَّ هناكَ من يحجبُ المطر، فهذا يعني أنَّ الملجأ صار موارباً، وأنَّه حان الوقتُ كي أستبيحَ عظامَها.

مرةً، أسألُ نفسي بخوف:

- كيف ستكونُ عظامُها؟

ومرةً أخرى، أقولُ بطمأنينة:

- ما دام لصدرِها قفصٌ، فسوف تدركُ أن للعصافيرَ أجنحةً من ذهب.

نهضتُ عن سريري.

فتحتُ النافذةَ، فرأيتُ الشارعَ يتدلَّى برتابةٍ من أعمدةِ النور اليابسة.

بدأتُ في التفكير بالجملة من جديد.

هناك وضوح في معنى، "من سجّاد المدن لمظلاتها":

السجّاد، غطاءٌ لا يمنحُ الأرضَ شراراتِ انعتاقاتها.

المظلات، سقفٌ لا يبيح للفضاء انهماراتِه.

وبين الغطاءِ والسقف، هناكَ من يحجبُ المطر. والمطر خارطةٌ، نصفها عتقٌ ونصفها انهمار.


 

ضوءُ غرفتها

"حبيبتي، لن أعمل بنصيحتكِ، فمن غير الممكن أن أكفّ عن تسمية الأزهار باسمك. تعرفين أيتها الشاطئية كم أجنُّ أمام زهرة. تجدينني أخطفها من غصن الأرض، وأركضُ بها. أغرسها في تربة حوضي، وأجعلها تنمو نحو وجهي. هي لن تحيا طويلاً. سوف تذبل، لأن حوضي الصغير لن يمنحها اخضراراً دائماً. أعرف أنها ستذبل. لكن من غير الممكن أن أكفّ عن تسمية الأزهار.

حبيبتي، صدقيني، لن تذبلي، ما دامت كل الأزهار باسمك."

طويتُ الرسالة، وهممتُ بالخروج إلى مكتب البريد.

مررتُ أمام غرفة أختي، فوجدتُ أمي تتربع على الأرض الملاصقة لبابها.

سألتها.

- ألم تفتح؟

هزّت رأسها المنكَّس، دون أن تنطق عيناها نظرةً واحدة لي.

نسيتُ، الى أين كنتُ سأخرج.

أرخيتُ ساقيّ، ثم طويتهما إلى جانب أمي.

طالعتُ وجهها، فإذا مدن الأرض الممزقة، خفافيش تنشُبُ مخالبها في جلوسنا المستتر.

قفزتُ واقفاً.

هززتُ باب الغرفة، فانفرط القفل.

تخبّطتُ داخل الظلام باحثاً عن النافذة، ووجدتُ نفسي أدفعها بكل عنف، لينفجرَ المكانُ بالضوء وبالهواء.


 

الجثة

 الأرض مزدحمة بالأسفلت، وأنا أمشي منقطعاً من الماء والهواء.

ليس غير الأسفلت، يغطي المسافة من قدميّ الى كل الاتجاهات، وليس غير العتمة، تمتدُّ من عيني الى النبض المخيف الذي أسمعه يدوّي في الاتساع الذي لا أراه.

أظلُّ أمشي، كي أمنح خوفي شيئاً من العري ليسبح في رجاء، أو بعض رجاء. أسمع الغربان ترفرف فوق رأسي، وأحس أنني عاجز عن هشها حتى لا تعرف موقع لحم جمجمتي، فتنقض عليه.

- لا داعي للركض.

أقول لنفسي.. لكن ساقيّ تهتفان للهواء، فأصير أهرول في اتجاه واحد.

من بعيد، ألمح شيئاً كالضوء.

أركض الآن.

أركض، أركض، حاملاً رئتيّ اللتين أنهكهما سعالٌ قديم.

يبتعد الضوء، أو أنني لا أركض.

لكنني أركض.

- ربما الى الخلف؟

أتساءل.

أسقط، وأنا أمدّ كفيّ نحو الضوء.

تتأرجح الإغماءة على حبل انغرس على جبيني، لكنني أقتلعها.

أرفع عيني، فأرى الضوء يضج بجواري.

أركز بصري في هذا الضوء، فأجده خارجاً من قلعة ملونة.

أندهش لشكل هذا البناء الخارج فجأة من قاع الاسفلت، ولهذه الأصوات المختلطة التي تأتي من خلف أسوار هذا البناء.

أحاول الصراخ. أبتدأُ المحاولة، لكنهم فجأة يصمتون.

أصمت.

ينفتح الباب، فتخرج مجموعة من الأطفال.

يسحبونني من ذراعيّ، ويجعلون ساقيّ تزحف على الأسفلت.

يدخلونني إلى القلعة، ثم يغلقون بابها الضخم بأطراف أصابعهم.

يضعونني وسط الساحة حيث تمتليء بحشود من الأطفال الذين يلبسون ثيابا بالية.

يطلب واحدٌ من الأطفال الذين يمسكونني أن أفرغ ما في جيوبي.

بتوتر شديد، أخرج كل ما في جيوبي: "علبة سجائر جافة، محفظة ليس بها إلا هويتي الممزقة، وصفحة من رسالة امرأة لا تعرفني، كنت قد رسمت على ظهرها شمساً مكسورة".

يضع هذا الطفل محتويات جيوبي في كيس صغير ويطلب مني أن أتقدم أكثر، حتى أصير في منتصف الساحة تماماً.

يصنع الأطفال دائرة واسعة حولي.

بإشارة من طفل يجلس في منارة القلعة، تهبط الغربان اليّ.

تنقر الغربان جمجمتي، فينفجر مخي.

تضيق الدائرة التي حولي، ليشاهد الأطفال قاع جمجمتي.

ينذهلون عندما يشاهدونها مليئة بوجوه، تشبه وجوههم.

يبدأون في البكاء، فترحل الغربان تاركةً جثتي هامدة.


 

 ــــــــــــــــــ

كُتبت هذه النصوص ما بين 1985م و1987م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...