رفيف الظل



 

أيها العطشان؛

ماذا ستفعل حين تدرك أنَّ كلَّ هذا الماء قربك، مجردُ سراب، وأن الحقيقةَ التي كنتَ تظنُّها ستروي ظمأ السؤال في داخلك، ستظلُّ تبتعد عنك كلَّما اقتربتَ من حوافها؟ ومن سوف ينقذك، حين تتشققُ شفتاكَ من الصراخ في وادٍ لا يسمعك فيه أحد؟ وإذا عثرت يوماً على كتابِ الزمان ممزقاً ومحروقة متونه وحواشيه، كيف سترممُ المعاني التي حُوّرت؟ وكيف بعينين مفقوءتين ستقرأ سيرةَ من تناسلوا في التكرار؟ 

هؤلاء أقوامُ الرتابة الذين ربطوا خيوطَ البداية بنهاياتها، وتراقصوا على حبال واهنةٍ منتسبين للأشباه. أشباه بشر أحياناً، وأشباه وحوشٍ لهم ظلال من نار. عاشوا وعاثوا، وكانوا غافلين حين هبّت عاصفة الرماد في وجدانهم فأمطرتهم حقداً، وما عادوا يملكون سوى الاقتتال في حلبات العبط. بخناجرهم الصدئة ينحرون الورد، وبكلمات ميتة يدفنون نداء الأمل.

في الصباح، تغرقُ الشوارعُ بأقنعةِ الليل، بمسرحياتِ الليل وببقايا الجماهيرِ وهي تخنقُ الممثلين والممثلات.

في الصباح، تنظرُ اليكَ القهوةُ بكلِّ أسًى وأنتَ تمزّقُ كلّ هذا الليل.

ليس للفراشة مناصٌ سوى أن تغوي الليل وتتذوق ملاءةَ الصحو، والنار شهوة الآلهة. الكتابُ آلةُ الزمن، والحبرُ زيتها. القلمُ آلة الحياة، والكلمة بيتها. ويبقى أن أشعَّ ببوصلة الصمت ثم أهطلُ شرقَها. حدود الخرائط ممحوة بفعل الحب، لتُيسِّر له ان يُعيدَ صياغتها مجدداً.

انظر إلى الموت، لا مفر منه ولا نجاة. 

قم إذاً، وتعال مكتظاً بالحياة. التفت للأشجار، حتماً ستهديك آياتها وستوسوس لك نداها.

نعم، 

في الليل، الشجرة سيدة الغابة ومليكة الزرقة.

 

 

شهيق الزرقة الأخيرة

 

تخنقُهُ الزرقة، ولا تنقذ روحَه سوى الشجرة. تمحو موتَ المشهد في عينيه، تتراءى رويداً رويداً، يراها وهي تعبرُ البرزخَ بساقيها العاريتين، يزحفُ الشهيقُ إلى صدره، فيسقط على أغصانها جثةً حالمة.

لم يعدْ متاحاً لنا التمييز، الأشجار والجثث، التدافع ذاته، الغابة ذاتها، الوحوش تختلف. لا تتغير، لكنها تختلف. يبقى لنا شهيقٌ واحدٌ قبل كل شيء، يبقى لنا الشهيق. وإذا اقتربتَ من نهر الدم الذي سفكوه كي يجري تاريخهم، هل تجرؤ على اغتراف قطرة واحدة؟ إن شربتها، يهتفُ بك الشيطان. هل تفعل ذلك لتصيرَ سيداً في ليل الدخان، أم أنّك تفضّل انتظار مطر في سحابة كاذبة، ومع ذلك فإنها ستأتي؟

هذا تاريخكَ يتلوى مثل ثعبان عملاق، يهشم مدناً كنت تظنها حصنَ ماضيك. وهذا يومُك يتراجع ليصيرَ أمْسَك الذي أشحتَ بوجهك عنه وقلت إن الحقيقةَ ملكُكَ وحدك، وإن سرَّ ما جرى مدفونٌ في بئرٍ عميقة لا قرارَ لها، وإن الذي يطمسه التاريخُ لا يعودُ يظهر أبداً. لكن هيهاتَ أن تموتَ الحقيقةُ، حتى لو ردموها بأطنانٍ من الورق المزيّف. فالقاتلُ يعودُ يظهرُ من جديد، ونسلهُ الشيطاني يتغذّى في العتمة منتظراً إشارة النار.

كل ذلك يحدث لأن من كتبوا سيرةَ المجد، ورصّعوها بالبَرد والزمرد، أغفلوا، وتغافلوا عن ذكر الخطأ باعتباره مكملاً للصواب، حتى ظنَّ الناسُ أن القتلةَ الذين حكموا في التاريخ كانوا ملائكةً، والناسَ من بقايا الرعية. ولا أحدَ يجرؤ اليوم، بعد مئات السنين، على قول لا، لمن قالوا في ذلك الزمان نعم.

 

 

سريرٌ عظامهُ النار

 

شهيقٌ أخير في مواجهة ما بقي من زيت المصباح. يعتلي اسمَهُ بكل ضراوة ثم يختفي في جموع صلاة الجنازة. وعلى هضبةٍ بعيدة، كان هناك قميصٌ مبقّع بضفائرَ من حِناء. كل مرّة، يَسِمُكَ المرضُ بجرح ثم يعودُ لكي يطمئنَ على وسمه.حين تراه مقبلاً، لا تجهز له النار. هذه المرة، لا تفعل. اذا طال مرضك اجعله صديقك.

-ما أكثر أصدقائي .

يراقبكَ المرضُ عن كثب، مثل نارٍ تسجّر أحجارَ السهرة. تحتسي رائحتها المعتَّقةَ منذ ميلاد الوردة حتى تثمل. وفي غيبوبتكَ، يروي لك الحجرُ كيف انتابكَ في المرة الأولى.

كنتَ في الطريق إلى حديقة النار، فتعثرتَ بملمس أصابعها. هوتْ بك إلى سريرٍ عظامُهُ النار، وملاءاته السعال. وحين أفقتَ، كانت الحديقةُ قد غادرت أشجارها.قلتَ له: المرضُ ليس هنا. ليس في الجسد. الحياة هي المرض، فالموت أكثر الأصحاء نشاطاً. ماذا تفعل الحياة في الموت؟

الحياةُ تحيةُ صباح الموت، هي طفلته التي تشاغبُ شروقَ الشمس بكفيّها المحناتين،

هي قصرُ الرمل الذي تجمع فيه سبايا الشهيق على رمل النهار.

الحياة هي الجملة التي يفكر الموت في كتابتها كلَّ مساء، فتفرُّ من صفحته، لتستفيق على أجنحة الملاَك.

فإذاً، يا أجسادنا المرتعشة الفرائص لفرط الواقع. أيها الوهم المستفحل والشيخوخة الماثلة، كفوا عن مزاعم الهزيمة في عنفوان انتصاراتها، وصكوا بآباطكم على الريشة الأخيرة في جناح مكسور، وامنحوا نشيداً يليق بتحليقنا الأخير على هاوية تدخّر لنا السحق الفادح.

هذه صلواتنا لآلهة الضغينة. وليكن النشيدُ رايةً نرفعها في مهرجان الهجرة، لكي يعرف الموت أننا نمحو عمامته من مخيلة الفريسة، وأننا لن نختار باب الإشارة لنكمل رحلتنا، بل سنختار باب الخريطة. ومن هناك، سننازله عراةً من المزاعم.

بعيداً عن المهرجان.

في الهجرة فقط، خارج النص، تشبثْ بهامشكَ في رحيلك الوحيد. لم يعد لكَ المكان، ولا يسعك الزمان. فالقبر الذي يحفرون والمقاصل التي ينصبون، تَسَعُ جثمانكَ وتؤرجح جثتك.

دعهم في خلائط ما يزعمون، واذهب عارياً في الريح، مثل فرس مذعورة تنسى طبيعة الحرية. ولفرط الحبسة، تنطلق.

 

 

تاء الحياة المفتوحة

 

أهْدُمُ سرايا الضجيج قبل أن أذهب، وأعتلي ربوة الكأس الأخيرة، طمعاً في لذة الصحو. حينها، سأطلب من فتاة المضمار أن تقرع جرس السباق. هناك، سأجدك ترمقُ خط النهاية بتوجسٍ يشبه توجسي، وسننطلق. الشاعرُ في أول الصفِّ، ليموتَ أولاً. فيكون هذا فألاً حسناً في حسبهم، حيث تصبحُ الطريق سالكةً نحو التغيير الذي يقصدون، فتستوي المراثي والمدائح، مثلما لا فرقَ بين الموت والحياة إلّا بالتاء: مفتوحة هناك ومغلقة هنا. وبعد ما يفوت الفوتُ لن ينفع الصوت ولا الريح، حتى الأعاصير.

الشاعرُ محني الظهرِ، متوكئاً على عصاه، وهي في الأصل قلمٌ لا يصدّه الإعصار، والدروب التي يفتح أنهارها، تزهر بثمرة النجاة أو بثورة ضد الحياة. فإن ضربَ الأرضَ رجَّ معناها وأشعل في نعاس النفوس يقظةً نسيها الزمان.

من ذا الذي خطَّ البيداءَ غيرُ القلم، ومن عبَرَها غيرُ الشاعر؟!

خيامٌ تلوحُ كأفقِ قصيدة، يمرّ الموت بها، فتُذبحُ له الأمسياتُ، ويُدقُ له سامرُ الشهبِ الضائعة. يجلسُ في صدر الموكب، يشيح بوجهه عن بداوة القهوة، وبكارة الموائد، بحثاً عنك.

كان موكبه آتياً من خيزران العطش، ولم تكن سوى رملٍ مرّ، ليُكتبَ الماءُ لهم. بعد أن ينفضَ الظلامُ عباءته، سيتساقطُ النور. وقبل أن تمتطي قدماي صهوة الطريق، ستهمسُ له :

-لماذا تغوص البدايةُ في نهايتكَ، وتطفو على ساحلكَ عناقيد التيه؟

لولا عصاه لاستعصى عليه الوقت، لغتُهُ تسند ظهرَه لئلا ينحني ، وبين أضلاعه حدائقُ وبساتين وأحلامٌ مستعدة، عرضةً لصلاةٍ أكثرَ ضراوة من عربة النيران.

 

 

العابرون من جنّة الأشرعة

 

البساتينُ مخبأةٌ في تجاعيد النعاس، ولولاها لما تقاطر البنُّ في ذاكرة الفنجان. استقمْ أمام رجفة النوافذ، اصدح عالياً لذلك الوادي السحيق، واختر النارَ التي تجدلُ ضفائرها تحت قدميك. معها، اهبطْ الى الغيم وتناولْ قهوتك برفق. ليست للقطف هذه الوردة، إنها للقطيف العفيف، فهل يا ترى قالوا لها؟ تعال إليها، معتقةً برمال البتراء، مخضبة بشفاه الجنوب البهي، تعال إليها كما كنت دوماً، مصطحباً صناديق البريد التي تبخترتْ بالزغاريد.

تعال. دعها تتذكر مستقبلها، دعها في اختبار الوقت، فالتجربة تمنحها الحب وعذابه. فهي البريد والرسائل والأجنحة والريح. تتذكر بأنها عذَّبتِ البحرَ، وآوتْ الى جبلٍ لم يعصمها من الملح، وأنكَ لم تستوِ إلّا على جيدها.

استلَّ بقيَتها من غمدِ هربه كي يقتل الغربان التي وشمتْ مخبأه. تلا تاريخَ الطرائد على نبض الجدران القرمزية المتواطئة، فصدَ الدم الأبيض، غسل به احمرار صوته،

وازرقاق سعاله، ثم استعد للحديث.

قال:

كنت أنا الجاني، مررتُ بنقشها الجاف على هواء عمرتها اليانعة. حييتُ مقامها قبل أن أطوفَ بأحجارها، ثم سعيتُ لجبالها لأحشرجها بخشوع وداعي. تهدّج انتظاري الى أن سالَ من هضبة مشيتها خدرٌ أغواني. قطعتُ صلاتي، فنزفتْ حتى الصوت، ثم تدحرجتْ معها الى القارعة. وكانت تلك ساعة ارتطامنا بالحقيقة النائمة، وأظننا استيقظنا على نداء ناي. 

لماذا تستيقظُ الحواس؟! ألتلتهم أعوادَ النار التي نصبْناها فرحاً بالعابرين من جنة الأشرعة؟! يشحن حقائبه بالأحلام، مستعجلاً العودة الى منابع الماء. لا ليله ليل ولا نهاره نهار. لحواسه طبيعة العطاء ولا يأخذ سوى شذرات الشوق المتهدل كأجنحة. 

انظروا إليه، متاحاً لأكثر الأسفار غموضاً. جريرتك ليست جناية، تضع وردتك في كأسها، وهذا ضربٌ من تحريك الذات في الموضوع، فهل تسمّي حضورك المرعش اضطراب الرؤية، أم تجلّي رؤياك في حضرة المليكة؟

 

 

في غيِّها، أمَمُ الحَجَر

 

كيف أسمّي مَنْ لا اسم له؟ إذا ثملتِ الوردةُ، فسيكون من حق الكأس أن يغلق حانته وأن يضطربَ بعيداً في فراشه. كيف أروي من لا رؤية له؟! حين يجتمعُ السحرةُ حول عصا المليكة، فإن ثعبان الضُّحى سيطبق سمَّهُ على ما بقى من ارتعاشاته. هكذا هو، نبيٌّ بلا اسم، رسولٌ بلا رؤية، تثمل وردته في نبيذها كلَّ مساء، ليوحي لها آيةً جديدة. الوردة المنقوعة في الدم لم تكن في الأصل حمراء، وشاربُ عطرها كان يخفي عن النهار يده السكين. الآن، تنكسر مسافةُ النداء، وتنفضُ الأشجارُ أوراقَها، فتسقط ثمرةُ المعاني الفاسدة، ولا عزاءَ للحطّاب سوى انتظار خريفِها.

السيدةُ النائمة في الوسادة، والدعاءُ المرفوع بقوة الصمت، ورجلٌ يلكم ماضيه بقبضة القدر، هل وصلوا؟ وهل جرعةُ الحروفِ تُشبِعُ هذا الجدار؟

كان السيلُ حفرة نبع، ويدَّعي النهرُ أن منبتَهُ في القصيدة، ولكن الجهات مخنوقةٌ في البوصلة، وها هو الشمال يتقوسُ مظلةً على العالم، ومن عيونها الدمع ما يجف، ومن بين الستائر هناك الهوى خلسة. لكأن النومَ لا يكفي لأحلام الأطفال الذين لا يجدون الوقتَ ليكبروا، ولا جهاتٍ تسعهم ليضعوا خطواتهم المترددة على طريق واضح، لا بوصلة تدلهم ولا أدلاءَ لهم. موتهم أقربُ من جرعة السماء. انظروا لهم،

كم إنّ لأمهاتهم صبراً على ذلك، لا يدركه الكتابُ ولا تهديه المواعظ.

بصيرتهم تزرّقُ، الخديعة على مشارف القبيلة، والفرسان يتدفأون بزنجبيل الشجاعة. رموشهم تهتزّ كجنينٍ تروي له أمه حكايات الخروج. ها هم الخوارج يصقلون أسنّة أحاديثهم الضعيفة، ثم يطلقونها باتجاه الآمنين. والسبات الأزرق أننا حلمنا بالورد، وتفتحت عيوننا على دخان نفخناه على مرايا يائسة. والصبر، وهو الطريق إلى القبر، كان أمْراً، ولكننا تشظيّنا في هلاله، ولعبنا في الخفاء مع الحسرة، وتركنا الجهلاءَ يتسابقون في عبط احتضارهم، وحين اكتمل العيدُ في أحلامنا، وجدناه مُراً ولم تعكس مراياه سوى التماعة الدمع. ثم قال المجنون: خذوني حكيماً، وصدّقه الأنبياء.

ومن بلاد إلى بلاد، تدحرجتِ الكلمةُ، وتناسلتْ في غيّها أممُ الحجر.

 

 

يَنحازُ الليلُ للمؤامرة

 

يغترفُ الطفلُ سَنَتَهُ من ضفاف صمتهما، فيعطشان. وهذه الأصنامُ التي تمشي، كانتْ في مكانها. تمرُّ على الجالسين في بحبوحة النسيان، يلوّح لها الأطفالُ بالماء، وهي في عطش الصهيل تنادي فرسانها. يفترشان سجادة اسمه، ويصليان في حضرة الأحجارِ نافلةَ غيابهما عنه. ها هم الفرسان، يردّون لها التحيات. لعل في الوقت ما يسع أرواحنا ونحن في الريح، كأنما في الفريسة ما يغري الوحش، ويغرر بالطريدة ويضع الدم في القلب والجرح.

إذا كانت مجنونة، فقط أطلقها. مخيلتك، لا تصدها ولا تسألها، أسلم قيادك لها واجعل خطواتك مليكة لسيادتها. مخيلتك شمسك في النهار والليل. ماذا تريد منك، أعطها. فقط اصقلها قبل الصلاة والتجديف، لكي تصل. اللهم إني أشهد. اللهم إني قد بلغت. وهؤلاء الذين تقاسموا ندمي، كانوا واحداً، كانوا.

وصلَ لي بلاغك، مدَّ ساقيك، واسند ظهرك على حائطي. يا سيد سلالتي؛ ليس لك إلّاي، اكتب جواهري، وسأقاسمك ومن معي ندمك ومدني.

هكذا توردُ الإبل، قلت لك ذلك في القرن الماضي، يوم كنا شباباً نورد أحصنتنا إلى الماء وتقصر عن إجبارها على الشرب، فنعود بها والعطش يفتك بنا معها.

الآن، لا تزالُ خيولنا عطشى، ولا نزال مكتنزين بالمزاعم. إنها الرايات، يغرسها المشلولُ في طين النهاية. بالكاد نبدأ، لكنه أولُ الساقطين. 

هكذا كنا، نقتسم مداد السفر ونتشارك حصير المدن المسرفة. ولا ننسى أن أجنحة الحنين تطول إن طويناها. في كل مدينة، أغرس رائحةً تذوقتُ نسيجها في ركن نص قرأناه معاً، أو في فيء موسيقى عزفناها بأوردتنا. ليست ذكريات، إنها دفاتر القلب. هل كانت التحية شكلاً في الوداع؟ هل طمروها قبل تنهيدة الندم، وهذه اليد وهي تصافح سيوفهم؟ لم نعد ذاهبين بأية سيوف إلى أي مكان، التحية هي طلب النجدة فحسب. هل تمدها لتقول: الحب رحمة نائية؟ لأن النجدة هي شهيقُ العينين، فلا بد أن تمدها لكي ترى. لعله سلاحنا فحسب، الحب، دمغةُ الحياة المؤجلة. هو سلاحنا، نضعه على أرواحنا، ونمضي في غي الصيد، غير عابئين بغرائز الفخاخ التي ُتحاك في براثن الشرق. نصلهم وصل العظم، فيما نباهي بعرينا من الأسلحة. ولكن تتنافرُ العروق، وتزدهي الشوكةُ باحمرارها. كأننا نعلك الرمادَ لفرط الواقع. غير الواقعيين نحن. ويدك وهي ممحاة، تكتب ما ينهبونه، ولسانك وهو بعد غر، متهمٌ بالزلل، هم لا يطيقون الاعوجاج، عبيد الأسطوانة. ليكن،

فالاعوجاج هو الصراط الذي تعثّرَ على مشيتنا، فسقطَ في نارِ عدْن.

لماذا ينحاز الليل لمؤامرة الشك؟ يَعُجُّ التقويمُ بترجمات الوقت، وبالحكمة الرخيصة المبتذلة، والفجر يتوكأ على جدار الارتياب. ليس إلا أن تفيق، وتدفع بابَ الصباح بكفين مغمضتين.

 

 

إنَّهم في وعورةِ أنسابِهم

 

هذا صباح يذكرني بالشمس. هل رأيتم شمساً في الأيام الأخيرة؟ 

لا يليق بنا، نحن الذين نعيش في رحم الشمس، أن نقرأ هذا السؤال. لدينا من الشمس ما يحرق نعاس كل من يفيق الآن، ويفكر بالعودة للنوم. يحرقه ويتصدق برماده على فقراء الجليد.

ثمة المفارقة، عوض أن تضيء لنا الشمس، فهي تحرقنا.

ما الذي يبقى لجهنم إذاً؟ جهنم هي التي تضيء الطريق، هي التي توقد الشمس حين يعتريها اليأس ويطفئ لهيبها الملل، هي التي نمتحن بها صبرنا.

ما هو ليس ليلاً، لا يكون نهاراً بالضرورة. الليلُ ياقةُ قميص النهار، لن يسترَ عنقك، لكنه سيُبرئُ ربطةَ نشوتك. هي الأشلاءُ، هويةُ خطواتِكَ المتعثرةِ في غبارِ المسافة، وشمُ جلدِكَ العربي المثخنُ بالجليد. هي أن يكون مبتدؤكَ القتل الصباحي، وخَبرُكَ أدويةُ الهدوء، فهل ستهدأُ؟! هل سينقشعُ الغبارُ، ويتبخر الوشمُ؟!

تجلس في شفير شغف. تسمع ماءَ القلب يشرقُ بالحب، فتظن أنه صباحَك المنتظر. تزعم أن أصدقاء لك في شفير الشغف الآخر يقدرون على تأجيلك حتى الشهقة التالية، فتفتح أجنحتك، تنسى أنكَ قد نسيت عادة الهواء منذ الموت الأخير قبل الربيع الماضي، كنت تقول إن الماضي لا يذهب والمستقبل لا يأتي. أصدقاؤك يسعفونك قبل نهاية الشفير بمتر واحد من الشغف. تحلم.

إنهم هناك، في وعورة أنسابهم، مربوطون بما يمنع الطين من الاحتفاظ بعود، دروبهم زلقة، وكلما عبروا انحرفوا للشفير الأخير. وأنتَ هنا، تسمع تنهدات من ماتوا وهم ينادونك، ولشدة شوقهم أدمنوا وصفك كنبي محتمل، فلا النجوم بعد ذلك بعيدة، ولا المسافة عرجاء. رأيته وهو يقطف الأحرف من حنظل البكاء، ويغرزها في برودة الكفن. انتظرَ حتى سعلَ الإمامُ سعلتَهُ المعتادة، ثم كبّر، فلم يعرف المأمومون ما الذي ينوي أن يصليه. في نهاية الفريضة، جفّتِ الوجوهُ، فاستسقى لهم راحته وارتخاء أوصاله. كانت خطواتهم الحافية تنزع من الأرض نكهتها الأخيرة، كان يسمع تلك النكهة كبرق يضيء المسافة التالية.

بعد قليل ستمطر، ستظلم ثم ستمطر. يتدحرجُ الصمتُ بينهما، فيكبرُ الجليد. كلما يحاولُ أن يشعلَ الطريق، يحترقُ النص. النص أكثر حريقاً من الشخص. الشخص في غيهب الغياب.

يرقّمُ الحصى بدم الجملة، فيلتهمه ذئب المعنى. يتأجج ذائباً كذئب حزين، شوقاً إلى كهفه الأول. في الكهف، القِبلةُ هي خريطةُ عظامه، والحطبُ الباردُ كنزُ صلاتِه. يبقى له أن يثق، أن يؤمن، أن تصيبه رعشة الأمل. يبقى له. لكن من أين، كيف؟

 

 

هدهدٌ يبحثُ عن مملكة

 

الرعشةُ تتسربُ من شقوق أوردتِه وتسيلُ على قطن أضلعِه، فيشربها إلى أن تجفَّ وإلى أن يثمل. هكذا كل رعشة. ثمة الغيمةُ الكثيفة الحزن، الأكثرُ ضراوةً من الجرح. هل نحن في مقبرة أم نحن في مجزرة؟ في القرن الواحد والعشرين من الحضارة، هل الغابةُ تذهبُ أم الكهف يأتي؟ الوحشُ المنقوش بالمسمار يعود إلى الحياة، وتكون وجهته حيث ينامُ الندى، وصهيل النار يبدأ. فإن جاء لك شخصانِ يسألانك، فقلْ لهما بلسانٍ ذلق غير منزلق: ليس في كل هذا عدلٌ. فأين من يخبره بهذا؟

العدلُ هدهدٌ ٌيبحثُ عن مملكةٍ خلفَ سبأ، حيثُ البحارُ تغوي الظلمة، وتعاشر الأمواج في وضح الجفاف.

يا هدهد، يا بريد، امنحني طبيعة الطير.

من هناك؟ من كأنه يهتف بي؟

لا تخف، أخرجْ شجنكَ من ظلِّ اسمك، واكتب على جذع الشجرة التي تليكَ بعضاً من رائحة أجنحتك، وكثيراً من عطر موسيقاك. ثم، الشجرة ستأتيني بك:

-لديَّ من الموسيقى ما يطيشُ عن حجرة القلب، غير أنَّ المكان، غير أنَّ الزمان، والحلم جغرافيا. اقفزْ إلى أن تقهقهَ الحدودُ، وتصفقَ البلادُ للبلاد، اقفزْ والتقطْ تفاحةَ الجاذبية، وكلْ منها رغداً حيثُ شئتَ، وأطفُ فوق الأرضِ، لعلكَ تأتي لها بقبس يدفئُ أوصالها. قتلَنا بردُ الأرض. مثل سرب من أجنحة في هواء صديق، أجد نفسي في أرجوحة الحب، وهي تَصِفُ لي بيت الوطن كأنه دفء الطير العائد. بهذا الشكل أرى هجرة المصادفات نحو فتوة المكان. إنني في مهبِّ الرجوع، ما أحوجَ الباب لمفاتيحي، ما أحوج البحر لدمعة الحنين. ومن يناديني من هناك إلى ضفة حانية. باب الحوائج ومفتاحه، بحر العلوم وبكاؤه، قريبٌ يجيب دعوة الداعي.

النهر واقف والهواء سكون، كم مرَّ من وقت الدهشة، وكيف اكتملتْ دائرةُ الطير في قفص الحرية؟ لا أعرف، لا أعرف، لم أعد أعرف. القفصُ أكثر رحمةً من الحرية.

لكن، كيف يمكنني تفسير هذا؟ من غير نعليك، وَقِّتْ خروجك للأبد. لماذا تلتوي الطرقات وهي صراطك الأوحد؟ أأنت مفصولٌ عن هذا العكاز؟ أيكون في بحر الحبر غرقُكَ الأحمر؟ أم إن خطواتك تنسى؟ واذا هاج موجُك وانداحتْ أسارير من عرفوكَ رسولاً لأحلامهم، هل تكون وصلت؟ وكيف كفُّك ستكون حين تصافح ما ودعته؟ وماذا ستفعل بالشراع في الشارع؟

اسحب، اسحبِ النهايةَ من ذيلها، وادخلْ في مطارها الأول. مطارُ الطير أكثرُ جمالاً من السفر وأقلُّ حريةً من الحلم. تعالوا نصقلُ الريش له ونتعلم منه الحرية. كلما كتبنا، تحررنا.

 

 

باتجاه سجادة الجمر

 

السفرُ عصارةُ الليل المبهْرج بالشمس، تسكبه على أهدابك، فترتدّ بصيراً. لنبدأ بجناح المسافة حرفاً حرفاً، جنةٌ بيضاءُ هو الصمت، نارٌ باكية هو الفراق، أملٌ مستفيضٌ هي الورقة، وحرية حيةٌ في زوال الراء. جنى البحّة الخجولة، نسقُ الكلمة التي بلغتْ حد الصوت، أروقة السجود لهيبة الصدى، حريقُ الصوْر، إذ نُفِخَ به على حين نعاس. ثم من قال شيئاً عن السلام؟ هل البارود يبرد؟ لا ينطفئُ الفتيل إلا بقتيل، ولا ينتحر الجلاد إلا مسحولاً بشعبه، والنهاية المجنونة، ولدت من فكرة الضرب في الحرب. ضرب الشرق في الغرب، وضرب الناس في السرب، ثم إذا انهارت الفراديس قالوا طردنا منها، واتهموا الشيطان، وهو صنيع لسانهم. الإنسانُ أخ الشيطان، أبوهما الألف، وأمهما النون.

أيها المستمر، وجدناك وحدك في سماحة العفو، وطاب لنا الاتكاء على امتنانك،

وهذا الكلف الذي يلفُّ اندفاعنا، هو سيرة اللافعل، مجرد دوران في المتاهة، ونبش في بوق مثقوب. نتقاسم سَعْدَ الأيام، وهي شحيحةُ الظلِّ، ويرفعنا رفيفها في سماء لاهية، وكأن الصوت هو أول المعنى، وكأن الماءَ وجهٌ ثالث، ونحن في الرمق البعيد.

هذي ثياب الليل، فأين ذَهَب؟ وهذا قمرٌ يكتمل غداً، فمن الذي جاء؟ واحداً واحداً وقفوا والباب مفتوح، كانوا يهابون العتبة لأنهم حفاة، ويرعبهم الكرسي. وفي مشهد الطفولة، أنهم نُهروا من الخروج، وأمروا للاحتماء بالجدار، فكانت النار تلسع نواياهم. وربما اعترف الكلام بشيء من حواشيه، وتأكد للصخرة أن القطرة أول الطوفان، وأن الهلاك يبدأ.

تزحف الظهيرةُ على مرجل الوقت البطيء، باتجاه سجادة الجمر، ترفع عينيها باكيةً:

-يا رب، سئمتُ هذا الفضاء.

هذا ليس ليلاً، وغداً ليس يوم السبت. والفيزياء التي نزعم بها حضوراً جثمانياً

تتلاعب بنا، وتسلط علينا سماءً غير عادلة، والهلاك الذي يوشك أن يفتك بنا

يتذرع بالأديان والمذاهب والملل لأجل أن يثبت أن الخطيئة فينا منذ الجينات. كيف أراك وأنت كفيف تتلاطمه كثبان الظلام وأعاصيرُ الجوع؟

أكون موجوداً كلما رأيتني.

أنا لا أراك إلّا حين تتشظى القصيدةُ، وحين تطلق ساقيك باتجاه بحيرةِ قرابينها.

أنا لا أراكَ إلّا حين تختلس الفضةُ نكهةَ المرايا، وتستجير الوجوهُ العابرة بمعاطف الريح. وحدها الريح تجعل الرسائل ممكنة. الرسالة أريجُ السر المتبختر بالخجل، هدهدةُ التحفّز، ما تبقى من بصمات الرمل على سِمة الماء.
لا تنزلقْ إلى شمسها، إن لم تكن قافلةُ بياضكَ قد اسمرّتْ. وحدها الرسالة، تمخرُ عُبابَ الهوادج عارية.

 

ما يقولُه السيفُ للرقبة

 

كلما كتبتَ الرسالةَ، نزّ حبرُها مثلَ جرحٍ على قميص. أن تشرقَ الشمسُ في كلماتك، في ليلٍ كثيف، عقلٌ هذا؟ تكون قد وصلتَ فيما تكتبها، الشمسَ والرسالةَ. ولكن من يفتحها؟ من يقلبُ الحنينَ إلى مدفأة؟ وجهانِ للكلمة، حتى وهي نسيان.

يا إخوتي في الريح، كلنا مطرُ قلبي، والورقةُ التي حملناها بخفة، كانت تحمل جبلَ السرِّ داخلها. تجفل الغزوةُ من رسالة الحمامة، يعتلي الفرسانُ الهضبة، ثم يقرأ أميرُ المؤمنينَ الوصية:

-لا بحر، لا حرب.

يجفّ حبرُ الورقة، ويغوص الفرسانُ في رملِ المعركة. ومن وراء التيه يكبر ظلُّ المناداة. وتهيم امرأةٌ في الأمصار، بحثاً عن بؤبؤ عينيها. ويقالُ في الساحات:

-غداً يختفي العار. 

ولكنَّ الشمعةَ تدركُ ضعفَ بصيرتها. والحطّابُ يهجوها علناً في الغابات.

كلانا على ضفةٍ، ننادي كلانا. لكن الرسائلَ يبتلعها النهرُ، وهذا الجسرُ الدائري هو صوتنا منذ أمس. غائرٌ دمُ المعرفة، والخطواتُ التي نشتهي طريقَها تربكها رسالةٌ خائفة:

- لا تسلكْ هواءَ روحك.

تتخبطُ فوانيسُ الشهوة، وتبرقُ الغمامةُ في نهاية النفق:

-لا تسْلكِ الهواء.

لم يبقَ في زفير الروح إلّا تجاعيدُ الرسالة، وبعضُ دم. سيقتصر البريدُ عن رسائلنا. لكأن المسافةَ بين النصل والدم أبعدُ من الجغرافيا. ثمة طفل يكزّ بأسنانه على قطر الحليب في حلمةِ الأمل، علّ الفوانيسَ النادرة تجعل الشمسَ خدينةَ سعْينا المتعب في هذا التيه. لنخرج من سردهم إلى شعرنا، لئلا نتأخر عن نداء الأقاصي. فالعرب العاربة والعرب الهاربة والعرب النادبة تستبيحنا وتهدرُ لنا الدم وتعدُّ وتصقلُ مواقع أقدامنا المرتعشة نحو المهاوي.

تختبئ الرسالة في ملجأ الضحى، خوفاً من وضوح الظهيرة. يقشع الرصاصُ الغشاوةَ عن غروب الصفحة، وحين ينبلج الفجر، يلفظُ النصُّ أنفاسَهُ الأخيرة.

هذا نهارٌ أخير، بعدَهُ تورق نسمةُ الحنان من جهةٍ مشتهاة. تنتصب الأقلام في طابورٍ يدقُّ على بوابة الخلود. وسيكون ظُلماً إنْ عرفَ الوقتُ أننا بلا مفاتيح، وأنَّ وجاهةَ أسفارنا كانت هروباً.

اليدُ التي تكتب، كيف لها أن تلوّحَ في وداعٍ مُرٍّ؟ والخطوة التي توقفتْ، من يطعمها رمقَ الرحيل؟ شبقٌ أعمى فجّرَ كلَّ هذا الهذر، وصارتِ البلدانُ تفخر بأبواقها. ومدارسُ النسيان ضجّتْ بنشيده. وسطراً بعد سطر، تناسلتِ الأفاعي، واختفتْ من على الأغصانِ الثمرةُ المحرمة.

هل يقول السيفٍ شيئاً للرقبة الممدودة في السؤال؟ هل يتمرد الصمتُ على نصفه الأبيض؟ وهذه الأقواس، متى تستقيم؟ تعبَ الدائرون في المربع، وداختِ الآلةُ، وهي تطحنُ في الفراغ.

أيها الشحيح، هذا مشاعُ الأرضِ ملكك، فاتركْ لنا النبع.

 

 

الذاهبونَ إلى ولائم حتْفِهم

 

تلك الرحى مستسلمةٌ لقمح البيادق، حيث البحيراتُ تشي بالجنود وتحبسُ الخيلَ في قلاع الهزيمة. لا خلافةَ اليومَ للمستترين بالفقراء، فالسيفُ يكسرهُ رغيفُ الهمس والريح تصرخها جهاتُ الذاهبين إلى ولائم حتفهم .ولكن هل يكتفون، أم الجشعُ يغيّر مجراه وتكون للحيتان كلمةٌ في ساعة الطوفان؟ التحصن بمشاعر البحر هو ما يبقى لنا. فلن يجدي تجريدُ أسلحتهم نفسها .ليس لأنها لا تصلح لنا، لكن لأننا لا نحسن استخدامها. 
لا يأخذ شيئاً مقابل عطاءه الهائل، وليس مثل وحابته إلّا الحب. وهذا شأنٌ يتعلق بدواخل الروح. علينا حمايةُ جواهر دواخلنا من بشاعة الضواري التي يتقمصون.لسنا سيوفاً لأحد ولا رقاباً مبذولة. سنقول للموجة: لا للمداراة، ولتزأر الريحُ على هواها. هذا هو الماءُ العظيم، الغسلُ الشامل لتضاريس أوشكتْ على الهباء، وعلى الموج أنْ يبسطَ سلالتَهُ، والريح أن تحملَ الرسائل، وكلُّ جبل يقصر عن الطبيعة عليه أن يرحل.
هو الرحيلُ، هو دانةُ الأجوبة حين يضطربُ مزاجُ المطر، وحين تُقْبِلُ الغمامةُ الأخيرةُ حاملةً عريسَ البحر وهو يرفع نايَهُ باتجاه الرعد. كأنه، وهو يبتسمُ للرواسي الشاهقات، يغويهن بأن يرافقنه إلى المأوى الأخير، كأن الأرضَ تهتزُّ له.هذا هو الترويح، نقيض الترويع. حين تكْمل الأسطوانةُ دورتها الأولى بلا خدْشٍ أو نشاز، ويطلُّ من المنارات علمٌ أبيض، وترتفعُ في المنحدرات نداءاتُ أحرار جدد، وتكون ساعة النميمة قد أزفت، وصورة المأساة محو، وصوت المواساة صحو، وبينهما الدنيا رحابة.
جهتان للمشتاق، إمّا البحرُ وإما غروبُ الوداع، وما بينهما عمرٌ يلوكه صاحبه،وجفول أيامٍ، والتماعاتُ دمع شريد. إلى أين يفر القلب والأوطان وصايا؟ من يهدم الجدار ويسبي فكرة المجنون؟! وإن اتحدا الشرق والغرب في بوصلة خربة، هل يكتملُ النهرُ حين يعبر الصحراءَ في ثوبِ سراب؟ وماذا عن الرمل؟ هل يفقد الرمل نعومته في غناء المطر؟
طب يا جرح السلام، وليكن النزيفُ غصناً مورقاً في فم طائرٍ حر. يستأذنهُ العمرُ، كي يغفو قليلاً على صخرةٍ هشّة بجانبِ النهر. يبقى بلا عُمْر، يحدّقُ في ميناء الوقت شرق الأفق. تتساقطُ الأسماءُ من عقرب الدقائق مُسمَّمةً بالوجوه الهلامية.
يلتقطُ اسمَهُ، يتفحصه مليّاً، محاولاً أن يفهم لماذا يُغادره العمرُ كلَّ يوم، ليغفو على صخرة النهر الهشّة. لن يفهم.
يفيقُ العمرُ، يمشي إلى النهر، يدلي رأسه في برودة الماء، يهزّ شعره الكثيف المجعد، فتتناثر الرطوبةُ في الأرجاء، ويعودُ كلُّ كائنٍ إلى حاله.

 

البيتُ لا يأتي لأحد

 

مِثلَ قطٍّ يخرجُ من المطر، ينفضُ أيامَه ويذهبُ إلى العمل. العملُ وحدَه هو ما يجعله يقوى على الزمن. مَنْ يفهمُ ألغازَهُ، وهو يرسمُ عتابَه الرهيفَ على الفصول التي تتوالى دون أنْ تكترثَ بما يقترح من أسماء على أحلام العمل؟ ثم مَنْ يكترثُ بعجوزٍ يتظاهرُ بالفتى وينْقضُ الرماد؟ تفنى المسافةُ بين المنزل وبين ضجيج الناس، ولا يفنى الضجيج. يظلُّ يرتّب أثاث الصباح كلَّ يوم لكي يليقَ بمغادرته الباب وصعوده سلّم المسافة.
هناك، في أعلى السلَّم، يلقي تحيته على الفراغ المطبق، ثم يتخذُ مقعدَهُ على كرسيٍّ من هواء، إلى أن يحينَ موعدُ العودة إلى البيت. غير أنَّ في القلب من الضجيج ما يخصب الناس وهم يضعون أعضاءَ حبهم في مَهبِّ العطاء.
البيت لا يأتي لأحد، علينا أن نذهب اليه. جميعنا مأخوذونَ بفكرة مكان الحب. المنزل مجرد فكرة، الناس فقط يمنحونه معنىً قيد التحقق. كنت لأعطي الباقي من عمري لقاءَ يوم حبٍّ آمن في بيت.
اطرقي الباب. داخت الزوايا وتسربَ العطبُ من الشقوق، وذبلتْ مزهرياتُ الحشا، أبْواباً شتَّى. الوهم أن تعميكَ الستارةُ وهي أختُ الجدار، والعمى أن تخاف من الريح محتمياً بالنافذة. من سيطرق باب البيت، والستارة تتجسس على الجدار؟ من سيأمنُ للحب، والضجيجُ يتربصُ بالسرير؟ كان طفلاً على السطح فطار،وكانت غيمةٌ في الحرف فصارتْ اسمَها. وحين التقيا عند منابتِ الوعد، رأينا الأشجار ترقصُ في ترنيمة خضراء، وبيوت أعشاش تتكاثر في ريشها، ثم قيل: الحرية جناحٌ في الهواء. وقال العقلاء: الحبُّ بيتٌ مجنون، ولم ينتبه الزمانُ لما دار في الدار، ولكن أطفالاً ًخرجوا للسطح وطاروا مع الغيمة، فتغيّر يومَها مزاجُ الشمس، وسمع النائمونَ حلماً حارقاً، وما ذاقوه.
سيغرسُ البيتُ نصلَه في خاصرة الحب، وسيتكاثر النسل. كجرحى حرب، ستصطفُّ البناتُ أمام مرآة المدخل، وسيستند البنين على أكتافهنّ، وسيخرجون كلَّ صباح إلى فطور السُّلالةِ، غير متباهين بأب. ستُطلقُ مئذنة الحي نفيرها، ليتشتت الجمع إلى مجرى أيامهم.
هاتوا كتفاً يسندُ هذا الكتف المكسور، ضعوا لأطفالكم دليلاً واحداً يسعف الغيمَ الماثلَ في مناكبنا. الحُبُّ هو هنا، يكمنُ في العظام الحميمة التي تعطي من النساء أكثر ممّا تأخذ. نفقدُ بيوتنا المجنونة، لنحصلَ على جنونٍ خالص. نحن سلالةٌ تقاوم انقراضَها بجسارة المفقودين. لولا اليأس، لولاه، ولولا الكتمان، لدلقنا في الفيافي نثرَ أسرارنا، وليغرقَ العاشقُ قبل أن ينطق.

 

 

مَشيبُ نجومهِ وصحوِه

 

الحبُّ اختفاءٌ في العلن، والداخلونَ إلى استمرارهِ هم الناجون. اندلعْ، اندلعْ، قبل أن ينفجرَ لغمُهم، حبُّنا قبْلَهم. ليس قبلهم تماماً، ربما معهم، لكن دويَّنا فتّتَ أوصالهم، أحالهم تماثيل ترشُّ العتمةَ بلا طائل على مصابيح سيّاحٍ يشعلون للحب عناقيدَ السفر.
ماءُ السلالات الأبيض المشع، نسيمُ جناتٍ وعْدُها أخضر وأبوابها بلا حرّاس،مياعةُ الفطنة في أصلاب آدم؛ الحب أيها الحب،كيف بنفحةٍ دحرتْ أصنامَ الوصايا وَهُمْ صُم؟
حمّلنا قلوبَنا قناديلَ ليلك، والمتاهة دليلنا للفكاك من الصواب .وكلما اقتربنا من احتمال الخطأ، وجدناه حُلْواً، وذقنا لذة الهلاك بأن نفْنى في بياضك، متلاشين في كمال المحو، بلا رغبة في أثر يزول، وبلا استتباب شيء، تاركين للنادم فرصة الرقص في الميزان.
هل سَيَزِنُ الراقصُ ندمَه؟! هل سيكونُ صادقاً ليقول بأن الريشةَ تحلّقُ به؟! ما أثقلَ أن تُبْعثَ شفتاه، لتجدا أن القبلةَ غادرت قيامتها. كان ينوي طيلة البرزخ، أن يهمسَ فيها سفنَهُ، نادماً على كل ندمه. نعم، الندمُ يصقل روحَ العاشق. تعالوا انظروا العاشقين المتخاصمين. ما أن أخذا يسترجعانِ احتضاناتهما ويستعيدُ كلٌّ منهما قبلاتِه من الآخر، حتى انفجر الندم وازدهر الشوق، وسرعان ما عادا إلى بيت الحب معاً.
وَخَطَ الشيبُ مغربَ نجومه، فانبلجتْ فتنةُ صحوه. أعدَّ عتاده، نفضَ البارحةَ عن ثيابه، امتشقَ كاملَ قوته، وككل سربٍ يمرُّ به، يقف في مواجهته إلى أن يعبره ثم يعود ليعتني بمشيب نجومه وبصحوه.
هكذا، بلا ندم. صداقةٌ يمكن الثقةَ بقدرتها على التحليق بأجنحةٍ رحبة، مثل سرب نجوم لا يطالها الشيب ولا تطالها الشيخوخة. الخطأ عندها الإشارة الدالة على صواب وشيك. لا تصدقوا أحداً، ولا تأمنوا لشيء غير ندم القوادم في أجنحة الطيران وهي تتدرب على الريح. لقد فاضَ بنا انتظارٌ لا نهاية له، وأملٌ مهدد باليأس. 
يا الله، بَنُوكَ قيدَ الموت. الفضةُ في الرأس ضربٌ من تراكم المعنى وزعم التجربة. وكلما شيّخ النصَّ، فاضَ به الحب، حدَّ الكتابة خارج الدلالات. كنت أسعى لتمويه الحياة كي أغرر بالموت. فتعالوا انظروا الخسارات. كلُّ موتٍ هناك نهاية هنا. ليس لأحد الزعم  أننا على مبعدة من نهايات القتلى. على كثب نحن من القافية، فالقصيدة تقتلنا كلما انتهت، والقوافي مشانقُ منصوبةٌ لمن يتوهّمُ الشعر. لذلك رأينا الواجبَ في فعل الانزياح، في إعادة ترميم معنى الهدم.
القول في تكراره موتٌ قادم، والمستقبل في فم الصامتين بقايا أحجية.
متحاربان، هذا بالسيف وهذا بالقلم، والطعنة تأتي من أمام ومن خلف. كأن الصراع كله على: من يجتزُّ الزهرة أولاً؟

 

 

كلُّ أَبْيَضِنا صارَ دُخاناً

 

القصيدةُ المدلاةُ في عنق كاتبها والقلمُ الغائرُ في جرح الكتمان، هما اولُّ الهتك. وبعدها، والداكَ يجهلان انكفاءَ وجهِك، وأوطانكَ تصيرُ حرةً إنْ سجنتكَ في دفتر، والشعراءُ سلالةُ المقصلة. لا تستخفْ بمقصلة القافية، كم شاعرٍ ساحَ دمُه في سبيل ظلٍّ لا ينعكسُ على صدى صوته. وكم ناثرٍ أعلنَ أنَّ المقصلة وَرْدُوُهُ وَوِرْدُهُ، لكنَّ ابتهاجَه لم يدمْ سوى دهرٍ، وأصابعَ نقشه قُطعتْ في ساعة المصافحة، وارتبك الماءُ أمام العطشان. وساعتَها، حانتِ الكلمةُ، فانزاحَ من الميادين سماسرةُ الربا الأوّل، وبعدهم تجارُ النار. وقبل أن يستعرضَ الليلُ حلكتَهُ على الفقراء، رأى الشعراءُ نجمةَ العجب، وطاردوا بخيالهم المعصوف مذنباتها، وكان ذلك وصفاً لميلاد البوح من النوح، وهو اشتقاق الشبيه من ذاتِ ضدّه وخلطهما في الإشارة ومزجهما داخلَ الرمزِ قبل أن يصبحَ قافيةً رخوة. وبأمّ عينه وعقله، سوف يصرخُ الحرفُ، سوف يزأرُ لعله يثأرُ من ندم الرتابة في قواميس الحجر، وعلى مهلٍ سوف ينساه المكممون، وتهجره المرأةُ المرجومة باحتمال العار، ولن يجد الحرفُ خلاصَهُ في نباح المنابر المكتظّة بأفّاقين من كلِّ الآفاق، ولن تتسربَ الكلمةُ من وزنها الثقيل، إلّا على لسان شاعرٍ يهجو أصنامَ معانيها.
فُكّها، فكْ الدلالةَ َولا تستبدلِ الأخضرَ بأخضر، الماء أزرقُ في نهارٍ عادي، لكنَّه ورديٌّ في ساعةِ العشق، وموجتُهُ سكينٌ وقتَ اندلاع العاصفة. هل يبقى الكلامُ في مكانه، أم يجرفه الزمانُ كلَّما وطأتِ الخيلُ على الجسدِ المهزوم، على اللسانِ اليابس في لحظة المناداة؟ هل يسمعونه؟ لا بدَّ أن يسمعوه، سيكون كخريطةٍ تتعرَّى في غابةِ البوصلة، وتهبطُ لاسمِ الماء، وفعل البحيرة، شمالَ الخوفِ، جنوبَ الجرأة.
الماءُ مطلوبٌ لجريمةٍ لم يقترفها، مطلوبٌ بكل الأسماء التي اخترناها لهُ. ليس أن يسمعوا، لكن أن تكونَ الجرأةُ من صفاتهم، فهو تحتَ الخيل، والماء ليس في مكانه.
كلُّ حروف الأبجدية ينبغي أن تخرجَ عن تخوم القواميس، لئلا يقالَ أن صمتاً ساهمَ في القتل وهو واقفٌ على خط المشهد. 

الشخصُ كنايةٌ عن شعبٍ برمّته. من يسكتُ عن قتل شخصٍ يقتلُ الشعوبَ قاطبة؟ أية دلالةٍ تقبل البدائل والألوان مقصوفة كلها؟ اللون الذي أسرفنا في قصفه، هو الأبيض. فهو حينَ تجرحُهُ، يناديكَ باسمك، يفضحك.
لا مستقبلَ لنا، كلُّ أَبْيضِنا صار دُخاناً، الراياتُ السوداءُ تملأ الأفق، لا مستقبلَ لنا. المستقبلُ كرةُ نارٍ تلفظُها السماءُ، ونتقاذفها نحنُ في حدائقِ العطلةِ الاسبوعيّة.

المستقبل يكزُّ أسنانَه، قبل أن نعودَ إلى منازلنا، فرحينَ بغدِ الوظيفة. حتى لو كانت أصابعنا محناةً بدم، لن ينتبهَ أحد. لكننا إن همسنا باسم الوضوح، نكون فتنة، وقد يمنعونَ عنا السلالم. هذا ما يخدشُ البال، هذا ما يعطلُ الكمالَ قبل نقصانهِ من جديد.

 

 

خلعوا عن الماءِ قُمْصَانَه

 

هذا الكمالُ فيه من صفات الكلام. نحاولُ أن ننطقَهُ كما يحبون، لكننا نرتقي في المحاولة، فنقولُ ما نحب، وهو قولٌ لا كمالَ له، ولا كلام فيه، إنه مزيجٌ من توق الروح لأريج النور، وبوحُ القلب لشموع الأصدقاء. وماذا ينفعهم إن خلطوا الاسم بالإثم، وألصقوا العتاب على أبواب جيرانهم؟

الأقنعةُ مقنعةٌ أكثر، وكلامُ الصدق تكرارٌ مجرور ولكنه لا يُسمع. بَحَّ صمتُ الحكماء، وتحشرجتْ حناجرُ النميمة في علن الفضيحة، والجميعُ يضحك، وكلسُ اللامبالين صار بحراً غارقاً في الأرض. هاتِ الترجمان، شِكّ إبرتَهُ في لسانكَ وأنت تنطقُ بالعفو، دِسّ فحواهُ في ضمير ستركَ لعلَّه يُظهِرُ ما كنتَ تخشاهُ وتخفيه، ولربما استقامَ صوابُك أيها المحذوفُ من الجلال. وسيّانَ إن قتلوكَ بالممحاة، أو نحتوكَ بالنار، أو هَشَّ سلطانهم عليكَ بمهفّة النفي، فإنكَ دائرٌ في فتكهم، ورؤاكَ مطليةٌ بالنسيان. وحَسبُكَ أنكَ ولدت ممهوراً بالتشظّي، ورأسكَ ما هي إلا جرثومةَ العرفان. سيُقالُ استوى على الهوى، وروّضناهُ حتى نسفنا اعوجاجَ البِدع فيه، وتركناهُ يلحسُ مُرَّ الزمان وسُمَّ حواشيه، بلا أحفادٍ سوى النكرة تتبع ظلَّها في الليل، بلا هُتافٍ أحمر، مجرد رجلٍ من حطب، والغابة أينما حلَّ، بيتُهُ ومُناه. 

لكنه فاتحةُ الجسد،أليسَ الرأسُ كذلك؟ أليسَ هو ما يُشعُّ في ظلام سوءاتهم؟ ألستَ سترَ الماء، وشقشقاتِ الريح؟ فماذا يضيرك إنْ تاهَ أحفادُك في الغابة، إنْ خلعوا عن الماء قمصانَه؟ إن صمّوا آذانهم عن أغاني الريح؟ وهذا عَلَمُ الحَدْاد الدائم محمولاً بيدِ الميّت، مرفرفاً في زمهرير النهب والسلب. يا لشقاوة التمثال وهو أعمى في الصمم، منحناهُ صفةَ الخلود ومِتْنا، وظلّتِ الطريدةُ تجرف خوفَها زمناً وفمَها محاق. سرُّكَ آسرٌ يا سماحة الآتي. رواحٌ هو غدُوُ الطريق، الراكبُ يستشري في راحلته، والماءُ يفوحُ بأميّة السراب. يلوحُ الرملُ من قريب، طعمُهُ يهزّ مسامعَ البحر، إذ افترق نصفينِ وأغرقَ الأولين، ورائحته تمدّ ألواحَها للجثث العابرة. يلوح الرملُ من قريب، فتتشبّثُ الريحُ بالقافلة، وتجتّرُّ الإبلُ مشرقَ الشيح، وتصطفيه لليل المستبد.

جالسٌ اغْزلُ اكاذيبي على الناس، وهم يفضحونَ الصدقَ فيها. الحقائقُ أراجيحُ أحلامي، من يقوى على قتلي لا يفعل، ومن يحقُّ له ذلك يتعثر بذرائع العفو والتسامح، خشيةَ مزاعم المظالم، مما يزيد كتيبةَ الكذب كاتبٌ جديد. 

أجلسُ، مغزلي من عظامهم، وأحباري مزيجُ أخلاطهم ورحيقُ نسغهم الأخير. جالسٌ، والناس يسمعون. جالسٌ والناس في البلهنيةِ، يظنون ما يتوهمون، ويواصلون وقفتهم قدامَ غيابي في عرشٍ على ماءٍ قديم. وحدي جالسٌ. هذا جلوسٌ يخنقُ الماءَ، أنّى لنا بعد ذلكَ نهرٌ نتنفسُ ليلَه، ومغفرةٌ نطرق مسمارها على جدار الضُّحى حتى زوال الشمس؟ أنّى لنا بعد ذلك مقيلٌ نخدّرُ شايَهُ، وترابٌ يهتاجُ برائحةِ العصرِ حين ينجو من الطين؟

أيها الجالسُ، أنّى لنا؟

 

 

سَيّدٌ في عربة الجحيم

 

ليس على أرضٍ ولا في سماء. يتوجبُ مساءلةَ الفيزياء المتحذلقةَ وهي ترعى تحولاتِنا، كأننا طبيعةٌ ثانية. فليس ذنبي أنَّ للشكل سلطةً على أحوالي. حاولتُ أن أفهمَ معنى أن تكونَ من الرعيّة، تحتَ وطأة رعاةٍ لا يتورعونَ ولا يرحمون.

الرحمةُ وريدٌ لا يستوعب معنى الخنجر، فمَنْ يُطلبُ منه أن يهدي الدمَ إلى القلب المطعون، كمَنْ يقتادُ جمرَهُ إلى شتاءٍ باطل. والغريبُ أنَّ ذلك يحدثُ في منتصف الحيرة، حين تكتشفُ أن الكراسي تصيرُ جالسيها.

اجلسْ، اجلسْ، يسمّونكَ العطرَ لوردةٍ يقتلونها في واضحةِ الليل. ويتقمصون شمساً لفجرٍ يجرحُ الغجر. اجلسْ، بينكما جسرٌ من الفهود، والغجرُ يتقرّون مواقعَ أحلامك، لئلا تقع في فقه ضباع الجمارك. لا يدركون العطرَ ولا الجسرُ يعرفك، ولا أحدَ يصدّ الفهودَ عن أحلامك. قيامٌ جلوس، قيامٌ جلوس، هكذا علّمني المدرسُ بالعصا. 

دعْ للمدرس أنْ يكون كسولا،

كادَ المدرسُ أنْ يكون جهولا.

من هذا الذي يجلسُ على كرسي العدل وهو مظلومٌ في شوقِ عدله، محرومٌ من النظر إلى العصافير؟ ومن هذا الذي رفسَ القعود ولم يرضَ إلا بتحريك المجرة؟ 

قال الأنبياءُ لا للملك وهو إلى زوال، لكنهم حكموا القلوبَ بالترنيم وأسمعوا الزمانَ صدى مزاميرهم. ها هي الرعيّةُ ترعى في عشبها تحتَ ظل المنابر. طوالَ الوقتِ كانوا من رعيته. ها هو الراعيُ ينطقُ بمزمار ويغوي الغزالةَ إلى حضنه. لا تصدق مزامير الرعاة، فالغزالات تقع في الشراك، دائماً تقع. فليس مثل غواية أناشيدِ الضباع حين تتظاهرُ بالملوك.

فرائسُ في صولجان، وطرائدُ في مهرجان. قال لي: هل تسمّي هذا سفرجلاً؟ إنه ضربٌ من القنافذ. وكان يشيرُ إلى حريرِ رأسه، وكنا نفهرسُ الطبيعةَ عشيّةَ الغرق. وابتدعناه من الخفة. نعم، كان الغرقُ أجملَ خدائعنا في فهرس الليل الوشيك. قال، كمن ينهر ولدًا: كفّ عن الوجع، هذه القذيفةُ ليستْ لك، لقد كنتُ أدرّبُ الأخطاءَ على صوابٍ نادر. أوغلوا في ثوبِ نجمته السواد. انظروا إليه، ونحنُ بالكاد نسمعُ هسيسَ الليل، يقولُ لنا الصمتَ، ثم يمدُّ لسانَه. لقد بدأتُ في تأثيثِ السفر، رحيلاً نحو الأقاصي الأليفة. كلما انتبهتُ لكي أجعلَ السفر طازجاً، تأخرتُ عن النص. لكن السفرَ لا يحترق. شاركتُ الماءَ من أجل ذلك. إنه استدارةُ العافية. صار الماءُ زيتَ القناديل. ليسَ إلّا السفر، يعتلي رعشةَ العرش، وماءَ الزيت. القلب فقط يمنحُ الطريقَ الموحشَ جنّةَ الأمل. وهذا كلسُ الكلام رميتُه فحماً للقطارات.

قلتُ ذاتَ نص: تذهب لتأخذ المترو فيأخذك. أمّا إذا انتابكَ عصفُ الأحلامِ في غفلةٍ من النوم، فسوفَ يتولاكَ سفرٌ لا جنّةَ تضاهيه، فكنْ سيدَ الجالسين في عربة الجحيم، لا مخافة عليك.

 

 

يَنْتصِفُ الليلُ ليُكْمِلَك

 

هذا هو الليل، ينتصفُ ليكملَك. انتبه، وقتُكَ انتهى، ابتدى وقتُهم. سوفَ يقضمونَ العظام، سيدٌ في الظلامِ اعتدى، عندما في النهار صرتَ نداً لهم.

انتبه، موتُنا في التمام. واحدٌ والبقيةُ جر، اثنانِ وما مِنُ تهمةٍ إلا انفضَّ شاهدُها في النفي، ثم يكادُ وصفُ الماءِ أن يغرقَ ويتدلى من عنفِ مجراه اسمٌ غريبٌ سيأتي، معترفاً لأنه يؤمن بالقسَم، وسيقول لا ثلاثَ مراتٍ ويختفي في جدار. ثم سيتخذونَهُ رمزاً بعد أن ذابَ في النكرة، ولم يبقَ من اسمه سوى الهاء، ممطوطةً كي يكتملَ المخطوط، ويُبعث في نشيدٍ نشاز.

وجدناهُ في الملة وأضعناهُ في الذات، وهو انتصافُ الشمائل بين نعم ولا، بوحُ التميمةِ وبحّة الكهل في سهل الصعوبة. كلما اخضرَّ قلبُ الفتاة غطيناهُ رعبًا من العار، وإذا مشى السارحُ قالوا كواهُ القمر، لكنَّ خطوتَه توْغلُ في الاستقامةِ وفيها ارتجاجٌ واحتجاج، والعفو في كلماتِهِ عقابٌ مؤجل وأحمر. الحمدُ للمجدِ وكفى بالرفقة أن انقطاعَها مُحال.

لهبٌ لهب، ما أبردَ هذه اللحظة، فيها الموتُ أبيض من دون ضدٍّ، ولا شبيهَ لها الحياة. ذائبٌ ما ليسَ في القلب، شائعٌ كارتجافِ الغصن، مشرَّعٌ للتفاسير، إنَّه شبهُ صوتٍ، شبهُ نورٍ، شبهُ ماءٍ غادرتْهُ الريح، شبهُ جرح. ذائبٌ ما ليسَ في القلبِ، مثل أرضٍ مترفة، نامَها ليلُ المسافر.

إنما في القلب شمسٌ، شرقُها عمرُ الحكايات التي هربتْ من التجويد، غربُها صوتُ البوادي تستجيرُ النارَ أن تغفو على رمضائِها. لا أُخفي أنني خائفٌ، بل إنني مذعور. فكلُّ ما في حياتنا يدعو إلى الخوف. كيف يمكن العيشُ في حياةٍ مخيفة إلى هذا الحد؟ يكادُ الإنسانُ لا يجدُ سبباً واحداً للطمأنينة والأمان. كلُّ أشياء الحياة من حولنا توقظُ غريزةَ التوجسِ والخوف، كلُّ شيء حتى الدين، وهو الشيءُ القديمً الأولُ الذي وُجد ليمنحَ الإنسانَ الشعورَ بالطمأنينة والتوازنِ الروحي والسلام.لم أعدْ قادراً على العثور على ما يُشعرني بأن شمساً يمكن أن تشرقَ غداً وأنَّ للأبجدية حروفاً معدودةً ستُسعفُ الكتابة. أناً الذي أكتبُ لفرطِ الخوف، أصبحتِ الكتابةُ ذاتَها مدعاةً لخوفٍ لا فكاكَ منه. عبرتُ الخرائطَ واجتزتُ المدنَ والمحيطاتِ وعدتُ بالروح الخائفة والوثائقِ المذعورة والكلمات المرتعشة. ما مِنْ بيتٍ في البلاد إلّا وهو مكانٌ مفقود أو طريقٌ لحقٍّ مغصوب وكبدٍ مفدوح. صارتِ الحياةُ مهيضةَ الجناح كسيرةَ القلب، لا يأتيها نومٌ ولا أحلام. تعالوا انظروا ليليَ المشحونَ بالكوابيس، من منكم يزعم أنَّه ليس كذلك؟

الخوف هو صديقنا الأزلي، لَدوْدُنا الذي استأنسناهُ، فصرنا من فرطِ رجفانِه، نجهّزُ له صحنَ الماءِ مرة وصحنَ الدمِ مرة. الماءُ لكيلا تجفُّ كوابيسُهُ، والدمُ لكي يعرفَ أننا أقربُ سلالتِه، فيطمئنُ لنا ويتناسلَنا. وكما نألفُ جدرانَ البيتِ التي تخذلنا ليلَ كلِّ مطر، نألفُ نسلَ الخوفِ الذي يصيرُ يشبهُنا شيئاً فشيئاً، إلى أن نصيرَهُ ونغدو مصيرَه.

 

 

كتبنا الطريقَ، محانا الوصول

 

يصرخُ الجبانُ: من أنا بين أقنعتي؟ ويلدغُه صدى صامتٌ في لسانه، ويخدش همزتَهُ حرفٌ طويل. الخوفُ دائرةٌ لا تدور. عندما تصير الكلمةُ جمرةٌ في الرمق ويعسر نطقها، وعندما ترتفع السياطُ ونحن لم نصفق بعد، وهذا وذاك مقتولان بالمجان. لن يحنو علينا الجدارُ وقد عهدناه أباً في الشدّة. وهذا المسير، ألا تراهُ يعيدنا معلولين إلى البداية مرة ومرتين؟ فلماذا لا تعرفُ الخوفَ وهو وجهُك ولسانُك وبعضُ رؤاك؟

برجلٍ مرتجفةٍ يتسابقُ المرتبكون،  وبوجلٍ على عجل يتعثّر ُالملهوف، والغنيمةُ وهي طريدة المستحيلِ، لا يطالها سوى من تجاسرَ على هزِّ الأساسات، حتى لو تهدّم َالمعبدُ فوق رؤوس نسّاكهِ المنسيين.

لقد رأيناكَ ترمي حجراً في الركود،  وسمعنا ما تسرّهُ للورد. فاتكَ أن الرملَ شقَّقَ الأسماءَ، وأعدم َالرؤيةَ رمياً بالسياط. 

سيزحفُ الوردُ للبحيرة الراكدة،  وسيجدُ جثثَ النسّاك بمحاذاتها، سيجدها ترتجف، فلا تقل لي إنها صلاةُ ما بعد الموت، بل هو الخوفُ يلازمُ الأرواح. كلُّ ذلكَ ليسَ بيدك، ولا رهناً برغبتك: أن تخافَ أو أن تصغي لهسيس رمل البحيرات. الخوف في الخلايا والشرايين. وعلى من يرقبك أن يسبركَ وأنت تتفادى افتعال صلاة في وحش بلا شكيمة.

الخوفُ في الخلايا والشرايين. 

لكَ أسماءٌ شتى، والمعاجمُ تقصرُ عن تفسيرك.

انظرْ إلى فرائصِ الناس وهي ترتعشُ وترتجفُ وتتأرجح في هاوية الخريطة.

ليس ثمة قتلٌ بالمجان، كلُّ دمٍ له ثمن.

ما ثمنُ الدمِ الذي يغادر الروحَ بطلقةٍ طائشة؟ ما ثمنُ هذا الطيش، إذ يجرّكَ إلى منفى بلا لغة، وإلى خريطةٍ دون جنوب؟ وقد يستدرجكَ من حبالِ عقلكَ إلى جنوح متأصلٍ فيك، وربما حملتَ البندقيةَ وأنت تظنها قلمَ الضد.

سمعنا دعوةَ القتلِ في كتابِ الواجبات، وهمْ لبّوا لأن شهوتها لا تحد. ونحن انكفأنا لأننا نفكر وسلاحنا الشك. ولم يتوارَ الخوف يوماً.

نحن جهاتُ الأرض ولغاتُها المذعورة. وقليل من الجنون يجعلنا كائناتٍ جديرةً بالباقي من الحياة. وكلما شددْنا حبلَ هذا الباقي، وجدناهُ يصعدُ متشبثاً بسفح بصيرتنا، ليشرفَ على ريف الذكرى، وليرى كم استنزفنا من أفق البحر.

هذا هو البحر، أفقٌ نذهبُ اليه لئلا نصل. فالتجربةُ في الطريقِ وليسَ في الوصول.

الحبُ هو إلّا تصل.

من يزعم أنه وصل؟

بين الحبِ والبحرِ ثمة حبرٌ ضائعٌ،  كلما كتبنا الطريقَ، مَحانا الوصول. وكلما نفضنا الرمادَ عن عظامنا المفتَتة، أغرقتِ البوصلةُ جلودنا باتجاه تيهِ الأنبياء. نحُن نعرفُ أن غيرَنا يغرقُ في قطرة، وبعضنا يغصُّ إذا خسرَ الوحدةَ لأنها شتاته، وهناكَ من يسبحُ في الدمعِ، وامرأة تفيض، وأخرى تكون المد، ورجال سائبون تحت مطر النسيان.

تحشرنا اللحظةُ في خلاط، ولا نكادُ نتعارف.

 

 

نُفسّرُ النهرَ مرتين ولا نعبر

 

إنه دَرَجُ البصمةِ الصباحيّة، يصعدهُ مرتادو النهارِ لكي تهبطَ بهوياتهم إلى القاع، ولكي يتقاتلوا في المساءِ بحثاً عنها. الهويةُ ليستْ سوى نقشٍ رقمي على بطاقةٍ أُعيدَ تصنيعُها. هل يا تُرى كلُّ هذا القتل جديرٌ بها؟ أليستِ الهوياتُ مجردَ مرايا يمكنُ أن تُكسَرَ برمية حجر؟ أليسَ الانتماءُ إلى الحقيقةِ هو الخلاص المحض؟

فئتانِ في الدنيا هما ضدّكَ وأنت، وكلاكما نشيدُ قناع.

الجوهرُ الإنسانيُّ أو جذرهُ نقاءٌ بكر، لكنَّ قشرتَهُ حين يُكسرُ، تتلوثُ باتباعِ هوى السلالة.

وماذا نسمّي الغريبَ وهو هنا كلانا؟ عندما، ونحنُ منفصمانِ، يكتمل؟ أليستِ الحقيقةُ هي جفافُ جرح سينزفُ لاحقاً؟ أليسَ الجرحُ هو تزاوجُ السؤالِ بالخديعة، والصدمةِ بالجسارة، والشعاعِ بالخوف؟ وإلّا كيفَ نفسرُ النهرَ مرتين ولا نعبر؟ وهذه الحشود، كيف تؤمنُ بالوهم وهو بعدُ لم يطرأ؟ ألفرط الأمل اليائس؟ ألانهيارِ اللغةِ نحوَ قاع المعجم، حيث الحروفُ تشيحُ بوجهها عن الكلمات؟

وترى التاءُ تخجل من أنوثتها في ساعةِ الشوك. والبياضُ يُتَّهمُ بالعري، والصمُّ لا يكترثون لو خَدَشَ الخطاطُ جبينَ المعنى بتجاعيدَ جديدة. 

قلْ لهم: ماذا تنحرون؟

لا تموتُ الفكرةُ حتى لو قطعوها بسكينِ الصدأ. وعازفُ الربابةِ، حتى لو كانَ أعمى، تظلُّ رميتُهُ تصيب.

بينَ قتلينِ صارمينَ، يُتاحُ للنصِّ أنْ ينشأَ مثلَ الأشجار. المسافةُ اختزالٌ غيرُ مخلٍّ للزمن. لكنَّ أيَّ عازفٍ يمكنُهُ إنقاذَنا من هذا الشخيرِ المتسارعِ لرئة الديناصورات وهي تتماثل مستعيدة لياقتها؛ مخلوقاتُ ما قبل اللغات.

أية أبجدية؟ ومن أين لنا معاجمُ تتهجّى؟ ثمّة نصلٌ يتحرّشُ بحناجرنا، ما قبل التكوين وقبل الدين. ثمّة من يكرز نحو القتل. هؤلاء القتلةُ، هل سيتمكًنُ قناصوهم من رصدنا ونحن نتحرش بقميص اللغة، لنبتهجَ بمفاتنِها؟

أيها المهتوكُ قبلَ فطامِ النص، لا تحملِ القلمَ صليباً على ظهر شِركِك. لن يَقْبلكَ الأنبياءُ، وهم قلة، والناسُ بحرٌ في الهدير. وعلى رأسك سوف ينزفُ عقيقُ التاجِ

لأنكَ مياعةُ ما يسيلُ من جرح المعنى. 

أيها الجسورُ في عواءِ الصمت، أيها المنادي بالهروبِ من حفلةِ الشرر، لا تغرفْ من الأمثالِ، فكلها عبطُ الرتابة، ولا تستلذ بالحكمة لأنها عمياء. اشربْ دمارك، تجرّعْ رشفةَ السمِّ ببطء والحسْ لذة الفناء. أمنحِ الدنيا مهرَها لتكونَ سيّدَ ما تصير، شاعراً أو ثرثارَ أقوامٍ أو رسولَ الحنكةِ في عيِن الدُّهاة. ومن سببٍ إلى سببٍ ستقفزُ، ولن يكونَ في مصرعِ الوقتِ فوزُكَ بالحياة.

هذا نطقٌ مؤجّل، 

هذا اجترارُ رغو في حديثٍ عن سُبُل النجاة.

 

 

يدّعي وصلاً بهذا الجرح

 

التقينا على طاولة الشك، في يدها الشوكةُ وفي معصمي السكين، وحين خرجنا في الوداع وهي السلامُ يغادر، جاءت الحرب. صفةٌ لما يغسل الحرقةَ المنقوعة في المعنى المراوغ، ووصفٌ لطعنة الذات للذات، وفي المشهد بشرٌ ملاعين، وسماسرةٌ يسايرون الموجَ وهو أخضر، وجلادون سياطهم اللسان ونارهم القذفُ في الأنساب وهي حبلٌ مقطوع.

تعالي يا سحابةَ الرجال، جفَّ حليبُ الأمهات وصرنا نرضع الدم، وغررَ بنا ملحدُ اليقين، فهل من فرار؟ وهل جدارُ الصدِّ يقوى، أم تحاصره الشروخ؟

طاب الصباحُ، لكنَّ ظلالنا اختفتْ وقتَ الظهيرة، وهذا العصرُ ألبسَنا غشاوةَ المحتار، وطالَ الليلُ قبل سكون هزيعهِ في الروح، وما انتصرنا لأننا انتظرنا، وما اكتملَ درسُنا في سبورة الفرجة بعد.

هي الشروخُ، مدفأةُ الفواصل وابتداءُ الحرف.

هي الجروحُ على النقاط، والسكونُ على الشهيق.

هي نطفةٌ علقت، فصارت مضغةً للنّص، وكلّ يدّعي وصلاً بهذا الشرخ، إلّا أنت. أخفيتَ المشيمةَ تحتَ ظلِّ النار، فاحترقتْ يداكَ بجذوة الوادي المقدّس، فلا تقف أن اتهموا لسانَك بالهمهمة، وارحلْ كي تمشّطَ الأوطان من الغرباء. هناك، يخلعُ كلُّ غريب جلدَه ثم يرتدي عريه، باتجاه المأدبة اليومية للأهل والأصدقاء. يفعل ذلك كل صباح، ولكي تميّزَ الغريب، عليك أن تُترجمَ البردَ المتحفّز في كل جثة.

العري ليس هو الغريب الذي تبحث عنه، بل هو الجلدُ المتكومُ البارد.

العُري ليس الغريب، تذكّر!

تثاءبْ معلناً قربَ موتك. هذا الأُكسجين المندفعُ كالرصاصة إلى صدرك،

هو بَصْمَتُك، هو إعلان أنكَ عبرت الجسرَ من جثمانك لحلاوة روحك.

تمشي أوردتُها في أَرَقي بكبرياءٍ يليقُ برضيعة. أنعسُ، فأرتطم بحليبها. وتلك الأوردةُ لها قصة. كنت أتحسسُ الطريقَ في شارعٍ مظلم، فوقعتْ أصابعي على لحنٍ لم ينهكْ عظامي من قبل. أنهكتُ عينيّ بشمعتِه، وشعرتُ حينها أن قسوةً تهبُّ من جهةٍ أصلُها فرعٌ في السماء. ارتخيتُ، كانَ طعماً كصفحةٍ تحملُ أولَ أسراري. سرى الرحيقُ، شهقتُ، فاشتعلَ اسمي، وفاحتْ دمعةٌ خبأتُها في بريقِ صمتي.

هناك، نبضَ شريانٌ غائرٌ في خطوتي التي كنتُ لا أجيدُ رملَها. هناك، شعّتْ شفتا النفق، وسمعتُ صرختَها. اليوم، تمشي أوردتُها في أَرقَي بكبرياءٍ يليقُ برضيعة. أنعسُ، فأرتطمُ بحليبها، ثم أفطمُ نفسي لقسوتِها. هذه الشفاه تتمتم باسم مَنْ سمعتُ شذاها من بعيد، وغادرني اعترافي. أيكون للطف عطفٌ وما من أحد يسامح؟ وهل قطرة البياض تروي كل هذا الشهد، أم إن الأنامل تعبث فيولد من البكاء همسُ الأيادي وتكون الإشارةُ قد بدأت؟ تعالي يا سليلة النهر، انتظرنا على جسر انشغالنا لو تطلع الشمس، قمراً يلمم ضوءَ الحنين ويمنحه روعة الأنثى. مولودةٌ للتو، ولكنها خُلِقتْ من صفح أعذارنا، ورششناها بعطر المواسم كي نهنأ بالحصاد".

 

 

يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

 

تتأجّجُ الظهيرةُ بالسماوات، إذ يهبطان معاً ليكتشفا أن النباتَ يخلقُ الموسيقى، حتى قبل أن تجفَّ النارُ، وقبل أن يكتبَ رمادُها نونَنا الأولى.

هاتِ أقداحك، لئلا يقال إننا قصّرنا عن شاهق الصيف وتأخرنا عن السهرة. هاتها، فسوف يطيبُ للشمل أن يكتمل، والشكل أن يغمضَ عينيه وهو يهطل علينا لبناً وياسمين.

هاتها، جاءتنا الولاداتُ بالغنى والتنوع وسوف نحتفي كما يليق بهذه النعمة.

احتفِ بها، نخبُها مطرٌ يهطلُ من بين أصابعها، صعوداً إلى سماءِ شيبكِ، آه يا شيبة عمرك الذي يصرخ كل صباح بأنه يلدُ العالم.

هذه المولودةُ الصغيرة كأنها قضمةٌ أخرى في تفاحة الخلق، وأنتَ يا آدم العطشان

لا نهرَ يروي انسلالك من نسب الجنات ولا شجرَ يواريكَ سوى المطر.

هو العطف، حطَّ في كفٍّ وبقية الخلائق في كف. هو المخلوق يكمل ما تبقى من ناقص التكوين، سهماً في مهجة الموت، حرفاً في استدارة الأعمار. كأن حياتي كلها لُفَّتْ في قماط. كأن هذا البكاءَ البريء شحنةُ نداءٍ أو دعاء.

قومي يا ماسةَ الحديد، وليكن عرساً رغم فوضانا في المشاع. قومي من ميسمٍ ناطقٍ

ووزعي نثراً ما تبقى من رمق الحب. هكذا سنُولدُ في احتمال أن نبقى شهداء على توالي المد في رمل السؤال، وسوف يقول الميتون: كلنا في ذهاب، لكنها تأتي قنصلاً للمحتمين بحائط المعنى ، كأنها أولُ الذكريات في مستقبل وثني، صنماً يهاجر في برزخ ويطل في أنوار، تعبده الأمنيات وترزح تحت قوافيه السواقي.

هل بقي ما يقالُ غير الصمت؟ هل حلَّ في الأرض النبأ؟

الأطفالُ هم النبأ الأعظم، كلُّ فلذة رسالةٌ من السماء تأتي، وإلى السماء تأخذنا. لكأننا الخيطُ الرهيف في ريشة الجناح الذي يصعدُ بهم وبنا.

يتضاعفُ درسُ العطف فيصير حناناً وسرعان ما يتبدى حباً. تُرى هل نقدر على جعل الطفولة حصننا ضدهم، هؤلاء الذين يشحذون آلاتهم في عظام أحلامنا؟ لماذا كلما طلبنا قصعةَ الماء جاءنا رماد؟ لماذا كلما طلبنا شمساً جاءنا شواظ؟

ثمة سببٌ جديد يجعل الحياةَ جديرةً بأن تُعاش، بأملِ أن نقوى على جعلها رحيمة بالأطفال.

خذ مني هذه الريشةَ ، ضعها في المريض من جسدك، فتبرأُ ويستخفَّكَ الهواء. خذ الريشةَ مني وأعطني رحمةَ الريح. كلُّ كلام يقصر عن البصر، تخونه البصيرة، ويستعصي عليه النص. تولَّهُ يا حافرَ الرمل، هذا مسيرُكَ يثمرُ زهرةَ البر، وهذه نطفةُ البحر تسرد ما تولّهتَ عليه في الممشى. هذا القلبُ كنتُ أريده مصفاةً للولاء 

لكنهم ثقبوه، وكانت أحلامُهم سَرَحانَ جُهّال وكلماتهم نعيبَ برقٍ مشاكس.

خذِ اللحظةَ وافلقها، ولنكنْ متوازيين كي يصلَ القطارُ سليماً.

 

 

الساعة الثالثة قهراً

 

هذه وحدتي تتعددُ لأنكَ منتهاها، والرحمة واحدة وإن فرقوها القضاة. لا ترتجِ العدل فهو حسرة المظلوم. لا تأمن لحبلٍ قطعوه ليصنعوا معجزاتهم في الشنق، وهذا سبب كاف كي تشكَّ في العدم، فهل تولد من جديد كي نسميك النقاء؟

هذا الظل المنقوع في قهوة جسدك، لا يضيف لها نكهة الطريق، بل يزيد من مرارته، فتغدو لا تستطيع تذوق اختيارتك. هما معاً، ظلك وجسدك، يقودانك إلى خطاك، فتمشي دون أن تعتبر لأعمدة الشمس الهابطة عليهما من كل سماء.

في الزوال، يحينُ زوالك، يصيران معاً صفرين على شمال ساعتك.

الساعةُ الآن الثالثة قَهْراً، صفارات الإنذار وأزيز الطائرات وتساقط الرماد والأشلاء، 

وسعالٌ يخنقُ الشاشةَ وهي تكاد تحترق.

العالم ينهار.

الألِف تلو الأَلِف.

الانفجار يطال الهمزة الأولى، فيتداعى بعدها الحرفُ فالكلمة، إلى تصبح الجملة في النهاية، حطاماً بعد قامة، وسقاماً بعد هامة.

النهاية تطرق الباب، فيقوم جسدٌ أنهكته سنواتُ البحث عن لقمة نور كي يفتح.  إنه الشارع يرتجف خوفاً، باحثاً عن مأوى. لكأن في رغبة البدء الجديد استعادة حياة تنسابُ من بين أرواحنا بلا هوادة. لكأن الأسلحة تتكسرُ على أجسادنا من غير درس ولا موعظة.

كيف نقوى على الزعم بأننا أحياء ونحن، تحت وطأة الحياة، نتضرع للموت الماثل. الساعة هي أيضاً منتصف الليل، دون أن يعني أنه الظلام. الظلام هو أن تستسلم له. وانهيار عالم لم نسهم في صنعه، أو لم يسمحوا لنا المشاركة في صنعه، لا يجبرنا إلى الانهيار معه.

انظروا لهم الآن كيف، وهم في شفير هاويتهم، يتشبثون بالخرافة كي يتفادوا أضاليلهم التي كرزوا بها في الأرض. انظروا لهم وهم يرتعدون فرقاً من وحشٍ أشادوه من حصتنا من مائنا في صحراء تقتلنا، وحشٌ سعوا به في الأرجاء يمنعون به الهواء عن حرياتنا. انظروا إليهم يستجيرون من النيران بالجحيم ظناً أنها الفراديس. يا الله، اخفسْ ارضنا بهم، وافتح لنا سماء حرياتنا وارحمهم.

منتصفُ ليلٍ هذا، لكننا نحو أنوار أبعد منهم وأجدى،

الساعة الثالثة والقصف ليلاً، بلا نوم ولا أحلام ولا أوهام.

تحت وابل قصفٍ يجعل الصباح صلاة المذعور، أدميتنا يا عقرب الساعات. مرَّت الأحلامُ تباعاً وحملوها في العربات وساروا، ونحن وقوف في منصة المشلول، لا نملك حتى قمصاننا، وشاعرنا مذبوح اللسان. وزد عليه أنهم صعدوا سلالمنا لقطاف المجد

وتركوا لنا الوصي يعلمنا بالعصي. ولذلك، ظلننا ندور في زار المحنة، نخاف من الاستقامة كأنها العار. ولولا شكلنا البشري، لكان الاجترار لغة اعتلالنا، والمحو صفة اعترافنا بالآخرين.

إننا ننحني لأن السقف أقصر من قامة الكلمات، وفخرنا أننا نسل طاعات، وفي دمنا أخلاطُ مظلومين، وعلى جبين رؤانا دمغة سوداء كالثقب.

شرايينُ العربة تئنُّ تحت وطأة المسافرين.

التذاكرُ جففتْ دماء الجهات، أفقُ النهار يعبسُ، كأن هذا القطارَ سيخطف صحوَه، ويتركه للغيبوبة. 

 

 

رايةٌ تتلكأُ عن بياضها

 

المسافرون يطلّونَ من نوافذ العربة، وقد ازرقّتْ جلودهم. يصرخ أحدهم:

-يا الله، النهارُ يترنح.

يتكوّم الرجالُ والنساء والأطفال حول بعضهم، يتمتمون الآياتِ والأدعية. يندفع القطارُ على السكّة التي غمرتها الدماء البشرية المنهمرة من جانبيه. حين تصطدم العربة بالنهار، تهوي صاعقةٌ أرجوانية، فيحترق الغيمُ والهواء، تحترق نداءاتُ الاستغاثة، ويطلُّ من الحطام بطلٌ جديد، يده التواء المسافة وسهم نباله من لعاب، وسوف يحمله المرضى إلى سرير الكفن مولوداً ثالثاً من صلب النقيضين، هذا وإلا مَنْ يكون؟

عربدةُ المشاع في لهوٍ ثائر؟

طحينُ عظام تئن؟ 

ذكرى نكبات مستقبلية ونشيجُ رمل وطأته أقدام الغريب؟

سيانَ لو تصرخ أو يلعنونك. تصرُخ كلَّ ليلة تحت وطأة الأمل، يسيلُ من تشنج عنقك نهرٌ غاب عن لون أعشابه، فاحتقن، ولم يعد أمامه سوى أن يطمر صدرك بجاثوم أخرس.

عليك أن تخرس، كلُّ راية تتلكأ عن بياضها، سيمزقها المعزونَ على مرأى المجزرة. ادفع بهزال حلمك إلى مأدبة الظن. اشبع ظناً، فقد تنهض من مخالب السرير.

انظرْ اليها، تعيد الابتكار الخلق. دعها، دعها تجترح لنا كوناً وتعيد الثقة لقلوب توشكُ على الشك.

ها هي ملاذنا مما يأخذوننا إليه، قطيعاً بعد قطيع. وحدها الطفولة كفيلة بهزيمتهم

فتحصنوا بها.

المخالبُ أركانُ نومكَ الخمسة، فأصقلها في الثلثِ العسير من الليل، ثم توسّدْ ظلامك المزمن.

هناك. هناك فقط، سيدعك قتلةُ الأحلام المأجورون تهنأ بقية الوقت، بالتهيؤ لمرمى رصاصهم.

ظلّتْ أيادي النار في منأى عن الشبهات، تصافِحُنا بفردوس الصباح، وتمْسِينا بريح الرَّوح والريحان، فصدّقنا. وكانت هذه أولى مغانمها.

سَبَتْنا في الحريق، وأطفأت قطعاننا بغرائز التفاح.

الليلُ ترجمةُ الهرب، الوقتُ يقرأ ما تبقّى من رياح اليوم، ويكتب للسجناء تصريح البقاء.

باقون في الأسرِ، يهدُّ النومُ جدرانَ الظلام، ويبني سجنه للغد، لئلا يكون انتظارنا للحرية طعم الفرار المجنون من عقل الامتثال. فالليل جمالٌ مكتوم، يزدرده الظلام في غفلة من يقظة القلب.

اذهب إلى فهرس الطبيعة كي تذكره بمنسياتنا.

مخبولون عشقاً، ومنسياتنا قناديلُ الهامش، حيث الحرية تخرج عن التخوم.

من يتذكر، من ينسى؟

ملاذنا في النسيان، وليس في الذاكرة، لكن الفروقَ جعلتنا مجرد مجرورين. وها هي السماء مغلقةٌ في سؤال العقل. وإلّا كيف نفسر الحريةَ وهي بعد لم تولد؟ وهي بعد تهمة العصيان.

-أنا نبيٌّ نقي.

قال الجالسُ في عرش وحدته ومات.

 

 

صَمْتُهُ أكثرُ فصاحة

 

لا ذنبَ للماء إن نثروا عليه رفاة أمجادهم، وليس على الصحراء إلا أن تكون الرحيل.

من نفقٍ سيخرج المنافق، في يده الثعبان وفي لسانه عسلٌ مسموم، وسوف يصدقه القضاة وماسحو الدم والملعونون منذ مهد فطامهم، لكن المتشبثين بالأعالي سيرمونه بحجر الشك، وسيفلق الشعراء رأسه لتعرية المصيبة.

مسكُ البداية نصٌّ يفارق النص.

يستويان، الحزن والفرح في لون واحد، يتناسل ويبرأ ويتكشّف عن القصيِّ من الروح الشريدة. وان افترقا علناً، فإنهما متوازيان والثالث بينهما انتباهك. لكن لا أحد يصل.

الأفقُ أن تذهب إليه وحدك. ألوانك هناك. تصل إليه ولا تصل، بالثياب التي كستك عرياً، كأنك على عتبة مفتوحة، عتبة تدور. حتى إذا تريثتَ وترويت واكترثت، فالمكان ليس لك، وليس هذا الزمان معك، فاذهب. أبوابك جدرانٌ وطريقك شكٌّ وشوك. ولا تقل هجرتني الوردةُ بسبب انحباسي وارتجاف يدي. ولا تقل فاقَ عزيمتي دأبُ من سبقوني مسترسلين في مديح العطر. وإن خرجت حياً بلا خدوش فهذه نعمتك. لكن دعْ خيطَ الحياة ينسرب في نسيجك الجديد، فهذا قميصك يليق بك ويَشْكُل عليهم. لغتك سربٌ وحدها وسماؤك أسمى.

أيها النسر في قفص الآفاق، مرّرْ جناحك على طفل محاصر، على امرأةٍ وأد الفقر نهديها في الجفاف. قل لهؤلاء المنبوذين في الخوف: قوموا. آن للخطوة أن تنقسم وليبدأ الباقي.

السماء لا تساوِم. ومن يروم إسراءً فليحفرْ في الورقة أولاً، نبشاً عن زمرد ما قيل في البدء، حين ولدت الكلمة من بطن الميزان ومالت كفة الخلق واهتزت مصائر من فيه. حين وشوشتِ الشجرةُ آدمَ، فتثاءبت الأحرفُ في سرير فردوسها، ثم صحتِ الكلمة. هبطتْ إلى الأرضِ، ففرّقتِ الناس. قتلَ أولهم نسلَ أبيه، وأحرقَ آخرون مُلهمَهم.

كل صباح، ترنو الكلمة إلى السماء، علّها تعود. لكن هيهات، ستمكث ما مكثَ الزبد في البحر. ستمكث الكلمةُ في عمق الحرائق، كيف تجفّفَ حناء الأكف المتضرعة، أنْ يا الله اطفئْ طريقنا، وأرشدنا لو إلى سراب يبلل عطشنا المستديم.

قصَصٌ عادلٌ قديم، صمتُهُ أكثر فصاحةً من هذا الضجيج المهيمن. فإذا ابتهجنا في سرب التشظي، فذلك لأن الهواءَ يعتلُّ بلا جامحين وتفسد غيومه وتصير قطناً. وهذه الأحلام تذوق فكاكها من واقع فظ؛ هل تكلم العيدُ يوماً؟ هل لاكَ لسانَه وتنحنح يهمس أنه السعيد، وأن البشر في غرور تبرمهم يتغيرون لو جاءَهم ضاحكين في صبح الوجاهة، وقلوبهم خفقٌ كأن بياضَها عاد؟

إنهم عند اعتلال الظهيرة يتغيرون، متفرقين كما ولدوا، آحاداً بعد لم، وفراداً بعد جمع، بلا رابطٍ سوى حدود الخرائط قبل محوها.

 

 

منْ أتى يا ليلُ بهذا الحكيم؟

 

تحت أغصان الدم، يهزّ العيدُ عباءته، فتتساقط الرؤيا، ويتبخترُ هو في أزقة المسعى، بعد أن نجا، وبعد أن لبّى الحجيجُ حمداً في مزاد أضحياتهم. الشمس ضحيةُ صباح مفترض. لا تصدق السحاب حتى يهطل ماء السماء على كرنفال الأرض.

سأصدق إن هي طرقتْ بحّة الضحى، ثم دخلتْ بهوَ نبضي. سأصدقها إن صرختْ بأعلى صدى، بأنهم سفكوا دم الشمس. 

فجر أمس الأول. سأراقبها، وهي تتلاشى عند مخرج أوردتي. وسأقول للشاربين: العطش خنجر مرفوع، وطعنة الغدر، حتى لو كانت في ظهر جدار، هي وصمة الأنذال وبصمة الحانق.

لا تستغيث الكرامة إلا بأبنائها القتلى ، وبالشاعر حتى لو نحروا أقلامه ولسانه، وبالوضوح مرفوعاً في شعارات المستقبل، فهل يكتفون عند الشبع؟ بالطبع لا.

-بلى سيكتفون، حين يرتفع دخان حرائق أجساد المدارس والمساجد والكنائس،

سيقولون:لم يبقَ سوى العظام. اطحنوها لكي لا يقال عنا إنا نميّز بين الطوائف والملل. اطحنوها، واعرضوها في سوق الزجاج. سيقال كانوا منزلقين، ويحذو مثلهم نفر غبي، ويتبع الجهال ردح نعالهم.

لا صلح ينجع مع السكين، فاحمل سلاحك حتى لو كان وردة واقطع رقاب الحرب

ممشوقاً على حبل المصير بلا ترنح، والضوء مسرى ما تروم، وإن رشقوك بما يفترونه عن النار، لن تسقط.

يا حامل الميزان في صبح التنابذ، أسقام رعاياك لن تداويها الخفة، ولا الحذر المشؤوم وهو صنيعة الخامل. انظر لشركهم. إنهم لا يفرقون بين البوح والنبح، وأنت تغمرهم بواوات عطف، تسقي حناجرهم بعسل الكلام، لكنهم صلد، ومن شدة الكفوف على وجوههم كأنهم مكفوفون. مررت بهم، يشحذون نبالهم باتجاه القمر، وهو يُوقد البخور لأحلامهم، لكنني لم أقوَ إلّا أن أتسلل لمنتصف السماء، لأتلقّى عنه رميهم. هذا هو السعي الحثيث بين الشفرة والوردة . لا الميزان لنا ولا النيران، وعلينا قمر الغياب. كان الميزانُ يلهجُ بعدلنا، فلم نعتدل. والنار، النار لم تكتسِ معناها إلّا حينما صارت عقاباً لخطايانا، فأيهما سيقودنا إلى مرج يألفُ حروقنا؟

تتبخّرُ عيناكَ على مرأى من صوتك، وأنتَ تبحثُ عن هدوء لضجيج مسكنك.

لن تهدأ، لن تسكن أصلاً، لن تتمكن من النظر إلى أغنيتكَ، وهي التي قادتكَ إلى هذا المبنى. ستفتح بابك للصم والبكم، ثم ستحدثهم عن موعد الانفجار. سيرشدونك إلى أغنيتك، وستطلقُ بالونات شتى، علّهم يقتادون ساعة الصفر بعيداً عنك.

أخيراً، ستؤم الخارجين والخارجات من انكسار الليل، إلى صلاة مباغتة، حيث الذين سجدوا، لن يجلسوا أبداً. ألا تراهم الليلةَ كيف يبيَّضون بك، ويرفعون لرشدكَ كؤوسهم؟ ألا تراهم؟ يهمسون أن من أتى الليلةَ بهذا الحكيم؟ نزح الرجال بعد أن فقدوا الذمم ولانوا حين خانتهم البسالة قبل بداية الحرب، وفي سرها قالت الحكمة: الصمت بيتي، لكنهم هدموه مذعورين من الفكرة النافرة وغيرهم يقبل وجه الحظ حتى لو تجهم، وإن شح العمق، يفتش في العمقين ليُلئِم خدشه الغائر.

لا تلح وأنت تطرق الباب، فالجالس خلفه أصم. لا تلحس المرآيا لتعرف أن طعمك مر. الرسام أرادها عمياء، فاستبدل البؤبؤ باللؤلؤ. قم من صفاتك واصفع الكرسي. اجلس في الرحيل تصير النهاية راضية عليك.

 

 

ترفُ التفاخرِ بالخراب

 

لا تخف من النهاية، ففيها سيركُ الموتِ يبدأ. قضَّ مخدعها المهاجرُ، وفضَّ عفتها النقيض. خضَّ أمانها ليلُ المسافر، رضَّ الأرض تحت سريرها ورماها في الزمهرير.

احذر! فالذي يوشوش لك، يشوش عليك. وهذا استواءٌ آخر، عندما يتلهّى الجلاد بالجماجم، وتدحر النار طمأنينةَ الغافل. ومن ثقب إبرة يعبر الخيطُ الأبيض لليل،

فيجلسان؛ القاتل وظله، القتيل والسكين، لتولد نعرة الأقوياء بعد ضعف، وتتشرذم الأنساب ببطون مبقورة على فراغها.

ولكن: من قال شيئاً عن الصبر؟ من أفتى بوأد وجوه الحقيقة وكلُّها ذعر؟ ومن ألبس الأمل نعلَ الشيطان؟ 

القلوبُ مشاع مشاعر، والرحمة التي خسرتَها بالأمس قد تكون خلاصكَ الأحمر غداً. لست واحداً وإن قلَّ امتثالك للأمثال، ولست وحيداً ولو تبدلتْ قمصانك في السر. وهذا العُري غطاءٌ لروحك ليس إلّا، لأن الخطوة،في أي اتجاه مشيتَ، ﻻ تزال مكانها.

انظر. ها هو الأولُ يتأخر قبل النهاية. وها هو المسبوق يصير غرةَ الفرسان.

انظر، أو اطلع من دفاتر ماضيك، منتصباً كقلم، ولتكن البيضاءُ صحراءَ مجدك من جديد. خطَّها وخطَّ عليها تجاعيدَ نسلك واستعر بوحاً، ولا تتزحزح حرفاً حتى لو حاصرك الرافسون.

كم تدومُ الهنيهة؟ ربما ساعة في عمر الظنون، أو لحظة حتى ينتهي الوحش من لعق الفريسة. وبعدها، تسترسل النساء في عويل صامت، ويخدش الوجاهةَ وجهُ أقنعة سافرة، ويسبح الأطفال في بحر لعاب.

عجباً لبشر ينوحون منذ نوح. ليس هذا زمنُ الآتين، إنه ترفُ التفاخر بالخراب، بالتسيد على البراءة وفضُّ طهارتها بالسم. هبّوا لليقظة زحفاً من غرفة الجهل، وهذي السيوف اطعنوا غمدها. لن تنفعَ الحيطةُ السلحفاة. وللمواجهة، عليكم بنهب الحق. تلك هي نهاياتُ التجلي الأخير للوحش؛ هل قلت الوحش؟ ما الفرق؟ كنا نصدق أن الوقتَ معنا، فيما كنا نربيه بوصفه وحشاً. لا السيوف تنال منه ولا الغمد ضنينٌ به. ننتهي مثلما يبدأ العاشقون. مثلما يصطفينا الجنون، محشودين في غصّة النائح، وليس في فمنا موالاة. ننتهي، بيننا آيةٌ نحن تفسيرها. وهو تفسيرٌ ذو أوجه عديدة، ولكن النوايا عذاب يتقد. خذ مثالاً عتمة الضحى في بال السكران. نحن المعاجم، نعني نقيض الدلالات. نعني، كأن الرموز التي صاغها الله فينا تعينا. كلما ننتهي يبدأ هو غفرانه. 

ينتابنا أننا ننتهي مثلما يتقد الضوء أو تستجير المرايا، مستباحة بلا أحد. السُّكر جناحُ المجدف. لا هو يغفر، ولا قاربَهُ في وصول. نوشك أن نصدق أحلامنا. أن نرى الليل قبل الظلام. أن نغفو وأخطاؤنا جنة العاشقين.

ليس في الصمت غير ذاكرة سوف تنسى، فهدهدْ رؤانا كي ننام. لن يستقيم للنية قلب، فهذا المحل غدا موحشاً، كمرسمٍ جفّفه زفيرُ التعابير على أقمشةٍ صامتة، بلا لون سوى النباهة وقد تغيّر جِلدُها.

 

 

أيها الموتى، هاتوا جزيتَكم

 

أيها المستهامُ بأحفاده، هيّئ زنادك، فالحب زادُك. ويا أيها الزنادُ، فلترفقْ بنا طلقتُك. يا جارَ الجدار، ممدوداً من ثقب الحرام، تسندون مليحتكم ظهرَ الباب

وتصقلونها باحتضانة الجحيم، كأن القبلَ أوسمةُ الوقت وهو يأخذ العواصم. المأخوذونَ فحسب يفعلون هذا. ينحني أولهم لكل حفرة.

النص من القلب إلى السماء، فلا تهزه؛ ماذا أبقيتم للآلهة؟ 

قل له أيها العادلُ كيف سهرتنا كانت مثلومةً بغيابه. كيف أنها كانت مفدوحةً به. كان يطعننا بالغياب. نتذكّره مثل مفقودٍ في قلوبنا، فنغفر له، على أن يُعدَّ سهرةَ صحراءِ البرد بدفءٍ من عنده. طبْ به إن مال، أو سيّج النصيحة بكتمانها علناً بين جمع. هو سيّدُ مصيره حين تغرق المسافاتُ في شبر، وهو مطيّة السارح؛ ليله أرجوحة، ونردُ يديه فأل حميم. خذِ اللبَّ من الحب، وتذكَّر أن نداءَ عينيه يغطيك لثماً وإثماً. هذا الذي يهطلُ من أغصانه الضوءَ ويموج في جذوره اللؤلؤ.

هو أنا حين أغرق في لذة رفيفكما، فكيف سأنجو أمامكما؟ هكذا فكرتُ حين غبتُ عنكما، وهكذا سأتلقّى مُلْهَماً عقابكما.

سرج العتاب ممزق، ولا نجاة في الصحراء لمن دخلوها حفاة. أيها البري لا تشرب البحر كله، ولك في الرياض أكتافُ أحبةٍ هم الأسوار، ولك في البرين بحران. افرش سجادة الضمير ودس عليها زحفاً لمن تحب. العدالة أن تقسم السعد بين العاصين. 

لا للانطفاء بين قلب الحب ومسكن الحكمة.

يترجل العدل عن جواده، تاركاً وراءه كلّ راياته. ربما يتحتم علينا كسر رخام المنطق

وأن نبدأ.

*المشهد الأول: تخرج الجرذانُ من جحور القمع ويلبسُ الدجّال قلنسوةَ الفصحى، فيتبعه المغدورون إلى مستنقع الفضيحة، وبهم يؤسس جيشَ الشرِّ وتشتعل الشرارة الأولى. 

*المشهد الثاني: المغدورون يجربون نسيانَ جراحهم ويموتون قليلاً، غير أن شرارتهم تضيء الوقتَ بتفاصيل القمع.

*المشهد الثالث: الدجالُ يخلع قلنسوتَه، يصعدُ منبر الهجاء بثقل الجثةِ الباردة. يصعده درجةً درجةً. وحين يعتلي رمادَ الغيم، يصيح بالموتى:

-هاتوا جزيتكم.

فتلوّحُ الجرذانُ بتحية الظلامِ له، وبرائحةِ الفضيحة. وفي فسحةٍ من الموت الأوّل، يتناولُ مغدورٌ جرحَهُ، ويلقي به باتجاه المنبر.

*ليل خارجي: أذرع مضمومةٌ في صدور عارية. شُعلٌ تندلع مثل شموس مغدورة. ونشيدٌ مكتوم يصعد من آبار القلوب.

 

 

ذعرُ الروحِ في حضرة الذبح

 

البرقُ يرجّ الابتهالاتِ الخائفة. حشرجةُ روح تسيلُ على مدخل البلاط. تهوي على الروح قدمٌ عاريةٌ لجنديٍّ يتوكأُ على عصا، تلفظ الروحُ اسمَها، فيعيدها الجنديُّ من حيث أتت. هناك، كانت كلُّ الأرواح شاحبةٌ مالحةٌ.

ليس هذا شحوباً يا سيدي، هذا ذعرُ الروح في حضرة الذبح. كيف تسنّى لبشر أن يذبح بشراً مثله؟ وكنا نظنُّ أنَّ الوحشَ هو الحيوان فحسب.

من أين يأتي هذا الصوت؟ من ذا الذي يرثي ما تبقى من إنسان هذا الوحش؟ أتوا به إليَّ لكي يتحسس عنقي، وليشهدَ خارطة الذبح اليومي، شمالَ الخناجر وجنوبها، حتى لكأن الجرذانَ ترمق الدجّال وهو يترجل عن منبره، تنتظر أن يجزَّ ما بقي من أعناق الذين ماتوا ذبحاً.

البرق يرجّ جدرانَ الابتهالات، أكثر من ذي قبل. فإذاً، تعالوا انظروا إلى الوحش الذي ربى وحشاً، ثم استدارا يتحاجزان، كأنهما يكتشفان استحالة المجاورةِ في مملكة البشر. تعالوا انظروا إلى وحشٍ يقود حرباً على وحشه. ويُراد لنا أن نصدقَ هذه المشاهد في عرضٍ دموي يجعل الغابات تستشيط سخريةً. تعالوا انظروا. ها نحن نرى الوحشين يقتتلان، لتسيلَ دماؤنا على خارطةٍ كنا نظنها تبتهج كلَّ مغربٍ بشروقنا.

*المشهد الرابع:

الغابةُ تجرُّ ذيلَ الهزيمة، متوجهةً إلى ظلامٍ سحيق.

الأشجارُ تتساقطُ تباعاً، يلتهمُ كلاً منها حريقٌ صامت.

الرماد يهمسُ للتربة:

-أين أنا؟

سنكون في الأحفاد، كلما أحسنّا الإصغاء لهم وهم يصوغون أحلامهم، وهي الأحلام التي لم ندركها. هي أقل من ساعة قتل. عندما يرفُّ جفنُ الممثل ويتدلى لسانه، وتأتي امرأة من الغموض لتركل ماضيه، ويزأرُ أطفال في الأقماط بصوت لا، ثم إظلام. ثم الستارة تفتح على الفراغ، وعينُ المشاهد تغيّر مكانها، ونرى في البعيد مدراء الطوابير يسعلون، والشمس بالكاد تضيء في العمق، وعلى الجانبين شلالات حمراء، ثم إعتام. ثم تقتربُ الظلال فتكشف عن صوتها، والمرابون يصفقون، ولا أحد يعرف متى تبدأ ساعة النهاية. وهذا ما سيتبع.

في الصباح تكبرُ الفقاعة ويسمونها القمر، وشابٌّ نرجسي يصدّق أنها مرآة سعدِه، واثنان يختلفانِ بلطف وهما في الأصل واحد. وفي ساعة الظهيرة تختفي الظلالُ لساعة ثم تعود من الرماد أشكالَ بشرٍ جدد. وهذا الخليطُ ينقصُ كلما زاد. على الناصية رجلٌ وجهه كله لحية، والمارة يرمون في حضنه السكاكين. وعلى الرصيف بقعُ دم مجهولة. الغروب يزحف بلا ابتسامة، ويهبط الليل مندساً. الكلماتُ تتثاءب، والنجمة تستفيقُ لتحلم. رجلٌ بفانوس في الصحراء. كلبٌ ضرير يعوي على باص خرب. نساء في شارع آخر الليل يتشاجرن على الرجل الأخير.

سبع سنوات..

سبعُ سنوات مرّتْ، والبروفةُ هي المشهد. يتدربُ المغنّي حتى الموت، والعازفُ يغرق في النشاز طرباً حتى الصمم. يهربُ الفيلسوفُ حافياً ويدخل في النار. يلجأ المدرس إلى الغابات وتأكله الدببة. النسور الدوّارة تدوخُ بلا طرائد وتسقط في احتمال البحر. وهذه امرأةٌ اسمها رباب تشق مناديلها، وهذا رجل اسمه فؤاد اختفى في الحظ، 

وهذه مدينةٌ أصنامُها تمشي.

 

 

ننتظرُ شمساً ليست لنا

 

هي شرفاتٌ تخبئ الظلامَ الركيك، وتفضحُ غطرسةَ المؤلف. الستارةُ العظمى لا تزال تستجدي تصفيقَ الموتى، والنَّصُّ أفرغ أحشاءَهُ على المقاعد الملكية. ولم يعد سوى جماجم الجمهور، تنتظر أن تلقي بهمومها على قطن الأسرّة المحترقة. ولن ننسى اكتمال العلّة وتشرد المنفى، وقرارَ عبدين أن يتحررا من نسق الجلافة.

هي الأبوابُ مخلوعةٌ برفسة الغضبان، هو السور يلمُّ شملَ المهاجر. على جذوع الهجرة، تتأرجحُ إشارات الناجين من الموت. ومن منافي الأرض، تفوح لغةٌ واحدة، أبجديتها جمهرةٌ تتوسل العبور إلى البحر الذي ضاقت شواطئه، فاختنق الماء. وما من متنفس إلّا وسدّوه بوجوههم، وشفطوا الهواء من رئة الأمل.

العابسون على المصيبة، أبناء التيمم بالنار، هذه بعض الأحاجي في وصفهم؛ سيركُ الأمواس بعد نفي المهرّج، طامة الملعون، نهوض الاعوجاج ومشيه في سرب الأمان، تمرغ الأفعى في الطحين وخروجها بيضاء.

الرغيف يخبئ السم، والثورة من أجل الرغيف، مَنْ إذاً سيلدغه السم؟! من سيرقدُ في مخدع الأفعى؟ تسرّب الليلُ من بصمات الأنين المتناثرة على الأدلّة، ونهض الشهودُ تباعاً ليثبتوا براءة الذئب، ويوسف لم يزلْ في غيابةِ الجبِّ، لم يستجوبه أحد. الهواءُ الثقيل هو منقذنا من هذه الوهدة. أجنحته الرشيقة، كثيفة الريش بمعرفته القديمة، هو ما ادخرته لنا طبيعة الحيوان الأليف فينا، لا حاجة لنا بزعانفها، تلك الجنازير الحية، بيننا وبينها ما صنع السفاح.

فليكن لقناع القنافذ، وهي تحجل في حلقة أذكارها، فرصتُهُ الوحيدة والأخيرة، ليكفّ عن حجبنا عن غدنا بحجة الصحوة. نضرب أخماساً في أسداس، ونحن ننتظر شمساً ليست لنا. لكأن أكثرَ المخلوقات عنفاً تُولد في أحضاننا، ونظنُّ أنها سباتُنا السريّ؛ أية سماوات تقدر على أحلامنا إلى هذا الحد؟ من أي كوكب يأتي بريدنا، وما مِن انتظار ولا محطات ولا أدلاء؟ أطلقوا علينا نارَ الرحمة لئلا يقال عنا

تركنا الخوفَ يمسك قيادنا، وعَرَضْنا عن استقبال القمر العانس ليلة العرس.

هو القتل، عودٌ على قتل. حينما فاضتِ الروحُ الأولى على يدِ أخيها،كان الغرابُ يقدّم الدرسَ له. كيف للغراب، رمز الموت، أن يكون عبرةً للإنسان الأول؟ أن يكون معلمَهُ ومرشده؟ كيف يكون القتلُ درسَ الخليقةِ الافتتاحي؟

*المشهد الخامس:

كتبتُ لها الياسمينة، وهي متكئة على كبدي المفدوح لفرط الفقد.

متكئة؟! على كبدك؟! صِف لنا مرفقها.

ليس من الترف إلّا قليلاً، يضاهي الفلسفة، وفيه كثير من أخلاط الإنس والجنيات. صلته بالجسد مثلما يُستعارُ الماءُ من قطر السماء. تضعه في خاصرتي فأعرف أنَّ ملاكاً في الغرفة. تبدأ الكبد بالشفاء من علّة النسيان، كأن مرفقها بلسمَ الآلهة وقت الألم، غير أنَّ هذا ليس مرفقها بالضبط.

وليكن، نستحق من يرفق بنا. أكبادنا اصفرّت وآلتْ للغبار، وكلما حلّ المساء،

تمشي المرارة باتجاه الماء، ترتبك الحديقة، فتعود الشمس للأطفال، كي تودّع مرجَهم.

شبهٌ سحيق، أكبادنا والشمس.

 

 

الأصدقاء بحرُ البوصلة

 

مهلاً! مَنْ وضع الصفاتَ في خلاّط وسوّاها، تشمّها الحواسُ ترفاً يميل له الندى وتلمسها العيون انبلاجاً في خجل الطلل، حمراء يحنُّ لها دم النية، بيضاء في لحن الملاك. قلْبُ الجهات، إسعاف الحنين، وشم الإله على جبين المجنون، وهذا الشلال نصف جناحها، وهذا النبع كلماتها الأولى. 

لها إسراء الأسير، عناد النهر حين يغيّر مجراه، هتاف الأبنوس. ومن أجلها، يقفز المهاجر في قطاره الأخير. ونحوها، سمعنا عن بشر لا يعودون. وقربها، تستدير الشمس لتركع ظلالنا ونحن وقوف. ومن بين يديها، تبرق فضة الخلود. ليت لعابها البحر كي نغرق في الشفاء، ليت الأسماء ما اشتُقتْ من أصابعها ، يحط البجع على البحيرات حين يلمسها الحرير، توشوش النجمة أختها فتهاجران لتاجها. يسكب الملاّك كنوزهم على بلاط قدميها طمعاً في ترابهما، والناي بعد عبورها الغابات فم.

الصفات من الله، والحب وحده يجعلنا في القارب نفسه كلما نوينا على السفر وعلينا اختيار الرفقة. الله وحده يتركنا وحدنا في ساعة المعرفة. وتندلع أخلاطنا ممتزجة بمن يختاره لنا الحب، فلا تتريث عندما يتعلق الأمر بالعشق. تلك هي أقدارنا ونحن على الشفير، بعد الضفاف وقبل الولع.

يسكب الملوك كنوزهم على بلاط قدميها طمعاً في ترابهما. جنة قدميها قبل الملوك، وهي أعلى من سمو أم. يصطفون بتيجانهم المرصعة بغزوات المجرات، ملكاً خلف ملك، عهداً تلو عهد، علّهم يحظون بظلٍّ منها، أو حتى برفيف ظل. أعرف رجال بلاط مسحوا أنوفهم في الوحل، وزعماء مافيا زحفوا تحت سياطها، ووصيفات نتفن شعورهن حزناً، ثم تماهى حرفها في ذهول الحاشية وانسدَّ ثقب الثرثرة. ولا لم ينَمْ ساحرُ الملكات، ورأينا الأرانب تقفز من قبعة السلحفاة، ثم صحن الريش رفرف جناحاً في عطلة السماء، ثم تعثّرت خطوة الوالي في دورة الخواتم واستبدل الدهر عينيه بزمرد نردها.

أصدقاء يصدّون الوجعَ عن الروح في اللحظة ذاتها التي تلتفت. 

تلتفتُ حتى يكاد عنقك أن ينخلع، باحثاً عن ثلجة في هجير يجرح كبدك،

أصدقاء كأنهم لك، لك وحدك. 

ليس لكم إلا أن تلتفتوا لكي تجدوا أصدقاء مثل النعيم، الحب يتشبّه بهم. 

وكنت أعرف، كنت أعرف أنهم هناك طوال الوقت، يسقون الحديقة لأحلامي. جناحان وريش كثير واحتمالات لشمس حميمة.

نعمة أن يكون لك أصدقاء، والمعجزة أنهم يحبونك بالشكل الذي يؤرجحكَ على شفير فراديس غير منظورة.

هي شمسٌ ننزفُ أوردتهَا، فإذا أفلتْ، شككنا بالسماءِ، وازرقّتْ بنا الوحدة.

لولا شمسُ أصدقائنا، لترققّتْ عظامُ أيامِنا، فلم نجد من يمشي بنا زمانَنا.

يحدث لنا هذا كلما أوشكت أعناقنا على التلف. ليس ثمة مقارنة بين زنزانة الليل ونهار الحرية. الأصدقاء فقط يمنحون الحياة احتمالها.

الحياةُ سفرٌ في زجاجة، الأصدقاءٌ بحرٌ في بوصلة. حتى إذا فتحتَ دفترَ الوقت، تسنّى لك أن تقرأ ما يفسر لك أحلامك، ويسعى معك، قلبه في يديك، لا عليك. 

 

 

ذبحٌ يهيئ طاولتَهُ لك

 

ثمة من يعبث بنا، 

طيلةَ السماءِ وهم يعبثونَ بنا، وطيلةَ الأرض. وكلما أرادوا أن يلتقطوا أنفاسَهم، أخذوا يختارونَ من جثاميننا ما يلائمُ راحتَهم، لكي يَسِمُوه بتذكارات عبثهم. وقبراً إثر قبر، تستفحلُ على شواهدنا تواريخُهم. 

كنتُ تذكرت المستقبل قبراً قبراً، وأعضائي مطحونة في الآلة الجهنمية، أصرخ وصمخُ النواخذة يصدّني ويسحق صوتي. كلُّ جثمان أسميّه ذريعة الدولة وهي تنشأ على أشلائنا. هل سمعتم جثماناً يقدم التعازي؟ لقد كنته. وهذا ما أسميه جاذبية الشتات لما هو فتات، كأن يلتقي الدبوسُ ببالون شارد، أو يسقط حذاءُ عامل وراء أسوار قصر. الأسباب بلا باب، مجرد التفاف على معنى الحيلة، وإلّا كيف لأرض أن تفتش عن أصلها في السماء؟ وكيف للناس أن يستطيعوا وهم قوامون بلا جليس، سوى ما سيأتي؟ هذا يفتش عن الروح في جسد ميت، وهذه منهوشة بمخالب الويلات. ومرة بعد مرات، ينزلق الدائرون في الحفرة نفسها، ويطعنهم شوك الحقيقة في عيونهم، لكنهم يفتشون عن اللسان، عن الكلمة باعتبارها فعلاً. لا تلاعبهم، لا تسد فمك بأصواتهم، الغلبة مؤقتة دائماً. 

مجرورون بحرف مجرور، ينزل هذا من الحلبة مطعوناً في رؤاه، ويصعد الأعمى في ساعة الظلام. أيها القضاة في سجن قلبي، يا سفر الآخرين، لماذا تتبعونني محواً إثر محو، وأنا غارق في طين الخلاص، وأنا صنم من كثر ما قلت نعم.

كلما قالت نعم، تيقنّاً أنها تعني لا. تسألني عن هذا النزيف الجارف الذي يهدر مثل الرعد: لا، وهو يعني نعم. فلا أكاد اعرف جواباً شافياً أستعينُ به، لئلا تحسبني شبحَ الحلقةِ المفقودة، في ربيعٍ ليس من فصول الطبيعة. لكنني هممتُ أستدرج الريحَ جناحاً، أجرّب أن أطير قفزاً على الوحل، وكان سرابي مراً؛ هل سمعتم بمطر الحداد، ذاك الذي يسبقه رعدٌ كتوم؟

حصتك من الريح كفيلةٌ بالمطر وهو يصعد بكَ فوق الأقاصي، فاصغِ له. أو مطرُ العطر وهو على وشك الهطول، لكن سحابتَهُ تنأى في سماء المترفين. لا نبسَ في رئتي، وبالكاد أفكُّ هذا الضيقَ، متعشماً أن الزوالَ يبطئ خطوة لأزوغ من نابيه. وإنْ عضني قدري، وإنْ شاخت عروقُ خطاي،  فلأن علةَ ما أراه تزيدني علة.

ما نراه مزّق ثيابَ الفَراش المبثوث فوق رؤوسنا، وجعلها تتساقط عاريةً على قيامتنا. هي نهايةٌ عارية، نمشي اليها بشلل بالغ، لكي نحكي ما رأيناه، على أمل أن تتقبل نهايتُنا ما بقي من جلودنا، ولا حياة لمن تنادي، بل لا مناداةَ للحياة.

الكل ينادي: هلمّوا لمصطبات الذبح. أحدهم يذبحكَ على مرأى التراب، الآخرُ فوق رخام ردهة القصر، الثالث على عتبات منبر الخليفة، الرابع بين سطور مقالة في صحيفة، وليس أمامك سوى أن تجهّز نعيك، بأقل أحرف ممكنة،

فلن تعرف أيَّ ذبحٍ يهيئ طاولتَهُ لك.

 

 

يَدٌ تقضمُ أصابعَها

 

ها هو الذبحُ إذاً، وها هي طاولته تباغتُ الأطفال، تكتبُ دمَهم سطراً سطراً، تحت أقدام النخيل.

من نعزّي؟ الحرفَ الذي جفَّ قبل أن يكتمل، أم التمرَ الذي اخترقَ العارُ صدرَه؟! هم الذين أعدّوا الصحن والطاولة، وربّوا لنا الذبح واستعانوا على الهم بالدم. ينصحون السكين ويضعون النصل في الجرح. هل رأيتم يداً تقضم أصابعها؟ كلما تكلمنا اندلعتِ الجراحُ من حناجرنا لفرط الصمت المهيمن. لا أحد يسمع، لا أحد يريد أن يسمع ، كانت الغابةُ هي البيت والمدينة وحدود البلاد. وإلى متى لن تزال؟ كان صوتُنا يقطرُ بكاءً، كان يرى عَشرَةَ جبالٍ شامخاتٍ ينسفهنَّ هواءٌ عابرٌ، وعشرَ رايات بيض تحرقهنَّ رايةٌ سوداء. كان صوتنا يرى، وكانوا يقولونَ أضغاثُ أقلام. هل نحن صفحةٌ في كتاب الانقراض؟ هل عبثُ الآلهة يطالنا كلما قصّرنا عن أحلامها؟

يتخلّقُ الدينُ ليمنح البشرَ طاقة مضاهاة الأساطير والأحلام. فماذا يحدث لنا؟ ليلنا ظلام وأحلامنا أقصر من النوم. حقائبنا أشبعوها نبشاً، ما لهم ولحقائبنا؟! حتى إذا وجدوا تذكاراً خبأه أجدادنا، دون خيار لنا، أطلقوا الدمَ على رؤوسنا. لم يعد لأحد أن يسافر، سوى عارياً من أمتعة ماضيه وحاضره ومستقبله لكي ينجو من قناصيهم، ولن ينجو.

النجاة من ذوي الأمر هي النجاة. أمّا الحياة فربما نقدر على تفاديها كلما صعبتْ أو تعثّرت أو كادت. على ذوي الأمر المخلّدين أن يحلّوا عن سمانا، ويخفّوا عن كواهلنا، لكي نتولى أمرنا باحلامنا. لدينا ما يكفي من خرائط الطريق والزمان والمكان.

هل للأمر ذوو؟؟ لو كان كذلك، لما تحلّت السماءُ بالقبر، ولما سرى العرفُ على من شطَّ للأعلى. دعهم إنهم بلا أضلاع، ومن كلماتهم يسيح اللين. الريح بجناحين تحمل المكان، ثم يوُلدَ الزمان. كم هذه اللحظةُ موجعة، إنّها في نسيج ذكرانا الأولى، نهبط من الأعالي إلى وجع الصحراء القاحلة، إذ نتقاتلُ من أجل مائها وليلها.

إلى من يلجأ المحتار، ومن حوله غاباتُ عسس مدججين بالفتك. كيف نهزمه بالوداعة، وقد ابتلع للتو لقمة الشيطان؟ صبر المسافة أن تُطوى في خطوة الريح، فأين صبر المشلول؟؟ وأنت أيها الملثم؛ بتنا نعرف وجهك الدموي، ولا أحد ينتظر ابتسامةَ الخوف حين تجيء. دع الثكلى تتعفر في رماد حزين، دع المصلي طاهراً ولا تقلّد ظله. عرفناك أيها الملثم، يا بن جحر، فلقد طردتك العصافير من شروقنا، طَرَدتْكَ خيرَ طردة، وها روحكَ السوداءُ تتمزّق على لثامكَ الملطخ بالمخالب، وهي ترى قتلاكَ يعودونَ للحياة، في قصيدةٍ تتلوها النخيلُ على الشوارع المحتفلة بالنور والتمور.

اذهب أيها الملثمُ للحمم التي تليقُ بك، ودَعْنا لمشرقنا الحميم.

تدخلُ متخفيةً بوضوحها

 

إنه هو، هو الذي يرى ملثماً بالغيم، ورؤيته أكثر وضوحاً، يخصنا بالتيه ويجعلنا عرضةً للطرق الضائعة. لا مخافة عليه، مخافتنا منه.كل الجهات تأخذنا إليه، ولا يليق بنا شرقٌ يوشكُ على الهرم والخرف لفرط الوحشة. وهذا من هدي المتاهة، عندما تنطفئ شعلة المنصوب، ويحلُّ للظلام أن يتسيّدَ في صبح الخائفين.

لا ترتجف يا حجر السد، استعري يا ربابة الساري، نم يا رمح النميمة، فأكبادنا ليست مثواك، ولسنا سوى البحر يتلاطم موجه ساعة الريح، لكنه يتعانق عند انكسار العاصفة. وفي عينها، تتقد جراحُ المغدورين ويصعد مطرٌ من لحودهم إلى شواهد قبورهم. تهبُّ، يصاحبها نارُ الربابة، لتحرق اليابس، وتبذره بالأخضر، مثل سمكة في اتساع الشباك تظن أنه البحر. 

وهمنا خشية التيه، نزعم أنها مجرد متاهة. عيونك بوصلةٌ مكسورة أيها القبطان الأعمى، والماء فائضُ دمعِك. عندما تبخر الأزرق في الأرق ولاعبتك سحابة المسجون، ثم استدار العار شكلاً في قناعك، ولمحناك صبراً في محنة تتجول، وقبراً في لفافة، وقلماً في قماط. أنت صدٌّ لهذا المد، كيد الأنسجة التالفة. سبحان اليد التي خطّت غناءَ الدم، وترَ المدلهمين في طواف العود، ونعاسها الصافي يخدش الأحداق الغارقة. لا تركب سفينتهم، إنهم يجدفون إلى الوراء حيث لا بر، وشراعهم من ريش مكنوس. لا تسمع تبرم الراوي، فلسانه مشنوق، وسرد علته نشاز. أيها المشروخ، قبل أن تطويك مجازاتهم، أيها اللهو، بعد نفيك.

في جهة ما، يبتهج العالمُ بزوال جدارن الحديد، وبميلاد شمس جديدة. في جهة أخرى، تتطاولُ جدرانُ الفلّين، لتُبيدَ سلالات بأكملها، تحت ملح الظلام. لا تظنها فاقت. ولا تظن دهاتها ابيضوا؛ ما تراه ليس سوى وشماً لبهرجها، وهي من عرس لعرس تغير جلدها. مرة حمراء، لأن زماننا أعمى، ومرة نكرة، وهذا وصف الضد لو يبدأ، ومرات هنا في البحر تعذب اسمنا. 

قلنا: لماذا الدلال إلى الذليل، ونحن نجاهرُ بأمنيات الحب، ولا إصغاء؟ حين ابتدى الرمل وانشقت خطوة المشتاق، وقفنا جماعات في ابتهال الوقت، وكان الصبرُ حارسَ أحلامنا الشوكي، والحنين سلاسلُ مقطوعةٌ من قيد. لكننا لوحنا لاحتمال الشمس لعلها تأتي، واستبدلَ السجانُ ضلوعنا بالقضبان. مقصيّون وكتابنا لم يُفتح، مجرد نردٍ في رمية المجان. لسنا سواسية على عتبات الرخام، والسر أن عتابنا منبوذ. هذه الوجوه أقنعةٌ لمن؟ الطفولة المشروخة بحجر الجوع، وصبيانٌ في مستنقع الغثيان، وبنات الحجر؟ مهدورين رمياً في قصاصة، تعب الدخان مكرراً في تلاشينا ، ولم يبق سوى اسمها خدش في اللافتات، ثم تسألنا الحياة: أين اكتمالي؟  ونحن نراها تغادر في غضب. لطالما كانتِ الحياةُ ضيفاً يحتسي قهوتَهُ على عجل.

في مضاربٍ أعيتْها الصحراءُ، نوقدُ لها انتظارنا إلى أن تلوحَ من بعيد. تقشعرُّ أشرعةُ مسيراتِنا،  ونحنُ نستقبلها بدفوفٍ تستعطفُ الكفوف. تدخلُ متخفيةً بوضوحها، تتصدرُ المجلسَ مرتبكةً، إلى أن نصطفَّ بين يديها، لتختارَ جنودَ الفصل القادم من رحلتها.

 

 

تكبرُ الفكرة، كلما انحنى الدرب

 

نسري خلفها، خلف تلك الحياة، تغوصُ أسماؤنا في رمال أفعالها ومفاعيلها. يصيبُ الشللُ مسافاتنا، فنراها كما أقبلتْ،  تطلقُ العنانَ لخيلها، لتدبرَ وحدها،

لا أحدَ برفقتها. يهجع المرضى في شراشف أنسابهم وتبتهل القبائل بفخر مكنوس وينادي الموهوم بالمدنية الدنيا فيُقتل، وينطق الشاعر مجازاً لا يجوز، فيصير شبح التمتمات. اسكب العلة أيها الشحيح المسالك، لك الأبواب حين تغلق، ولك التواء الصراط كي تصل غداً. مبطناً بظاهر الطاعة ويظنونها جلدك، ومحشواً في امتلاء بالون بطن شبعان. كم سنتتبعُ ينابيعَ القبائلِ، وهي مستكينةٌ للماء، متحفزةٌ للهواء؟ ذابَ كحلُ حام على كتفيْ سام، ثم سقطا معاً، قبل أن يصعدا أغصانَ حواء. كانت التماسيحُ على مقربة. ومنذ ذلك الحين، لم تبتعدِ السلالةُ عن ضفّةِ الماء، كلٌّ يتوقُ لانتقامِه.

عتابُك أخضر وأنت لامرئي، وأظنهم بلعوك. ولم يبقَ غيرُ لحافك مسكناً لمنفاك. قهوة حلوة ، فنجانها أمامي، والمسالك جميعها مرصودة بانتظارات لا تحصى. لكن لا أحد يأتي ولست في مزاج القهوة، فثمة نهرٌ من الحنين يسور مبادراتي، حيث القبائل لا تتعلم، والصحراءُ لا تأخذ الدرسَ بقوة. ارتعاش يشمل أعضاء روحي، وجمهرة المهانين تكتب خذلانها فوق طاولتي. ليس في القهوة بلسم. أيتها الانتظارات اطلقي للنهر حرية السفر. أيها السفر من أين إليك، من أين عنك؟ من أنت في هذه الخرائط التي تشبه السلال المخطوفة من حديقة فارغة؟

في كل مرة، عند احتفال الذات بجرح نسيته، تتناسل قضبانٌ من ورق ويخدش الخوف سمع سكينتي وأنا بعيد، ورجلاي في نعل اللهفة، وخطوتي استدارة مجنون. أيها الرمل، كيف تطير في الريح لتدفن من فروا فراراً في النهار يبغون نأياً عن هجيرك؟ أيها البيت، من أي باب سأخرج، وما في يدي ظل مفتاح؟

لا تلاحقني يا ساتر الضوء، دع لي الهواء وخذ الوطن كله. دع لأطفالي حلمَ طيرٍ يهاجر، واشبع بماء الدمع، واهنأ وحدك في باحة الأسوار. مرضُ الزمان أنه ميتٌ في ليل ليلك، وأنا أحب الحياة لثماً في عذوبتها. للسفر ترجمةٌ خجولة، فهو فجرٌ ناعسٌ، يشرقُ في الطريق بين رمل بيتك، وبين موعدٍ بعيد تهابُ بحرَه. فجرٌ مخبأٌ في معطفٍ مهمل على جدارٍ لم يمشِ قط. يأتي المسافر مسبوقاً بعودته، إلا الغريب  يظل ضيفاً في الرحيل وريشةً في لعبة الريح. لولا السفر لكان المكان مهجوراً. هكذا ستكبر الفكرة كلما انحنى دربٌ أو استقامت له خطوتان. نصف البداية تنتهي هنا، لكنها تظل مبلولةً بالنصف الآخر، وهي تراهم يخرّوا له سجّداً، بعد أن يدخلوها آمنين.

هل كان ذلك لحناً لجنازة الأمل؟ ماذا نفسر أن يكون الموتُ هو الحياة الحق، وأن للكفر مؤمنين به كثر، قتلةٌ وجلادون وسفهاء وسلالات أحقاد؟ الأمل لا يموت، نحن موتى ولم ندرك هذا بعد . وعليه أن يتداركنا بيأسٍ من عنده، لئلا يقال إن شعباً تسنى له الخروج على ذوي الأمر ولم  يفعل. ليس الأمانُ في الدخول، الخروجُ هو النجاة .

 

 

أجنحةٌ تقلّدُ الريح

 

انظروا هناك، لقد ضاعتْ خارطةُ المبنى، مبنى العمْر، الخارطةُ من غبار، والمبنى على شفا حفرةٍ من العار. من ينقذنا؟ تكدسّنا في اليأس، نهبتْنا الحكمةُ قطراتِ الماء التي بالكاد نتذوقُ جسدها.

رجعَ الدم. كررنا أنفسنا لأجلك، تحيةً لعودتك بعد الضياع. يكون الحبُّ المكرّر أكثر سكراً لفرط التكرير. في الضياع يكون قلبك بوصلةً وهداية، تذهب إلى جديد الأمكنة، وتصوغ تاريخاً مختلفاً. فلا تسمع اليأس، ولا تصغِ لغير القلب. انظر كيف يتعذّر علينا معرفة حروف أبجديتنا.لم أعد قادرًا على قراءة القاف من العين، لكأن الدال خريطة لغواية أحلامنا. ها أنت تمزج الجمر بالزجاج. من أعطاك هذا الذهب العتيق لكي تجرح به أكبادنا. أيها الولع الذي يسمونه الغياب؟ ارفع جناحك بِنَا، نصون بك الشغف، ونحقق المستحيل قبل أن تيأس. ولأنك دخلت بثوبٍ جديد، رمينا الثوبَ القديم للبحر، لعله يبتلّ بضياعٍ جديد.

لا أضيع وأنتم اسطرلابي. دعوا ليدي حرية البحر.

بل سنترك للبحر حرية يدك. دع للموجة علوَّ سماءٍ ثالثة. ثوبٌ يبتّل من هنا ويلتهب من هناك، ويعرّى من هنالك. لملمتنا من تراب.

كنتُ في الهباء، وأنتم بهائي. 

هذه السجادة حيكت بثلاثة خطوط، ونهر يلملم مجراه كي لا تتلطخ الفتنة، وبقايا سؤال. ضع الماءَ في صخرة الخيال تطلع لك الغابات. وامرأة لونها الصبح تسهرُ عنوةً في جناح مسافر. سجادة بصلواتٍ ثلاث وآلهةٍ لا يحصون، وتحتها السكينُ في صهيل الحذر.

أشعر باستعادة الهواء في الروح، صلاة تصهل، وواقفون لا ينحني صوتُ ركوعهم، وجالسون على الهوى، كأنما تستسقي أغاني الليل قرابينَ نهرهم. 

لا تصبغ الصبحَ بالأخضر، لا يخدش اسمك نداءُ مرتبكين، وشوش الأبيض. ليس كمثله ليلٌ ولا نهار، تقرأ فيطلع الضوءُ في شفتيك والماء في قدميك، والطريق في أحلامك.

ماذا تسمون طفلاً يتماهى في الريش والأجنحة ويقلّد الريح؟ انه صقرُ التحية. ماذا لديكم له قبل أن يتصاعد في الطلع والغبار؟ لقد فاتني أن أصلّي له تحيةً واحتمالاً.

مشطُ شعرٍ هو الجناح، رفَّ حتى شف. ضعوا يدي تحت مهده، فقد جفّت الأنهار ولم تعد الضفافُ تستقبل هدايا المستقبل، ومسحنا من الماضي قوسَ انزلاقك.

وقفتُ تحت شرفة الشمس أبجّل أحلامَها لعلها تشفق وترخي لخطواتنا جسرَ الجنة، فقد سئمنا هذا الانتظار المستحيل، ولم تعد الخطوةُ تقدماً، فهي تتعثر بظلها، وهذا النباح كان في الأصل نهياً. وغداً ينتخبون مستقبلاً ليس لنا، ويقيسون قيوداً أصغر من أطرافنا، ويقولون: لقد كانوا. وكلما تعثرت خطواتنا نالت الطرقاتُ منا. يضعون كلماتنا درجاً يصعدون به نحو المقاصل المنصوبة لأكثر أعناقنا رهافة، حتى لكأن الضياعَ بنى لنا كوخاً يحمي أخطاءنا من الضباع. كيف للنطفة أن تهزم هذا الجبل؟

كيف من منا صار منهم علينا؟ الجبال ترحل أيضاً، وتصطحب الضباع معها.

 

 

يسمونها جنازة النكرة

 

لن ندخل السيركَ مشنوقين، وسواها أو هي، نعطي صَفاةَ ما أخذناه إلى الظن،  الظن بأن الحرية ملكاً لمن مشى، وتعاكس واختلف، ولم يطو بعد. 

سيقول الجندي: وجدنا اسمك في شبهة الورقة، وتغير قميصك في جواز السفر، وشفتاك من علمهما تزمان عند مرور العظمة؟ 

سيقال إننا استفردنا باستجواب الإدلاء، في حين أننا نغوي الشمس لمنازلها. ومن نافذة لأخرى رسمنا الستائر كي لا يفرح الطير. وفي قلعة الكلمات سوّينا نصب لا.

أن تختلف مع الشمس، على أن تأتلفَ مع العتمة، تغرق الأصابعُ بحمى الإشارة، فيضيع الهواء في جمرة الجهة، الجهة الأعلى، تلك التي هبط منها الرهان، غيمة غيمة، نسمع الأطفال يسألون: إلى أين؟ وعندي رمزٌ جديد يغمرني بالأسئلة: من أنتَ قبل اكتمال المنحدر؟

قل لهم: الأعلى يبدو شاحباً.

بسطتُ حضن ثوبي أتلقى الغيمةَ الهاطلة، من أنا في الهبوب؟ هذا سؤالُ العشب يداس درباً، من يرمم الأسى؟ لعل في العشب ما يسعف الشعب، آه لو جنباتنا اتكاء وزوايانا ملاذ، لكنها الوسادة محشوة بالشوك. آه لو فرائس هذا الضوء المعتل، نعاسٌ خفيض، لكنا تشبثتا بفجر غامض. في النوم من الفراديس ما يكفي لغيمة من النسيان، أحياناً. وشوش جناحَ أسرك. ليس هناك ما يستحقُ التشبث به سوى اليأس، لئلا ينال منا الأمل الرائج. اطلق أسراك في مسراك، سيستحملهم السجن ليلة أخرى، دعهم.

دعوني أشعل على ضفة النهر ناي الخرير. خذ فمك واترك لنا لسانه. قلمك، نعم هذا قلمك تدقه كمسمار في الليونة، وهذه يد القسوة تجر معطف ما احتميت به. خدعوك بالماء يرقص في فقاعة، رسموا لوجهك شكلَ وجهك يضحك يا حزين، وأنت تئن من شرخ الضحى المسجود المسدود: ما الذي يضحكك؟ فكاهةُ الحناء على ذراع الضحية؟ وشمُ القبس في جبين الدنس، واسمك الملحوس؟ ذريعة القتيل؟ وداعة الخفقان؟ نصف السماء ماء، الهواء يتدرب على السماء ويقوى. هل انتبهت للبهتان يسيل من السلالة نفسها؟

القبيلة تدحرجت من وهم الجنة، إنهم يتناكحون على سرير الشر، ويغتسلون بجماجم الصباح، وبينهم مخصيون، وسيد عاداتهم يحتمي بجلباب باب. دع الخلق في فضيحته، واستعن بالذاكرة، دع الذكْر للشاعر. كلما غسلتُ الكرامة لوثتني. الطهارة خديعة الحرب، وهي أول الكر. من كان منكم بلا خطيئة، يحطّني في الطين. الخطيئة أصلها في اللغة، وفرعها في السماء. شكْ إبرة نارك وابدأ الوأد.

سببُ النهاية أنها تبدأ من يدي، خطاً يميل على اكتمال النقص ويصبح فرعاً ثالثاً، وسبب النكوص أن الصبرَ أخو القبر. هم يغرونك أن  تتجمهر حول وحدتك.

متماثلان وكلاهما بدعة، ومتقاربان وكلاهما بعيد. نعم، ويسمونها الخاصرة، حين أنتَ وأنت في ملهاة، وذاكَ وذاك في خدر الانسلال، ويسمونها جنازةِ النكرة،  قتلى بلا اسم وسبايا ظلال وكمائنُ للحرف وغسيلٌ للكلام في ليل الغبار وعبطُ العلة وأنّةُ المنطوح. لا تستخر في الموت لأن السمَّ مجراه، لا عمرَ للشوكة إلا لو لدغتك قبل الورد،  فلا تأمن لحصن الحجر. لن تنقذك النعامةُ وأنت جناحك الطاووس وسرّك فاحش في المسرات.

أبيضُ وقتُ نسيان الأحمر، وصولجانٌ هي رخاوةُ الهيجان. العاصفةُ ميسمُها خدَر،

والعصبةُ الذين ناوشوا حاجبَ البلاط، اختلفوا على اسم الدولة.

 

 

البلادُ ترتدي نفسها

 

نزّ الشجرُ ظلالَ المعركة، فتسابقت السبايا إلى أغصان النصر المزعوم، وحين أجهضن، عادت البلادُ لترتدي نفسها، ولتضعَ تاجَها على رؤوس قتلاها.

يدعو إلى الرثاء، الغزالاتُ تمرُّ على مقربة من جرحه. دمه يسيل ببطء الألم، والوعولُ تحرس رشاقةَ الكائنات الناعمة. اصغوا إليه وهو يسمع الرثاء، وكنتُ قد ناديته فناح وصبَّ نصفَ الدمع في كأس رسالتي. 

خليلاً يطمع بالقليل لكنه لا يناله، يفطرُ القلب وهو يمنحنا نواحَه الحميم. شبَّ غراً في صوت المرقط، ومنه عرفنا خطرَ النقطة. ليس من الحكمة، أيها الحكيم، ترك الجرحى في وحدة الليل، وليس في الرثاء ما يسعف. نتعبُ في التدرب على الصبر حتى نكاد أن نشفقَ على تجرعنا المرّ في تبادل الأنخاب. كتفه المرقطة تغْري بالشطرنج في الهزيع النبيل من الليل، بين الليل والنهار، لا بأس أن تجرح الخُطى نعاسَ الخيبة، وأن تجرف الرعشةُ غيومَ الخديعة.

وددنا أن نخلعكَ، فأصبنا كتفك. هذا خلعٌ أرحمُ منه القتل، غيبوبتكم أكثر ليلاً من الغابة. أي بشر يقع في الخيبة وأكثر عتمة من الموت. هي مناورة الضوء لسياج الغابة، وتودد العشب لحكمة الوعول، لا تفرطْ في النواح، لقد نحنا منذ مزلقة السماء وحتى مأدبة الأصنام، فما نمتْ بين الصخور سوى وجوهنا القاتمة. منذ مزلقة السماء، خدرُ الهمِّ سمٌّ، ولقد دسَّتهُ الأصنامُ في نار النبي الأول، حطَّ الجبين على الجدار نحتَ السبب، كما لو أنه قرين لروحي، هذا الأليفُ في النص، الوحشُ في الغابة. 

ارحموا غريبَ قومٍ فرّ، وكان قد ناداكَ، فأيّكما الذي فر؟ لا تثريب عليه إذا هو خرجَ على النصِّ وكتب تراتيله على كثب من النار، يكوي جرحه الراعف، ويطفق في النسيان. معاً، معاً. لكن الكياسة جعلتك سياسياً، وهذا عرفُ أطرافك أحمر ولمعة الهيلمان ترسم ظلك في مخمل الأمراء.

الكياسة خزنُ المال في الأكياس، والسياسة فنُّ نهب المال وتبديده، وذلك شأن لا يتصل بحالي.

سحرُ الغيمة أنها من فوق، سرُّ المطر أنه من بطن حر، وجواب المسافة أن الخطوة ترجّ هذا الباب.

أي باب؟ باب الذي ينهر النهر لكي لا يستجدي ظله، فتنْشقُّ شلالاته عليه، وتعزله عن ديوانه؟ فإذاً هذه هي يقظةُ الغابة. حتى إننا لا نكاد نحرز الفرقَ بين الحيوان والوحش. لا أعرف كيف يجرؤ من يقول بالصحو، دون أن يقتحم سَمُ الإبرةِ بالفيل، لئلا أقول الجمل.

أيهما يلجُ الآخرَ، الجملُ أم سَمُ الخياط؟! الفكرة أم المعجزة؟! علينا أن نغدق على من يسترق السمع، لكي يحتاط من حرس الليل، وليضئ لنا الأرقَ المخلوط بماء الشهب. حينها، سنرى الجنَّ، وسنقرأ عجبَهم ورشدهم.

 

 

بالحنّاءِ، يخيطُ الجرح

 

هل سمعتم عن نهار في الباب؟ الشمس فقط تشبه شمساً مثلها. البابُ مشرق الصحو، نسرقه كلّ يوم،  فيعاقبنا شرطي العمر بيوم جديد في أوراق هويتنا. لا تدعه يمر وحيداً، اذهب معه مفعماً بلامبالاة الحلم. الزمنُ زئبقٌ ذهبي في النخاع من عظم الوقت. يستخفّ كلما استثقلته.

وترُكَ يلحّنُني. أحاول أن ألحقَ إيقاعَهُ، لكنه يهرب. 

أتدري ماذا يقولون عني؟

"قالوا: ترى، ما لك أمل".

ها هي بغلة الشك، يسوقونها في منحدرات صعودهم نحو اليقين، مربوطينَ جميعهم في حبال الحيلة ومتشابك سعيهم، ولكنْ لا عليك. الغبارُ يكنس الطرقات. المجد كرتون والأطباء لم يرحموا أحداً. سيصير هذا بعد اختفاء البدع، رجلان في بحبوحة الكلام يكشفان سترَ سر، وامرأتان تدخلان معاً قلب فحْلٍ فيمرض، وشاعر يسجن في دكان أحلامٍ لا يشتريها أحد، وليست للبيع.

لا تقهقهْ يا سيدي فأنتَ من انتقدَ الأملَ، ونحن من ننفيه، ننفيه لكي نقيم معه. نتقاسم الليل والنهار، لنحرس وحدته. وحصاننا مرابط عند بابه ونحن لم ندخل ولم نخرج، لكننا رسمنا على الرمل عرس اكتمال الساعة، وفرشنا الطريق بقمصاننا، ونحرنا لأجله ما لا يؤجل، لأنه الأكيد مهما تعالى النفي، ولأنه صندوق أضغاث. أجل، هو أضغاثُ صحونا، ننامُ لكي ننحني لَهُ، ننحني لكي نحنّي كفيهِ وقدميه. ثمَّ تعال، ازرعِ القمرَ بين ضفتيْ سؤالنا الصعب:

-من جنى ثمارَ الليل؟!

أجل، هو أضغاثُ صحونا، ننامُ لكي ننحني لَهُ، ننحني لكي نحنّي كفيهِ وقدميه. وبالحناءِ نجدُك، فلا تستخِفُّ بالأمل.

ينشأُ الأملُ، وتنشأُ القصيدة.

ال ق ص ي د ة، سبعة حروف، سماواتنا. عُدْ لأحرفها، كما تَعدّها.

لا تنتظرون ليلاً أقل من هذا. ستزداد وحشة القمر النحيل اكثر. لا أمل لكم. البحرُ من كل صوب، وليس ثمة سفن. النيرانُ في ملابسكم الداخلية، ولسنا معنيين بزينة النهايات الوشيكة. اسوَدْدنا، رشّ علينا الليلُ كنيتَهُ، فغدونا كائناتٍ له. كلما تسللَ ضوءٌ لأسمائنا، فررنا إلى العتمة، كي لا يتعرف الصبحُ علينا. لكنه يشقُّ بضوئه سلالتَنا، فنصبحُ شفّافين كالمرايا. نصطفُّ في كثبان القبيلة، لنتلقَّ نفيرَ الشيخ لقتال أخيه. ومن كل قتلٍ، نُبعثُ من جديد، ثم نهرولُ لآخر الصف. وكلما هوى سيفٌ جديدٌ، تأسره السهام وتسجنه الأضلاع وقد اكتظ بالمتواليات، وفمه رنين سوق ويداه طرق على الطريق. من أي مشرقٍ، يهبُ الغناءُ، والمعركة تطحن راياتها نعاس كل شمس؟

لتُغنِ، أثخنتنا الليالي بذئابها، فجففنا. ورأيناهُ يخيط ثوبَ الجرح بوتر مقطوع وسمعناه أنيناً في شهوة الأسف، وقايضناه. منك القلب ومنا ننزع طعنة أنك الملعون، وأن صوتك غموض الكمامة. وهل حسبتنا نسامح لو مثلك غنى؟، أيها المستقيم في دوران اللعثمات، أيها الدائر خارج صفحة القانون، وقد كسرته وتعطل نعلك وأنتَ على وصول بلا ملامح غير هذا المحو، ولم يرك أحدٌ مطبوعاً على الماء أو ظلاً يكتفي بذاته فيرفس صاحبه ويرميه. 

دارت العقربُ، فهل دار الزمانُ معها في ساعة التمثال؟ هل حقاً يموتُ الليل خدشاً بريشة جرح؟

 

 

خيالٌ بلا جلّاد

 

لا تقلْ فاقوا، والله لو جمهرتَ أجراسَ النذور على رؤوسهم وحرقتَ بابَ سكونهم في الخوف وهززتَ شجر المراعي، لما ضجّوا ولا حسبوكَ غير فقس أوهام، وأن لا شيء يحدث في العدم الذي يسكنون. فمن أنتَ لكي تستلَّ سيف الكارثة، من أعطاك نطق البوق، من سوّى طريقك جمراً بارداً لتقول إنك حُر؟

أفق، صافحتك الأيادي من وراء القضبان فكنت بلا يد، وتاهت الحمامة بحثاً عن عشّها في خراب رأسك، وانكسر الصدق نصفين. هنا ما تدّعيه يصير عرفاً وتكتمل به العادات، وهناك ما تخفيه يكون عاهة صوابك وقد تخونك الفطنة، وقد يداويك الظن، فلا تجرح.

الحُرُّ منْ أفاقَ، فمسحَ نزيفَ المعركة، وركضَ إلى هضبة الأسئلة، يُحيلها أطفالاً يبذرون السماءَ نجوماً جديدة. حتى إذا ابتسم الليل تلاشى في ضوء فكرة وأضاء أغنيةً على فم الغزال.

هي الأغنية، ما عجز المتشائمون أن يطفئوها منذ أهبطوا منها جميعاً، حتى مجاعة الغابة. يتوجب عليك أن تنام، فالأحلام تنفر من اليقظة. ربما على اليقظين أن يعتذروا للنائمين، فلقد أفسدوا صناعتهم للنواة المنشطرة إلى ألف جزء من أحلامهم. هكذا هي طاقة النوم البديلة.

لماذا يغفو منتصف الليل؟ لماذا نراقبه، وهو يغفو؟ كأن لا تخرج سنةٌ من سنة إلّا في ليل. هل ثمة أمر يُدبر في ليل؟ بل يأتمرُ الليلُ، ونتدبر بعده سنواتنا. نعم ، زوّجنا أحلامنا للمستحيلات واسترحنا. تركنا الخلْقَ لمصادفات غير مقدور عليها. وكان الحفل مزدحماً مكتنزاً بسكارى وراقصين والكثير من الأجنحة. الغائب الوحيد كانت الريح. مما جعل الريش يتعرض للعطب في أجنحة عاطلة، حتى أوشكنا على زواج كالح. أكثر المستحيلات فرحاً بالتجربة كان الأحفاد في ظهيرة السفر. وكان يقودهم الزمّار، فرقة ضلّت وساحت مساحيقها،  وفرقتان كلتاهما في المرايا هزل. وسمعنا هتافاً: أيها المنشقون اعبدوا السيف أرحم. وخرج طبيبٌ من مرض الاشتقاق وابتكر الكي حرفاً بعد حرف، ثم نبحت فرقةٌ رابعة فصارت تتبعها الكلاب.

أيها المشروخ في حيرة الذات، صمْ عن الشك إن رِمْتَ ساعة، أو قمْ عمّا ليس أنت. إنهم يتطببون بالدم النيء، لأنهم كبّروا بلا اغتسال ولذَّ لهم نهر النجاسة، وصاروا يرتادونه غرقى. قل عجباً وسترى صمتك يرتوي. إنها البداية دائماً، لا تتوهم أن تنتهي بلا سؤال. رفَّ الحمامُ وحامَ في مدن الكآبة، ولم يجد عشاً سوى قبعة ساحر. عضت المذيعةُ على خبرٍ كاذب، وصدقها الحالمون.

سرى جناحٌ في خيال بلادٍ بلا جلاّد، وعاد منتوفاً من الريش. القيامة تبدأ من هؤلاء الجالسين، ومن العطب عندما الناس بلا غضب وأمامهم تفلق الكرامة، ويُداس نعلُ الأمل وتفقأ عينُ الحنين.

سر بالجرح واجعله سرّك.

كيف هذا وفيك سريرة المفطوم بالتوق، وثيابك معطف العطف، كلما آويتنا ضعنا؟ 

مفترقان على حدِّ الوداد. رأيتها بين اللحم والعظم هذه السكين، واليد التي غادرتها بعد غدر. لقد شبّه لك، فلم يكن ما رأيت سوى غيمةِ دم كثيفة تشبه الجرح أكثر مما تشبع السكين. والدمُ لا ذنب له ولا شبيه.

 

 

يموتُ في البحرِ الحي

 

تريث قليلاً قبل أن تقول عن ذريعة النصل وندم الدم، إنها الرحمةُ حمراء أحياناً، صفةٌ نمررها على جسد الهلاك، لعلنا نبقى أو يُقال تلاعب النسيانُ بهم فجنّوا 

ملثمينَ بالأكمام على الشفاه، ملطخة عيونهم بغبش كافر، كلما أطاعوا عمّروا في الهباء. وسيدخل الليلُ نبياً كي تُبعث الأحلام، وسيخرج الصبح ممهوراً بالواجب الغيبي.

انثر السيفَ، اطعن به ربَّ الحرب. انظر، لا أحد يموتُ في البحر الميت. إنهم يموتون في البحر الحي. لا حياةَ على الوسادة يا سادة، لا موتَ للورقة. تمتمْ بالذريعة، ولتكن المقصلةُ فاصلَ مجدك بينهم، ولا يغرك لو تنحّى الحنانُ وخاصمتك عيونه. أعينهم تحدّق في قناديل الخنادق. نحن ذريعتهم المكتومة، لكنها ذريعةٌ تحدّق نحو نفق الضوء، وتتنفس خزامى الخطوات القادمة. لا تنقصهم الأسباب وحيثياتهم تنير خطواتهم ويحثون المسعى نحو أفق أمضينا عمرَنا نرسمه. ما الذي رسمناه؟ كلُّ خطوة منفى وكلُّ باب سد. أهذا ما كنا نرسمه، بألوان من رماد، بأقلام من سياط؟ وفضّ الدهرُ عراكنا بكلمة نصفها أعرج، وجاء من يشتهي الأحمر فرددناه للنية.

سبْ ما تشاء عندما يتفتح الورد ليلاً، اتفلْ على الشمعة، لا بلل لك. أيها الوصمة، يا نخاع القاع في أول كشفه، لم نكد نتنفس هواء الحياة حتى قُتلنا، قتلنا ثانية قبل الموت وبعده. وأعطونا نصبَ المناحات والمنادب. وكنا نريد الرقصَ والأغاني. باسم من يخصنا الوقت بما يخص غيرنا؟ نحن أصحاء الروح يدفعون بنا في طليعة الموت متاريسَ لكتائب العتمة والضغائن. ولم نكن فعلنا سوى صقل الأحلام بصبرنا، فسمّونا أصحاب الحلم، سنظل نسمو، نحن أصحاب السمو، وسنطحن كتائبهم بأحلامنا. كنا نظن هذا لولا ذلك الذي يفيض والأرواح التي تطيش بفعل القتل العشوائي الذي يخصّوننا به. انتابتنا الربكةُ، حتى اهتزّت الأكتاف وجلجلت الهسهسات، ثم عضَّ الحظُ على ما رأيناه وعداً، وانسحبتْ من عفاف القول أولى الهمهمات، وقال الكتّاب: تنادموا فوق السبب.

الآن، يتحتمُ علينا مراجعة استخدامنا للكلمات. لم يعد موثوقاً أننا نختار الكلمات المناسبة لقول ما نريد. حتى إننا لا نعرف على اليقين ما إذا منا متنا أو نموت أو إلى الموت. ثم ما هو الموت، أعني ما معنى أن يموتَ الإنسان، هل حدث أن توقفنا مع ديستوفسكي وهو يصطرع مع هذه الفكرة؟

ولمَ لا نفسر الحياة؟! لماذا لا نصل لمعنى أن نُشفى من أمراضنا، ونعود نحيا؟!

بل قل بأن تقتل ما تظنه حياة زائدة، وتسفك شمعة النهار وأنت مغمض العين ولا تضحك، وتلمع عين الغريم ولا تدمع، ويصاب خصرك باحتمالات الطعن، وكلاكما تتبادلان الغدر.

يا سيد الرقعة، يا شهم المربعات يا دوار الاستقامة، غمغمْ. أليس الموت فكرة، 

كفكرة الحياة؟ أليس النهر محض نبع سيجف يوماً؟ 

البحرُ سيدُ الأخلاط، لكنه الأنقى. قل للراحلين عليه: لا يابسَ الأرضِ منجى. قل لهم: سينجو الماءُ بكم، وسيلامس اليابسة، كعاشقٍ بلّله الوله.

 

 

لطفاً بشجر الخشية

 

بعد منتصفِ الليل بثلاث، ليسَ من الزمان ولكنه مكانٌ وراءَ الوقت وقبلَ الموت بكثير. تلك هي الفكرةُ التي تنمو في شجرةِ القلق، لكي لا يقالُ إننا نسهرُ عن مسؤوليتنا إزاء العمل خارج النوم. أخلاطنا أكثر فصاحة من لغو القتل حثيث المساعي. من لم يمت منا يموت معنا. ديستوفسكي، في غمرة العواصف، وبعد تجربة يوميات القبر، أسدى نصيحته: ليس من الحكمة التفكير في الموت، لكن في الحياة. هل كان يريد أن يقول: ليس الموت هو المشكلة لكنها الحياة؟

غير كل ما حولنا يجعلنا نكاد نتعطل عن التفكير، حيث مجرد التفكير هو المشكلة.

والأجدى عدم التفكير بأيٍّ منهما، فالموت للحياة، والحياة للموت. ألم يقل محمد الماغوط؛ إنَّ الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموتُ فينا ونحن أحياء؟

حسناً. الخاسر لا يخسر شيئاً، لكنه يكسب أشياءَ وأشياء، حسبُهُ أن يراها في ظلمته. لطفاً بالخشية لأن حاملها يخسرُ نصف هواه، كأن لسانَه مقطوعٌ بصمت وعيونه مفقوءة بالكارثة، لا يسامر إلا ليستمر، حاملاً الحلال جبلاً لا يطاق. وفي لعبة الاتهام بين الأقفاص، لا يعودُ مهماً أأنت هنا، أمْ إنَّ مفاتيحَ الجلادِ صدأت. ارفعهما من ماعون الصلصال، يداكَ الطازجتان مثل حلمةٍ فلتتْ تواً من فم الوليد. يداك ليستا للكتابة فحسب. ثمة ماءٌ مثقلٌ بالطين، ينتظر الشكل. ارفعهما في شمس الناس، يتكاثر بهما الظلُّ في سقيفة اللجوء الذي ينتظرنا. دع يديك تصدُّ عن أفئدتنا العطش الوشيك، فبعد كلِّ مطرٍ عابر جفافٌ مقيم.

بذات اليدين المأخوذتين من حليب الملائكة، سيطيبُ لك بهما، في مساءٍ نحيل، أن تحتسي أحلامك المنسية بقاعة الليل الطويل. ما عليك إلا أن ترفعهما مثل رايتين منتصرتين، وتشرب من عيون النهار أهازيجَ الليل. ولا تلتفت للمقص لأن جناحك من ريش وهمي. التفت لقلبك، فهو يغني نبضاً بلا مقامات. ولكن بحرَكَ أبيض، وحريرك سجاد نظمته القصيدة في صلاة الليل. دعْ لاوعيكَ يربت المسافة بين العنق والنصل، تنهال الأناشيدُ عليك. وإن صعدتَ سفينة الرؤيا، لا يعود الغرقُ موتاً، بل يعود حليباً أول.

تريثا ففي خفق الجناحين ملاكٌ لكما، وسوف نسميه الطلوع، طلوع الساعة من مغرب الحلم. وسوف ينهمر رذاذُ جنـّات تهجيناها. إنه الوقت الأنسب للملائكة،

ففيه يتواعدون تحت شجر السماء ويهمسون للأنبياء أحلامهم.

بلا شجر، سوى طاعة التوق. بلا التفات إلا لمصدر الأسباب. وبلا مسيل إلا لأبجديات القصيدة. رأيناهما في السرير، العلة والمعلول، مربوطين بحبل تناسل الفوضى، وابنهما السبب. لا تطأ، ما الحب إلا ناراً وسط بحر، وكلما وطأتها، هاجت الريح واهتاجتِ الأمواج.

دعوها فهي مأسورة. تريّث وأنت تضعُ يديك مرتعشتين على كبد الحقيقة في واضحة النهار. لا تحتاج، وأنت تقرأ العرش، سوى لقلب نمرٍ وفرو فهد ورشاقة بلْشون. ضاق الطريقُ يا بن أوردتي، وتطفّل النسيان على العناوين وشاخ جنبك. خذْ من يدي وَهنَ المصافحة. سِرْ، لو فكوا غلالك للسر.

 

 

نثرُ الرغيف، وجبةُ مَن؟

 

لن يلتقي المتوازيان حتى في حفل عدل. النصلُ بالنصل، والنارُ بمثلها مرتين. 

احفظْ لعابَك للشهوة المؤجلة، ولا تنمْ في النميمة، ولا تكدح وأنت تهمُّ بالنية الصافية كي لا تتعثر قبلها، فتدوسُ وجهَكَ خيول البربرية. انظر، وطأ الرمادُ ثيابهم في عطلة الغسل وخرجوا عراةَ العقول، تلمع صلعة تمثالهم. وهم بالمثل، سيعذبونك إن كنتَ الصنم، وإن كان لسانك ترنيمةَ فقهٍ مسالم. لا ينبغي للقتل أن يتأخر، وله دعاة ومنتظرون، وهذه السكين ولدت يداً في ليل الرقاب. الثمْ الدم، شمْ نحر أسرك وتذكر أولَّ الموت. أول الراء، وهي تصعد من جنب روحك، ويولد منها الجناح. ثم نصفك رفرفةُ طائر فقس للتو، ونصفك الثاني يمين لا يمين له، وله الهوى.

جهتان. نعم جهتان، لكن أخضرَهما سُدَى في الخريف، مجرد تلويحة صفراء آن سقوطها ولم تتلقفها الأيادي. ولم تعض عليها أصابع القفاز. سيان إذاً بين النكرة واستمرارها. لا فرق بين ظلال هذا الغصن لو غابت الشمس.

ويحك.. لي لحية مثلك، لكن وجهي يشيح هناك، رفضاً ضد مرايا الضد. أجلسُ في رحى قدري وهي تدور. أكظم شر أنفاسي، أكمم النعم بهتافات لا؛ لا تقل سيّجوني، جناحك هو المقص.

صه. قم، دع جلوسك وكفى. قاصمُ ظهرك قشةٌ وأنت الجبل. كمشرقٍ فصيح، غنِّ. درْ حول أوتارك، قيّدهم واصعد. من قال إن النثر فتات، ومن صلبه استقام مقامك؟ النثر أبجدية لثغتنا الأولى، وهو حشرجة موتنا. صفتان للأبيض، ثالثهما سهمُ بؤبؤها وهي تومض في النعاس.

النثرُ المتساقط من رغيف يابس، تراه، وجبة من؟ لقد سمعتك، وعلى لسانك صمغ الكلام. وشممتك، فألفيت الحائط يسقط، والنخل يتكئ على وشم قبيلة تبحث عن ذاك الرغيف، وهم يرجمون الجائع، كي لا يغني. جالسون في شرفة الهاوية، بانتظار الريح. كلما تدلى من السماء نبي قتلوه وسرقوا كتابه، وفسّروا غيمَ النعيم بأحجيةٍ خالدة. والجياعُ في صفوفٍ طويلة، بانتظار جثث الأنبياء ونيران ألواحهم المقدسة.

كيف تفسر أن الحكمةَ تغرس ضوءها في قميص الغواية؟ سيدخل رجال كثيرون في وسادة الشوك، ولن يمر زمن إلّا وأوهامهم خُدشت، وسيخرج من بينهم سجّانُ العصافير، والجلاد محنطُ الأصنام، وطابع الزيف ببصمته في أول السطر الأخير. ولن ترى امرأةً إلا من الخارج جوفاء، وداخلها نهرٌ سري وأغنيات بجعٍ مهاجر. وهذا اللغط الهامس بين صخور هجرتها الجبال في قاع نهر، لن يقودكَ سوى لإغفاءةٍ تلتقط فيها أنفاسَ ظهرك، قبل أن يقع الجلاد على زحفك باتجاه ماء فرّ من فراش المطر.

صفق لهم جميعاً، فقد جاهدوا في فرجة السيرْك ليسرّوك، وتلونوا فرساناً كي تدوم القهقهات؛ الأحمر أنف المهرج ساعة يبكي، والحبل طريق البهلوان. ليس حبلاً،

بل صراطٌ منحنٍ، يضحك تحته جمهور الحشر، يراهن كل منهم الآخر، متى ستفتح أبوابُ المسرح؟ وما الحياة سوى خيمة ثرثرات، لغو مائع وحرية عشواء بابها الموت. يغرق الجمهور في الضحك، فتنمو على شفاههم سفن نوح، ولا عاصم إلا الحريق،

فهل ستستوي مائدة السماء للجوعى، أم ستختفي في همهمات البلاط؟؟

 

 

نساءٌ صامتات، يلدْنَ الكلمة

 

ضجَّ طبلي، كلهم طرقوه وفراغي بارد، لسانُ من أنتَ يا ناي الأحزان؟ وما الشرفُ إلّا ترف، وما العارُ سوى استقامة الرفض. الزهد جرحُ الجدار، فلا تهدم مجدَكَ روحُك. خُصّ بالاسم عدو حرفك، واقصد النابَ حين يلمع في الابتسام، ولا أقصد السلب لأنه قناع الغدر، ولا أصدق امرأة تؤمن بالخيانة عهداً، ولا برجل أتى من الحرب مقطوع اليقين؛ حتى وإن لم تقصده القذيفة، لا أصدق. اليقينُ نسغ الإغماضة الأولى بعد سهر وزجاج الصحو المشروخ عمداً، لذلك لا معنى لأن تكون جندياً في بخار المبدأ، ولا متشرداً في كثبان متحركة لدينٍ ساكن. لا معنى لأن يتلذذ الخنجر بدغدغة الشهيق، وأن يسجد الدم لراية القطيع.

السريرُ زهو الوصية، والورثة أظافر المقبرة المكتظّة بالأطفال. فلنصنع المثل كي نلغيه. طهّر لسانك بالنميمة في العدو. اخدش الصبر، قبل أن يقودك للقبر. النساءُ جميلات في الصمت، لأنهن ولدن من الكلمة. أما الحرب، فصوتها أسود، وثيابها محو، وليل أولها الوشاية، ونهار آخرها النار. ومن يموتون في عبث العناد لا ذكرى تعود لهم، ولا تلمع أسنانهم في ضحكة النسيان. وأما النصر، فثيابه الدرع مطعوناً برمح الرخاوة، ولا تسأل عن الهزيمة لأنها شجرة النحيب. وهكذا نكون قد رفعنا خليقتنا من جديد إلى مثواها السفلي، حيث الهياكل تسمن، والأظافر تضخُّ الدم للقلب الجاف. لن ندخل بهذه الخليقة لأية حرب، سنجعلها تلمّعُ المرايا للنسور التي تفاخر بجيفها، وتبخّر القاعات للقردة الذين لا يتوقفون عن تلاوة بيانات الحسن والجمال.

لسنا من كتّابهم، ولا ندرك الحرب وما يصفون. لا تظن خيراً بالراديو، فما من شيمة إلا وبجّلها، ومات مكمماً. يحسنون ترتيل الصلوات لجنازتنا، فيما نؤلف لهم الحديقة؛ هل سمعوا عن وردٍ نما بالدمع؟ ثمة شعورٌ بالرماد في الأوردة، من لديه إذن فليسمع. لسنا على شاكلة ما يحلمون. 

-هل خرج الخوفُ من معنى الخريف ولبسَ قيدَك؟

-لا أعرف، لم أعد أعرف.

-ليس جهلاً، لكن القواميس تختلف. 

-وماذا عن الحجر في يدك، أين رميت رمح الآه؟

-هل هو حجرٌ حقاً؟ لماذا يسيل هكذا بين أصابعي؟ يتوجب أن يكون الألم، بل قل القلم.

-ولديك رأسك، وبقايا كلمات نصفها حي.

-ربما كنت في النصف الثاني، الفاني.

-لكن الطلائع لم تتقدم إلا للمقبرة.

-هذا لأن الموتَ كبير والقبور شاسعة، والمياعةُ جاءت أولاً من كاهن الفتوى، قصصاً تصلح للفتيان، سيرة الخنجر الصالح.

سنظلّ نعودُ للخنجر، نرقيه بمياهنا ونتلو فوق جبينه آياتِ الذبح  حتى تنزفَ عظامُه، نرحل عنه كي نعود إليه. يا الله كم أنَّ تيهك غيهبُ خطواتنا، وأن أقمارك لا تهدينا، وكائناتك تمعن فينا، ونحن إليك.

 

 

يهوي وعيُها، الموسيقى

 

سأنسى، أحاول نسيانَ ذلك. فليس سهلاً احتفاظ الذاكرة بكل هذا الجحيم. سأحاول. ففي النسيان شيءٌ من الموت؛

كان المقعدُ قبلها، أشبهُ بخريطةٍ تقودُ إلى شاطئ ستائرهُ من ورد، ونوافذه من قصائدَ بكر. جاءتْ، فشهقَ المقعدُ، وهبّت في الستائر تفعيلةُ البوح. سكبَ لها من صمته كأساً، وقبل أن تشربه، قطعَ لها عهداً، ألا يثمل إلّا من نوافذ عينيها المتقدتين صحواً. كانت عناقيدُ العنبِ شامخة في كَرْم ِشفتيها. سألها:

-بأي غيم بخّرك الليل؟ ومن أي مطرٍ عصفتْ خطاكِ؟

لم تجبه، جرحتُ إصبعَه بنبض معصمها، ثم شربت من ارتعاشات يده كأساً ثانية. وقبل أن ترقصَ الثمالةُ الأولى في خصلاتِ شوقها، التفّتْ حولَ شوقه، ثم غفتْ على عهده لها.لم يثمل، ظلًّ يراقبها، وهي تجرحُ زجاجَ المقهى بملائكةِ عينيها المغمضتين. كلما تفزّ الظلمةُ بعطرها، يعطشُ لصوت حروفها. يغزلُ على تراب الليل طريقاً مفرداً لكي لا يعود إليها، فيجده يغبّرُ بستائر نوافذها. طيلةَ النهار، تنتظره الورقةُ بشغف. تراقبه وهو يزخرفُ الناسَ أمواجاً لشاطئه. في المساء، يستلقي مُجْهداً إلى جانبها، وحيداً يشكو لها قصائدَه. تتحسسُ الليلةُ ضوءَها الخافت، تتحسسُ وحدتَها، تضعُ كفيها على بصماتِ غيمٍ مرَّ بطيئاً فوق سجادةِ صلاته، تتذكرُ مطراً غادرَ أجنحته، لكي يحطَّ على اسم غيمها، ويجفُّ لها. بعدها، لا مبرر للغة، فكل حرف تاه، منذها، يقود لكلمتها.

حسناً، لكنني سأموت قليلاً ريثما يوقظ البحرُ ذاكرتَه، وينساني. فلم أعد أصدق كلَّ ذلك، خصوصاً سهو اللغة والغفلة عنها معاً. فليتريث الليلُ وهو يضعُ فهارسه قبل المغادرة. وليكن أكثر بطأً من قهوة المصير وذريعة الأقدار. وطيلة موتي القليل، سأنقشُ على اللغة ما تبقى من شهقة عاشقٍ غادره الليلُ وهو يتأمل قصائدَه المرتبكة.

الكتابةُ مثل الحب في عاصفة، أنت تعرفه، يخفّ ولا يخاف، انتظاره أجمل، لكنه يأتي، دائماً يأتي، أعدكما بذلك. انتظراني، يدي في الصلصال والأقفال تحرس أنفاسي. لولا القلمُ، كنتُ مت. انتظراني، وميلا بي ناحية النهر النائم، أوقظه وأمدح له السفر، وليغرف الراحلون وداعهم، موجةً موجة.

ليس بعد، الراحلون لا يحسنون الوداع. ذهبوا وتركوا لنا المناديلَ بدمعها. النهرُ في النوم، عارياً من الموج والسفر. سيغرقون في ندمهم، بعد أن تنتابهم فداحةُ الغياب.

لكننا رفعناها فوق صواري المعجزات، وقلنا للعقل طِبْ وتُبْ ونمْ. هذه الشواطئ ليست ذهباً، لكن خطوةَ الريح فوق ترابها أولُّ الأمل، فانتظرا الريشَ يطلع نابتاً من جرح نسيناه، وعليه من تعب المسافة ملح كثير، لكأن كلَّ دروسنا في الحلم والتحليق والهذيان، صارت في النسيان.

كمْ موجعٌ أن يفردَ النسيانُ عباءتَهُ على شمسٍ كانتْ ترفرفُ في حقول الموسيقى وأكواخ المخيلة. ها هي الشمسُ تضمّدُ خدوشَها، والموسيقى فقدتْ وعيَها، فهوتْ بين أقدام خيالٍ كانَ في موكبٍ بحريٍّ باتجاه لغةٍ من أضواء، لا حروفَ ولا كلماتٍ تستعبدها. كان ذلك عهداً، لكننا نكثناه بالتبرم كي لا يقال تهجنوا. صار موكبُنا كبواً، ونحن نمشي لمجرد الترحال، أو لنطيعَ عاداتٍ نسيناها.

 

 

دعوةٌ لحفلِ موتِك

 

الرملُ بحرٌ للركض، ماءٌ للعطش، اغرفْ يا من سترسم الحدَّ لتقيم الحد، ولكن قلْ لمن سبقوك في التنبؤ: وطني كله أوطان، وجيبي دولتي أدير سرابها علناً وأنا العطشان، أوزع الصمتَ على الأفواه مفتوحةً في الدهشة، وأصعد سلالم النزول وهم خلفي، جباةٌ ونخاسون ورجلٌ جزَّ الصلعان عشب عقله وامرأةٌ حمراء في نصف موعدها ضجَّ الأمل.

أيتها الرايات: لماذا السيفُ لسانُ فصحٍ وفضح؟ شاخَ الكلامُ على دكّة اللغو ولم يصعد المنادي إلا واردوه ضحيةً للخرس. اكتب: شفتاك نار وعصيانك غدير أشرس، لا يعبره الهاربُ إلّا تابعوه، ولا المربوط في مستقبل السّير الممجدة عنوةً، حتى الأجنحة التي تخفق بنا  نحو المهاوي انتابها الذعر لفرط الفتك الذي يجتاحنا في هذا الهزيع الوحيد من العمر. من تراه سيحنو على علّتنا ويرفق بنا قبل الوقت وبعده؟ من لنا، ونحن نرفلُ وحدنا في حالة الاحتضار الطويلة؟ ليلة واحدة كأنها العمر الطويل كله. الليلة الأولى في نُزل الرحيل الكوني، تشبثتُ بالدم الراعف وأنا أرقبُ الرفقة تحت نصل الكتابة تشرع في تفويت الفرصة على موتٍ وشيك. اطمئنوا في خيمة الليل بنومٍ دامس، بلا أحلامَ ولا ريشة تمدح التاج. لم أغب عن الدفتر راغباً، لكنَّ الظلامَ الهاطلَ على الروح يحجب الحبر عن أدواتي، ويسحل أعضائي بالصلد من الفحم، فغادرتُ أحصي مئات الكيلومترات لكي أحرس الفجرَ بشمسه المتهورة. وكان الفجرُ من شدّة تهوره، يراود الشمسَ عن مشرقها، ويغلّق أبوابها، كأنه ملّ جدرانه أو عاف شطآنه، فانزوى تحت ظله، يطاوع إبليسه.

ثمة أبجديةٌ قيد التعب، وحين تصحو من تعبها، تشدّ الجبال بحبل سرتها، تبوح لها بالغيوم التي أطفأت سُرْجَها، وأمطرتْ عتمتها. هكذا دائماً، استعادة الهواء القديم برئة جديدة، مثل قلب يتهجى عشقه أو مثل ظلٍّ يرفرفُ في سرب حَمام. كن خارجَ السرب. كن السربَ جميعه، وكن الريح والرائحة. أنت الصهباءُ مقطوفة تواً من غيمة المساء لحديقة السهرة. فكن الكأس وأختها، الترنح وقرينه.

هل سمعتها وهي تغني؟ كانت كأنها تنشدك قلبَها، تلتقطك من ذاكرتها، كنجمةٍ في سراب، ثم تهديك صوتها الجريح، كن الكأسَ، واجرحْها. حتى إذا غاب العدلُ عن الناس تولّيت القيادَ نحو الحب. غنّتْ لنا، غنتنا، وأغنتنا. يا لها، كم تقودنا إذا غاب العادلون. أمثولتي في الجديد من الماء، أصْغي لأخبارها كي أبشّر بالغائبين. قيل صه. الجالسون قبل أن يكونوا رماة النميمة، كانوا يتبعونَ النهي لا بعد لا. يغادرُ الصنمُ سيرتَهُ الحجريةَ وينتمي إليهم. ومن أمهات الظلام يُولد حاملُ الشمع ويبدأ بالركض في العثرات. وقيل صه. لا تنبسْ حتى بقبلة وإلّا طعنّاك في وعي ذاتك. سيلفّك النفي، ولن يراك الحالمونَ إلا محمولاً للعدم. وهناك، ستكون جذوعُ النهار مجدبةً بالرعاش، وتربةُ الضحى غارقةً بالمرايا الخرساء.

خذ السياطَ إذاً واكتبْ به لعبةَ الخوف. مرّرِ السكينَ على الحقيقة وسترى النقيض يركع لتكراره، وسوف يأوي طائرُ التيه في صدرك كي تباركَ ريشةَ المحروق. وسوف تتبعك الريبةُ وتصير لحيتُك مخضبةً بالنار، ولن يعرفَ وجهَك إلا ظلّك في تلاشيه. حينها، سينقلبُ اسمُك على مسمّاك، وستتآمرُ ذكراكَ على مزاياك، وسوف لن تجدَ مهما بحثت، سوى عظام ملامحك في مأدبة أصدقائك. هل سمعتَ عن حصان النهاية؟ ذاك الذي يجري منذ أربعة عشر قرناً ولكنْ في مكانه؟ وهل رأيتَ يدكَ وهي تصفعُ ماضيك، ولكنْ ترسم مثله كلّما اتسعَ الفراغُ على الفراغ؟

أنتَ مدعوٌ لموتكَ، فاحتفل.

 

 

يتعثرُ بالحكمة، يسقطُ في القصيدة

 

أمامَك غبارٌ في كأس، وثملٌ في أغنية. وكلُّ وسادة تقود لسرير آخر، ولألفِ سنة بلا شجر. ألستَ من غنّى للخلاص حتى اكتظَّ قبرُكَ بالأبواب؟ ألستَ من دار ألفَ مرة على الورقة ولم يدخلها إلا مطروداً من رؤاه؟ جفَّ الفيضُ، فمن أين ستشرب؟ ومن أي كرْم ستستمدّ قصدَك وقصيدَك؟ مشى النهارُ وصار نهراً وخطوك في يباس، ورقصَ الليلُ عذباً وشربناه غصةً غصة. ثم دارت المرايا فإذا الجدارُ ظهر الجدار، وأنت تبني سرابَك وهو ينأى عنك في المطلق. ولما تلتقيه، يشيحُ بشمسه عنك، وكأنه يسكنك لأول مرة. تسيلُ منه، ثم تتبخر بعيداً عنه. ولكنك لن تنجو حتى تأذنَ لك الدمعةُ ويمنحك السديمُ مفاتيحَ من سبقوك في محو العار، وعليك أن تصعدَ شجرة الخلود وحدك وتنام في عش نسورها. 

إلى أين تذهبان بي رفيقاي؟ قفا نتثبتُ من الطريق والخريطة. فلا الشعر داري، ولا بيتُ القصيد منجاةٌ لي. جئت معكما بوعد النص، فها هي النصال. مزيجٌ من ماضٍ يحكم ومستقبل في حكم الفقد. لسنا للخلود، ولا عدل لمواقع أحلامنا، لأنها صفحة تُطوى، لأننا نبشُ أصابعِ الماء في قش الحديد. حولنا عالم يتداعى، وكائنات تتميز بألسنة لا تحصى. لا أذن لها وسمع ولا بصيرة.

لا بأس. ضعْ حروفَك في الماء قبل الرِبع الخراب. كلمات السديم تُضاعِفُ فيضَ العطش فيما يجف.

إذاً، لا تجف. كن جهراً لكل يوم مستكين، وشهراً لكلِّ شمسٍ تخونُ عهدَها،

أقسمَ كلانا أن نقتسمَك، فلا تجف.

تحتَ وطأةِ واقع يقع بثقله على كاهل كهل يتماثل، كلما سمعَ نزفاً في جناح، والأبجدية تسمّي لنا الأسماءَ في ماءٍ ثقيل يتخثّرُ لفرط المسافة.

قفا بي أتثبت، ما إذا كنتُ جديراً بتأويل رؤى الجالس، تحته غمرٌ وفوقه الزرقة الكاذبة.

خذْ نصفَ وصفك واتركْ خرابَ الليالي يدوم، إنها عطلةُ الشمع في ذوبانه أو بدايةُ القوس. عندما يحتفل اثنان بينهما السهمُ سمّاً والخرابُ غنيمةٌ والندمُ شجاعةٌ رخوة.

ومع ذلك، يتراشقان ببقايا التأسف، ولا رابحَ من غبارهما إلا ساري المجهول. لا تدعْ لخرائط شهيقك متسعاً في مقهى الفحم، فرواده إما يكبّون نفايات قلوبهم على مصطبة الندلاء، أو يجففون أوردتهم على حبال الردهة التي لم يمسسها قمر.

اسْفِكِ الرحمةَ واشربْ دمَها. لا ترحمها، فهي تبدو لك كأنها نورس، في حين أنها إعصارُ منتصف ليل. روحك معلقةٌ في حبل مقطوع، وقدماك وهمُ المسافة. عدْ بطيئاً، حافي القلب، وجِلْ في جلال الرؤى لتصير أولَّ الخارجين من الغث، واعلم أن هذا الغثَّ سيتبعك مثل صدى جرح، أو ندب قصيدة، فاحتمل. كلنا ذلك الجبل، وأولُنا منتهاه. السماءُ بالعباءات والأوشحة تنهرني كلما هممتُ بالسؤال. السماء ذاتها التي تضرعتُ لدموعها وواربتُ لها الباب لئلا تخذل صلاتي، اعتدلتْ ذات إعصارٍ لتضعَ الحجر المحميَّ بالجحيم تحت إبطيَ، وتفتح دفاترَ الشك في أرداني. ونسيتُ مرةً  كيف خرجتُ منها طائراً بريش يتقصَّفُ وبجناحين من ذنبٍ لذيذ.

أعترفُ الآن وأعود أنكثُ ما اقترفتْ ضلوعي. انا كائنُ الكون العظيم الهش، سليلُ الخطيئة وأصلُ صوابها. جهتي بلادٌ ليست بلادي حين يكسوني الظمأ، وزوجتي شلالُ قسوة أحتاجها في الحنان، طفلاي يقتتلان وما من عرشٍ لسيدهما، ونسلي أنبياءٌ يُصلبون ويُرجمون بالاتباع.

نشيدك لا تزأر به، كن مغنياً أو أسداً، كن ما تشاءُ، لكنْ لا تعتلِ مسرح الغناء لكي تزأر. 

متعبٌ أخاك. يحملُ تعبَه فوقَ روح الوردة التي اشتبهتْ بشذاها، ويمضي في جنازة الأغنية، كلُّ علامة تفرك الموتَ بين كفيها، ثم تشمُّ الولادة. كلُّ حكيمٍ يقفُ متعثراً بالحكمة، ثم يسقطُ في القصيدة.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...