يحتفل الحقل كل فجرٍ، بمصابيح النهار الأولى. يلوّن الاشجار بأغنيات العصافير، ويعطّر الأزهار بألوان الغيوم.
يتراقص الهواء فوق قمم التلال البعيدة، ثم يقترب من الشياة والأبقار، وهي تتثاءب مبتسمةً، وكأنها تستجيب للأغنية التي تنبعثُ في الفضاء، من قلب الندى المتراكم على الأغصان.
"صباحَ العشبِ يا حقلي.
صباح النهرِ والسهلِ.
صباحٌ ينثر الأنوار، في ترنيمة الأمل.
حنوناً يجمع الأحباب،
يُهديهم شذا القُبَلِ.
ويُمطرهم بدفء الشمس، يدفعُهم الى العمل.
تعالوا نزرع الألحان،
نحصدها بلا كلل".
انتشرت الحيوانات الأليفة في المرعى، وهي تردد الأغنية. رأت البقرةُ شاةً صغيرة جميلةً، ذات صوف أبيض، وهي تتسابق مع ابنها العجل، ذي اللون البنيّ المرقط.
قالت الشجرةُ للبقرة.
- لقد كبُر ابنُك.
فردّت البقرة عليها.
- أجل. لقد كبُرت.
كان العجل سعيداً، وهو يرفعُ قوائمه الأمامية بثقة شديدة عن الأرض، قائماً بعد قائم، ثم ينزلهما مرة أخرى.
كان العجل سعيداً بالمشي.
كان سعيداً بالأرض، وكانت الأرض سعيدة به.
دون أن تشعر الشاة، ودون أن يشعر العجل، وجدا نفسيهما بعيدين عن الحقل.
قالت الشاة للعجل.
- هيا نرجع.
ردّ العجلُ.
- دعينا نمشي قليلاً حتى نصل للنهر.
- أخشى أن نضيع.
- النهر ليس بعيداً. انظري. انه قريب. هيا يا صديقتي الشاة.
بعد أن وصلا الى النهر، أخذا يشربان من مائه البارد العذب.
سألت الشاةُ صديقها العجل.
- هل أنتَ سعيد؟
أجابها.
- أجل. إنني مملوءٌ بالنشاط والحيوية والصحة.
سمعت الشاة رفيف أجنحةٍ بالقرب منها.
طالعت عن يمينها، فشاهدتْ نحلةً صغيرة، وصاحتْ بها.
- صباح الخير يا صديقتي النحلة.
لكن النحلة لم تجبْ.
حلّقت لمسافة قصيرة، ثم حطّت على صخرة بجانب النهر.
اقترب الصديقان، الشاةُ والعجلُ منها.
سألها العجل.
- ما بكِ أيتها النحلة؟
أجابت النحلةُ.
- اتركاني وشأني.
طالعت الشاةُ صديقها العجل باستغراب.
قالت الشاة للنحلة.
- نحن صديقاك. كيف نتركَكِ وشأنَكِ؟ أنتِ دوماً تُسعديننا بصوتك، الذي يُغنّي أغنية الصباح.
استطردت النحلةُ.
- لا تذكري لي الأغنية الآن.
فاعترض العجلُ.
- إننا نحبُ هذه الأغنية.
ابتسمتِ الشاة ابتسامةً عريضةً.
- آه لو تسمع يا صديقي العجل صوتَ النحلة الجميل.
صرختْ النحلةُ.
- كفى. كفى. أرجوكِ يا صديقتي الشاة. كفى.
هدّأ العجل من روع النحلة ثم قال لها.
- أخبرينا ما بك أيتها النحلة؟
مسحت النحلةُ الدموع التي سالتْ من عينيها، وهمست بصوت مبحوح.
- لن أستطيع أن أستخرج للناس عسلاً بعد اليوم.
سألتْها الشاةُ بدهشة.
- لماذا؟
أجابت النحلةُ.
- لأنني مريضة.
بدوره، توجّه العجل لها بالسؤال.
- مريضة؟
تلَعَثمَتْ النحلةُ، قبل أن تكمل.
- أنا لا أعرفُ كيف أشرحُ لكما الأمر، لكنني سأروي لكما قصتي من البداية.
اقترب العجل والشاة من النحلة، ليستمعا للقصة.
"ذات صباح، أفقت من النوم مرحةً مُستبشرةً. غادرتُ الخلّية، ثم حلّقتُ فوق الحقل، وأنا أغنّي للأشجار، الأغنية التي تحبها.
"صباح العشبِ يا حقلي
صباح النهر والسهر
صباحٌ ينثرُ الأنوار، في ترنيمة الأمل.
حنوناً يجمعُ الأحباب،
يُهديهم شذا القُبلِ
ويُمطِرَهُم بدفء الشمس، يدفعهُم الى العمل
تعالوا نزرع الألحان،
نحصدها بلا كلل".
حططتُ فوق وردةٍ جميلةٍ، ثم قلتُ لها.
- صباح الشهد يا صديقتي الوردة.
لم ترد عليَّ. فاعتقدتُ أنها نائمة. ولكي أمازحها، بدأتُ أمتصُّ رحيقها اللذيذ، الى أنْ امتلأ بطني.
بعد أن طرتُ شعرتُ بآلآم شديدة، فتوقفتُ على غصنِ الشجرة المجاورة.
سألتني الشجرة.
- لماذا يبدو وجهُكِ شاحباً؟
أجبتها.
- أعتقدُ أنني ملأتُ بطني أكثرَ مما يجب.
- هل امتصصتِ الرحيقَ من ورد جارتي.
- أجل. لماذا تسألين يا عزيزتي الشجرة؟
- إنها مصابة بمرض خطير.
صرختُ في وجهها.
- كيف عرفتِ؟
- لقد هاجمَتْها مخلوقاتٌ جرثومية، ثم دخلتْ في دمها، مسببةً لها هذا المرض.
شعرتُ بخوفِ شديد، قبل أن أسألها.
- هل يعني هذا، أن المرض انتقل لي؟
نكّسّتْ الشجرة رأسها حزناً.
- أظن ذلك.
بكيتُ كثيراً، لكن الشجرة خفّفت عليَّ.
- لا تجزعي أيتها النحلة.
ربما يشفيك الله من هذا المرض.
قلتُ للشجرة.
- هذه الجراثيم تكرهنا.
- فعلاً هذه المخلوقات أعداءٌ لنا. عُدْتُ الى الشجرة الأولى، وأخذتُ أحدِّقُ في رحيق الوردة.لم أكُنْ أتوقع أنني سأرى الجراثيم. كان شكلها بشعاً ومخيفاً. لها أفواهٌ يسيل منها سائلٌ لزجٌ أسود. سألني أحدُ هذه الجراثيم.
- لماذا عُدتِ؟ ألم تشبعي؟
- إننا ننتظرُ غيركِ. هيا.
- أغربي عن وجهي.
سألتُهُ والدموعُ تملأ عينيَّ.
- ماذا فعلتُ لكم حتى تسببوا لي المرض؟
ضحك ضحكةً ساخرةً وطويلة.
- أنتِ لا تعنين لنا شيئاً أيتها النحلة الغبيّة. إنك مجرد وسيط لكي نصل من خلالكِ الى عدونا الأساسي.
- عدوكم الاساسي؟ من هو عدوكم الأساسي؟
ضغط علي أسنانه بحقد.
- الانسان.
سألته بدهشة.
- صاحبُ الحقل؟
أجاب.
- أجل. الانسانُ صاحبُ الحقل.
- لكنهُ طيبُ القلب. هو الذي يغرس البذور، ويرويها الى أن تصير أشجاراً تملأ الحقل بالظلال.
قاطعني قائلاً.
- سنصيب كل هذه الأشجار بالمرض، شجرةً شجرةً. سنصيب كل النحل بالمرض، نحلةً نحلة. وحين يأكلُ عدونا الإنسانُ الثمارَ، ويشربُ العسلَ، سيصابُ بالمرض. وكل إنسان سينقل المرض لأخيه الإنسان، حتى يصاب كل الناس بالمرض.
عاد الجرثوم يضحكُ بهستيرية، وعيناه تتقدان بشرر الكراهية. لم أجد لي حيلةً سوى البكاء المرير. أخذتُ أبكي وأبكي وأبكي، والألمُ يمزق بطني.
قال العجلُ للنحلة بعد صمتِ حزين.
- لا عليك أيتها النحلةُ الطيبة، كلنا نحب الانسان. لذلك، سنجدُ طريقةً للتخلص من هذه الجراثيم اللعينة، قبل أن تنتقل من هذه الشجرة الى غيرك.
طالعت الشاةُ وجهَ العجل، ثم سألتْه.
- كيف؟
أجاب.
- قبل أن أقول لكما كيف، أرجوكِ أن تدلينا أيتها النحلةُ على مكان الشجرة المريضة.
طارتِ النحلة، ثم تبعها العجلُ والشاةُ الى أن وصلا للمكان المطلوب.
قالت النحلةُ، وهي تشير للشجرة. هذه هي. ثم أضافتْ.
- قلْ لنا الآن. ماذا ستفعل؟
- سأخبر أبي القصة. أبي، كما تعرفان، يمتلكُ قروناً قوية. سيأتي، هو وأصدقاؤُهُ، لينطحوا الشجرة، حتى يقتلعوها من الأرض.
صاحت النحلةُ.
- ستقتلون الشجرة؟
- أجل إنها الطريقةُ الوحيدةُ التي ستخلّصنا من الجراثيم التي احتلّتْ كل دمها.
توجهت الشاةُ بالسؤال للعجل.
- أليس هناك طريقةٌ أخرى؟
- ربما. لكننا، معشرَ الحيوانات لا نمتلكُ طريقةً سواها.
فكّرتْ النحلةُ بالأمر، ثم قالت.
- وستقتلونني أنا أيضاً؟
بادرت الشاةُ.
- أنتِ لن تُخرجي عسلاً للناس من بطِنكِ. لذلك، فلن ينتقل المرضُ منكِ لأحد.
سألتِ النحلةُ العجل.
- ومتى ستقتلون الشجرة؟
أجاب العجل.
- غداً صباحاً.
عاد العجل والشاةُ الى أهلهما. رأتهما وهما يبتعدان عنها، ثم أخذتْ تطالعُ الشجرةَ المريضة، والحزنُ يملأ قلبها.
فجأةً، سمعتْ صوتاً يناديها.
- أيتها النحلة. أيتها الحلة.
أجابت النحلة.
- من ينادي؟
- أنا جارة الشجرة المريضة.
طارت النحلة اليها، وحطّتْ على أحد أغصانها.
- خيراً أيتها الشجرة.
- أتريدين أن تنقذي جارتي الشجرة المريضة من الموت؟
زعقت النحلة.
- أجل. أجل، يا صديقتي الشجرة.
صمتتِ الشجرة قليلاً، ثم قالت.
- أتعرفين الشجرة العجوز التي تسكنُ في طرف الحقل؟
فكّرت النحلةُ لبرهة، ثم أجابت.
- نعم، أعرفها.
- طيري لها، وأخبريها بالأمر. إنها حكيمةُ الأشجار وسوف تجدُ دواءً للشجرة المريضة.
طارت النحلة من الغصن، واخذت تتقافزُ في الهواء، من شدة الفرح.
صاحت بها الشجرة. هيا. هيا. لا تضيعي الوقت.
- أمركِ يا صديقتي.
طارت النحلة الى أن وصلت لحكيمة الأشجار. وبعد أن حطّتْ أغصانها، أخبرتها بالقصة. طلبت الشجرةُ الحكيمة من النحلة ما يلي.
- اذهبي الى الأشجار التي سأصفها لك. امتصي من كل وردة شجرة قليلاً من الرحيق، وستجدين نفسك بعد ساعات قد شُفيت من المرض. بعدئذِ، تخلصي من العسل الذي في بطنك، ثم افعلي نفس الشيء مرةً أخرى، وسيتجمعُ في أحشائك الدواء. وما عليك سوى أن تفرغينه في وردة الشجرة المريضة، وسوف تُشفى بإذن الله من المرض.
في صباح الغد، رأتِ النحلة الثيران وهي تقبل من بعيد، يتقدمها العجل والشاة. أسرعت النحلة نحوهم، وهي تصرخُ بأعلى صوتها.
- لقد شفيتُ من المرض، ولقد شُفيَتْ الشجرة أيضاً، ولم يعد للجراثيم وجود. لقد نجونا من الجراثيم ومن خطر انتقالها لنا.
عادت الثيران من حيث أتت، وانطلقت النحلةُ، خلفَها العجل والشاةُ باتجاه الشجرة التي عادت لها الحياة، ثم أخذوا جميعاً يغنّون.
"صباح العشبِ يا حقلي
صابح النهر والسهر
صباحٌ ينثرُ الأنوار، في ترنيمة الأمل.
حنوناً يجمعُ الأحباب،
يُهديهم شذا القُبلِ
ويُمطِرَهُم بدفء الشمس، يدفعهُم الى العمل
تعالوا نزرع الألحان،
نحصدها بلا كلل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق