مواطئ الوقت



لم يكن لأسئلتي أيُّ معنى.

أنا دوماً أنشغلُ بالذي يربكني. 

وكنت دوماً أطمئن نفسي.

- أنتَ تمتلكُ جنّةً، تُهْدِلُ عليك ستائر نورها. تستنطق لكَ اللغةَ، بكل التشكيلات التي تعشقها. منحتكَ كافة الثغور، لتدخل منتصراً. ودخلت.

تذكرتُ أنني لم أطرق الباب. عدتُ وأغلقته من جديد، ثم طرقته.

سمعتُ صوتها.

- ادخل.

كانت تقول لي كلما أزورها.

- أنت تفزعني بدخولك المفاجيء.

- ألا تريدين أن أزوركِ؟!

وأصير أخرّبُ كلَّ شيء في مكتبها. علبة أقلامها. الاوراق المعلقة على الاسفنجة البنيّة المثبتة في الجدار. التقويم المكتبي. ساعة الحائط التي تشير الى الخامسة مساءً.

- انها بلا زجاجة. ضع عقاربها على التوقيت الذي تحب.

وأضعها دوماً على الساعة الثانية عشر، حيث العقربان متلاصقان، متعانقان.

- لا تحاول.

- أتعتقدين أنني بعدما فتحتُ مقاليد غياهبكِ، سأضطر الى استئذانك في لمس نافذتكِ؟!

- أنا لكَ، بشرط.

- بشرط؟!!

- أنْ تفهم لماذا أنا موجودة هنا.

- ولماذا انتِ موجودة هنا؟!

- لكي استعيدكَ.

ظللتُ أتعمد أن أبعدها عني، ثم أقربها لي، لكي أُخرج الدمار من داخلي، لكنّ آثار الدمار، قادتني الى فضاءٍ واضح.

- لا يمكن لها أن تستعيدني.

- بل سأستعيدك.

- كيف؟! كل ما حولي يقول العكس.

- سأستعيدكَ، يعني، سأستعيدك.

في الحافلة المغادرة لدمشق، اتخذنا، أنا وهو، مقعدين متجاورين، وكنتُ قد أوضحت له أننا نحمل أمراً ثقيلاً في حقائبنا.

- أعرف أنه أثقلَ كاهلك، وأنهم يجب أن يقرأوه.

أمسكَ يدي. 

- اجلس.

كانت المخابرات السورية تقتاد عائلة فلسطينية، كانت بجوارنا، وكان الاطفال يبكون هلعاً.

- قلت لك اجلس.

وجلست، الى أنْ غادرت الحافلة المركز الحدودي باتجاه دمشق، بدون العائلة.

ظلّتْ مقاعدهم فارغة.

ظللتُ أتحسس أوراقي المندسّة في حقيبتي، لأنها لم تواجه نفس المصير.

المصير.

بعد أن أنّتْ الابجديةُ في ِحمامي، قال الحَرَمُ لي.

- انتهكني.

قلتُ.

- لا. إلاّ الحَرَمْ.

شيئاً فشيئاً، وجدتني أتبلّل بأحذية العسكر، الذين لا يعرفون سوى لغةٍ واحدة.

- الخليج.

تبللّتُ بوجودهم.

وبوجود القوات السورية في بيروت.

كل حاجز يدفعنا لحاجز.

الحاجز الاهم، أنه لم يكن يثق بي.

حين ناولني "سامر" المسدس عيار الـ "38"، لكي أضعه في جيب بنطلوني، رفضتُ. أما هو، فكان فرحاً الى درجة، أنني أحسسته أنه سيقتص مني.

أنا لا أعرف لماذا سيقتلني. معه مسدس عيار "38" الآن، ولا أعرف مبرراً لرغبته في قتلي. زوجته أكدّت لي أنه بحاجة الى اجازة بعيداً عنها. هو يريد أن يبتعد عنها.

لماذا يريد أن يوجه فوهة مسدسه الى صدري؟!

لماذا؟!

الآن احتاجكِ.

أحتاجُ أن تقولي له أن كل الذي يحدث مجرد استنطاق. استنطاق للغة التي اخترتِ أن أكون حرفَ علّتها/مرضها.

لماذا أكتب؟!

لِمَ لا يقرأ ما أكتبه؟!

لماذا أنا معه الآن؟! لماذا يوجه مسدسه تجاه صدري، وهو الذي سافر معي من الرياض، لكي يقول لبيروت، أن دماركِ ابتدأ من هنا.

دمارُكِ هنا.

مسدسه الآن موجه الى صدري.

وأريد أن أقول شيئاً واحداً.

- أحب أن أغنم من بيروت. يا أخي. أحب أن أغنم منها شيئاً.

رفع العسكري يده.

توقفنا.

وفي الوقت الذي كان صيفاً وكان 92 ميلادياً، لم أكدْ أقوى على أن أقول للشرطي مِنْ أين أنا.

وحين ازداد خوفي، قلت له.

- أنا سعودي. أريد أن أعبر هذا الحاجز لكي أصِلَ لجريدة السفير.

- أتعتقدين حقاً، أنكِ ستستعدينني.

- إنْ كنتَ واضحاً معي، سأفعل.

أنا لست واضحاً مع أحد. لستُ واضحاً مع نفسي، لأكون واضحاً مع الغير.

ظلَلْتُ أتبول لا إراديا في فراشي، حتى سن بلوغي.

كنت أبرّر لنفسي تبولي على أنه احتلام، وصدقت تبريري.

صرتُ لا أعرف للاستغراق في النوم، أيّ معنى.

أصحو، في الليلة، أكثر مما أنام. وكل مرة أتأكد أنني لم أبلّل فراشي. واذا فعلت، أسحب اسفنجتي من بين اسفنجتي شقيقيّ "حمدان" و "ناصر"، ثم أصعد بها الى السطح، لتجف.

في البيت الذي يجاورنا، كانت تسكن عائلة أردنية، يعولها حدّاد في الخمسين من العمر، وكنا نعرفه بـ "أبو رحيمة".

كان بيتهم من طابقين، وكان بيتنا من طابق واحد. وكانت رحيمة تسكن مع زوجها "عبد الحميد" في الطابق العلوي. وكان لهما ابنة وحيدة، "عواطف".

لم تكن عواطف تراقبني وأنا أُسند اسفنجة نومي على الجدار، ولم تكن تتعاطف معي.

لم يحدث شيءٌ من هذا.

كل ما كان يحدث، أنني أوهمت شقيقيّ، بأنني لم أكن أطلع للسطح، الاَّ لأغازلها، و ذلك لكيلا يفتضح أمرُ بولي المتواتر.

كنتُ أمشي من حي "المرقب" الى شارع "الخزان"، حيث "المكتبة الوطنية"، وحيث أمينها المصري، الذي لم يعرف كيف يلبس الشماغ، والذي كان يمنعني من دخول جناح الكبار. 

- أريد كتب الشعر. معلقات الشعر.

- أنتَ لا زلتَ صغيراً على هذه الكتب.

- لكنّ الاستاذ جعفر،

وكان ملتحياً مثل أمين المكتبة،

- قال لنا، بأن المعلقات هي التي ستقوّي لغتنا.

- أنت تريد أن تقوّي لغتك اذاً.

صار يحضر لي المعلقات تباعاً، دون أن يسمح لي بمغادرة جناح الاطفال.

كل هذا لأنني أخبرته أن الاستاذ جعفر كان ملتحياً مثله.

ومن خلال اللحيتين، اللتين كنت أشمُّ فيهما دهن العود، أو دهن المسك، تعلمت عبق الشعر، ثم أهديته لعواطف.

لا، لم أهده لها، لعواطف بنت عبد الحميد ورحيمة، بل لكل الاشقياء الذين صاروا يتندرون على طلوعي للسطح، ناصر الذي يصغرني بسنتين، على الأخص.

ظلّ ناصر يعيرني بحبي لعواطف، وبقصائدي لها.

- كيف تحب بنتاً أردنية؟!

وكنتُ أقرأ سؤاله هكذا.

- الى متى تظل تتبول في فراشك؟!

وحينما دخلتْ عقربٌ الى الفناء الصغير المجاور للمطبخ، من الخرابة المظاهرة لبيتنا، تمنيتُ، بعد تلك الليلة، التي عجز الجميع من اكتشاف مكانها والقضاء عليها، أن تلدغ ناصراً، ليكفَّ عن ايذائه لي، وايذاء عواطف، الفراش المبلّل كل ليلة.

- قولي لي كيف ستستعدينني؟!

تجرأتُ وقلت لأختي "وضحة".

- سلّمي لي على عواطف.

قهقهت بعنادها الشديد لي، وهي تلصق صورة الملك فيصل فوق المرآة الصغيرة، الملصقة على حائط الغرفة التي تجمعها مع اختي الكبرى "فلوة".

قلت لها بتشنج.

- إنْ لم تنـزعي هذه الصورة، سأخبر أبي.

هجمتْ عليَّ، لكنني هربت منها.

- سوف تنزعينها، سأجعلك تنـزعينها.

- تعال يا قرد.

صرختُ بها.

- لا تقولي قرد يا صفراء.

وضحة تشبه أمي، بيضاء، شديدة البياض. شعرها أشقر، ذهبي. لون عينيها يقرب من لون البحر اذا صار عسلياً. هكذا كنت أرى لون عينيها على الرغم من أنني لم أر البحر. كنت أقرأ البحر فقط في كتب الشعر.

 كانت وضحة تكبرني بسنتين، وتصغر فلوة وحمدان بخمس سنوات. وكانت أكثر من اجتذبتْ من امي اللون الاشقر، والعينين البحريتين. وكنت أكثر من اجتذب من ابي اسمراره.

- أنا قرد. حسناً. سأخبر أبي أنكِ تحبين الملك فيصل.

للحق، أبي لم يكن يكره أحداً.

كان أكثر الناس كرهاً للمدينة.

تعلّم بدأب المكافحين من جيل الثلاثينات والاربعينات، الى أن صار محاسباً، يكتب الارقام بقلم حبر ذي خط تعجز الآلة الآن أن تأتي بمثله.

باليد التي أصابها البَرَص من قلق الارقام، ورَفْضِ الانتقال من القرية الوادعة الى الرياض، كتب على ورقة الى خالي "احمد".

- هو الله الذي يختار. اختارَ أن أطلب يد ابنتك عائشة لإبني حمدان، وهو وحده المستخار.

دخل خالي الى مجلس أبي غاضباً، وهو يمسك ورقة أبي بين أصابع يده اليمني.

- أتخطب ابنتي بورقة يا عبد الكريم؟!

لم يكن في القرية سوى مدرسة عسكرية.

اشتغل أبي محاسباً فيها، وأدخل لها أخي الأكبر حمدان.

صورته الوحيدة لحياته العسكرية، التقطتها عدسة مصور كان برفقة الملك سعود، حين زار القصيم. كانت القبعة أكبر من رأسه وكانت مثيرة للضحك. ولم تختفِ هذه الصورة عني، وأنا اراه، وهو ينزل عدته عن اللوري العسكري امام بيتنا في "الرياض" بعد حرب "الوديعة".

من القرية والقبعة المضحكة، الى الحرب مع اليمن والقبعة الحديدية التي كنت أسأله عنها بقلق.

- هل أصابها رصاص جمال عبد الناصر؟!

وتجيب فلوة.

- اتركوا حمدان لي. سأطبخ له ما لم يأكله منذ دخل في هذه الحرب اللعينة.

فلوة لا تحب الحرب التي عشناها بعد الـ 67.

فلوة لا تحب أي شيء.

فلوة هي التي تطبخ فحسب.

تدرس في معهد المعلمات، في انتظار أن تتخرج معلمة فحسب.

ليست كوضحة التي تحب الملك فيصل.

- أخبره. أتعتقد أنني أخاف منك.

- حسناً يا وضحة. وسأخبره أنك تعلقين صورته في غرفتك.

قال حمدان لي، في المقهى الذي دعيته له.

- لماذا عائشة؟!

- وما بها عائشة؟!

- لا شيء.

وضحك.

- أو يكون بها شيء. ما أدراني؟! المهم. هل هي جميلة على الأقل؟!

- علمي علمك. عبد الكريم باشا - هكذا كنا نسمي والدي - هو الذي اختار. والباشا هو الباشا.

صحيح.

قبل أن يعود حمدان من حرب الوديعة، كان أبي يرفض الحديث عن الشهداء. كان يصرّ أن حرب اليمن لا معنى لها، وأن من دخلها ليس بطلاً. وكان يقول بأن حربنا الحقيقية مع جيش يحاربنا على حدود الاردن ومصر وسوريا وجنوب لبنان.

- هذا هو مبنى جريدة السفير.

- سننزل هنا. كم حسابك؟!

وبعد أن دفعنا المبلغ، دخلنا المبنى.

- هل أخدمكما؟!

- نريد الياس خوري، المحرر الثقافي.

- لقد خرج منذ نصف ساعة.

طالعت وجهه الموسوم بالغبار.

- هل أستطيع أن أترك عندك مظروفاً له.

- أكيد.

ناولته المظروف، ثم انصرفنا.

مشينا، حتى وصلنا مقهى "المودكا".

ظللنا هناك حتى المساء، وحتى سألني.

- أليس في هذا الوقت نساء في شارع الحمراء؟!

لم يكن هناك نساء.

أو لم نكن نعرف كيف يكون في هذا الوقت نساء.

لوّحنا لسيارة أجرة، وصادف أن كان هبوباً، فتطايرت اوراقي.

لاحقت اوراقي، وظللتُ أُلاحقُها، منذ يوليو 1992، وحتى مارس 1997، لكنني لم أجد في بيروت أي فرق.

هي التي تمنع عنك الموت، وتهديك الولادة.

تهديك الموت، ثم تمنع عنك الولادة.

ولدتْ لحمدان "وردة"، وأقسم بالله العظيم انه أسماها على وردة الجزائرية، لكنه ظلّ ينكر لي ذلك.

- لماذا؟! ألم تغنِّ لجمال عبد الناصر؟!

- اسكت.

عندها، آمنت أن أبي قد لا يحب الملك فيصل، وقد لا يحب جمال عبد الناصر، وسألت نفسي.

- من يحب يا ترى؟!

قالت لي.

- أنت بالكاد في الاربعين من عمرك. يجب أن تعرف أن قلبك ليس ملكاً لك وحدك. إنّ لي في داخله عرشاً، أنت الذي طرّزته بالذهب. حين صادفتك، أول مرة، كنت ملطّخاً بأطيان أزمان لا أعرفها، وأمكنة لا تنتمي لجغرافيا. طلبتُ منك أن تسمح لي غسيل الطين من جسدك. أشرتَ الى قلبك بابتسامة غاصت، برغم الطين، في حقول الاطفال. ما به قلبك، هاه؟! أتظنني اجهلك؟! أنتَ لم تجد من يغرس أظافره في الغبار الذي يحاصرك، لكي يقتص لك منه. لقد تركوك في الغبار، الى أن تلطّخت. وسمحت لي أن أغسلك. كان أول ما اعتراني هاجس كالخنجر: أي زمن أمحوه منك، وأي زمن أبقيه؟! أي مكان اتركك فيه، وأي مكان أخلعك منه؟! وجدتني ادخل معك في ازمانك وامكنتك، الى أن صرت جزءاً منك. من طينك وحقول اطفالك. اقتسمنا الماء معاً، ونثرناه سوياً في الفضاء، ليحطّ على اصابعنا التي منذ اشتبكت، ذات صيف، لم نستطع فكاكاً من الماء. اختلست لك غربة الارض، لكي تشرق. وصل بك الضوء الى ذروته، اخترت أن تحترق فيه. أن تتدمر.

بقايا الحرائق والدمار في كل مكان.

ساحة الشهداء.

تماثيل الشهداء، التي ترمز للشهداء، تمزقت بالرصاص. 

ظل "سامر" يلح علينا أن نصور الى جانبها.

- هيا أيها الصعلوكان. ما نفع هاتان الكامرتان اللتان تحملانهما اذا لم تصورا خاتمة دمار بيروت؟! اليوم، انتهت المؤامرة الاولى: مؤامرة تدمير لبنان. وغداً، تبدأ المؤامرة الثانية: مؤامرة اعادة إعماره. هيا. لا أظنكما تجهلان ذلك.

تركنا في الغرفة الصغيرة، والوحيدة المهيأة لاستقبال الضيوف، بعد أن تأكد أن الشمعة تكفي لليلتنا الخالية من الكهرباء.

- ناما جيداً. صيدا ليست بعيدة من بيروت، لكن الامر يعتمد على حظكما، في أن يكون هناك ضرب اسرائيلي على الجنوب، أو لا يكون.

على ضوء الشمعة، اخذنا نسترجع كيف أننا منذ دخلنا بيروت، وكافة الاوضاع آخذة في التوتر.

- حتى أنت ازددت توتراً. لم تكن هكذا طيلة طريقنا، وطيلة دمشقنا، الى أن وصلنا هنا. ما الامر؟!

لم يرد عليَّ.

- أتريد أن تبوح لي بشي؟! قل. أريد أن أسمعك.

قال بتنهيدة حارقة.

- أريد أن أذهب لملهى ليلي.

ضحكتُ.

- وأين ستجد ملهى ليلياً في هذا الحي الفقير؟!

نهض، وهو يزرر قميصه.

- لا اسمعك، ارفع صوتك.

بانتشاء، صرخ في أذني التي فجرّتها الموسيقى الصاخبة.

- هل من المعقول أن ننام في بيروت، في العاشرة مساء، ونترك جونية تسهر وحدها.

لم تكن جونية وحدها.

كانت كل الملاهي الليلية مكتظة.

نزلنا درج العمارة المظلمة التي يقطنها سامر وعائلته الصغيرة. وفي الظلام الدامس، المكوّن من ثمانية طوابق، سألته.

- أتعرف أننا نرتكب حماقة؟!

- بعد قليل، ستكتشف أننا نرتكب العكس.

مشينا على هدي الطريق، الذي كان يمشيه سامر، الى أن وصلنا الشارع الرئيسي. ومن هناك استقلينا سيارة أجرة.

هو الذي قال للسائق.

- جونية اذا سمحت.

استغرقنا وقتاً ظننته ازداد على الربع ساعة، فضغطت على كتفه بكتفي، وهو لا يزال متوتراً، يهز فخذه الملتصقة على فخذي بعصبية.

- هل هي بعيدة؟!

فأجاب السائق.

- لا، لقد وصلنا.

وأضاف.

- الى أين بالضبط؟!

ردّ عليه.

- الى ملهى على ذوقك.

التفت بعنقه اليَّ.

- من وين الشباب؟!

- من السعودية.

- معقول؟! الخليجيون انقطعوا عنا منذ بداية الحرب. ماذا تفعلان هنا؟! أكيد بيزنس. الخليجيون صاروا أهل البزنس بعد خراب لبنان . اعادة الاعمار لن يحققه الاّ اثرياء الخليج.

قاطعه متأففاً:

- قلنا لك يا ابن الحلال، نريد ملهى على ذوقك.

- أعرف لكما سوبر نايت كلوب، ياخذ العقل.

- خذنا له، يرحم والديك.

وبعد أن أوقف سيارته امام الملهى، نصحنا.

- سأنتظركما. لن تجدا تاكسياً حينما تخرجان. هذا الملهى لا يغلق ابوابه إلاّ ساعات الفجر الاولى.

ولما أحس بأننا نطالع بعضنا خوفاً من استغلاله لنا.

- لن تدفعا لي سوى اجرة المشوار. رايح جاي. أريد أن أكسبكما كزبائن للمستقبل.

قبل أن أدخل، تلفّتُ حولي، فاذا المباني عذراء من أي قصف.

- كيف استطاعت جونية أن تنجو من القذائف.

- لا أسمعك. ارفع صوتك.

- لا شيء. لا شيء.

صعدت في المقعد الامامي الى جانب السائق. أما هو، فلقد أخذ يمارس طقوساً نشوانة في فتح الباب للمرأة التي ظل لفترة من الليل يطالعها وهي تجلس الى ركن المشروبات وحيدة. وبعد أن دخل المطرب علاء زلزلي للغناء، وبعد أن امتلأت صالة الرقص بالراقصين، توجه اليها، ورأيته يتحدث معها قليلاً، فتضحك. تحدثه، فيضحك، ثم نزلا معاً للحلبة الهائجة.

زعق بأعلى صوته لي.

- يا قصيمي يا خائب يا مسكين. انت تجهل كيف تصطاد الحسناوات. كم أرثي لك.

فتح نافذته، وأخذ يواصل زعيقه للجبال التي كنا نمر بمحاذاتها.

- يا جونيه يا بنت الكلب.

أخذ يعبت بشعر المرأة الاشقر، ويسألها.

- كيف استطاعت جونية أن تنجو من القذائف؟!

أغمضتُ عينيّ، ثم سمعتها ترد عليه.

- لقد خبأتها طيلة الحرب بين فخذي العاريين هذين.

لم أعد أخبيء شيئاً.

انتظرت الى أن فتحتْ عواطف الباب، لكي تنظف عتبة المدخل، وتوجهت لها.

- هذه القصيدة كتبتها لكِ.

ردّت علي باستغراب:

- أنت تكتب قصائداً؟!

- لكِ. لكِ أنتِ فقط يا عواطف.

- ولماذا أنا؟!

صرتُ أحدق في وجهها النحيل الطويل. في أسنانها البارزة، في شعرها الذي لم يمسسه مشط لأيام، فغدا مجعداً دهنياً.

حاولت أن أعيد كفي الممسكة بالقصيدة الى الخلف، لكنها جذبتها مني.

وحين رويت ما حدث لـ "عبّاد"، الملاصق لمقعدي الدراسي، قال.

- هي بنت والسلام. من هو المحظوظ مثلك لتكون له فتاة حتى بأسنانها وشعرها؟! لو كنت مكاني لاغرقتها بالقصائد.

كنت سأفعل، لولا تلك الليلة التي صحا فيها كل اهل البيوت المجاورة، على صوت صراخ جارتنا، التي اقتاد رجال بثياب مدنيّة، زوجها وركب معهم طائعاً لسيارة الجيب الخضراء، التي انطلق خلفها غبار الشارع، وغبار أصوات متناثرة تقول.

- يوزع منشورات.

كنت شغوفاً بأن أجد أحداً في حارتنا، يجيب على سؤالي.

- ما هي المنشورات؟!

البعض كان يقول لي بأنها أشياء مسروقة. البعض الآخر أكد لي بأنها أشياء ضد الدين والاخلاق، أشياء ذات علاقة بالفجور والدعارة.

"فتوان" هو الشخص الوحيد الذي اهتم بأسئلتي.

كان معلماً مسائياً في نفس المدرسة الابتدائية التي أدرس فيها صباحاً.

كان يمحو أميّة كبار السن، وكنت أشمُّ رائحة بخورهم على البساط الذي كنا نفترشه لدروسنا الصباحية.

- توقف عن اسئلتك.

- أريد أن أعرف لماذا قبضوا عليه.

- أنت لا تزال صغيراً على السياسة.

- أنا لست صغيراً على شيء.

وشددت كمَّ ثوبه، فقرّب رأسه من رأسي.

- أنا أذهب للمكتبة الوطنية كل يوم.

سألني بدهشة الذي لم يصدق ما سمعه.

- لماذا؟!

- لأقرأ معلقات الشعر، ولأتعلم منها كيف أصير شاعراً لا يشقُّ له غبار.

وبدهشة أكبر، سألني.

- لا يشقُّ له ماذا؟!

- غبار. غبار.

وأخذت أضغط بقدميّ الحافيتين على الارض الترابية، وأنفضهما الى الخلف، فيتصاعد الغبار.

كان فتوان يعمل في الفترة الصباحية مأموراً بالاجر اليومي، لمقسم الهاتف، الذي لم يكن قد انتشر في أحيائنا. وكان دوماً يحاول أن يوصل لي ما معنى أن يكون في العالم هاتف.

- أريد أن أعرف ما معنى كلمة منشورات.

ضغط على يدي.

- المنشور هو ما يكتبه الناس الذين يعملون في السياسة.

- وما هي السياسة؟!

- ألم تقل أنك تقرأ الشعر؟!

- وما دخل الشعر بالسياسة؟!

تأفّف قبل أن يردّ عليّ.

- السياسة هي الحكم.

- وما دخل جارنا بالحكم؟! انه فقير. لا يجد ما يُلبس أطفاله.

ابتسم فتوان.

- لهذا كان يوزع المنشورات. ليقول أنه فقير، وأنه لا يجد ما يُلبِس أطفاله.

فردتُ حاجبيّ الى أعلاهما، وهززت رأسي، وكأنني بدأت أفهم ما الذي يجري.

- لهذا غضبوا منه، وأخذوه. هم لا يريدونه أن يوزع منشورات الفقراء.

ضغط على يدي بقوة أكثر.

- اسكت. اذا قلت هذا الكلام لأحد، سيأخذونك معه. أتفهم؟!

كنت سارحاً.

-أتفهم؟! أجبني. أتفهم؟!

وبآلية رددت عليه.

- أفهم يا أستاذ فتوان. أفهم.

عندما أويت الى فراشي تلك الليلة، لم أكن أفكر بالبول الذي سأخلفه على اسفنجتي. كانت كل خلايا مخي، منصبّةٌ على فحوى تلك الكتابة السياسية التي لها دخل كبير في الحكم، والتي يكتبها أناس فقراء ليقولوا أنهم فقراء.

تلك الليلة، لم أفكر بالشعر. لم أفكر بعواطف.

تلك الليلة، لم أتبول على اسفنجتي. وأكثر الظن، أن السبب هو أنني لم أنم.

- لماذا لم تنم؟!

- لن أنام. أنا انتظرك لكي تدع هذه المرأة ترحل.

وأضفت له.

- ألم تنته منها؟! لماذا لا تدعها ترحل؟!

أجابني.

- لقد استأجرنا هذه الشقة يوماً وليلة.

- وماذا سيقول سامر حين يصحو ولا يجدنا. نحن لم نستأذن منه. وحقائبنا لا تزال هناك.

قال ببرود.

- اذا اردت، اذهب انت.

ركزت عيناي في عينيه.

- أتريديني حقاً أن أغادر؟!

أغمض عينيه، ثم أدار رأسه عني.

- اذا أحببت افعل. لقد جئنا هنا لكي نستمتع، لا لكي نتكبل بقيود جديدة.

- ومن قال غير ذلك؟! لنستأذن من سامر ولنشكره على حسن ضيافته لنا، ثم لنفعل ما تشاء.

لم يجبني، فاضطررت أن أذكره.

- أنسيت أنه رتّب لنا زيارة لصيدا؟!

طالعتُ ساعتي.

- نحن بالكاد على بُعد ساعتين من الموعد.

دخل غرفته، وتعمّد أن يصفق الباب، بعد أن أخذ قالباً من الثلج وقارورة ماء معه.

خرجت من الشقة.

كان الضوء يشقشق بصوته الصيفي على نوافذ السماء. وكان العمال يجرجرون عتاد السِلْمِ باتجاه المباني التي أفقدتها الحرب أوكسجينها، فتحولت الى مومياءات تستجدي الفرجة والعبرة.

في سيارة الاجرة المتجهة الى جسر "الدورة"، كان النعاس يسألني.

- ألا تحسد نزق رفيقك؟! ألا تغبطه أيها القصيمي الخائب المسكين على رفضه للقيود؟!

وجدتُ الباب موارباً، ففهمت أن سامراً فهم كل شيء.

دخلت، ولا أدري لماذا تركت الباب بمواربته.

استلقيت الى جانب الشمعة التي لفظت شحمها.

- أنت تعشق أن تقيد نفسك.

مددت يدي ليدها، وأخذت أحدق في الطلاء الزهري لأظافرها.

- وأنتِ؟! لماذا تحبين الألوان الفاتحة؟!

- لا تغيّر الموضوع. لقد اخترت أن تحرق نفسك بعدما فجرّت لك ينابيع الجليد. قلت لي: أريد أن أهجر هجير الارض معكِ، فاخترت لك عشاً يطلُّ على نهر النيل، وقلت لك: تعال. جئت وحوّلت لكَ هذا العش الى مملكة افتتنتْ بكَ. كنتُ أراك في المقهى المبني من الخوص، وأنت تكتب جروحك كل صباح. لماذا كل هذا الدم يا سيدي، وأنا والنيل بين يديك؟! وكأن شفتيكَ تهبطان على حياض راحتي، وتقبلها خطاً خطاً. أنتِ سيدة هذا النهر، وأنت سيادته. هكذا كنتَ تقول. وتقول: الجرح غائرٌ، غائرٌ منذ اتقدّتْ شرارة آدم، ومنذ لم تفهم حواءُ هذا الشرر، وارتكبا معاً خطيئة الاطفال، وخطيئة القتل. أهكذا تقرأ الماء يا حبيبي؟! أهكذا تتذوق عذوبة السفر؟!

- أحب هذا اللون على أظافرك.

- أظافري، هاه؟! هل لأنها انغرستْ في الغبار الذي يحاصرك، واقتصت لك منه.

- بل لأنها علّمتني كيف أقتصُّ من نفسي.

- لماذا تكره نفسك؟! ما الذي فعلتْهُ بكَ؟!

- هي لم تفعل شيئا. لقد صحوت من حبل السرّة لأجدها أمامي. ركضتْ الى ثدي أمي، لكي ترضع الحياة. سمعتْ جلبة، ثم صار الحليب حامضاً. كان الحليب حامضاً منذ البداية. هل هو أبي؟! هل هي أمي؟! أرجوكِ. اتركيني الآن.

- لن أترككَ. سأجعل البحر يجلو خفاياكَ، وستتضح لي. يجب أن تتضح لي، لأقول لك أمراً.

- قولي.

- لا تقلها هكذا.

- كيف تريدينني أن أقولها.

- قل: قولي يا مهجة الوقت الذي يسند صوته على كتفي.

- تعرفين أنكِ سنَدي. ولولاكِ، لانفرطتُ من سبحات البياض، وصرت أسود. أنتِ بياضي، حبل مسبحتي. تعرفين.

ابيّضت النافذة بالضوء.

أنَّتْ مفاصل الباب، فأغمضتُ عينيّ، لكي يعتقد سامر أنني نائم.

سمعتُ خطوات قادمة باتجاهي.

جسدٌ ينطرحُ الى جانبي.

جسدٌ يئنُّ بأغنية تفوح بنخيل وجبال الاحساء.

تذكرتُ في تلك اللحظة أننا جسدان: أحدهما ينتمي لنخيل وجبال "قارة"، والآخر للصحراء.

- ما الذي أتى بكَ؟!

- صيدا.

رفع ذراعيه، ثم سقطتا وبينهما رأسه على الوسادة.

تقلّبتُ على وسادتي، وعيناي لا تفارقان ناصراً الذي يغطُّ في نوم عميق.

- لماذا لم يسترع موضوع المنشورات اهتمامه؟! أتراهُ لا يعبأ بالفقر؟! لماذا لا يعبأ بفقر أبي على الاقل؟!

حاول أبي جاهداً أن ينسج ثيابه بثياب المدينة.

كان البيت الأول لنا فيها، يندس مثل معظم بيوت الرياض في عباءة الطين، قريباً من كل شيء، المسجد، السوق، عمدة الحي، باستثناء وزارة الدفاع والطيران، التي نُقل لها، أمراً، بنفس الوظيفة، وبنفس برص أصابعه، الذي أخذ في الازدياد.

كنت أراها، أرى أصابعه، وهي تمسك الظرف الأشهب المجعد، والذي يحضر به كل يوم كشوفات الرواتب، لكي يراجعها في البيت. 

أراه في وقت خروجنا للمدرسة، ينتظر حافلة الوزارة، على الشارع الرئيسي، ضامّاً ظرفه بأصابعه على صدره. وكنت أحدّق في البرص كمن يحدق في حديقة غنّاء، انتهكها الجفاف، ذات ظهيرة، حين يكون كل الناس مشغولين، لا يفكرون بمن يَنتهِك، أو بمن يُنتهَك.

أبي. الحديقة الغنّاء.

أبي. ذلك المسكون بالغناء، بالسامري.

لما تراه، وهو يخفق على الطار، وهو فاردٌ أصابعه، تحسبه سيخرج من جلد الطار نياقاً ليطلقها في الصحراء، في غزوةٍ، يغنم منها فريسته التي لم يرها أحد.

- عمك شارك مع جيوش الجهاد العربية في حرب فلسطين. جدّك هو الذي منعني من الانضمام للجهاد، لمجرد أنني أصغره سنّاً.

قالها لي أكثر من مرة. وكانت الحرقة تتصاعد من بين حروف فلسطين، وكأنها وطنه، وكأنه لما يضرب الطار، بهذا الانتشاء، كمن يشحن مدفعاً بقذيفة، ويطلقها على العدو.

لم يكن يفوِّت مناسبة يقام فيها سامري.

مثل هذه المناسبات كانت هاجسه. يتحضر لها منذ يوم الاثنين.

- الخميس الجاي، هناك سامري في عرس الغذّامي.

ويكون الحديث طيلة مساء الثلاثاء والاربعاء، عن ماذا سيحدث مساء الخميس.

- والله، لأطيحك زار.

يقول للذي يقابله في لعبة البلوت.

- البلوت حرام يا أبا حمدان. انكم يا هؤلاء الاربعة ،كالمجتمعين على جيفة.

ويرد أبي عليه:

- الجيفة أنت ووجهك.

ويضيف:

- اذا كنت راغباً في اللعب، انتظم في الدور. وأن لم تكن ترغب، عضّ على لسانك. هذا بلوت، وليس قماراً.

يخبيء الاوراق على صدره، ثم يناديني.

- صب الشاي للرجال.

يهمس الذي بجانبه له.

- وسّع صدرك يا أبا حمدان.

يطالع أوراقه، ويرد عليه بصوت عالٍ.

- بعض الناس يعتقدون أنهم اذا أطالوا لحاهم، فهموا الدين أكثر منا.

ويطلق الورقة المعلقة بين سبابته ووسطاه، على الارض، وهو يطالع الرفيق الذي يواجهه.

- عليك بهم يا نشمي. والله إن فازوا، لأرقص يوم الخميس مع الحريم.

هكذا كان عبد الكريم.

هكذا كان أبي.

يضع على جلده أنسجة تمويه، للانسجة التي لم تتواءم معه.

كان يهرب للسامري وللبلوت. لمغامرة ايقاع الجسد، ولمغامرة ايقاع الاوراق.

بين المغامرتين، ازداد البرص في أصابع أبي، وامتد لكفّه، ثم غزا ساعديه.

- انتِ وأولادك في ذمتي، الى أن يخرج "نهار" من الحبس.

- لن يخرجوه يا ابا حمدان.

- تفاءلي بالخير يا بنت الحلال، القصة كلها قصة أوراق. سيحققون معه ثم يخرجونه، وستفرحين به.

مشى أبي من باب بيت نهار الى المسجد، وتبعته.

- لماذا تتبعني؟!

- أريدك أن تتقيأ وترتاح.

كان طيلة الطريق الى صيدا نائماً، يضع كفيه على بطنه. وحين أوقفتنا القوات الموالية لإسرائيل هززت رأسه.

- قم. نحن على مرمى شبر من اسحق شامير.

- أريد أن أتبول.

قال سامر.

- أرجوك. دعه لا يفعل. سيورطني.

صاح.

- أريد أن أتبول يا أولاد الحرام.

ضحك سامر.

- نحن؟!

وضعتُ كفيّ على عينيّ المحمرتين.

- لا أظن. نحن أولاد حلال، على ما أعتقد.

رججت كتفيه.

- اصحَ. اصحَ.

وانفعل، كما لم أره منفعلاً من قبل.

- لماذا أصحَ؟! ألكي أرى يدي المثقوبة، التي لا تستطيع أن تكتب. أنا الحكم. لقد حكمت عليها بالاعدام، قبل أن يعدمها غيري. أنا لست مزيفاً مثلك.

وضع سبابته على جبيني.

- أنت مزيف. مزيف كبير.

أمسكتُ سبابته، ثم أعدتها الى حضنه.

ستتبول. ولكن في ثيابك.

صرخ بحدّة.

- لن أتبول. انس الموضوع.

تدخل سامر.

- بل ستتبوّل. انتظر قليلاً فحسب.

وكأنني سمعته يضيف.

- يحرق حريش هالشغلة. 

هي لم تكن "شغله".

كان اللبنانيون في صيف 92، يشتغلون.

كلهم، كان يشتغلون.

سامر لم يكن، بالنسبة لنا، يشتغل.

كان يفي بوعد قطعه لخالته "يسرا"، التي كانت تعمل مديرة لمكتبي.

- ما هو المكان، الذي أستطيع فيه أن أخلع عني احذية الامريكان التي حطمت رأسي.

فرقعتْ بأصابعها.

- انتم الذين جلبتوهم. لا تنسَ ذلك. ولو لم تفعلوا، لانمسحتم، أنتم والكويت من الخارطة.

- أسألك عن مكان اقشعهم فيه.

بجرأة شديدة، قالت.

- بيروت.

بسخرية سألتها.

- أهذا هو المكان الآمن الوحيد، الذي جادتْ به قريحتك؟!

- هو ليس آمناً. لكنه هو المكان الوحيد الذي ستجد فيه ايماناً حقيقياً من الناس بمقاومة الموت.

ضربت بكفها على مكتبي.

- اذهب الى هناك، لكي ترى أن تجربة الحرب التي مررتم بها، ليست الا فيلما كرتونيا لا يودي ولا يجيب.

هي التي قالت ذلك.

هي التي تسكن بيتاً مستأجراً مع زوجها السوري، الذي يمتلك محلاً لبيع الجلابيب في سوق "سويقة"، بموقعه الجديد.

- لماذا تحبون أن تمحوا ذاكرتنا؟!

رد عليّ بانفعال.

- لماذا تمنعوننا من القفز للمستقبل؟!

- أتريديني أن أجيب عليك كمسؤول، أم كصديق؟!

- أووه، يلعن الساعة التي صرت فيها مسؤولاً في البلدية . لماذا انت جلف؟! لماذا تعتقد أن تحديث الرياض، مسألة موجهة ضدك؟! انت واحد ممن يجددون في الادب. أنا لم أعترض يوماً على تجديداتك.

ركزت عيناي على عينيه.

- لا تزايد يا عبد المجيد. دع الادب، وانظر لنفسك. انت جزء من مشروع كبير، كبّرك.

- أتريد أن تقول أنني مسؤول عن تشويه الرياض، لمجرد أننا نقلنا "سويقة" الى موقع جديد.

قاطعته.

- أنا أعرفك. سوف تستطرد بأنني أُسائلكَ، لأن "سويقة" القديمة هي السوق الوحيدة التي كنا نغازل فيها البنات. أعرفك. دائماً أنت شخص دفاعي. ستقول أن الشعر خرج من عباءات بنات سويقة، وأن هدمكم لسويقة، هدمٌ لحركة الشعر. 

- اذا كان هذا ما ستقوله، فأنت تهذي.

انفعلت.

- أنتم الذين تهذون بتطوير الرياض. دعوها تتطور على مهلها. لماذا تهدمون طين قلبها، وتزرعون الاسمنت على أنقاضه؟!

- خرط. كلامك خرط، لا معنى له. انت لا تجيد النظر الى المستقبل. انظر أمامك.

- هاه. أتراني؟!

اندفع برأسه الى الارض، ثم تقيأ.

- شراب الملاهي الليلية مغشوش.

لم أستطع تمييز من قال هذه الجملة. هل كان سامر أمْ العجوز ذات الصوت التبغي، التي أدخلتنا الى بيتها، وهي تنظر للسماء بهلع.

- المروحية قادمة. ادخلوا. ادخلوا.

دخلنا.

قبّلتْ سامراً على خدّه قبلةً قبلتين ثلاثاً.

صافحتنا بيدها المرتعشة.

- هذول من طرف يسرا يا عمّة.

سألت نفسي.

-    هذول؟! لِمَ لمْ تقل هولي، كما يقول اللبنانيون؟! 

أخذتُ أسترجع أوراقها. ورقة ورقة.

أمها لبنانية، أبوها من "جبلة"، القرية المجاورة لـ "قرداحة"، مسقط رأس الرئيس السوري، لكن لكنتُها منذ اليوم الاول كانت لكنة بيروتية.

- ما أجمل صوت مديرة مكتبك.

- ماذا تريد يا يعقوب؟!

- أريدها أن تعرف بأنني شاعر، أيزعجك هذا الامر؟!

- يزعجني ألاّ تخبرني تفاصيل ماذا يجري عندك في الظهران.

- لماذا التفاصيل؟! كل ما في الامر أنني اطلقت النار على يدي.

الاشياء الاخرى هراء. صدقني مجرد هراء.

- يعقوب، قل ما الذي يجري.

شهق، بكى. وأعرف يعقوب الذي وُلدَ في ظلال جبال "قارة" بالاحساء. أعرفه، كما أعرف تلك الجبال، لا يبكي، الا اذا كان ثمّة ما يُوجبُ الدم.

- قصيدة. ان لم تكن قصيدة، قل لي.

اخذت أتفحص الاوراق الثلاث التي كانت تحمل نصاً شعرياً نثرياً، لا ينتظم للتفعيلة التي كرّسها شعراء الحداثة، في مواجهة القصيدة العمودية السائدة آنذاك.

- أبى أمام، امام كبير. أبو يعقوب الذي هو أبي، إمام كبير.

كان بعض الائمة يهاجمون قصيدة التفعيلة، على أساس أنها مستوردة من الثقافة الغربية.

- أنت يا يعقوب لم تكسر العمود. كسرت والديه.

ضحك بتواضع، واستطردتُ.

- بجد، قصيدتك نثرية جميلة يا يعقوب.

- سمّها ما شئت، انها أول محاولة لي في الشعر. هكذا أحب أن أعبّر عن نفسي.

رفعتُ غترتي عن رأسي قليلاً.

- نريد منك مئة، ألف شاعر، لندخل في التحدي الحقيقي للقصيدة الحديثة.

قدّمتُ يعقوب، ضمن اليوم المقرر لي.

أخذ يعقوب "سوكسيه حلو"، بلغة مخرج الصفحة السوداني، المهتم جداً بالشعر.

قلتُ له.

- أراك تعطيه خلفيات وأبناطاً، لم تعطها لأحد غيره.

أجابني.

- انه شاعر كبير.

- لكن هذه أولى قصائده.

أخذ يبحث بين أقلام الاخراج، الـ 0.5 و الـ 0.2 ليرسم الكوادر المطلوبة.

- سيغزو هذا الشعر، شعرنا العربي، ويجب أن نتهيأ له.

- هل سيصير شعرنا نثرياً يا منير؟!

أجابني.

- لنكن متسامحين. مشكلتنا أننا متعصبون للعمود.

خرج يعقوب من هذا التعصب.

نجح، وهو أول من نجح، في حرب الحرب.

سألني يعقوب بفرح الاطفال.

- هل نجحت؟!

- أجل نجحت.

شددت شعره الكثيف، لأنه كان يزورني بالثوب، بلا غترة، وأضفت.

- نحن نحتاج لمَنْ مثلك.

كانت الاحساء تحتاجه، لكي يعرف الناس، الغارقون في المدن الكبيرة، بأنها، وإنْ لم يكن يصدر عنها جريدة، فإنها تحمل في رحمها زمرة من المبتدئين، الذين يتطورون، دون أن يراهم أحد، وبأن يعقوب هو روحهم ورائحتهم.

هكذا كنت أصفه حين جمعهم لي ذات سفر سافرته له.

- أين سنجتمع؟!

- في ظلام جبل قارة.

رأيت جنيّات قصائدهم تقرأهم داخل الكهوف، وتشحذ دفأهم وإيماءات أصابعهم. وأيقنت أن جبل قارة، هذا الذي يتحدي الطبيعة، ويقف شامخاً وسط غابات النخيل، هو الذي يمنحهم سخطهم على كل ما هو حاصل. 

صاروا يتنفسون على كل المنابر الصحفية الى أن اخذ كل محبي الابداع، يربطون دفء قصائدهم بدفء "عيون" الأحساء وصفاء مياهها.

ارتبطت الاحساء بقصائد نثرهم.

- أريد أن أترك الاحساء.

زعقت في وجهه.

- ماذا؟! أأترك وجهك؟! ملامحك يا يعقوب؟!

- إهدأ. اهدأ. اسمعني.

متأففاً، قلت له.

- ها أنذا اسمعك.

- أنت تعرف أني قد تخرجت من الجامعة، وليس في الاحساء فرص وظيفية جيدة. الظهران على بعد ساعة بالسيارة من الأحساء، وأستطيع أن أعود لها متى شئت.

وأكمل؟

- في الظهران، سأكون قريباً من جريدة "اليوم".

حاولت أن أقترح عليه.

- ما بها الرياض؟! لقد درست فيها، وتعودت عليها.

فقطع الطريق عليّ.

- إلاّ الرياض. أرجوك أنا لم أصدق أنني تخرجت. أنت تعرف أنني كنت اركب مسافة ثلاثمائة كيلو متر ذهاباً وإياباً، كل عطلة نهاية اسبوع، لأكون في النخل والجبال.

ابتسمت له.

- كنت تتكبد المسافات لتكون عند ياسمين.

عبقت من عينيها رائحة عطر.

- قولي يا مهجة مهجة الوقت الذي يخجل أن يسند صوته على كتفك. قولي يا سيدة الاكتاف، يا من يخر لها نبضي. قولي.

- حسناً.

اعتدلت على كرسيها.

- أريدك أن تعرف أنني أدخل مغامرة، أجهل نهايتها؟ أنتَ لم تمنحني كل ذاتك. كنت دوماً، تخدرّني ببعضٍ من هذه الذات، وتوهمني بأن هذا البعض، هو كلك. أنا لا أنكر أنك أعطيتني من خلال هذا البعض، عطاءً سخياً. لهذا ستكون استعادتي لك محفوفة بالخطر. إن لم تعد لي، كما أريدك، فلن أكون لك. وإن لم أكن لك....

استنشقتُ بعمق، عطر عينيها.

- هاه. ماذا سيحدث، ان لم أكن لكِ. سأموت، أليس كذلك؟!

- اذا كنت تقصد الموت المادي، فأنت لست من النوع الذي يموت بسهولة.

كان الموت امام عينيّ.

قرأت في الورقة.

- الموت لمن يخدعوننا على حساب رفاهيتهم.

سألته:

- من يقصدون يا نهار؟!

- يقصدون مَنْ يقصدون. انت الذي طلبت مني أن اريك منشوراً.. اياني وإياك أن تخبر أحداً بالأمر. إن فعلت، ستتحمل النتيجة وحدك.

وضغط بأصابعه على رقبتي.

- منْ في مثل سنك شبهة. لو ذكرت اسمي، سيقولون انني أرغب..

- ترغب في ماذا؟!

حدّق في عينيّ.

- ماذا تريد بالضبط؟! انت تعرف اكثر مما يعرفه أي فتى.

- أريد أن أعرف أكثر.

- حسناً. حسناً. سأعطيك قصصاً.

- لكنني لا أحب القصص.

قاطعني، قبل أن أقول له أنني أحب الشعر.

- ستحبها. مَنْ في مثل اسئلتك، سيحبها.

حين بدأت في قراءة "الجريمة والعقاب" لدستويفسكي، انتابني "راسكو ليثكوف":لماذا تمرّ برأسه تلك الافكار المريعة؟!

دفع راسدو لينوكوف بيده القدح واعتدل في جلسته، ثم قال بهدوء وبلهجة واضحة.

- أنا الذي قتلت العجوز المرابية، وأختها اليزابيث، بضربات فأس، وسرقتهما.

أطبقت غلاف الرواية السميك، وصرخت.

- لا أريد أحداً أن يقتل أحداً، لا أريد أحداً أن يسرق أحداً.

وتراءى لي وجه نهار، يحدّقُ بعينيه الواسعتين في عينيّ، ويعيد عليّ سؤاله.

- ماذا تريد بالضبط؟!

- أريد أن أعرف لماذا كل الناس خائفون؟!

همهم ناصر، وهو يتقلب على فراشه.

- نم يا ابن الحلال.

كنت أصحو، ايام الدراسة، قبل ناصر. وفي أيام الاجازات، أصحو قبل الجميع. وتكون أمي قد وضعت قدر "البليلة" على موقد النار، مع آذان الفجر. ولا تكون الساعة السابعة صباحاً، حتى يكون كل شيء في مكانه داخل صندوق خشبي، من تلك الصناديق الفارغة التي يصدف أن أجدها عند دكاكين الخضار والفواكه، والذي يكون في الغالب مقسوم من النصف بقطعتين من الخشب.

أضع قدر البليلة، الذي يفوح منها بخار شديد البياض، في النصف الايمن، وأضح القدر المنتصف ماء ً نظيفاً والذي يحتوي على ستة صحون سلطة صغيرة، وملاعق فضية مخرمة، علا بعضها الصدأ. ويجب أن يكون في النصف الثاني، متسعاً لقارورة الخل المخفف والمثقوبة في منتصف غطائها، ولثلاث قوارير اخرى: الملح والكمون والشطة.

أحمل الصندوق، والذي دوماً ما أغطيه بسجادة صلاة مهترئة، وأخرج من البيت الى مدخل زقاقنا المرتبط، بشكل عشوائي، مع مداخل أزقة كثيرة. افرش السجادة، ثم أجلس عليها، أمامي الصندوق. وبأعلى صوتي، أصيح.

- بليلة، يا بليلة.

وعندما يقترب أذان الظهر، يكون صوتي قد بحّ، ويكون في جيب ثوبي الايمن، من السبعة عشر الى التسع عشر قرشاً، فالصحن بقرش، مهما كانت الطلبات الاضافية: زيادة خل او زيادة شطة، أما البليلة نفسها فملعقتان كبيرتان ونصف لا أكثر.

- أضف نصفاً آخر، مشان خاطري.

وأتأكد أن لا أحد من الاطفال ينتبه لي. فبعضهم، حين لا يجد شقاوة يمارسها، يجلس على جانب سجادتي، ونأخذ نثرثر عن "ابوللو 11"، التي لم يصدق كل عجائز حارتنا ومعظم شبابها، أنها حطّتْ على ظهر القمر.

خالي، الذي كان يزورنا كل نهاية شهر من القصيم، ليشتري أدوات قرطاسية لمكتبته ويقضي في بيتنا ثلاثة أو اربعة أيام، أكّد لأبي.

- أن من يصدق كذبة الامريكان آثم، وعليه غضب من الله.

لم يكترث أبي، فأحس خالي بالحرج.

- أتصدّق يا أبا عبد الكريم، أن انساناً يحط بقدميه على آية من آيات الله؟!

ثم نقل عينيه عن أبي، ونقلهما لأمي.

- أتصدقين يا ام عبد الكريم؟!

قبل أن تتحرك شفتا أمي، تحرّك حاجبا ابي.

- قومي حطي العشاء.

كانت أيام زيارات خالي الشهري، تحفل بأطباق نحبها: "المطازيز"، "الجريش"، "المرقوق"، "القرصان". أما باقي أيامنا، فلم تكن تعرف سوى صحن الأرز وقدر الأدام.

مدّت عواطف صحنها لي، ففتحت القدر، وأضفت لها نصف ملعقة.

- شكراً.

سألتها:

- ما رأيك في القصيدة؟!

ادخلت الملعقة الاولى في فمها، وأخذت تمضغ بتلذذ.

- ينقصها بعض الملح.

ضربت بقضبتي على طرف الصندوق، فاهتز غطاء القدر، وثار غبار قليل.

- أنا أصلاً لم أكن أنوي اعطاءك اياها. أنتِ التي جذبتها مني.

- أنسيت أنك قلتَ لي أنك تكتب القصائد لي أنا فقط؟!

رددت عليها بلا مبالاة.

- لا أذكر ذلك.

أكملتْ أكل كل ما كان في صحنها، ثم ارتشفت بعض الخل، ونثرت الباقي على التراب.

قبل أن أتناول القرش، من بين أصابعها، قلت لها.

- المرة القادمة، سأنقص عليك نصف ملعقة.

بدلال مصطنع، بادرتني.

- وأنا لن أخذ منك أي قصيدة أخرى، بعد ذلك.

كانت عواطف تبدو مختلفة عن المرة السابقة. شعرها المسّرح وفستانها القصير الذي يغطي نصف ركبتيها، جعلاني أراها أكثر جمالاً. لكنني تمالكتُ نفسي.

- لن أكتب قصائد بعد اليوم.

- لا تكتب. قصيدتكَ أصلاً ليست حلوة. 

ورَكَضَتْ باتجاه بيتهم، وهواء الركض يكشف أعلى فخذيها من الخلف، وبغضبٍ صحتُ بأعلى صوتي.

- بليلة. بليلة.

تلمّستُ منتصفي، فاذا أنا مبلّل.

كان صيفاً، كنا جميعاً ننام في السطح، الذي كانت امي ترشه بالماء، عند الغروب، ليمنحنا برداً طفيفاً بالليل. وكان على كل منا، باستثناء الباشا، أن نطوي اسفنجاتنا في الصباح، وأن ندخلها في فسحة الدرج. وكنت أتعمد أن أنسى اسفنجتي، حتى ما بعد الظهر، لكي تجف.

شيئان لم أكن أنساهما كل صباح: أن أستحم، خوفاً من أن يكون البلل جنابة، وأن أخبيء قصة نهار، "الجريمة والعقاب" عن أنظار أهلي.

كنت أستحم بسرعة، أقرأ بسرعة، آكل بسرعة. وكأن شيئاً يلاحقني.

- هل كان نهار هو ذلك الشيء؟!

كنت أراه في أحلامي دوماً. أراه مرة يكتب على لوح الفصل: الجوع، ويقول لي: اقرأ. ومرة، أسمع صوته من خلال سماعة الهاتف، وهو يهمس: الجوع، ثم يسألني: أتسمعني؟! هذا الذي بيديك هو الهاتف.

قفزت وضحة فرحة، وهي تسمع رنين الهاتف.

- أخيراً، صار عندنا هاتف.

طالع أبي وجه أمي المتورد.

- اذا جاء أخوك بعد اسبوع، اسأليه اذا كان الهبوط الى القمر لا يزال إثماً؟!

كان قد مرّت سنتان على "أبوللو11"، قرأت خلالهما عدداً كبيراً من الترجمات التي يمتلكها نهار، وكنت أنتظره أن يمدني بالمزيد، لكن ذلك لم يحصل.

اختفى نهار.

لم يعد ليأخذ مني قصة "الساقطون" لمكسيم غوركي. بقيت معي، لتذكرني به.

مرّ صيف وغبار. مرّ شتاء ومطر. وعلى دوي الرعد، وبهرجة البرق في زجاج النافذة الصغيرة، مددت يدي الى دفتري المدرسي المكتوب على غلافه اسمي وكلمة كشكول. وبالقلم الذي كان موضوعاً داخله، كتبت:-

"ايها النهار

يا من يخلف الليل، ليملأ الكون بالضوء.

أيها النهار، كيف يكون العالم بدونك؟!

لقد تعلمت بك كيف تكون الورقة مليئة بالكلمات. وكيف تكون الكلمات مليئة بالناس البعيدين عني.

لقد قلت لك ايها النهار مرة، أنا لا أحب أن يقتل أحدٌ أحداً، أو أن يسرق أحدٌ أحداً. وقلت لي: في النهار، لا يكون هنالك قتل ولا سرقة.

اذن، لماذا تختفي، وتترك الليل يخنق السماء؟! أتخيلك الآن تسألني كما كنت تسألني دوماً:

- ماذا تريد بالضبط؟!

كنت لا أتجرأ أن أجيبك:

- أريد أن أعرف لماذا الناس خائفون؟!

أما الآن، فأتجرأ وأقول لك:

- لقد قلّ خوف الناس. فلماذا لا تعود؟!"

في احد حصص الانشاء، وضع الاستاذ اصبع الطباشير، على طرف اللوح، وقال موجهاً كلامه لنا.

- اليوم، سيكون الموضوع اختيارياً.

التقط اصبع الطباشير مرة اخرى، ثم كتب على اللوح.

"المادة: انشاء.

الموضوع: اختياري".

- انتم في الصف الثالث متوسط. ويفترض، أنكم قادرون على التعبير من تلقاء أنفسكم، دون أن أفرض عليكم الموضوع وعناصر الموضوع.

مددت يدي الى الحقيبة ثم أخرجت الكشكول.

فتحت صفحة جديدة، لكن أصابعي، قلبت الصفحات، ووجدتني أكتب أعلى الصفحة التي كتبتها قبل يومين، عنوان: "رحيل النهار".

- لماذا انت متشائم؟!

أجبته.

- أنا لست متشائماً.

وأضفت متسائلاً.

- ألم يعجبك يا أستاذ؟!

- بالعكس. أنت تستحق عليه علامة ممتازة. أنا فقط أستغرب كيف تعتقد بأن النهار يختفي. النهار لا يختفي إلاّ ليعود ثانية. هذا هو منطق الكون يا بني. 

لكنّه لم يعد.

نهار لم يعد.

عاد حمدان من عمله. لا قبل عمله. فلقد كنا نؤقتُ ساعة الغداء، باللحظة التي يدخل فيها، حاملاً النجمة على كل كتف من أكتافه.

- جاء الملازم. هيا حطوا الغداء.

بعد صرخة ناصر اليومية، تركض أمي، تتبعها فلوة، وتتباطأ وضحة عنوةً، وأتعمد أن أصرخ بها.

- سيأتي الباشا بعد الملازم بدقائق. إنْ لم تتجهي للمطبخ الآن، سأفضحك.

وتصرخ وضحة بي.

- تفضحني بماذا أيها القرد؟! أنا لا عواطف لي.

وأشدها من شعرها.

- بل لكِ. أتريدين أن أقول من لكِ؟!

كان حمدان بالعادة، يطرق الباب، طرقات خفيفة، يقول بعدها.

- افتحي يا أم حمدان.

لكنه، هذه المرة، قال.

- افتحوا. افتحوا.

فتحَتْ وضحة له الباب، سائلة اياه.

- أأنت جائع لهذه الدرجة؟!

دفعها بكتفه.

- ألم يعد أبي؟!

بتلقائية، التفتت أمي اليه، بعد أن رمّت السكينة التي كانت تقطع بها الخيار.

- أتريد أن أضع لك غداءك؟!

خلع قبعته الجيشية عن رأسه، ثم فتح باب غرفة أبي. وبعد أن تأكد أن لا أحد فيها، توجه بالكلام لأمي، وهو لا يعرف كيف يقول ما يريد.

- اذا دخل، أرجوكم، دعوني أقول له ما حدث.

توقفت أمي عن تقطيع الخيار، ورمت الصحن من بين يديها.

- ماذا حدث يا حمدان؟!

ابتلع حمدان ريقه أكثر من مرة.

- لقد مات جمال عبد الناصر يا أمي.

تناولت فلوة الصحن الذي كانت أمي تقطّع فيه الخيار، وهي تتمتم.

- الله يرحمه.

ثم أضافت.

- أبوكم سيعود بعد دقائق، واذا لم يكن الغداء جاهزاً، سيقلب الدنيا على رأسنا جميعاً.

حين دخل أبي، كان وجهه يقول أنه عرف.

دخل غرفته.

انتظرناه لكي يخرج للغداء، لكنه لم يخرج.

لم يأكل منا أحد.

كانت الصيحات، التي كنا نسمعها في الخارج، كفيلة، بأن توقف اللقمة في حلوقنا، باستثناء ناصر الذي ظلّ يتعمد أن يتجشأ الاكل الذي لم يشاركه فيه أحد.

- مين عبد الناصر ، هذا الذي تحزنون عليه؟!

أخذ يطبطب على بطنه.

- ليته يموت كل يوم، أو أن يموت ثلاث مرات في اليوم: في الافطار والغداء والعشاء.

صفعته فلوة على وجهه.

- احترمه. انه ميت.

فلوة، هي التي جعلتني أؤمن أن جمال عبد الناصر مات.

لولاها، لما أيقنت أنه مات.

مِنْ مثل جمال عبد الناصر، لا يؤكد موته، إلاّ مَنْ لا يهمهم أمره، مثل فلوة.

فلوة قالت أنه مات، وقالت أيضاً: 

- الله يرحمه.

اذن، مات جمال عبد الناصر.

والصورة التي علقتها وضحة على الزجاج، أخذت، منذ ذلك اليوم، تكبر وتكبر، دون أن أجرؤ أن اشي فيها، اذ لم يكن هناك مبرر لذلك.

- ياسمين لم تكن مبرراً.

- لماذا اذن تكره الرياض يا يعقوب؟!

- لأنها غدت أشبه بمدينة أشباح. بعد أن خرج معتقلوا الـ 82م، صارت الحياة عندكم باهتة كالمرض وصرتم تتحاشون بعضكم البعض، خوفاً من بعضكم البعض. وأخذ الواحد منكم يصفّي أخاه بسكين التآمر أو التخاذل او الاسنحاب او الانتفاع او التذبذب أو ..

قاطعته:

- هيه. هيه. على مهلك.

- على مهلي في ماذا؟! أليس هذا ما حصل وما يحصل حتى اليوم. لقد خرج المعتقلون بعد أقل من سنة. والى يومك هذا، لم أرَ بارقة واحدة تدعو للأمل.

تناول جريدة كانت الى جانبه، ورماها مطويةً على صفحة المقالات.

- لقد مرّت خمس سنوات والحال هو الحال. مقالات ملوثة بالهزيمة والخذلان.

توقف عن الكلام، وكأنه تذكر شيئاً.

- استرجع معي لحظة البكاء الحارقة التي شاهدتك فيها، ونحن نتجه في مقصورة قطار واحدة من بغداد الى البصرة. أتذكر عندما وضعت رأسك على صدري، وأخذت أبكي معك بكاءً أكثر حرقة من بكائك.

- أذكر ذلك جيداً. كنت واثقاً تلك اللحظة أنك ستكتشف لماذا كان القهر يسكنني.

- أجل. لقد اندفعنا لتلبية دعوة العراق، الداخل في حرب همجية مع ايران، باعتقاد همجي منا بأننا سنكتشف سر هذه الحرب. وحين اكتشفنا أن نظام العراق لا يحارب ايران فقط، بل يحارب أهله الرافضين له، بكينا في تلك المقصورة على العراق وعلى ايران وعلى أنفسنا.

- لكننا بعد عودتنا من البصرة الى بغداد، أعلنّا احتجاجنا، وسافرنا في أول طائرة الى جدة، ولم يكن قد مضى لنا هناك أكثر من ثلاثة أيام.

- وما نفع احتجاجنا أنا واياك؟! لقد بقي رَبْعُك المثقفون من كافة الاقطار العربية الى أن انتهى مهرجان المربد، تلك المؤامرة التي فضحتنا جميعاً.

تنهدتُ بعمق، فاق جرح يعقوب.

- عن اذنك.

- الى اين يا يعقوب. لا تتركني وحدي، أرجوك.

سمعت بقايا صوته.

- لم يعد هناك مروحيات اسرائيلية في السماء. تعال لكي نرى الجنوب. 

ورأيته يتقافز كغيمة حاصرتها الجبال.

- هذا دمار اسرائيل. انه أحب على قلبي من دمار بيروت.

صاحت خالة سامر بي.

- هل جنّ صاحبك؟!

ولم أجد ما أرد به عليها.

تدخّل سامر بعفوية شديدة، مشيراً لي.

- هذا مدير "يسرا" يا خالة. انه يحمل سلامات كثيرة لكِ منها.

- الله يسلمك يا وليدي.

سألت نفسي.

- أهي فلسطينية؟! سورية؟! لبنانية؟! أم أنها مزيج من ريف كل هذا الريف.

حين دخلت يسرا الى مكتبي أول مرة، أبدت ثقة واضحة في نفسها. قدمتْ لي أوراق خبرتها، فتصفحتها على عجل.

- أترغبين العمل كسكرتيرة؟!

- لا. 

وباستغراب اداري مصطنع، رددت عليها.

- اذن ماذا؟!

- لا أدري. السكرتيرة عندكم لها معنى الخادمة أو العشيقة. أنتم لم تستوعبوا معنى هذه الوظيفة بعد.

مسحت أرنبة أنفي بارتباك.

- هل في ذهنك وظيفة أخرى؟!

- أرغب في العمل كمدير مكتب. كلمة مديرة ربما تضيف لي احتراماً أكثر.

ابتسمتْ بخجل وهي تزمّ شفتيها، ثم أضافت.

- يعني.. أرجو أن تفهم ما أقصد.

- أكيد. أكيد.

حدّقتْ في عينيَّ بانتظار شديد.

- اذن؟!

- اذن ماذا؟!

- هل سأجد وظيفة لي هنا؟!

فركت العرق المختفي على جبيني بأصابع يدي اليسري.

- أرجو ذلك.. سأتصل بك.

سألتها وانا أتصفح أوراقها.

- هل رقم هاتفك موجود هنا؟!

- أجل. لكنه ليس الرقم الذي ستجدني عليه، فأنا أسكن عند أقارب لي وليس لديهم هاتف.

- وكيف سنتصل بكِ؟!

- هل أنتم محتاجون لخدماتي فعلاً؟!

- نحن نحتاج لخدمات كل المؤهلين.

علقت حقيبتها على كتفها الأيسر.

- أنتم لا تفضلون العرب. تفضلون الاجانب. الامريكيون أولاً فالاوروبيون ثم الشرق أوسطيون. الامريكيون والاوروبيون لأنهم السادة، أم الشرق الاوسطيون، فلأنكم معهم تقلبون المفهوم وتصبحون الاسياد. أما العرب، فلا تستطيعون أن تمارسوا عليهم السيادة، تعجزون عن استعبادهم، لأنكم مفضوحون أمامهم، لذلك تكرهونهم.

مشيت من خلف مكتبي باتجاهها، وعلى شفتيّ ابتسامة باردة.

- لن أعتبر هذا امتحاناً لي لكي أقبلك.

وقبل أن أفتح لها الباب، سألتني.

- أتعتقد أن هذا البلد ملك لكم وحدكم؟!

تراجعت الى الوراء، لاسمعها تكمل.

- لقد تركت بيتي، لأن "سكود" صدام الثاني أصاب البناية المجاورة للبيت الذي أقطن فيه. كان بامكاني ترك هذا البلد، كما تركه أسيادكم الامريكيون والاوروبيون، لكنني بقيت. وها هي "سكودات" صدام تسقط الى اليــــــوم عليـكم. وها أنـا أبحث عن عمل بعمق جذوري في أرضــكم.

بدا الاضطراب واضحاً على وجهي، فلست بالمهيأ، وسط هذا الدمار لأن افتتح مزيداً من الدمارات. فنحن الآن على ماء أشبه ما يكون بيقظة النائم من مخدة هدّ كاهلها الحجر. نحن على شفا هضبة، لا تعرف كيف استقامت، أو كيف انحنت منكسرة على شفا ظلام يؤلمه النور. لا ندري الى أي ظلام نحن أو الى أي نور. يا رب. كأن الذي نحن فيه لغةٌ هاجرت قاموسها، فتغطرست، ولم تعد الألسن تأنسها. لقد جنّت الجزيرة. جُنّ الذين أولموا لحمها لموائدهم، فأخذوا ينفثون النار من عروشهم لمصروعين ينتظرون سلخها. كأننا الجلد الذي فاح بأصل لا يليق به، فجلَدَتهُ الفروع المحتميات بشجر، لا شجر غيره. هوذا زمن الشجر الذي ينضح لنا هداياه مراً وحنظلاً كي نتقي الشجر، وما اتقيناه. أفقنا على ليل دامس، قبائلُهُ طينُ وَهْمٍ، ونَسَبُهُ كهوفُ غدر. طفولته سُم ويفاعته دم. أفقنا عليه ليختطف اسماءنا الاولى ويتركنا بلا لقب. في الانذار الاول للضربة الاولى له، في "السكود" الاول له، لم أحتمل.

تركت موقعي، وأنا لا أعرف كم من الكيمياء آتية علينا. ركضت خارج غرفة الطواريء، وعبد الرؤوف يلحق بي. توقف. أرجوك توقف. ولم أتوقف. دفعت رجل الأمن بالبوابة الداخلية. وعندما نهض من وقعته، سمعته يصيح بجهازه: الاستاذ يخرج. الاستاذ يخرج. ليساعدني أحد كي يعود. "سكود" في طريقه الينا. ركبت سيارتي. وانطلقت بها الى البوابة الخارجية. اعترضني رجل الامن، فضغطت المنبه بكل ما أوتيت من قوة، ولم يجد بداً من الرضوخ لخروجي. وفي المذياع، كان صوت صافرة الانذار أقوى من صوته في مكبرات الصوت على جسر الخليج. صوت قرب وقوع الخطر. الخطر يقترب من أمي. أمي الآن وحدها. وحدها بدوني. وحدها ولو أن كل اخواتي وأطفال اخواتي حولها. هي وحدها ولو سقط على بياض شعرها شظية من نار دون أن أكون محتضناً كتفيها، لأصبح الموت الذي سيحرقها قبلي، حريقاً لن يغفره الله لي. سابقت وقود سيارتي، فانفجرت "الباتريوت" الثلاثين أمام "السكود" الواحد، ولم أكن أدري من الذي انتصر. اخذت أبكي وأبكي. وحيداً داخل سيارتي، بعيداً عن أمي. وفي الفضاء سلاحان، لا أعرف أيهما العدو وأيهما العدو. أيهما يدحر الآخر الآن، وأيهما سيدمرنا الى آخر كرامة فينا. حضنت أمي، وأنا أتوقع ألاّ أرفع رأسي عن صدرها، إلاّ وقد تفسخ اللحم عن عظام الاطفال، واشتعلت جماجم النساء، وسوف لن يسعني انقاذ أحد سوى أمي، التي سأمنحها لحمي وعظامي، لكي يكون بمقدورها الهرب من هذا الحجيم، كما فعل معظم أهل الرياض منذ انطلقت صفارات "انتهاء الخطر" الاول.

افتعلت برودة الاعصاب، وقلت لها.

- سكودات صدام كشفت لنا أشياء كثيرة يا يسرا.

فتحت لها الباب، فمدّت يدها لمصافحتي. صافحتها مبتسماً.

- سأتصل بكَ الاسبوع القادم. ربما أجد لديكَ أخباراً سارة بشأن وظيفتي.

وانهت وداعها بـ :

- فُتَّك بعافية.

واستدار جسدها المكتنز داخل تنورة تلامس كعبيها.

- يا الله. كيف اكتنز جسدك بهذه السرعة يا عواطف.

لم يعد بمقدوري سوى أن أختلس النظر لها حين تدخل أو تخرج من باب بنايتهم. لم أعد أكتب لها، لكنني كنت مفتوناً بجسدها اللدن، وصدرها الذي حين تمشي تتعمد أن تشدّه الى الاعلى. وكنت لا اتجرأ أن أبدي أكثر من اختلاس النظر. فـ "نهار"، الذي لا يزال مختفياً، وفتوان الذي يتمثله، يمارسان عليّ عيوناً تخترق الشارع الذي أمشي به، وطاولة الفصل التي أدرس عليها. صار فتوانٌ نهاراً، وصرت بينهما، أستخرج النار التي تهشم اسئلتي، وأقذفها في الوجوه التي تصادفني.

- أتركك من هالسوالف وأنا أبوك. خلّك في دراستك. 

رددت عليه.

- ومتى تركتها أنت؟!

كان البرص قد استفحل في جلده الى أن بُهِقَ معظم وجهه. وصار لا يحب الخروج من البيت إلاّ الى المسجد، وبينهما كان يقضي صمته بقرآنه.

فقدت دارنا ضجيجها.

وضحة لم تعد تعلق صوراً على جدار غرفتها.

ماتت الصورة ذات ظهيرة رصاصية.

أعلن المذيع أن الملك فيصل قُتل رمياً بالرصاص.

إنهار أبي.

أبو حمدان: عبد الكريم بن حمدان بجلالة قدره ينهار.

ركضت أمي، تتبعها فلوة الى المطبخ، وعادتا، كل منهما تحمل طاسة ماء. أما وضحة، فلقد استندت على جدار الغرفة المقابلة وأخذت تنتحب.

بوحشية خوفي على أبي، ركضت اليها. شددتها من شعرها ولويت عنقها.

- لا تزيدي الامر على أبي، أقسم بالله لأكسرن عنقك ان لم تسكتي. 

سكتت وضحة.

سكتنا جميعاً.

سكتت دارنا الى أن صار كل وجه أبي بهاقاً. والى أن صارت وردة بنت عائشة وبنت حمدان الغائب دوماً في انتداباته العسكرية، تلثغ بأغنيات برامج الاطفال في تلفزيون الابيض والاسود، والى أن صار جسد عواطف مكتنزاً أكثر وصدرها لدناً مشرئباً أكثر.

- سأترك السوالف، كما طلب من والدي، للحظة. سأترك نهاراً وفتواناً للحظة واحدة فقط.

في المجلس حيث كان الهاتف صامتاً على طاولة خشبية، أخذت أغالب نفسي، وكدت أن أعود أدراجي، لولا مشهدها وهي تستدير.

رفعتُ سماعة الهاتف، وأدرت رقمها، وسمعت صوتها من الطرف الآخر.

- من؟!

- أنا.

- يا الهي. هل يجب أن أنتظر دهراً كي أسمع صوتك؟!

وأضافتْ.

- ألمْ تخبركَ مديرة مكتبك يسرا أنني كنت أتصل بك طيلة الاسبوع الماضي؟!

- بلى، أخبرتني، لكنني كنت..

قاطعتني.

- كنت ماذا يا سَكَنَ فؤادي. إلامَ تضطجع من موت الى موت. ها أنا إياك. إذاً لأهرول لصلاتك. صلِّ، لأئتمَّ بثيابك. يا مفرق صبوتي أنتَ، ويا رعشة جادَّتي. قل متى تنسدل عن كتفك قلنسوة الجهامة؟!

كنتُ كلما انخدش الافق بلون خديها، أهرب. أهرب من أفقها، ولونها، وخدّيها. هي التي تعرفت معها كيف أن لدي قميصٌ، وكيف أن حين أريد أن أخلعه لأنام، فلا بد لها هي، هي وحدها أن تفك أزاريره، واحداً واحداً. تستلقي على شعيرات دمي وتذهب معي في نومٍ لا يطرقه سوى صحوها.

- إصح. انظر كيف تكتب صفحة النيل اسمينا. نحن الآن على مرمى قبلة من هذا النهر الذي اخترته ليكون شاهداً على سماحهم لك بالسفر. كنتَ تقول لي ونحن على شرفة ذلك المساء القاهري: كانت قضبان صدام أقوى من قضبانهم. الى أين كانوا يعتقدون أن أفرّ؟! أأترك الرياض لهم؟! وكنت أقول لك، آه، لو انك تحبني كما تحب هذه الرياض. قبل عام من الحرب، حسبتني صرتُ شهيقَكَ. دخلتْ الحربُ، فتساقط السلُّ على صوتكَ، فلم تعد جدران مكتبي الصغير تتعرف على ما تذرفه من آهاتٍ لي. لم تعد أنت.. وشيئاً فشيئاً نسيتك الجدران. كنتَ طيلة الحرب، تنزفني، وحين أخرجوا صدّاماً، لم أجد فيك ما يمكن أن اجتاحه. لذلك دعوتك الى القاهرة لكي تغسل في النيل آثامهم. كنتَ تحرص على الانفلات في فرح المراكب المتجهة للقناطر الخيرية، او في دفء عيون باعة الفل الاطفال على الكورنيش، أو في صراخ مرتادي أكشاك عصائر البرتقال والمانقا بميدان طلعت حرب وميدان العباسية. وكلما أقول أنك انفلتَّ، تعيدني جراحكَ التي أضمدها بيدي هاتين، في نهاية مشاويرنا اليومية، الى القضبان التي كانت تتنفسك. ظللتُ أصرُ أن تصحو من هذيان حبرك. أن تقرأ لي الاوراق المتكومة الى جانب رأسك. 

وقبل أن نفترق في سلم الطائرة، همستَ لي: هل اعجبك النص؟!

- طبعاً لا يعجبني؟!

- ولماذا لا يعجبك؟!

- لأنك تتركني كل هذه السنين، ثم تتصل بي فجأة لتسألني: هل عرفتيني؟! نعم، أعرفك. هل يرضي هذا غرور الشاعر المتضخم عندك.

- على رسلك ارجوك. أنا لم اعد شاعراً.

- وماذا تكون اذن؟! هل اخترت لك، ونحن في الايام الاخيرة من القرن الرابع عشر هجري، فناً آخر، تضحك به على النساء؟!

- أنا لم أضحك عليك يوماً. لقد كانت مشاعرنا محفوفة بشقاوة الطفولة. ألا تتذكرين يا عواطف أنكِ انتِ التي نفيت عني صفة الشاعر وركضت عني.

- ركضت عنك، لكنني ظللت طيلة الاحدى عشرة سنة، أركض لك. وكنتَ أنت تبتعد عني. كنت أحس في الايام التي نتصادف فيها في الزقاق، ونحن عائدان كلٌ من مدرسته الثانوية، بأنك تمزق ملابسي بعينيك، وكنتُ أنتظر أن تبادرني بتحية، بغزل يليق بشاعر يصادف امرأة أحبها ذات يوم.

أطرقت قليلاً قبل أن أقول لها.

- أنا لم أحبكِ يوماً يا عواطف.

- ماذا؟!

سمعتها تجهش بالبكاء، وبصوت دامع صَرَخَتْ.

- ولماذا تتصل بي اذن؟!

- اهدأي، يا عواطف، أرجوك.

سكتتْ، وكنت أسمع تنهيداتها الحارة، فبادرتها.

- عواطف، أرجو أن تتفهمي.

- لا أتفهم ولا حاجة.

وأضافت مقفلة الخط في وجهي.

- فُتّك بعافية.

ولم تَفُتْ العافية. اقتحم جهيمان الحرم المكي فجر أول أيام القرن الخامس عشر، مصطحباً معه مهديّه المنتظر، وآلاف الجنود الانتحاريين، في محاولة للاستيلاء على الحكم من الملك خالد.

- هل لديك أوراق؟! هل تحتفظ بكتب دينية؟!

كان يرتعش ، وكانت أمي تقف وراءه، وقد اصفرّ وجهها مثل وجهه.

- أقسم لك يا أبي أن ليس لديّ سوى روايات عربية وأجنبية. وان لم تكن تصدقني، فابحث في دولابي. انه أمامك.

- ولا حتى الوصايا العشر؟!

سألته بدهشة.

- وصايا من تلك!!

- وصايا جهيمان.

وضع كفّه على كتفي، وشد عليه بقوة.

- لا تقل لي أنك لم تقرأها.

- أقسم لك يا أبي، بأنني لم أسمع بها من قبل.

وقبل أن يتم القضاء على جهيمان وجنوده، وقبل أن أرى وجهه المغبّر بالفحم على شاشة تلفزيوننا الملّون، وفي يديه أغلال الحديد، كنت قد قرأت كل وصاياه، التي لم تنتهِ بإعدامه.

صاحت فلوة.

- اتق الله يا ناصر، واطفِ التلفزيون.

- يا بنت الحلال، صلّ على محمد. ما بقي إلا أغاني الرجال وأفلام الرجال. ما تحبين الرجال أنتِ، ما تحبين الرجال؟!

التفتت فلوة الى أمي، وقد اغرورقت الدموع في عينيها. 

- طفِّ ملعون الوالدين. ما جاب لنا جهيمان إلا هو.

أما وضحة، فلم تحرك ساكناً، وكأن الامر لا يعنيها. حين اختلى بي ناصر، قال لي:

- أتعرف؟! أتمنى أن يأتي نصيب الزواج لفلوة. لقد كبرت أكثر من اللازم. كنت أتوقع أن ذلك المطوّع الذي كان يرافق أبي بمناسبة وبدون مناسبة سيطلبها للزواج.

سألته.

- وأين ذلك المطوع الآن؟!

أجابني وهو يضحك بسخرية وليس بحرقة.

- انه ينام مع جثث أصحاب جهيمان تحت أنقاض خلوات الحرم.

- أأنت متأكد مما تقول؟!

- إن لم تصدقني، اسأل الباشا.

طرقت الباب، فلم أسمع ردّاً.

فتحت الباب، فاذا به مستلق بشرود كامل على فراشه القطني الممدود على الارض، وقد تبقّع بحروق متناثرة لسجائر الـ "أبو بس".

- ما الامر يا أبا حمدان؟!

رفع رأسه عن المخدة المُسندة على الجدار، فاذا منابت الشعر الابيض والمهمل على خديه وذقنه تعطي لبهاق وجهه منظراً جليدياً. 

كأنه كان سيبكي، وكأنه تماسك جأشه.

- هل للأمر علاقة بجهيمان؟!

سألته، لأنني أعرف كم هو مسكون بالخوف.

منذ فتحت عينيّ عليه، وقلبه أقرب ما يكون الى قلوب الاطفال. يفرح حين يراهم يلعبون، ليس ككل الآباء. دموعه أقرب الى مآقيه من دموع أمي. في حالات السعادة يبكي. في حالات الحزن يبكي. يبكي حين تصله رسالة ود، ويبكي حين يسمع عتاباً من أحد. يصل كل الناس، وهو الأحق بالوصل. يساعد من يعرف من المحتاجين رغم محدودية دخله، الذي هو راتب وظيفته التي طلب أن يتقاعد عنها، لكن شهامة رئيسه في الشؤون المالية بوزارة الدفاع حالت دون ذلك: أمكث في مسجدك يا أبا حمدان، وسيصلك الراتب مع مراسل الادارة الى حد بيتك.

- جهيمان انتهى يا أبي.

هزّ رأسه يمنة ويسرة، وصوته يتحشرج بالمقاطعة.

- لا، لم ينتهِ.

وأضاف:

- لقد طلع من اولئك الذين هبّلَتْ بهم الأموال التي ظهرتْ فجأة. طلع جهيمان لأن كل الناس صارت لا تتكلم إلاّ عن  أسعار الاراضي وعن الشركات والمؤسسات والمعارض الجديدة.

- هذا نقد سياسي يا أبي. انتبه.

ابتسم بتهكم.

- لا تخف. المباحث مشغولون بالمساهمة في مخططات الاراضي. لقد انتهى عصر المباحث، وبدأ عهد المال.

كان كل الناس يعتبرون عهد الملك خالد، بداية لعهد الرخاء والنماء. كان يغدق على المواطنين بالمكرمات بمناسبة وبدون مناسبة، وتحولت البلاد في الثلاث سنوات الاولى من حكمه الى ورشة إعمار مدني لا تتوقف. وظهر في حكمه أثرياء جدد من أسر وقبائل لا عهد لها بالثراء، وليس لها انتماء أسري أو قبلي بآل سعود.

- لماذا اذن كنت خائفاً من اقتنائي أي أوراق تتعلق بجهيمان؟

- لأننا فقراء يا ولدي. والفقر في زمن كهذا، زمن جنون المال، تهمة كافية للقبض عليك.

لم أجرؤ على سؤاله، لماذا لم يفعل مثل بقية الناس. لماذا لم يساهم في أرض، أو ينشيء مؤسسة، مثل آباء بعض جيراننا. لم أجرؤ على ذلك لأنني أعرف اجابته سلفاً.

- لقد نهض جهيمان يا ولدي من الناس الرافضين لما يحدث. لقد اعتمدت وصاياه على الدين، والدين ضد البذخ والانغماس في شهوات الدنيا. لقد قتل جهيمان، صحيح. ولعل الله قد اختار له هذا المصير، لكيلا يغرقنا، نحن الذين اجتمعنا للتو على كلمة لا إله إلاّ الله.

- ألا تزال خائفاً يا أبي؟

- أجل، أنا خائف من أنه لا يزال حيّاً في ثياب آخرين.

طالع في عينيّ بحدّة.

- هل حقاً لم تسمع بجهيمان قبل اقتحامه للحرم؟

ضممت يديه المرتجفتين بين يدّي.

- هل سبق أن كذبت عليك يا أبتي؟

- أجبني، لا تقابل سؤالي بسؤال.

هل أقول له أن نهاراً لم يفارقني برهة؟ هل أقول له أن الجوع لا يزال هو الكلمة الاولى التي أقرأها على السبورة التي بناها لي فتوان؟

ماذا أقول له؟

لقد اخترت طريقي. أن أكون نهاراً آخر. ونهار الذي يسكنني، او الذي أسكنني أياه فتوان، لا يعرف سوى أن على الفقراء أن يعلنوا أنهم فقراء. لقد علمني فتوان ان نهاراً لا يطمح للمُلْك، وأنه لا يعرف من أي قبيلة خرج. لذلك، ربما، لم أعرف جهيمان. لقد كان نهاري كافياً لي، إن لم يكن كافياً لغيري. اسئلته مجرد اسئلة تنبعث مع شروق الشمس، وتظل سهرانةً طيلة الليل بلا أجوبة: لماذا الفقراء فقراء؟ لماذا يعيشون فقراء ويموتون فقراء وغيرهم يغرق في الغنى حتى الملل؟ أسئلة سلمية، لا أخال جهيمان يجيد قلقها.

- يا أبي، يا نوّارة أضلعي، أنا الآن في منتصف الجامعة، ولا أريد أن يكون مصيري مثل مصير صاحبك المطوع.

التفت اليّ بقلق.

- صاحبي المطوع؟ أي صاحب وأي مطوع؟!

حاولت أن أتمثل ضحكة ناصر.

- ذاك الذي كان يلازمك في الفترة الاخيرة، والذي انتهى به الامر جثة مع جثث جهيمان.

ارتبك قبل أن يقول لي.

- رحمة الله عليه. كان يستعجلني في الزواج من اختك فلوة.

- أعرف ذلك.

- ومن أخبرك؟! أنا لم أتحدث بهذا الامر مع أحد.

واصلت ضحكتي.

- لعلك افشيت بهذا الامر دون ارادتك لناصر، ابنك الاخير، الذي اسميته على اسم الزعيم.

وأضفت.

- زعيمك المبجل.

بعصبية، ردّ علي.

- هل جننت؟ كيف تقول هذا الكلام.

- أقوله وأقول أكثر منه. دمار اسرائيل أحبّ على قلبي من دمار بيروت.

همس سامر في أذني.

-لنعد الى بيروت. يبدو أن يعقوب تعبان.

اعترضت خالة سامر، موجهة الكلام له ولي.

- وماذا ستقول يسرا لو عرفت بأن مديرها زار بيتي، ولم يأكل من طعامي؟

اجبتها.

- لا عليك يا خالة. سأقول لها أنني شربت من طيبة قلبك. 

سحبت منديل رأسها المنسدل خلف ظهرها.

- وماذا ستفعلون لصاحبكم.

- انه على ما يرام. لا تقلقي. 

انطلقت بنا سيارة سامر، عائدين الى بيروت. وقرب كل حاجز، كان يعقوب يميل بجذعه الى الامام ويتقيأ هواءاً.

- لابد أنه جائع.

أعرف أنه جائع. جاء هنا لأنه جائع. جوعوه بوهم الخلاص، إنْ هو تحرر من منبر الإمامة. كان مهيئاً. سافر الى الظهران، وطرق كل أبواب الخلاص. حاولت ياسمين أن تفتح له أبواباً أخرى، فلم يلتفت لها. أصبحت القصيدة شطآنه التي يَسِمُ بها قامته.

- أريد أن أقابل أنسي الحاج.

التفت اليَّ سامر.

- من هو الحاج هذا، ايش شغلته؟

- انه شاعر لبناني.

- أول مرة أسمع فيه.

صاح يعقوب بحدّة.

- يا أخي، خذنا اليه، وبلا كثرة كلام.

التفتُّ اليه بغضب.

- يعقوب.

وتماسكت نفسي.

- ما بك يا صاحبي؟‍ أتريد أن نرجع للسعودية؟

- أقابل أنسي الحاج، ثم أذهب لجهنم اذا أردت.

استلقى على المقعد الخلفي، وضمَّ ركبتيه الى بطنه.

- لقد تركت روايتك للياس خوري. وأريد أن أترك ديواني الشعري لأنسي الحاج. لا تكن أنانياً.

- أتعتقد حقاً أنني أناني.

لم أسمع ردّاً منه، بل من ياسمين. 

- بل هو الاناني. هو أكبر أناني رأيته في حياتي.

- أحقاً يا ياسمين؟

- أجل يا يعقوب. أنت دوماً تلغيني من أجل أن تظهر أمام أصدقائك متحرراً. وحين أواجهك بالتحرر الحقيقي، تهرب مني.

- أنا لم أهرب قط.

- أين الآن انت اذن؟

- وانتِ؟ أين أنتِ؟

- أنا لم أعد قصيدة بالنسبة لك. ثمة...

- ثمة ماذا يا ياسمين؟

وتدخلت.

-أرجوكما. لماذا لا تؤجلان هذا الامر لوقت آخر.

رفع يعقوب الكأس بيده عنوةً، فانسكب على الطاولة.

- سأذهب لأنام.

ووجّه الكلام لي.

- أنت في بيتك، خذ راحتك.

رددت عليه.

- أنا لم آت من الرياض للظهران لتتركني وتنام.

وبصوت ملؤه العتاب، قال لي.

- دعها تتحدث لك فيما بقي من الليل عن أنانيتي.. تصبح على خير.

صحت به.

- من الأفضل أن تنام.

هزَّ سامر رأسه مؤيداً، وظل صامتاً الى أن دخلنا بيروت. سألني.

- هل في بالك مطعم معين؟‍

- لا مطعم ولا ما يحزنون. فطائر لبنة ستفي بالغرض.

في منطقة ما بين الروشة والمزرعة، توقف سامر الى جانب محل فطائر. باس صاحبَ المحل الثلاث بوسات اللبنانية، ثم أخذ يتحدث معه لمدة زادت عن الخمس دقائق، حديثاً لا يدل على أنه مجرد زبون.

توجّه سامر عائداً الى السيارة، وعيناي تراقبان عينيه اللتين اخذتا تتلفتان يميناً وشمالاً. 

انحنى على نافذتي، واضعاً مرفقيه على إطارها.

- طلبتُ ست فطائر مشكلة. لبنة وجبنة زعتر.

تنحنح ثم سألني.

- أين المسدس؟

ابتلعت ريقي قبل أن أجيبه، فلقد نسيت أمر المسدس تماماً.

- مع .. مع .. مع يعقوب.

- الزلمة...

(أشار برأسه الى اليمين، حيث كان الفطائرجي، المختلس النظر الينا من خلف الزجاج).

- ... هو صاحب المسدس، ويسألني عنه. فماذا أقول له. أتحتاجونه مدة أطول؟

وبذعر واضح، أجبته.

- نحن أصلاً، لم نكن نحتاج له. أنت الذي أعطيتنا اياه. كنت أعتقد أنه مسدسك.

أرخى سامر رأسه على الاطار العلوي للنافذة.

- صدقني. لم أحمل طيلة الحرب مسدساً. أخي انضم الى حركة أمل، مع أننا سنّة ولسنا شيعة. في حزيران 79، زارنا بعد انقطاع ستة أشهر. نام يومين متواصلين. في ضحى اليوم الثالث، نهض، وكان أول شيء سأل عنه مسدسه. كانت أختي قد خبأته في أحد الادراج التي خصصناها في صالون البيت لأدوات الماكياج، اذ احترفتُ أنا وإياها بعد بطالة الحرب تزيين نساء الحي. وبعد قهوته، قبل افطاره، انطلقت من المسدس الذي كان ينظفه رصاصة الى جبين أمي، التي كانت قد بدأت في غزل كنزةٍ له، ابتهاجاً بعودته.

- ليرحمها الله.

 تنهد سامر رافعا رأسه ومرفقيه عن إطار النافذة.

- ليرحمنا جميعاً.

وأضاف.

- أتحتاجان المسدس مدة أطول؟

- نحن لا نحتاجه أصلاً.

- اذن لنعيده.

فتحت بابي، ونزلت.

فتحت الباب الخلفي، فاذا يعقوب يغطُّ في نوم عميق.

تحسست جيوب بنطلونه، فلم أجد المسدس. تحسست حزامه، فاذا هو في الخلف. سحبته، فانتبه، وأمسك يدي بيده.

رفع رأسه لي، وبعيني نصف نائمتين، سألني.

- لن تقتلني. أليس كذلك؟

تنهدت بهلع شديد.

- سامر يريد المسدس يا يعقوب. أعطني اياه.

استقام في جلسته على المقعد. سحب المسدس من حزامه، ثم وجهّه لي.

صاح سامر.

 - انتبه يا يعقوب.. قد لا يكون مؤّمّناً.

انفجر يعقوب في الضحك لدرجة سمعت همساً من احد المارة، وهو يهرول بعيداً.

- هذا المجنون سيرتكب جريمة.

- لقد ارتكبها يا يسرا والسلام. حطّم نصف بلاده في حربه مع ايران، وحطم نصفها الآخر باجتياح الكويت.

- في إيران كان يدافع عنكم، وكنتم تمنحونه الوسام تلو الوسام. وحين أعلن مبدأ توزيع الثروات لكي يقبض فاتورته على الاقل دعوتم الامريكان لكي يخلصوكم منه. أليس في هذا إجحاف واستغلال له.

- أراك تتبنّين الموقف الاردني. 

- ولِمَ لا يكون الموقف الفلسطيني.

- لكنكِ سورية على ما أظن، أو لبنانية على الارجح.

- أنا من كل هذا وذاك.

كانت يسرا كعواطف. ولو لم تكن،ربما لم أخترها.

حين تقبل، كانت كعواطف. حين تدبر كانت كإياها. كنت اخطيء احياناً، وأقول لها.

- أريد شاياً يا عواطف.

وترد عليَّ.

- أنا أولاً يسرا، ثانياً لديك سكرتيرة فلبينية لطلباتك. لا تنسى أنني مديرة مكتبك. وأنّ عليّ أن أرتب ماذا على الآخرين أن يفعلوا بعد وقف إطلاق النار مع العراق.

- وماذا تخالينهم يا يسرا سيفعلون؟

- يعودون لسابق أعمالهم.

- بالضبط.

- وماذا سيعبترون ما جرى؟ حلم؟ كابوس؟ فيلم من أفلام رامبو؟؟

- إلامَ تلمّحين؟

- أنت تعرف إلامَ ألمّح. لقد تعاملتم مع الحرب بعد سكود صدام الثاني على انه فرجة. اخذتم تطلعون الى السطوح، معكم كاميرات الفيديو لكي تصوروا الباتريوت وهو يدمر صواريخ العراق. كنتم فرحين. تتباهون بالنصر، وكأن انتصاركم هذا على اسرائيل.

رنَّ الهاتف، فنظرت اليها.

رفعت السماعة، بعد أن ازاحت خصلات شعرها الكثيف عن أذنها.

- لا هو ليس موجوداً... حسناً، سأبلغه أنكِ اتصلتِ.

سألتها.

- مَنْ؟

- هي ذاتها. المرأة الوحيدة التي تتصل بك.

- ولماذا قلت لها بأنني لست موجوداً.

أمالت رأسها، وهي تطالعني بشبه سخرية.

- وهل أنت موجود؟!!

عدّلت وضع نظارتي، ثم بادرتها.

- أنا؟ أبداً أبداً. لست موجوداً على الاطلاق.

- لماذا يا سيد الوجود؟ إن لم تكن انت فمن يكون.

خرج من داخلي صوتٌ لم أستطع التحكم به، وأخذ ينادي.

- عواطف. يا عواطف.

استدارت اليّ مرة أخرى، ثم أقبلت باتجاهي.. نهضت عن مكتبي مستقبلاً إياها. زرعت عيناها في عيني، حتى اعشوشبت رموشها بالدموع. أغمضتْ عينيها. 

ظللنا صامتين وقتاً، استعدتُ فيها تنورة طفولتها وهي تتطاير عن فخذيها.

- أحبكَ. أعشقكَ.

ولما لم تسمع مني ردّاً، أضافت.

- أنا لا أطالبك بأن تحبني، لكن لا تطالبني بألاّ أحبك. أنتَ وحدَك حبيبي. ليس إلاّ أنت.

- لماذا لم أقل لها بأنني أحبها؟! أحقاً لا أحبها، أم أنني خائف من نهار؟! ألم يحب نهار امرأة في حياته؟! هل أحب زوجته، أم أنه تزوجها هكذا، كما يتزوج كل الشباب بواسطة امهاتهم؟! 

توجهت لباب المكتب، وقبل أن أصله، دخلت السكرتيرة.

- الشاي يا سيدي.

- لا أريده.

طالعتني باستغراب، فبادرتها.

- ما بكِ؟!

تلعثمتْ قبل أن ترد.

- يسرا.. يسرا قالت لي بأنك تريد شاياً.

- حسناً، خذيه لها.

ثم خرجتُ من المكتب.

لم تكن لي وجهة أمشي لها. مشيت الى أن تخلصت ثيابي من خيال رائحتها. 

- هل أنت تائه؟!

التفتُّ الى الصوت الذي لا تخيّبه أذناي.

وأجابت هي على سؤالها:

- مظهرك تائه جداً.. أتشرب الشاي معي في مكتبي؟!

ودون تردد، قادتني قدماي الى مكتبها الصغير.

- ما بك؟!

- لا أعرف بالضبط. كأنني قشة تتقاذفها رياح الظلام. كأنني روحٌ يعذبها جسد. يلعن صباحها، ويغتصب مساءها.

- لِمَ كلٌّ هذا؟! لقد أوقفتْ الحرب نيرانها.

قرّبت كرسيها مني.

- لماذا لا تسافر؟!

نكّستْ رأسها وكأنها تذكرت شيئاً.

- عفواً. أقصد، لماذا لا تغير من نمط حياتك. الاشهر الماضية كانت كابوساً مريراً علينا جميعاً. وكنت أنت كلُّنا جميعاً. كنت تحمل كابوس كل واحد منا على رأسك.

لمَ أحر قولاً، أو حتى ردّ فعل لما قالته. وبتلقائية، سحبت درج طاولتها، ثم أخرجت مجموعة مدّبسة من الاوراق.

- أتذكر هذا النص.

وضعته أمامي، فهززت رأسي.

- أتذكره؟!

أجبتها.

- أجل.

وبفرحٍ له طعم حلوى الصائم، سألتني.

- وتذكر طبعاً متى كتبته لي؟!

- وكيف أنسى؟!

حقاً؟! اذن اكتب لي نصاً آخر. اخرج من كل هذا، وادخل اليّ مرةً اخرى. أرجوك.

- كيف تأتي الكتابة لي في مرارات كهذه، الدم لا يزال منكشفاً لروائح البارود الذي للتو خمد عن ليالينا. 

أمسكتْ قلماً كان أمامها، ورفعته أمام عينيّ.

- اذهب أنتَ اليها.

أذكر تماماً كيف ذهبت اليها أول مرة.

كنت حينها مشغول عن كل الذين حولي. كنت أكتب في كل دقيقة تمر بي. كنت أكتب حتى في نومي.

- أريد ألاّ يذكرني الناس. أريدهم أن يذكورا حروفي، كلماتي، وجُمَلي.

هكذا قدّمتُ لإحدى نصوصي الطويلة التي انجزتها حينذاك. في شتاء 88. في ذلك الشتاء، رأيتها. ورأتني هي. جمالها ليس سهلاً على حدقتي العين، كما عواطف. جمالها صعب، من النوع الذي لا يمكن تأويل عبقه الانثوي. لذلك، لم يثُرْ نهار في داخلي، حين ألقيت عليها تحية وجلة، وحين صرت أفتعل المناسبات، لأزورها في مكتبها، ولأدخل معها في نقاشات محمومة عن الروايات العالمية الكلاسيكية والحديثة.

لم يثر نهار. لم  أحسه ثار، ولو لمرة، على الرغم من أنني كنت أجتهد في تأويل عبقها، اجتهاداً واضحا ً.

كانت صفحة. مزيدا ً من الصفحات التي أكتب عليها. وشيئا ً فشيئا ً، بدأت أشعر أن نهارا ً يكتب لها معي. وتماديت.

صرتُ أكرر زياراتي لمكتبها عدة مرات في اليوم الواحد، وأختار الأوقات التي لا تكون فيه، لأترك لها قصاصات، أكتب فيها ما يدور في خلدي، اللحظة ذاتها. وأحيانا ً أجهز لها القصاصة في مساء، أو في صباحات أوراقي، وأتعمّد أن أكتب تاريخ كل ورقة مهما صغرت أو كبرت.

نشوتي كانت في أوجها، حين كتبتُ لها النص الطويل الأول، وحين قالت بأنه أجمل نص قرأته لي.

حضرت المرأة أخيراً فيما أكتب. حضرتْ دون أن يعبس نهار في وجهي، أو أن يشيح فتوان بوجه فقرائه عني. فماذا أرغب أكثر؟!

صرتُ أعوض بالنصوص التي أكتبها لها عن كل ما حرمت منه، منذ تعلمت أناملي صياغة قامات الحروف. صارت لي قامة امرأة أكتب لكي تستطيل في غيمي. امرأة لا من مخيلة، ولا من ادعاءات أهرب بها ممن يتلصص على مغامراتي.

صارت هي ديواني الوحيد. أكتبها، فتقرأني، وبعد كل قراءة، أنتظر مرتجفا ً أن تسألني.

- لماذا تكتب كلَّ هذا الحب لي؟!

لكنها لم تسألني قط هذا السؤال. كان سؤالها الاثير دوما ً.

- ماذا كتبت؟! ماذا ستكتب؟!

أو حتى:

- لمَ لم تكتب لتخرج من هذه الازمة؟!

- أعتقد أنني سأنتظر حياة أخرى لأتمكن، بعد كل هذا الذي حدث، من الكتابة مرة أخرى.

- لا تقل ذلك. أنت لن تقوَ على الحياة بلا كتابة. ستموت بدونها. أجل ستموت ستقتل نفسك.

تدخل سامر.

- لن يقتل أحدٌ أحدا ً. أعطني المسدس يا زلمة سنعيده لصاحبه.

خرج يعقوب من السيارة، وهو يصرخ رافعاً المسدس عالياً.

- ومن صاحبه، هاه؟! من صاحبه؟! كل اللبنانيين مسلحون. كلكم مسلحون. دمرتم بلداً كنا نحتمي به، لمجرد أن هذا ماروني وهذا مسلم، هذا شيعي وهذا سنّي.. حبيقة، عون، جعجع، الجميّل، جنبلاط، شمعون..، شيوعيون، قوميون، ناصريون، مرابطون.. أمل، عمل، حزب الله.. كذب، دجل، زيف.. طز في دياناتكم وأحزابكم وعقائدكم. شوهتمونا، فصار كل واحد منا مسخا ً.

أرخيت رأسي، فصرخ بي، موجها ً المسدس لي.

- أنت.

تحفّز سامر، فرفعت له يدي لكيلا يبرح مكانه.

- أجل، أنت. هل كنت تنوي قتلي؟!

وببرود مفتجعٍ، أجبته بسؤال لم ترتجف له شفتاي.

- ولِمَ أتكبّد كل هذه المسافة لأقتلك؟!

- لكي تخفي جريمتك النهائية في فضاء هذه الحرب.

- وهل ثمة جريمة أولية لي؟!

مدّ ذراعه أكثر باتجاهي:

- لا تصطنع البراءة أمامهم. هؤلاء لن يذهلهم مقتل انسان في شارع. الموت عندهم مثل صباح الخير بالزعتر او مساء الخير بالجبنة.

- وهل ستقتلني يا يعقوب؟!

وضع يده على بطنه، واستدار الى الخلف، وأخذ يتقيأ مزيداً من الهواء.

ركض سامر اليه، وحضنه من الخلف. التقط المسدس من بين أصابعه دون مقاومة، وساعده على مشيته.

وعلى طاولة نائية من طاولات المطعم، أخذنا نأكل فطائرنا بصمت، والفطائرجي ينظر الينا بين الفينة والأخرى.

- كيفك الآن؟!

- أريد أن أغادر.

- تغادر؟! وكيف تغادر؟!

- مثل كل الذين يغادرون. اخوك حمدان ضابط كبير، اطلب منه أن يدبر لي بعثة لدراسة الجامعة في الخارج.

- حمدان ليس أخي أنا وحدي. انه اخوك انت أيضا ً. لماذا لا تطلب منه أنت؟!

أطرق ناصر برأسه الى الارض.

- لو كان الباشا حيّا ً لما احتجت لكما.

توفي عبد الكريم بن حمدان كما يليق بمن عاش حياة ليست كحياة الذين يموتون بشكل اعتيادي.

عاد من المسجد بعد صلاة الظهر.

أخذ يقرأ القرآن على سجادته، الى أن عدنا جميعاً: فلوة، أنا، وضحة، وناصر، أما حمدان، فكان في مهمة عسكرية شمالية.

اجتمعنا على السفرة البلاستيكية الممدودة على الارض، التي انشغلت أمي وفلوة ووضحة بإعدادها، والتي لم يأكل عبد الكريم منها سوى ثلاث تمرات ورشفة من اللبن، قام بعدها عن السفرة، واتجه الى سجاته.

كانت سجائره الـ "ابو بس" على التلفزيون المغطي بقماش، ليبدو للآخرين أنه ليس تلفزيوناً.

مشى الى علبة سجائره، وفي منتصف المسافة، رجع الى سجادته المنقوش على مقدمتها صورة الكعبة. جلس جلسة الصلاة، وأخذ يكبر ويسبح الى أن أزبدت شفتاه. أغشي عليه ساجداً، ولم نعرف أنه مات، إلاّ حين رفع المؤذن صوته لصلاة العصر.

- أأنت عازم حقا ً على الرحيل؟! أأهوْنُ عليك؟!

غدوتُ وحيدا ً.

في سنة واحدة، رحل أبي ورحل ناصر.

جدران البيت ازدادت ضيقا ً عليَّ.

أمي التي غادرها زوجها قبل أن يصل للستين. فلوة التي صار عَرَقُ جسدها يشبه عرق أجساد الرجال. وضحة التي بدأت تعلق صور طلال مداح وعبد الحليم حافظ وأبو بكر سالم بلفقيه على حياض مرآتها، دون أن أقوى على تخويفها.

ووحيداً، في الغرفة التي كانت تضمني مع حمدان وناصر، غرقت أكثر في القراءة والكتابة. وحيدا ً، لا أجرؤ على استحضار امرأة، رحمةً بأمي وبفلوة وبوضحة.

- يا أم حمدان. لم يعد في التلفزيون ما تخافين منه. تعالي.

وتردّ عليّ كل مرة أدعوها له.

- هو لكم. اتركوني لحالي.

خلعنا عن التلفزيون قماشته. وعلى شاشته رأينا، قبل أن يجف قبر أبي، جثث اجتياح اسرائيل لبيروت، جثث مخيمات صبرا وشاتيلا.

- قلت لك، أريد أن أخرج من هذا البلد.

سألتني فلوة.

- لماذا كل هذا الدم؟!

أجابتها وضحة.

- لكي يخرج الفلسطينيون.

وأضافت، وهي تغمز يعينها اليسرى.

- حبايب أخيك.

سألتني أمي.

- لماذا لا تخرج أنت أيضا ً؟! لماذ تحبس نفسك معنا؟!

كتبتُ كثيرا ً. غزيرا ً كتبت. تمثلتُ الوجوه الضامئة للنور منذ هزيمتنا في 67، وحتى هزيمتنا في 86 حين ضربت أمريكا ليبيا، وحتي ضَرَبتْ اسرائيل بعدها عمق تونس، بحثا ًعن عرفات.

- لا أريد أن أخرج من هذا البلد، ليخرج منه من يريد أن يخرج.

ظللتُ أكتب لنهار. لنهارِ نهار. وليسامحني إنْ أنا بالغت.

- لا أريد. سأبقى في هذا البلد.

نزل يعقوب من درج البناية، حاملا ًحقيبته، وكنتُ قد نزلت قبله مع حقيبتي.

- ماذا تريد يا يعقوب بالضبط؟!

ودون أن ينظر في وجهي، أجاب.

- سأعود للسعودية.

وأضاف.

- اعذرني، اذا أنا أفسدت عليك رحلتك.

- لا داعي للاعتذار. سأعود معك.

أوصلنا سامر لمحطة باصات الشام، بعد أن مررنا بجسر "البربير"، حيث المعتّرون اللبنانيون والسوريون يفترشون الطرقات ببضائع من كل نوع، من دخان المارلبورو والبيرة الهينكين، حتى تلفزيونات سامسونج ومكيفات ميتسوبيشي.

كانت تلك الارصفة بمثابة الصورة الاخيرة التي تراكمت مع صور الدمار الهائل في ساحة الشهداء، وفي خط التماس بالاشياح، وفي فنادق الجورج سانك والهوليداي ان والكارلتون، وفي عاليه، في الاوزاعي، في الجديْدة. في شارع الحمراء الذي لم يبقَ من جَدَل وحوارات مقاهيه، سوى رائحة الكابتشينو والاكسبريسو.

كان الظلام الجليدي الذي عمّ صيف لبنان، يشبه ظلامنا المثنّى. ظلامي وظلام يعقوب، الذي ظلّ صامتا ً طيلة سفرنا الى دمشق ثم الى رفحة ثم الى الرياض أنا، والى الظهران هو.

لم أحتمل.

طرقتُ باب مكتبها، فلم يجبني أحد. فتحت الباب، وعلى ورقة صغيرة، كتبت لها:

"عدت من بيروت".

- لم تكتب شيئاً هناك، أليس كذلك؟!

منذ النص الثالث، لم أكتب لها شيئاً. حتى قصاصاتي توقفتْ. ولم تكن تسألني لماذا توقفتْ. انا الذي كنت أسأل نفسي طيلة ما بعد كل نص.

- لماذا هي؟!

مع عواطف، كنت واضحا ً. قلت لها بأنني لا أحبها، لا هي ولا غيرها. حسمت الامر مع عواطف حسما ً قاطعا ً. أما في نصوصي الثلاثة لها، بدوتُ عكس ذلك تماما ً.

- لماذا هي اذن؟! هل لأنها عكس عواطف لا تطالبني بشيء، ولا تنتظر مني سوى الكتابة؟!

كانت حين تراني خارج الكآبة، تخرج من درجها بعض القصاصات وتقول.

- اقرأها لي.

وكنت حين أقرأ قصاصة، تحمَّرُ ابتسامتها، وتطير حول عنقها المتسامق عصافير تفوح بالبخور. ولما كنتُ أستمطر من عينيها موسيقى تكافئني بها لقراءتي ، تبوح.

- ما أجمل ما تكتبه بصوتك.

فأضطر بعد هذه المكافأة الجائرة، للمغادرة.

عدتُ بعد النص الأول والنص الثاني والنص الثالث لها، أكتب لنهار، لا لسواه. ليس لأن طهارة ما كتبته لها، أسأل خيطا ً من رجسي على ليلها، بل لأن شيئا ً ما كان يضغط على أصابعي، راسماً سيروة ضخمة لا كتابة عليها. كان فتوان. وكان يعطيني القلم تلو الآخر. هكذا، كانا يفعلان معي دوما ً، حين يشتعل طرفٌ من رداء الخارطة التي كنت ألهو كطفل على حدودها البيضاء والسوداء، معللاً نفسي ببرد محيطها ودفء خليجها.

اشتعل الخليج.

فرّ نهار عني، فلم أعد أطيق الورقة. وخمّنت أن نهاراً لن يظهر لي مرةً أخرى. ربما كان يريد أن أفعل شيئاً لأمنع الكارثة.. أيعقل أن يكون بهذا القدر من السذاجة، ليعتقد أنني قادر على أن أدفع مؤامرةً كونية بأصابع عزلاء؟!

جوع. نعم جوع. كان جوعاً يا فتوان وسيصير جوعاً. لكن، ماذا بيدي أن أفعل؟! إنني لا أرى أصابعي. لا أراها يا نهار. لقد غدوت بلا أصابع.

حدسي قال ان نهاراً سيذهب بلا رجعة. من مثله لا يرجع لخارطة تأكل نفسها. من مثله اذا لم يُلْهمْ، يلتهم نفسه، وينفث رماده في الرياح المتلاطمة.

تلاطمت رياح الخليج. غزا من غزا. أتى من أتى، وانتهت المأدبة بحفلة صغيرة في صفوان، تصافح فيها العدو مع العدو. وأطفأوا معاً شمعة واحدة على تورتة قش عليها بالسكر: فبراير 1991م.

في شرفتي المطلّة على النيل، سألت نفسي.

- ماذا ستكتب؟!

واستغربت. لماذا أسأل نفسي هذا السؤال؟! بل: كيف أسأل نفسي هذا السؤال؟! منذ متى أنا حرٌّ لأقول لنفسي: ماذا ستكتب؟! إنها المرة الأولى. أجل المرة الأولى، التي أتحرر فيها من فقراء نهار، وجوع فتوان.

كيف تحررت؟!

هل لأن هذا زمن لا يليق بنهار؟! هل لأن نهاراً اختار أن يختفي دون حتى أن يلوّح لي تلويحة وداع أخيرة؟! هل أحمّله مسؤولية هذا الهروب، أم أحملها نفسي.

- سأكتب لها، ولن أكتب لغيرها.

لقد غدت نهاري الجديد. نهاري الذي يبذر لي الضوء في غياهب أنقاض تساقطتْ حجارتها على ذاكرتي الموبوءة، منذ مشيمتها بالحروب. هي التي انتشلت أشلاء صراخي، وقالت لي. 

 - أصرخ.

في الشرفة، صرخت لها بأعلى حبري. وحين طرقتْ عليَّ باب صراخي، فتحت لها مشارف النص الأول، فلم تصدق ما قرأته.

- لقد عُدْتَ لي.

- اعتبري أنني لم أعد. قولي لكل من يتصل بي أنني لست موجوداً. هل هذا غريب عليك يا يسرا؟!

- ولماذا الانفعال؟! سأقول لهم انك لم تعد. وأنك لا تزال في لبنان. لكن لا تنسَ. لقد نصحتك ألاّ تذهب.

رفعَتْ خصلات الشعر المتساقط على جبينها، ثم أضافت.

- هنالك فرق بين نصيحتي لك بالذهاب لبيروت في الـ 92، وبين ذهابك لها بمحض اختيارك في الـ 97. في المرة الاولى، ذكرت لي بأنك تحتاج أن تأخذ صاحبك يعقوب الى بقعة تنسيه دماره. ولأنني أعرف كم أنت متعلق بصاحبك الشاعر، ولأنني لا أريد أن تفوتك فرصة رؤية دمارنا قبل إعماره، لتكون انت وإياه شاهدين عليه، ولتعرفا معاً أن أي دمار آخر ليس إلاّ مطراً خفيفاً هطلته السماء لأن مزاجها كان متعكراً ليس إلاّ، نصحتك بالذهاب لكي ترى ماذا فعل المطر الحمضي بنا.

ضحكتُ ساخراً.

- السوليدير يا سيدتي أقوى من كل حمض. لقد أذاب الدمار، ردم البحر، خصّر الفتيات، وأحالكم جميعاً الى جرسونات في ملهى كبير. وما هي إلاّ سنوات قليلة، وينقشع رسم الأرز من رايتكم، لتحل محلها صورة رفيق الحريري.

اقتربتْ من طاولتي.

- وأصحابك؟! ألم تقابل منهم أحداً؟!

- آه يا يسرا. فيروز، التي هي فيروز، لم تشارك هذا العام في مهرجان بعلبك، الذي تدين له بشهرتها.

- فيروز هي الغلطانة. لقد طلبت مبلغاً خيالياً.

- هذا ادعاء حريري جداً.

- لماذا اذاً تحيي حفلاتها في دبي سنة تلو سنة.

- لكي تقول أن أصحابي لا يزالون على قيد الحياة. انها تسجل موقفاً.

- أنت تدافع عن أصحابك لا أكثر. فثلاثة أرباعهم في لندن وباريس، والربع الباقي الذي اختار المواجهة اليومية، داخل الدمار والعذاب، صامتون.

أحسست أنني يجب أن أصمت، لكنني أثرت أن أثور.

- الى ماذا تلمحين؟! أتريدين أن تقولي أنه برغم المسافة بين لبنان وهنا، فإن الحالة هي الحالة. ان الصمت هو الصمت. ان الهجرة هي الهجرة.

مسحت جفنيها بأصابعها.

- الصمت أجل. الهجرة لا أدري.. لا أدري اذا كنتم تهاجرون. 

وأضافت متسائلة.

- أقصد، لماذا تهاجرون؟!

- ولماذا لا نهاجر؟!

دون أن تستأذنني، جلست على الكرسي المواجه لي:

- لنأخذك كمثال. انت تتبوأ وظيفة قيادية في مؤسسة حكومية راقية، راتبك كبير. تمتلك منزلاً لا يعيش فيه سوى امك واختك فلوة. لديك سيارة امريكية وهاتف خليوي، ومحطات فضائية مشفّرة وغير مشفّرة.. اذا هاجرت أنت، فماذا سيفعل الذين يعيشون بأجور الساعات، والذين لا يجدون آخر الشهر ما يسددون به فاتورة واحدة من فواتيرك الباهظة؟!

نهضتُ من مقعدي، لأوحي لها بأن تذهب لمكتبها، لكنها أكملت.

- لا تقل لي بأن بيتك مرهون بقرض. وأن راتبك الكبير ينتهي قبل نهاية الشهر. كل هذا حفظناه، وحفظنا أيضاً أنكم أيها السعوديون تسخّرون العمال من كل الجنسيات لتثروا من عرقهم، وأنكم تستطيعون أن تخلقوا من لا شيء أشياء كثيرة، تدر عليكم المال. من خلال صديق مهم في الدولة. من أمير لا يعرف كيف يكتب الشعر، من ثري يحب الونس. الفلوس لديكم تطلع من كل مكان، وبعد كل هذا، تخرجون علينا بقصائد حرمان واضطهاد وانكسار. ان محروميكم ومضطهديكم ومنكسريكم، مجموعة من الاغبياء الذين لا يعرفون كيف يستثمروا غباء هذه البلاد، التي يصل فيها سعر مطرب يحيي حفلة خاصة بين أربعة جدران الى مليون ريال.

عدتُ وجلست، بل بركتُ على مقعدي.

- صاحب البنك  لا يضيره أن يدفع مثل هذا المبلغ على مطرب أو مطربة، طالما أن المشاريع تكتب باسمه قبل أن تفتح مظاريفها. لكن الناس يا يسرا ليست بنكاً أهلياً. انهم يتمسكون بجلودهم لكيلا تنقشع البداوة عنهم. أنتِ لا ترين سوى أصحاب زوجك، تجار ملابس سويقة الجديدة، الذين يتهافتون للمال على حساب نساء ينخدعن باسم ماركة باريسية مزيفة، زيفوها هم، زوجك وأصحابه، وباعوها على هؤلاء الساذجات بأسعار باريس.

أحسست أنها ستنهض من مقعدها، وتتركني، لكنها لم تفعل.

- أسعار باريس، اسعار روما. نساؤكم يشترين في كل الاحوال.

أمسكتُ قلماً كان بجانب أصابعي. نقرتُ بغطائه على طاولتي أكثر من مرة.

- يسرا. لقد مللت من هذا الهراء.

- حسناً. حسناً. سأتركك.

فتحتْ باب مكتبي، وقبل أن تخرج، استدارت.

- اختك وضحة اتصلت قبل ساعة. تريدك أن تتصل بها.

استدرت الى الهاتف، وطلبت رقمها، قم سمعت صوتها.

- أين انت؟!

وأضافت.

- قلقنا عليك. اتصلتُ على أمي فقالت لي أنك خرجت باكراً، وأنها لم تسمع منك حتى الثالثة عصراً.

- تعرفين يا وضحة ان دوامي ينتهي الرابعة عصراً.

- ولِمَ لمْ تخرج حتى الآن.

طالعت ساعتي، فاذا هي تتجاوز الرابعة والنصف.

- يا الله.

- ولا تنسَ أن تمر عليّ. هناك أغراض أريدك أن تأخذها لأمي.

- أغراض. أية أغراض؟!

- أعشاب للسكّر. مدحوها لي كثيراً. عسى أن تنفع معها.

- يا حبّكِ يا وضحة لهذه المسائل.. أمي تأخذ أدويتها باستمرار، وتراجع الطبيب بانتظام. دعيها في حالها.

- الادوية التي أنت فرحان بها لم تنفع معها. ها هي، لا تزال تعاني من الهزال وانعدام الشهية للطعام. حبيبة قلبي فلوة لا تترك طبقاً شهياً إلاّ وتطبخه لها، ولكنها كما ترى. لا تأكل إلاّ ما يحميها من الهبوط السكري.

- دعي أعشابك لكِ، واهتمي بنفسك وبابنك عبد الكريم.

- على فكرة انه يسأل عنكِ دوماً.

تنهدتُ، لكنني تمالكتُ نفسي.

- والله لو بيدي، لزرته يومياً، لكنك تعرفين..

- أعرف ماذا؟! انك وزوجي لستما متفقين؟! لماذا اذن زوجتني اياه؟!

- يا وضحة. يا حبيبتي. لقد كان خياركِ أنتِ وليس خياري. أكنتِ تتوقعين بأن أرفضه لمجرد أنه إنسان بلا اهتمامات وبلا موقف وبلا وجهة نظر. هل كان بامكاني أن أشتري له من السوبرماركت علبة فكر مركّز واسقيها اياه قبل أن أزفك اليه.

- زفاف؟! هل تسمي هذا الذي كان زفافاً. لقد كان وليمة عشاء عائلية. شوية بخور وزغرودتان وفستان أبيض جاهز، وكان الله بالسر عليم.

- يا بنت الحلال. لقد عشت بعد خطبتك أزمات لا يعلم إلاّ الله حجمها. أمي لا تريد تزويجك قبل فلوة.. فلوة انصرفت عن الطعام، بشكل لا ارادي، حزناً على حظها، معتقدة أنني لم أنتبه لهذا الامر.. أنتِ صرتِ تطالعين في وجهي حين أدخل البيت وحين أخرج منه طيلة اسبوعين منتظرة أن أناديك لغرفتي وأخبرك بموافقتي. ولم يكن أمامي بعد ذلك إلاّ الموافقة. وادّعيتُ أنني لست من أنصار حفلات الزفاف، حفاظاً على مشاعر فلوة.

سمعت صوتها، وهو يجهش ببكاء لم يطل.

- وضحة. هل لو كان الزفاف في فندق انتركونتيننتال وبحضور مطربات مشهورات، سيتغير حال حياتك مع زوجك اليوم. خليك عاقلة، وفكّري في اختك المسكينة التي تغلق على نفسها وعلى كراريس طالباتها الباب من بعد صلاة العشاء، ولا نراها إلاّ في صباح اليوم التالي. وطوال بقايا اليوم وهي في شجار لا يتوقف مع الخادمة و زوجها الاندونيسيين.

- يعني لن تمرّ عليّ؟

- بلى. سأمرّ عليك لأراك وأرى عبد الكريم. لكن سامحيني لن آخذ منكِ لا أعشاب ولا غيره.

في الطريق الى بيتها، فكّرتُ بالجنة التي غادرتني بلا رجعة.

- لن أسامحك.

لم أكن لأسامح نفسي. فبعد عودتي من القاهرة، احسستني لا أنتمي لكل الذي صار يدور حولي.

- قم يا ابن الحلال. اترك عنك وظيفتك هذه وشاركني في المحل الذي أنشأته لبيع وتركيب الدشوش. الدش الكبير يصل سعره اليوم الى ثلاثين الف ريال، والمكسب مئة بالمئة. نصف لي ونصف لك.

- دشوش؟! دشوش يا عبّاد؟!

- أجل دشوش. أتستهين بها. لقد فقدت الناس بعد الحرب ثقتها في اعلامك العربي العظيم. في الكذب الذي لا ينقطع. أجل، دشوش. ريموت كونترول صغير، وتضغط على أحد أزراره، فتخرج لك الـ CNN لتقول لك الاحداث، حتى قبل أن تحدث. واذا ملّيت من الاخبار، اقلب على تركيا او على اسرائيل، وتعال يا حلو. بنات ورقص اربع وعشرين ساعة. والميزة المهمة جداً، أنه لو جاء الف جهيمان، لن يستطيعوا إيقاف هذا البث. أقول لك اربعين خمسين محطة، والجايين أكثر.

- لا. لا. من المؤكد أنك جننت. أتريدني أن أترك وظيفتي من اجل صحون تستقبل البنات والرقص؟! لا. وظيفتي أبرك كثيراً لي.

أسند كفيه على طاولتي، وحمّر لي عينيه.

- أتعرف كم نحن مدينون للولايات المتحدة؟! أتعرف كم حجم الفاتورة التي يجب أن نسددها.

- أجل أعرف، 80 مليار دولار.

- يا متابع أنت.. وتعرف من أين سيسددونها ربعك. من ظهرك يا غشيم. أقسم أنهم سيقتصون من راتبك بشكل مباشر وغير مباشر، الى أن تتسلف أنت وغيرك من زملائك في منتصف الشهر. عهد الرخاء والهناء انتهى. روسيا والصين ضاعوا في النظام العالمي الجديد. نظام امريكا هو السيد يا حلو. وما تريده أمريكا يصير. تجوع هؤلاء، وتشرد اولئك. تدمر هنا، وتعمر هناك. كل العالم الآن فروع لشركة كبيرة اسمها البيت الابيض، ومقرها واشنطن دي سي يا حبيبي. ولو نرفع بوزنا الآن، في هذه اللحظة، لرفع جورج بن بوش اصبعه الصغير لصدام حسين ليغزونا من جديد.

- ارفق على نفسك يا صديقي. ارفق على لوزتيك. كأني بهما ستسقطان على مكتبي.

- مكتبك؟!! لينفعك مكتبك.

كأنه قرر الخروج، لولا أنه تذكر شيئاً على ما يبدو.

- اسمع. سأقول لك شيئاً مهماً.

- هات يا الوليد بن طلال.

- أتسخر مني قبل أن تسمع ما أريد قوله؟!

- أنا لا أسخر. أنا فقط أتمنى لك الحظ في مشروعك الكبير هذا. هل تكره ان تكون بثراء الوليد يا صديقي، يا زميل دراستي.

- دعك من الوليد الآن. ما اردت قوله هو أنني تعففتُ عن التجارة في عهد الطفرة، حين كان كل شيء يتحول في أيادي الناس الى ذهب. وأثرى من أثرى، وأنا ومَنْ مثلي متحصنين بالمثاليات وبالاخلاقيات، باعتقاد منا ان الفلوس تخرّب النفوس.

- أليست هي كذلك؟!

- اليوم، لا. انها جوازك للدخول في كل المناطق المحظورة، في كل الابواب المغلقة. اليوم يا صديقي صارت كل المناطق محظورة، ملغّمة ومغلقة.

- أرجو ألاّ يكون بابي واحداً من هذه الأبواب.

شوّح بيده في وجهي.

- أي بابك يا رجل؟! والله لو تركته مفتوحاً أربع وعشرين ساعة ووضعت جائزة لمن يدخله، لما دخله أحد. غم وهم وكآبة. 

وأضاف ضاحكاً ضحكةً ساخرة، وهو يهمّ بالمغادرة.

- أجيؤك كي تشاركني في مشروع ستغنم منه ذهباً، فتقول لي: هل جننت لأترك الوظيفة؟! بِلْ وظيفتَك واشرب ماءها عند اللزوم.. نهارك سعيد يا: "هل جننت".

سألت نفسي بعد خروجه.

- نهاري؟!

فكأنني تذكرت موعداً لزلزالٍ نسيت أن أبلغه للناس.

- نهاري؟! حقاً: أين نهاري؟! هل يفعلها ويرجع لي؟!

في المساء، أخرجت أوراقي، وعاهدت نفسي.

- سأجعله يعود لي رغماً عنه. سأكتب له ما يريد.

لم أعد ازورها في المكتب، ولم أعد أرد على اتصالاتها. وفي صباح لم تغفُ عينيّ قبله، وجدت على مكتبي تمثال "بوذا" كُتبَ علي قاعدته: الرجاء عدم الازعاج، ففهمتُ أنها فهمت أنني منشغل بعمل طويل لا علاقة لها به. عمل ملّت مني لأجله جدراني. ملّتِ الدماملَ التي كنت أضغطها بأصابعي كل ليلة لكي تنزف قيحاً. ملّت اللطم المتواصل مساءً بعد مساء، شهراً بعد شهر، على صدر لا ذنب له سوى أنه صندوق ملّ الكتمان.

- أنت لم تعتد أن تخبيء عني شيئاً. قل لي: لماذا تريد أن تأخذ يعقوب بعيداً عن الظهران.

- ولماذا تعتقدين أن ثمة سراً؟!

- لا أدري أنا لست مطمئنة. احساسي يقول أن هناك ما تخبئه عني.

- اطمئني ليس في الامر ما يستدعي قلقك.

بعد صمتٍ، أخذتْ معه تعبث ببعض الاوراق التي على مكتبها، قالت.

- خذ معك النص الذي انجزته معك الى بيروت.

قلت لنفسي بعد أن غادرت مكتبها.

- لماذا لم تطلب مني أن آخذ معي نصها الأول او نصها الثاني؟! لماذا تطلب مني أن آخذ نصاً لا تعرف عنه شيئاً ولا يمت لها بصلة.

والأهم من ذلك كله:

- لماذا لم يعد نهار، بعد كل أشهري في هذا النص؟!

عدتُ من بيروت ولم يعد نهار. حتى يعقوب، لم أعد أعرف عنه شيئاً.

- هكذا اذن؟!

قلت للطارق.

- ادخل.

أطلّ وجه نوراني. وجه من تلك الوجوه التي تحب أن تستأذنها لتوزع ملحها على الاصدقاء لينتعشوا.

نهضت لها، وأمسكت الباب الى أن دخلت.

على "الصوفا"، جلست معها قبل أن أعرف ماذا تريد.

وضعتْ ساقاً على ساق، فاختنق مجرى الهواء الذي كنت أتنفس به.

قلت لها.

- أمرك يا سيدتي.

بدلال تتساقط له تيجان الاباطرة.

- أبداً. معي لك رسالة.

- مِنْ مَنْ؟!

- لا يهم منْ مَنْ. المهم فحواها.

- وأين هي الرسالة.

ابتسمتْ.

- لا انها رسالة شفوية.

- وماذا تقول؟!

- تقول انك تافه وحقير.

قالتها، وهي لا تزال تبتسم ابتسامة تشعُّ بعطر لم أشم له مثيلاً.

- وماذا أيضاً يا سيدتي؟!

- لا هذا كل شيء.

- سأكون سعيداً أكثر، لو حملت رسالتك المزيد.

فتحتْ حقيبتها. أخرجت مرآة صغيرة، وأخذت تطالع بها شفتيها.

- أحقاً تريد المزيد؟!

- أجل.

- وما المزيد الذي تريده؟!

- أي مزيد. لا يهم.

- أتريد أن تنام معي على هذه الصوفا.

- يشرفني ذلك اذا كنتِ ترغبين بذلك حقاً.

- ألم أقل لك أنك تافه و حقير.

- أهذا لأنني ألبّي لك طلبك؟!

- أنا لم أطلب منك أن تنام معي. أنا سألتك سؤالاً. مجرد سؤال.

- وأنا أجبتكِ.

- ولماذا لم تقل لي: لا. لماذا لم تقل: كيف أنام مع امرأة لا أعرفها. 

- ثلاث أرباع رجال الارض ينامون مع نساء لا يعرفونهن.

- والربع الباقي ينامون مع نساء يعرفونهن.

- لا. أنت مخطئة يا سيدتي. الربع الباقي ينامون مع نساء يجهلونهن. 

- وأنت؟! أتحب أن تنام مع امرأة لا تعرفها، أم أمراة تجهلها؟!

- أحب أن أنام مع امرأة لا تعرفني.

- لكنني أعرفك. أعرف أنك أتفه رجل على وجه هذه الارض.

- ولماذا انتِ حريصة على اظهار مفاتنك لي ، وعلى المحافظة عليها متقدة.

- لأنني إن لم أفعل، لما استقبلتني، لما فتحت الباب لي، ولما اجلستني الى جانبك.

اقتربتْ مني. وضعت ذراعها الايمن خلف ظهري.

- أتشتهيني؟!

مررت يدها على كل ظهري، على صدري، وحين قبضت أصابعها على حوضي، قلتُ لها ببرود.

- ألا ترينني نائماً؟!

وأضفت، وهي هناك، واقفة خلف الباب باستحياء شديد.

- الذي يناوب طيلة الليل في مكتبه، ماذا يفعل في الصباح؟!

- يذهب الى بيته لينام هناك.

فركتُ عينيّ.

- معك حق يا يسرا. اطلبي لي شاياً، لكي يساعدني للوصول للبيت.

- لكنك لم تناوب من قبل. منذ وقف اطلاق النار، لم تناوب. هل طرأ طاريء جديد؟!

همهمتُ.

- طاريء؟! أرجو أنه طاريء.

- ماذا قلت؟!

- قلت الشاي يا يسرا.

سألت نفسي.

- ما هذا الطاريء؟!

- مجرد طاريء، أردت أن أشرككَ به معي. أنا الآن في فلوريدا. سأقضي هناك شهر اجازتي السنوية.

- مشارف نص جديد؟!

- ألا أستحق؟!

- انتِ تستحقين كل شيء يا مشارفي.

- اذن تعال. ستكون هذه الرحلة هديتي لك بمناسبة انجازك للنص الذي انشغلت به طويلاً عني.

بذنْبِ شديد، ظل يساورني، سألتها.

- لماذا لم تطلبي مني هذا النص؟!

- ولماذا أطلبه منك، طالما لستُ جزءاً منه.

- وكيف عرفت انكِ لست جزءاً منه؟!

- هل أنا جزء منه؟!

فوجئت بسؤالها، الذي أعادته.

- أنا أسألك. هل أنا جزء منه.

- لا .. لا .. ولكن..

- اذن لماذا أقرأه؟! أنا أقرأ في الاسبوع نصاً، نصين ثلاثة، لكنني أنتظر دهراً نصاً تكتبه لي. لي وحدي.

- وهل ستنتظرينني في المطار؟!

- سأنتظرك.

في مطار نيويورك، سألني موظف الجوازات.

- كم المدة التي ستقضيها في الولايات المتحدة الامريكية يا سيدي؟!

أجبته بثقة الذي يسافر لأمريكا كل اسبوع.

- لقد كتبت هذه المعلومات في الكارت. أيجب أن أعيدها عليك؟!

- أجل يا سيدي.

- سبعة ايام على الاكثر.

ناولني الجواز.

- مرحباً بك. أرجو أن تستمتع بزيارتك الاولى لنا.

كان مظهري وأنا أدخل الجواز في جيبي، يقول.

- لعن الله الطيب فيكم.

حين أعطيت جوازي لموظف المغاردة، قلت بصوت مسموع.

- لعن الله أبو أبو الطيب فيكم.

واستغرب الذي كان خلفي، والذي صار الى جانبي في الطائرة.

- لماذا اذن تأتي الى بلادهم؟!

- لأن أخي الأصغر يدرس هنا. وأنا مضطر لزيارته والاطمئنان على أحواله.

- وفي أي مدينة يدرس؟!

- في ميامي.

- علوم طيران؟! أليس كذلك؟!

ولأنني أعرف ما الذي يدرسه الطلبة السعوديون في ميامي قلت له.

- أجل.

مع انه يدرس في كندا، وليس في أمريكا. يدرس علوم الحاسب الآلي، وليس علوم الطيران. فأنا الذي حذرته. 

- لا تختر دراسة تجبرك على التنقل. لا تكن كحمدان، الذي دفع ثمن العسكرية غالياً. فلا هو عاش كما يجب، ولا جعل من يحبونه يعيشون معه. وردة المسكينة صارت فتاة عشرينية، ولا تزال الى الآن تنام في حضن أمها عائشة. وعائشة نفسها لا تزال الى الآن تتصل بأمي، من سكن الضباط الذي منحوه لحمدان بعد طول عناء: لقد دخلت أنا ووردة لكي ننام. ولا تزال الى الآن تتصل بأمي لتقول لها: لقد صحونا أنا ووردة من النوم. أما حمدان، فإنه لا يزال يتنقل من مدينة الى مدينة بحثاً عن لمعة إضافية على كتفه. هو الآن في آخر المطاف في معسكر في رفحة. في ملاجيء الجنود العراقيين الاسرى، او الجنود المستسلمين طواعية او المدنيين الفارين من العراق.

- هناك، القتل على أشدّه. الاغتصاب على أشدّه. مخدرات. أبناء سفاح. جهل. أمية. والمطلوب منا أن نواجه كل هذا بسعة صدر، كي لا يقال عنا أننا نضطهد هؤلاء المساكين. كي لا تزعل علينا روسيا وفرنسا.

- نحن زعلانون منك. أمك وفلوة وأنا زعلانون. زوجتك عائشة وابنتك وردة زعلانتان منك. اترك المعسكر وتعال، ولو لعطلة اسبوع واحدة. الترقية لن تطير عنك، اذا أنت أعطيت لأهلك حقوقها.

- نحن في حالة حرب يا أخي.

- الحرب انتهت يا أبا وردة. وطالما لم تغنم بشيء الى الآن، فلن تغنم بشيء بعد ذلك.. تعال يا حمدان. وردة الآن تحب أغنية "بتْوّنِس بيك". وأعرف أنك تحب كل أغنية تغنيها وردة. تعال قل لابنتك الوحيدة، أنك تتونس بها.

- اسمعني يا مهبول انت. أنا أشقى وأتعب لأجل إبنتي وزوجتي. حياة معسكر رفحاء لا يحتملها أحد. لا يحتملها على الاقل ضابط برتبة عالية مثلي. أنا أحتملها من أجل سواد عيون وردة. أنا أريد أن أصل لمرتبة يكون راتبها التقاعدي كافياً لقضاء متطلباتها، الى أن تتزوج.. أرجوك، اترك عنك الصورة التي دوماً تخنقني في اطارها، بأنني لا أبالي سوى بنفسي، فأنا من ظهر رجل منح للناس كل شيء، ولم يأخذ لنفسه سوى كفن أبيض، أنت الذي فككت رباطه، وانت وجّهت الرأس منه للقبلة، وأنت الذي اطمئنيت أن اللبنة التي توسّد عليها كانت رطبة، رطبة جداً، قبل أن تنثر قبلي التراب الاول على قبره. أنت الذي استقبلت عزاءه في المقبرة قبلي، وفي البيت قبلي، دون أن أحمل ضغينة عليك، لأنك كنت دوماً الى جانبه. وكنتُ أنا دوماً....

- لا تعطِ المسائل يا حمدان أكثر من حجمها. أنا مشتاق لك. هذا كل شيء.

- شوقي يفوق شوقكِ.

- تعال اذن. أريدكَ أن تقرأ لي شيئاً من نص فلوريدا. يا الله ما أجمله.

- أهو أجمل من نص القاهرة؟!

- أنا لا أفاضل بين نصوصك. لكل نص طعمه الخاص. لكن نص فلوريدا بقي معي منذ رجوعنا وحتى اليوم. أقرأه كل ساعة وكل دقيقة. أعجز أن أصف لك مدى حميميته. ربما لأنكِ قلبتَ الراوي فيه. جعلته هي بدل هو. جعلتها هي تكتب له، بعدما كتب لها هو، وحافظت على روح عنوان النص الأول، وكأنك تريد من القاريء أنه يكتشف رحلة ثانية لمشارف جديدة، وبراوٍ آخر.

كنت سأقول لها.

- أنا لم أتعمد قلب الراوي. هو الذي انقلب من تلقاء نفسه.

لكنني أثرتُ أن أصمت.

- لماذا أنتَ صامت؟! ألن تأتي؟!

- أنا مزدحم بالعمل اليوم.

كانت الى جانب الهاتف نسخة من نص فلوريدا. قلّبت صفحاتها، فهبّت منها رائحة مهاجري كوبا والمكسيك.

لقد هاجر هذا النص مني اليها. حاولتُ أن أستبقيه، ففشلت. كتبتُ ومزقت. لا. لم يكن لنهار أية علاقة. كان شيئاً ما، لم أستطع تفسيره، ولم يخرج من بين أصابعي، بعد كل هذا، إلاّ سطراً، ليس لي. تمعّنتُ فيه، فوجدته من صلب لغتي. لكنه، ليس لي. انه لها. لكن كيف أتى الى ورقتي؟! أخذت ألاحق السطر تلو السطر لأكتشف حقيقة ما يحدث الى أن اكتمل النص. أهديته لها في مقهى يملكه تشيلي مهاجر، وقلت لها.

- هذا النص منكِ لي. وأنا أقبله.

ادخلتُ النص كاملاً في درجي، فرأيت تمثال بوذا، وهو لا يزال يرجو عدم الازعاج، فأشفقت عليه. وحيداً، ناسكاً، متخشباً، عارياً. وفوق هذا كله لا يريد أحداً أن يزعجه. دعهم يزعجونك. دعهم يملأون حياتك بالفوضى والضجيج. دعهم يشاركوك نسكَك. دعهم يرطبوا خشبك الجاف أيها المبشر الساذج.

أمسكتُ التمثال من عنقه، ورميته في الزبالة.

- أنت فعلاً تافه و حقير.

أين أجدها؟! أين أجد تلك المرأة؟! أتكون عواطف هي التي أرسلتها للانتقام مني؟! وما مصلحة عواطف من هذا كله؟! أنا لم أتحسسها. صحيح أن جسدها كان يثير مخيلتي منذ كانت نحيلة الى أن اكتنزت مفاتنها، لكنني زهدت بها وبغيرها، وصارت المرأة بالنسبة لي مجرد كائن أتجنبه.

لماذا اذن أبحث عن تلك المرأة الآن؟! ألكي أنام معها على صوفة المكتب، وأُلهب نار جسدها بجمري لكي نتقد معاً؟!

- أين يسرا؟!

- في الغداء يا سيدي. ستعود بعد نصف ساعة.

- اذا اتصل بي أحد، أنا خارج المكتب.

وبغير هدى، صرت أذرع الممرات، من ممر الى ممر، وعيناي ترصدان كل امرأة تعبر يميني أو يساري. المتغطيات، المتحجبات، الكاشفات. العربيات والاجنبيات. الطويلة، القصيرة. البدينة، النحيلة. السمراء، البيضاء. القبيحة، الجميلة. وكأنني أَراهُنَّ لأول مرة.. ليس كأنني، بل لأنني.

قادتني خطاي الى المطعم، ولم أكن جائعاً.

دخلت، فلمحتُ يسرا ومعها مجموعة من زميلاتها، على طاولة في أقصى المطعم. اتخذت مقعداً بعيداً عنها، وشغلتُ نفسي بقراءة قائمة الطعام. وبين كل لحظة وأخرى، كنت أسترق النظر الى الطاولات التي انتشر عليها الموظفون والموظفات، والذين انشغلوا كلهم باستغلال كل دقيقة من ساعة الغداء، ليعودوا بعد ذلك لمكاتبهم. أما أنا، فلم أكن منشغلاً بشيء سوى بمراقبة كيف كانت تأكل تلك المرأة، وكيف تشرب ذيك. كيف تجلس هذه على الكرسي، وكيف تقوم الاخرى عنه.

- غريبة.

- ما غريب إلاّ الشيطان.

التفتّتْ الى زميلاتها وقالت لهن.

- أعرِّفكنّ على رئيسي.

قمت عن كرسيي، وصافحتهن أربعتهن، واحدة واحدة، دون أن أركز على أي منهن.

قالت لي ثالثهن.

- أنت رئيس يسرا اذن؟! 

رددت عليها مبتسماً، ومدفوعاً بإحساس قوي تجاهها.

- هكذا تقول ادارة شؤون الموظفين.

- ولكنك تبدو أصغر سنّاً منها.

- أنا رئيسها ولست زوجها.

فانفرطت بالضحك.

وقبل أن تغادرنَ، همست لي يسرا.

- هل والدتك واختاك بخير؟!

- الحمد لله. لماذا تسألين؟!

- لأنك لم تعتد أن تتناول غداءك هنا.

- دعكِ من هذا. صاحباتكِ ينتظرنكِ على الباب.

كنتُ أراقبهن، وهنّ تخرجن. كانت الثالثة آخر مِنْ خرج منهن.

ارسلت لي نظرةً بعينين ضاحكتين، وحرّكَتْ لي أصابعها، وكأنها تقول.

- الى اللقاء. أو وداعاً.. لا أدري أيهما.

أخذت أقرأ قائمة الطعام ببطء شديد، محاولاً أن أجد طبقاً أشتهيه، دون فائدة. أطبقت القائمة، ثم خرجت.

- ألم يعجبك الطعام؟!

- لا يمكن لإنسان يا فلوة، إلاّ أن ينحني لطعامك احتراماً.

- لماذا لم تأكل اذن؟!

- لقد كانت لدينا مناسبة في المكتب. جاملتهم وأكلت معهم.

- أأحضر لك الشاي؟!

التفتُ الى أمي.

- بشرط أن تشربه معي أم حمدان.

ردّت أمي.

- أنا استجيب دوماً لكل ما تطلبه، لكنك لم تستجب يوماً لطلباتي.

بعد أن تأكدت أن فلوة منهمكة عنا بخصام مع الخادمة، رددتُ عليها.

- مِنْ يسمعُكِ يا أمي، يعتقد بأنك ستطلبين مني شيئاً آخر غير الزواج.

- أهي متزوجة؟!

أجابتني يسرا.

- مِنْ؟!

- صاحبتك.

- أيّهنّ؟!

- التي قابلتها معك في المطعم الاسبوع الماضي. التي قالت عني بأنني أبدو أصغر سناً منكِ.

- آه.. آه.

- تذكرتِ؟!

- أجل، تذكرت.

- حسناً. ألا تذكرين إن كانت متزوجة أم عازبة؟! أرملة، مطلقة؟!

ببرود شديد، أجابتني.

- حين أقابلها في المرة القادمة، سأسألها.

- ومتى ستقابلينها يا طويلة العمر؟!

- حين أصادفها مرة أخرى في المطعم.

وبشكل مسرحي سخيف، ضربتْ بكفّها على الطاولة.

- لو كنتُ أعرف أنكَ ستأتي الى المطعم، لما كنتُ جالستُ إلاّ نساءً أعرفهن.

- يعني؟!

- نحن النساء نجالس بعضنا، حتى ولو لم تكن تربطنا أي علاقة.

- يعني باختصار، أنتِ لا تعرفين تلك المرأة.

- ولا أعرف أيّ شيء عنها.

وبثأر مسرحي، قلت لها.

- تفضلي لمكتبكِ يا يسرا. الله لا يحوجني لكِ.

- سأخرج، ولكن بانتصارٍ كبير.

- وما هو نصركِ؟!

- أن المرأة التي لفتت انتباهك مكتنزة مثلي، إكتنازاً بين النحافة وبين السمنة.

- تفضلي لمكتبكِ يا يسرا، وإلاّ اتصلتُ على زوجك.

ابتسمتْ لمزاحي ابتسامة واثقة.

- أتعرف شيئاً؟! تبدو هذه الايام في أجمل حالاتك. منذ عملتُ معك، لم أرّك بهذه الروح. حينما صادفتك في المطعم، اعتقدت أنك تجامل البنات اللواتي كانوا معي، مجاملةً لي. ولو كنت أعرف، أن أمر أيٍّ منهن سيهمك، لأخذت كافة المعلومات عن كل واحدةٍ منهن بالتفصيل. ليس فقط أنها متزوجة أو أرملة أو مطلقة، بل كيف تزوجت، ولماذا ترمّلت، وما سبب طلاقها.

- ان لم تتفضلي لمكتبكِ يا يسرا، سأخصم عليكِ راتبكِ لمدة عشرة آلاف قرن.

- اذا كنتُ سأبقى معك كل هذه المدة، فلا بأس.

تأففتُ، قبل أن تخرج، وبصوت عالٍ، لكي تسمع تأففي.

انغلق الباب، لكنه انفتح مباشرة.

صرختُ بها.

- أنا لست موجوداً. قولي لكل من يسأل عني أنني لست موجوداً.

- عدنا للانفعال والتشنج اذن. توقعت ذلك.. ما حصل، كان مجرد تمثيلية ضحكتْ بها على نفسك، وعليَّ.

- ما حصل ليس إلاّ محاولة يائسة للتقرب الى الناس يا يسرا. لماذا تعطين الموضوع أكبر من حجمه ؟؟

رفعت يدها، وكأنها محامية تريد أن تعترض على ادعاء.

- أتريد حقاً أن تتقرب للناس؟!

وبجوع صادق، قلت لها.

- أجل.

- حسناً. قل لي أقرب مناسبة مهمة لك.. تاريخ عيد ميلادك مثلاً.

بثقة شديدة، أجبتها.

- لا أدري. أنا من جيل لا يعرف متى وُلد.

- لا بأس. اختر أي تاريخ يعجبك.

- الاسبوع القادم. يوم الخميس القادم.

- 7 مارس 1994م؟!

- أجل: 7 مارس 1994م.

اتسعت حدقتا عينيها.

- عظيم. سأُعِدُّ احتفالاً بهذه المناسبة في بيتي. وستتعرف هناك على اصدقاء كثر. ستكون فرصة لكي تدخل معهم في علاقات جديدة تغيّر بها نمط حياتك.

اغتنم صديقي عبّاد فرصته كما يجب. محلاته صارت الاشهر في استيراد وتركيب وصيانة أجهزة استقبال القنوات الفضائية. محل في البديعة ومحل في العليا ومحل في الروضة ومحل في النسيم. سيارة كاديلاك آخر موديل. وشقة للسهر في حي السفارات وسفر متواصل لكازبلانكا.

- اذا اردت أن تتحدث عن امرأة، فلا تتحدث إلاّ عن نساء كازا. جمال وأنوثة ذرية حواء في كوم، وجمالهن وانوثتهن في كوم آخر. حين تسوّد ديارنا بزوجاتنا، تكون لنا داراً بيضاء هناك.

- هكذا أنتم أيها الفقراء السابقون. حين تغتنون تنقلبون رأساً على عقب.

- لا يا حبيبي. أنا أسافر لكازا، قبل أن أغتني. هذا شيء، وذاك شيء.. عموماً لا تأخذنا في الكلام. قل لي. هل غيرت رأيك؟! الفرصة لا تزال مفتوحة لك، لكي تشاركني. في السابق، كانت هناك فرصتان. أن تنجح أو أن تفشل. الآن ليس أمامك إلاّ النجاح. النجاح والفلوس.

- هنيئاً لك بنجاحك يا عبّاد. لقد زرتك لأطمئن عليك وعلى شغلك، لا أكثر.

قام، ورافقني الى الباب، وهو يقول.

- أريدك أن تزورني في شقتي، في إحدى ليالي الخميس او الجمعة.

- اتركها للظروف يا عبّاد.

- أية ظروف يا ابن الحلال؟! من يسمعك يحسبك محمد ابا الخيل. ثم أن الخميس والجمعة إجازة. وأضاف ضاحكاً.

- سأرسل لك خريطة تقودك للشقة على الفاكس.

هل كانت عيناها تضحكان، أم خُيِّلَ لي؟!! ماذا يمكن أن يكون تفسير حركة أصابعها لي من بعيد؟!! بماذا يمكن أن أفسّر ذلك. يا ربي. انها هي، هي نفسها. هي التي تنكرت بملامح عواطف والتصقت بي. هي التي جاورتني على الصوفا، وقالت لي: أنت تافه و حقير ثم سألتني اذا كنت أريد أن أمارس معها الحب. انها هي. هي نفسها.

عندما قدّمت يسرا العصير لي في صينية عليها أكثر من عشرين كأساً، همستُ لها.

- أليست تلك هي نفس امرأة المطعم التي سألتك عنها؟!

اقترب رأسها من رأسي، وعيناها تجول بين المدعوين.

- أية واحدة تقصد؟!

ودون أن أرفع عيني عن كأسي، تابعتُ همسي.

- تلك التي في الركن.

أكملت تقديم العصير للضيوف، ثم عادت لي.

- هذه بنت جارتي والكهل الذي على يمينها هو أبوها. والعجوز التي على يمينه هي جارتي. والشاب الحلو الذي على يمين جارتي هو زوجي.

ضغطتْ على أسنانها بهمس أكثر.

- زوجي يموت في تراب أقدام بنت جارتي. تصوّر! والآن أنت. هذه البنت طالعة لي في البخت على ما يبدو، مع أنها ليست جميلة الى هذا الحد.

- أنا لم أقل أنها جميلة او غير جميلة. أنا سألتك ان كانت هي أم لا.. خلاص، خلاص. اهتمي بضيوفك.

- ضيوفي يعرفون أن هذه الحفلة على شرفك، فلا بأس ان صببت اهتمامي عليك، خاصة أن بعلي كما ترى، مشغول بالبنت التي انت مشغول بها.

هي. والله انها هي. نفس اكتناز جسدها، نفس قوامها. ولو تسنح لي الفرصة للإقتراب منها، لكانت لها نفس الرائحة، نفس العطر.

فجأة، انطفأت الأنوار.

موسيقى خافتة.

صوت خطوات تقبل من بعيد.

الخطوات تقف.

تشع الاضاءة على جسد رجل يرتدي بنطلوناً أبيض وقميصاً أبيض بكميّن قصيرين، وقد برزت تحتهما عضلاته المعروقة وفي حزامه سيف مرصّع بالألماس. وجهه لا يزال خارج دائرة الاضاءة. يمشي الجسد، بحيث تحتك ساقه برُكَب الجالسين. وأمامها يقف. لم يقف إلاّ امامها. وبأنفاسنا المحبوسة، رأيناه يستلّ سيفه من غمده، ويجز عنق زوج يسرا.

الموسيقى لا تزال خافتة.

الاضاءة على الرأس الذي تدحرج حتى صار بين قدميّ. الاضاءة على الرأس، وعلى قدميّ. وأنا كاتم نَفَسي. 

إظلام كامل.

موسيقى خافتة.

إضاءة عليها، وعلى كفّه وهي تمتد لها.

تنهض له، فيدخلان معاً في دائرة الضوء.

شهقتُ بكل ما أوتيت من هواء.

- يعقوب؟!

لكن سؤالي ضاع في الموسيقى التي تراقصا عليها بإنسجام تام. كل واحد منهما يضع رأسه على كتف الآخر بهيام لم ارَ له مثيلاً.

كان همي الأكبر في تلك اللحظة أن أُبعد الرأس عني.. وفي انشغالهما بالرقص الخافت، دفعت الرأس بقدمي يساراً، الى أن صار أمام أقدام الجالس الى جواري. وقبل أن أفرح بانجازي، لمحتُ عيون يعقوب تطالع في الظلام الذي تقع فيه عيناي.

أخذت أرتجف هلعاً.

- هل يراني؟!

وغالطت نفسي بوهم الظلام.

- لا. لا يمكن أن يراني في هذه العتمة.

ولكي أصدق نفسي. هممت بالنهوض من مقعدي. وفي نفس اللحظة، شعرتُ بالذي كان الى جانبي، ينحني الى الأرض ثم يضع الرأس على حجري، مبلّلاً اياي بالدم.

إضاءة كاملة.

ضحك جماعي هستيري.

احمّر وجه يسرا، وهي تراني واقفاً أنفض الرطوبة عن ثوبي.

- كيف سقط العصير على ثوبك؟!

دون أن أعبأ بسؤالها، أخذت أرصد وجوه المدعوين بحثاً عن يعقوب. وسألت نفسي.

- أين ذهب؟! كيف ذهب؟!

جلستُ مرة أخرى.

- لا أدري كيف يا يسرا. لا أدري كيف حدث ذلك. لكن الامر بسيط جداً. انها مجرد قطرات. دقائق وتجف.

- هل أقدّم العشاء، أم انتظر؟!

- لا. لا. قدميه.

إظلام كامل. شمعة واحدة على تورتة كبيرة، مكتوب عليها: عيد ميلاد سعيد. وحينما أضيئت الأنوار، قطعت القطعة الأولى بإلحاح من يسرا، ووضعتها في طبق صغير، وعدتُ الى المكان الذي كنت جالساً فيه. 

رأيتها وهي تقبل اليَّ، فازدادت وتيرة نبضاب قلبي.

جلسَتْ الى جانبي، وفي يدها طبق مثل طبقي.

- هابي بيرثداي.

- شكراً.

عن قريب بدت أكثر شبهاً بها، ورائحتها هي رائحتها.

انتظرت دهراً قبل أن أتجرّأ وأسألها.

- ألمْ نلتقِ من قبل؟!

بلا مبالاة، أجابتني.

- ربما.

قلت لنفسي.

- اذن هي. منذ البدء، قلت أنها هي.

بادرتها.

- لماذا كنت تتجاهلينني طيلة الحفلة؟!

ردتّ عليّ ببرود.

- أنا؟!

- أجل أنتِ. لقد كنتِ مهتمة كل الوقت بزوج يسرا.

- أأنتَ من النوع الذي يغار من الآخرين.

- المسألة ليست غيرة.

- وما هي اذن؟!

- هي أن تتجاهلينني، رغم كل ما فعلتِه بي.

وبدلال هائل، سألتني.

- وماذا فعلتُ بكِ؟!

- أنتِ تعرفين كل شيء. أنتِ التي تقمّصت دور عواطف. أنتِ التي حملتِ رسالة شفوية منها بأنني حقير وتافه . أنتِ التي سألتيني: أتريد أن تمارس معي الحب؟!

وباندهاش صاعق، صرخت بي هامسة، بكل ما تملك من ضبط لأعصابها المنفلتة.

- أن أمارس ماذا؟!

وبنفس الطريقة التي قالتها لي حينما كانت في مكتبي، أجبتها:

- الحب. الجنس.

أغمضت عينيها بقوة، وصرخت بأعلى صوتها.

- يسرا.

ركضت يسرا الينا، بعد أن تركت طبقها على الطاولة.

- ماذا؟!

- أرجوكِ أحضري لي عباءتي.

رمت الطبق من يدها على الأرض. وقبل أن تقف، قالت لي.

- انت فعلا تافه و حقير.

خرجت، دون أن يشعر أحدٌ من المدعوين بما جرى، باستثناء يسرا، التي عادت لي، بعد أن ودَّعَتْها.

- يبدو أنك أمّي في أمور النساء.

قبل أن أستأذن، قالت لي يسرا.

- كلهم سيخرجون الآن. انتظر،ربما تأخذ أحداً في طريقك.

ركبتُ سيارتي وانتظرت.

كان المدعوون يخرجون تباعاً، وأنا أنتظر.

انفتح الباب، وركب الى جانبي، وبلهجة آمرة، قال لي.

- تحرك.

بشجاعة مصطنعة، قلت له.

- أهذا أنت؟!

- أجل.

 عند الاشارة المرورية الحمراء، سألته.

- هل رتّبت هذه المسرحية مع يسرا؟!

- عن أية مسرحية تتحدث؟!

- مسرحية السيف الوضّاء التي أتعبت نفسك فيها لكي تثير ضحك المدعوين عليّ.

وأضفت بانفعال.

- هل ارتحت الآن؟! ارتحت بعدما رأوني، وأنا أتبول على نفسي، خوفاً من سيفك؟!

- ولماذا تخاف من سيفي؟

- لأنه كان يحمل نفس الرغبة التي كانت في مسدسك، عندما وجهته لي في بيروت. أتذكر؟!

رفعت سبابتي في وجهه، والغضب يملأ صوتي.

- ان كنت تريد قتلي، فاقتلني، لكني إياني وإياك تقترب منها. هل فهمت؟!

كان سائق السيارة التي بجانبي يطالعني باستغراب شديد، وأنا أتحدث وما أن أضاءت الاشارة المرورية اللون الأخضر، حتى انطلقت مسرعاً.

- لن أسامحك.

حبستُ نفسي أسبوعاً كاملاً في غرفتي. صُمتُ عن أمي وعن فلوة. صُمْتُ عن الصحف، وعن اوراقي وحبري وكتبي. تلك الكتب الممتدة على طول الرفوف التي تحاصرني، دون أن تساعدني بشيء.

في اليوم السابع، طالعت وجهي في المرآة. فتقززت. تناولت ماكينة الحلاقة وحلقت ذقني، ثم رميت جسدي تحت الماء. وبعد أن خرجت، كان راسكو لنيكوف، يقف قبالتي.

قلت له، وأنا أجفف جسدي.

- بلِّغ ديستوفسكي، بأنني لا أريد أحداً أن يقتل أحداً. لا أريد أحداً أن يسرقَ أحداً.

أجابني راسكو بصوت يعقوب.

- أحقاً تريد ذلك؟!

لم أرد عليه، لأنني لم أكن راغباً في اتاحة الفرصة له لكي يفسد لي مزيداً من أيامي.

لبستُ ثوبي وغترتي وعقالي، وخرجت.

أدرت المفتاح في باب مكتبي المقفل ودخلت. صرت أقلب الاوراق، دون أدنى اهتمام.. الاصدقاء الذين هيأتهم لي يسرا انسابوا من بين أصابعي، فلم أعد أذكر منهم أحداً. لا نهار. لا فتوان. لا يعقوب... قلّبتُ الاوراق من جديد بسرعة، بحثاً عن فاكس عبّاد.

- هذه هي الخريطة التي ستقودك لشقتي. حياك الله غداً.

وكانت في الركن السفلي الايسر من ورقة الفاكس، كلمات بخط يد يسرا تقول.

- لقد افتقدناك. اتصلت بك على البيت، فقالت لي فلوة، أنك مريض. هذا الفاكس وصلك اليوم الاربعاء الساعة الواحدة ظهراً. أعرف أنك ستقرأ ملاحظتي هذه يوم الخميس، حين لا يكون أحد في المكتب.. لقد فشلت معك في حفلتي. لكنني سأظل أحاول. أراك يوم السبت بصحة جيدة ان شاء الله.

- في صحتكم جميعاً.

نادت بأعلى صوتها.

- عبّاد. يا عبّاد.

أطلّ من كاونتر المطبخ.

- نعم يا بعد روح عبّاد.

- صاحبك قروي جداً.

وبصوت تمثيلي سافر، قال وهو يقطع اللحم.

- من ناحية قروي، فهو قروي جداً.

ارتخى الليل. فارتخيت.

- ما رأيك بقهوة سادة؟!

- أعرف أنك لن تسامحيني. أريدك ألا تسامحينني.

- أريد أن أعرف بالضبط. ماذا حدث لك؟!

- وماذا يمكن أن يكون قد حدث لي؟!

- لا أدري. أنا خائفة.

- مِمنْ؟!

- من أن تكون بنت جارتي هي السبب.

- السبب في ماذا؟!

- في تغير أحوالك.

وأضافت متساءلةً.

- ماذا قلت لها؟! ما الذي أغضبها، وجعلها تغادر؟!

أجبتها.

- اسأليها.

- بل أسألكَ انت.

- قبل أن أجيبك، قولي لي انت، ألا تشبه بنت جارتك هذه، امرأة المطعم؟!

- تريد الحق؟!

- أنا لا أريد إلاّ الحق.

- فيها بعض شيء منها، لكن ليس الى درجة الشبه.

واستطردتْ.

- هاه. قل لي أنت الآن. لماذا أغضبتها؟!

كنتُ في كل انكسار، أهرب منها. في كل هزيمة، أختبيء عنها. أسمع صوتها يرنّ في خطاياي: لن أسامحكَ. لن أسامحكَ.. هي تعتبرني نبعاً مكتظاً بالأبجدية، تنمو على حوافّة قافية  من الاقحوان، وتطفو على مائه حوريّات تبوح مكنوناتها غناءً. وحين يغادر النبع قوافيه وبوحه، ليتجفف قليلاً، تغضب.

تمادى النبع في التجفف، الى أن جفّ. هيأ الرمل سريراً لامرأة أخرى. امرأةٌ تستثيرها الحقارة. لكنها لم تجيء. انتظرتها في كل النساء اللواتي يترددن على شقة عبّاد، دون فائدة.

- لماذا تأخرتِ؟!

- الطائرة هي التي تأخرت.. ذهبت للظهران يومين ورجعت.

أمضيت الليل أحدثها عن الادعاءات الامريكية بتحركات الجيش العراقي تجاه الكويت، وبالحشود الامريكية التي تستعد لتوجيه ضربة ثانية للعراق، بعد مرور ست سنوات على وقف اطلاق النار، وعلى جوع العراق.

- وهل هي فعلا ادعاءات.

- من المؤكد أنها كذلك. الامريكيون يفعلون ذلك لدفع الخليج على دفع الفواتير المتأخرة.

- أتعرف شيئاً؟!

- ماذا؟!

- أنت تشبه شخصاً قابلته البارحة عند الصديق الذي دعاني. إنك تتحدث مثله أيضاً.

- يخلق من الشبه أربعين.

- سبحان الله.

وأضافت.

- لكن هناك فرق بينكما؟!

- وما هو؟!

- هو يحمل مسدساً معه، وأنت لا تحمل.

- مسدس؟ ولماذا هل هو ضابط في الجيش؟!

- لا ولكنه أخبرني بأنه لا يطمئن إن لم يكن هذا المسدس محشواً في حزام بنطلونه.

- ربما يخاف على نفسه، لأنه ثري.

ابتسمتُ في قرارة نفسي. لقد عادت أخيراً حاملة رسالة من يعقوب هذه المرة. لكن، لماذا لا تبدو باهرة الجمال كعادتها؟! ولماذا لا تعبق برائحتها المعتادة. أهي متعبة من سفر اليوم وسهر البارحة؟! ربما.

وحين صحوت، لم أجدها على سريري، فصرخت.

- هي. أجل هي.

رفعت الغطاء، عن جسدي، وهممت بالنهوض فرحاً من السرير.

 دخلتْ علي الغرفة، حاملة كوباً من الشاي.

- صباح الخير. 

ضغطت على قبضة يدي اليمني، قبل أن أتناول الكوب منها.

- هل ناديتني؟!

- أجل. أجل.. حين لم أجدك في السرير، قلقتُ عليك.

كانت فلوة، حين لا تجدني في سريري صباحاً، تقلق كثيراً، وأحياناً تقلق أمي معها.

- لا تقلقي أمي يا فلوة أرجوكِ. أنا شاب، وأصحابي لديهم مخيمات خارج الرياض. نسهر، ثم ننام. ونقوم لأعمالنا في الصباح. الهاتف الموبايل معي دوماً، وكذلك البيجر. حين تحتاجيني، اتصلي بي.

دفعت الكراريس التي كانت تصححها من امامها ثم قالت لي بلهجة فيها مرارة العتاب، وكأنها اكتشفتْ كذبي.

- اسمع، أنا أقبل هذا الوضع ليلة الخميس وليلة الجمعة، أكثر من ذلك، لا.. أنت لم تكن هكذا. أنت لم تكن تغادر البيت طيلة أيام الاسبوع. لا أدري ماذ حلّ بك هاتين السنتين.

- لم يحل بي شيء يا فلوة. لا تضخمي المسألة.

ابتسمت بحنان بالغ.

- عموما، حمدان على وشك التقاعد، وناصر سيعود من بعثته قريباً. سوف تأنس بهما ويأنسان بك. وتعود لا تغادر البيت، وتضيئه لنا كما كنت تفعل دوماً.

فلوة تعتقد بأنني سعيد بالذي أنا فيه. بأن أخرج كل ليلة باحثاً عن امرأة لا تجيء، وامرأة لا تسامح. للتي لا تسامح، كتبت العام الفائت نصاً ينضح بالاحساس بالاثم لكي تسامح. كتبته كوثيقة عهد مني بأن أقلع عن الاختباء في ليل نساء يهزمني ويكسرني آخر الأمر. وبعد شهر واحد من فبراير 95 خنت عهدي.

كنتُ قبل أن أكتب هذا النص، عشت في صراع شديد.

 - أأطلب السماح منها، أم أدعها تتباهى أمام نفسها بعدم مسامحتي؟!

دخلت، في تحدٍ مع تسامحها، ونجحت.

- حسناً. سأسامحكَ، لكن بشرط.

- من يسامح لا يشترط يا جنتي.

- بل سأشترط، ستخبرني من هنّ النساء اللواتي، لوثت بهن قافية اقحوانك، وحوريات غنائك؟!

أخبرتها بكل شيء، عن النساء اللواتي جئن. وكانت تستوضح مني تفاصيل دقيقة.

- أين تعمل الأولى؟ ما مؤهل الثانية؟! كيف قوام الثالثة؟ كيف تلبس الرابعة؟!

- لا ادري. أنا لم أسأل أياً منهن هذه الاسئلة.

- لا تكذب.

- صدقيني. لقد أخبرتكِ بالذي أعرفه.

أطرقتْ لدقائق، تعبث بشعرها، ثم انهمرت من عينيها دموعاً صامتة، لا أدري كم مرّ من الوقت، قبل أن تمسحها من خديها.

- سأعتبر هذا النص، تطهيراً لك من آثامك. سأعتبره عودة لمملكتك التي أضعتها. لجواهرك التي أهدرتها. لحبرك.

سألت نفسي ذات وِحدة.

- لماذا لم أخبرها عن المرأة التي لا تجيء؟! هل لأنها اختفت؟ هل لأنني أحس الآن بعد شهر من نصي الجديد لها، بأن ثمة ما يدعوني لشقة عبّاد؟!

طرقت الجرس، فلم يجب.

طلبته على الموبايل، فجاءني صوته.

- أين انت يا رجل؟! لماذا انقطعت عني؟!

- مشاغل يا عبّاد.

- أرجو ألاّ تنتهي مشاغلك اليوم، لأنني الآن في جدة، سأعود غداً، عموماً اذا احتجت الشقة اليوم، ستجد المفتاح في قاع صندوق الصحف.

أخرجت الصحف وبالمفتاح دخلت.

رميت الصحف جانباً، غير عابيء بقراءتها. والتلفزيون، الذي كان يهدر بالصور، أطفأته. وفي الاضاءة الخفيفة جداً، تمددت على الأرض.

- ستجيء الآن. ستراني ممدداً كمحارب ملّ حربه، فاختار طوعاً أن يكون قتيلاً. ستجيء، لتراني كما أنا. أنا الذي لستُ نبعاً، ولستُ قافية ولا غناء. أنا الذي زهدت بالنساء اللواتي يجئن ليخرجن، او اللواتي يخرجن ليجئن ثم ليخرجن.

همستُ.

- تعالي.

صرختُ.

- تعالي.

ولم يكن هناك أحد. لم يكن سوى صحف مهملة، وتلفزيون مطفأ، وإضاءة خفيفة الى جانبها هاتف ومفكرة جلدية.

لم يكن سوى رغبة تصطليني، لكي أتصل بأحد الاسماء المضطجعة داخل هذا الجلد، لأقول لها:

- تعالي.

- حاضر سيدي.

- ليس أنتِ، بل يسرا.

- يسرا مشغولة يا سيدي.

- مشغولة بماذا؟!

- انها تتصل بمكتب الخطوط الجوية، لتنهي اجراءات سفرك الى بيروت.

- حسناً، حالما تنتهي، دعيها تأتي اليّ.

يعقوب لن يكون في هذه الرحلة، كل شيء مختلف. سأسافر بالطائرة. يعقوب لن يكون معي. يسرا لم تشجعني. والصوت الذي ظلّ يرن في خطاياي: لن أسامحك، تحول الى: سأستعيدك، لابد أن أستعيدك.

كنت أريد أن أستعيد نفسي أولاً. وكيف يستعيد من مثلي نفسه، إن لم يكن في بيروت. 

في بيروت، هذه المرة، لم يقتلني احد، كما فعل يعقوب في المرة السابقة. في بيروت، هذ هالمرة قتلتني بيروت، التي كنت هارباً لأتشبث بثيابها. لأنزع جلدي الأول والآخر، على جذوع بحرها. قتلتني بيروت، وآمنت بعد تلك اللحظة، التي كنت أنتظر فيها أصدقائي، دون أن يطرق أحد منهم باب غرفتي عليّ ، أنني لن أستعيد نفسي، وان لا احد قادر على أن يستعيدني.

طُرقَ الباب، هرعت اليه.

فتحته، وعلى وجهي بشائر تفوح منها خارطة ممتدة من بعلبك الى جزّين. من طرابلس، الى المرفأ.

فتحته، فاذا بي أمام ناصر بن حمدان.

- أجل ناصر أخوك.

عانقته، فأحسست أن الرياض تذرفني على كتفه، وقلقي يتجذر داخله، داخل دموعه التي بلّلت عنقي وقلبي. آه، يا ناصر، لقد غدوت بدونك كنخلة يهجوها سعفها كل تمر. تمري بدونك، هجته العصافير، ولم تعد تنقره بالسكّر كل شروق.

- لقد فاجأتك، أليس كذلك؟!

ضغطتُ على عضديه بكل التعب الذي انقشع عن يديّ.

- كيف عرفتَ أنني هنا؟!

وبالطفولة، التي لم يخسر منها ضحكاتها شيئاً، أجاب.

- بسيطة، من مباحث العائلة وضحة. أنا حين أتصل من كندا ببيتنا، فان الامر لا يتعدى سلام عليكم السلام. أما اذا احتجت للسواليف، إتصلت على بيت وضحة.

- وضحة اذن هي التي أخبرتك؟!

- أجل، وليس هذا فحسب، بل أخبرتني أيضاً أنك في الثلاث سنوات الأخيرة، لم تعد أنت.

توجهت للهاتف ثم رفعته، سائلاً اياه كي أغير الموضوع.

- سأطلب لك شيئاً تشربه.

- لا. لا تزعج نفسك. لقد شربت ما فيه الكفاية في الطائرة.

توجه لثلاجة الغرفة، فتحها وانحنى برأسه، يطالع ما فيها، مضيفاً.

- ثم أن في هذه الثلاجة، كل ما لذّ وطاب.

وضعت سماعة الهاتف.

- وكم ستبقى معي؟!

- لن نبقى. لقد حجزت، بعد وصولي للمطار، مقعدين لك ولي من بيروت الى الرياض غدا صباحاً. وسوف نتناول غداءنا في بيت الوالدة ان شاء الله.

طُرق الباب، فلم يفز قلبي.

فتح ناصر، وسمح لبواب الفندق، أن يدخل حقيبته، وأن يضعها الى جانب دولاب الغرفة. وقبل أن يخرج، دسّ في يده ورقة مالية، ثم التفت اليّ.

- أنا لم أحجز غرفة. سأنام معك الليلة لنستعيد طفولة غرفتنا المشتركة.. هذا اذا لم يكن لديك مانع.

رددت عليه ضاحكاً.

- ألم تفترض أن تكون معي بنت لبنانية؟!

وضحك هو أيضاً.

- لبنانية لا.. أنت ذوقك فلسطيني منذ الطفولة، أتعتقد أنني نسيت؟!

واستطرد ....

انت آخر من يسافر من أجل النساء.. حتى ولو كنتَ قد تغيرت، فانك لن تجد في بيروت، كما أخبرني سائق التاكسي الذي أوصلني من المطار، سوى الروسيات والرومانيات والليتوانيات.

- وماذا قال لك أيضاً؟!

- قال: اذا هيك شغلات تناسبك، أنا زلمتك يا شيخ الشباب.

تنهدت بعمق ساخر.

- أجل، كل سياح هذا الصيف شيوخ. تفضل شيخ، تعال شيخ، اركب شيخ، والشيخ يدفع وهو راض وسعيد.

- ولماذا أنت غير راضٍ وغير سعيد؟! هؤلاء السياح، يريدون أن يستعيدوا لبنان، أن يستبدلوه بأوروبا وأمريكا.

- لن يكون بمقدور أحد استعادة لبنان الساكن المخيلة. لا أهله ولا سياحُه. لبنان المخيلة استشهد في المعركة الأهلية الأولى، ولا يزال يستشهد كل يوم في معاركنا الذاتية ومعاركنا المحلية ومعاركنا القومية ومعاركنا الأممية. قدَرُ لبنان أن يعيش ليموت. لذلك لن يستعيده أحد.

طللت من النافذة، فاذا رصيف الروشة، يحتشد بمشاة لا حصر لهم. وبباعة لا حصر لبضائعهم. سمعت صوت ناصر، يأتيني من الخلف.

- اذن، اسمع هذا الخبر، الذي سيخفف من وطأة كاتبك.

وحينما لم ألتفت اليه، واصل كلامه.

- لقد قابلت قبل عودتي من كندا بأسبوع، في نادٍ من أندية المهاجرين العرب بتورنتو، شخصاً يتحدث بنفس لهجتي ويدّعي أنه عمّي.

انطفأتْ الروشة، واختفى المشاة من عينيّ، فاستدرت لناصر، مستحثّاً إياه لكي يكمل كلامه.

- سألته: عمي من أين؟! عمي الوحيد استشهد في حرب الجهاد بفلسطين. ولما كانت مناسبة اللقاء مدججة بالشراب، اعتقدت أنه كان سكراناً. لكن لم يكن في يده كأس، ولم تكن تفوح منه، حين اقتربت منه، سوى رائحة دهن عود. فهم هو لماذا اقتربت منه، فقال لي: أنا لم أقرب الخمرة في حياتي يا بني. أنا عمك، لكنني لست شقيق أبيك. أنا عمك مجازاً. سألته: كيف عرفتني أصلاً، وأنا لم أشاهدك من قبل؟! أجابني: أنا أملك معلومات عن كل سعودي هنا. حين وصلت الى كندا، عرفت أنك آتٍ للدراسة ليس إلاّ، وليس للسبب الذي جئتُ أنا من أجله. لذلك، لم أحاول الاحتكاك بك، لكي تنصرف كلياً لدراستك. ولما علمتُ أنك عائد للرياض بعد انتهاء دراستك، أحببت أن أهنئك. سألته: أأنت مهاجر؟!

- نصف مهاجر، ونصف لاجيء.

- لم أفهم.

- لم استطع حتى الآن أن أحصل على الجنسية.

- أنت هارب اذن؟!

- تستطيع أن تسميني كذلك.

- وكيف أنت عمي؟! أقصد كيف عمي مجازاً؟!

- أبوك، عبد الكريم بن حمدان، وقف مع أسرتي موقفاً لم يقفه كل أفراد قبيلتي. هو الذي عالهم، ومنحهم الطمأنينة طيلة فترة سجني التي طالت الى أن نسيت أنني أنتمي لأحد. وحين خروجي، مكثت ليله واحدة مع أمي، عرفت أثناءها أن المباحث ظلّت تراقب أباك الى أن توفاه الله. قالت لي: ليس لك أخ يا ولدي سوى عبد الكريم بن حمدان. ولذلك جعلت اسمي في كندا اسماً أخوياً له، وذوّبت اسم قبيلتي لأجله.

- ولماذا تقول لي ذلك، ألا تخشى أن أفشي سرك.

- أولاً أنا لا أخاف رجلاً من صلب عبد الكريم بن حمدان، ثانياً، أنا عائد للرياض خلال أشهر. فلا الهجرة حققت ما أصبو اليه، ولا الحرب أخمدت النار التي أحرقتني يوماً بعد يوم. 

شعرت بأنني سيغشى عليّ، لكنني تمالكتُ نفسي، ولما رآني ناصر أجاهد نفسي في الوقوف، اتجه اليّ، لكنني تمالكت ساقيّ ، سائلاً إياه.

- وهل قال لك أن اسمه نهار؟!!

- أجل. لقد قال لي فعلا أنه نهار. نهار بن حمدان.

ظللت صامتاً، أحدق من خلال النافذة في صخرة الروشة، حيث العشاق اليائسون يستعيدون حرياتهم من فوق قمتها الشاهقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...