مشت "سارة" في الغابة الخضراء، الكبيرة، وعيناها تراقبان بخوف كل ما حولها من أشجار طويلة، ومن عيون تلمع في الظلام.
انهكَ التعب والخوف سارة، فجلست الى جانب جذع شجرة والدموع تملأ عينيها.
أخفتْ سارة وجهها بكفيها، وأخذت تبكي بمرارة.
تجمعت الغزلان والسناجب والأرانب والطيور، حول سارة بعد أن سمعت صوت بكائها.
تقدم أحد السناجب لسارة، ثم سألها.
- لماذا تبكين يا صديقتنا الصغيرة؟!
أخذت سارة تمسح الدموع عن عينيها، وعلى شفتيها ابتسامة اطمئنان للحيوانات والطيور الذين أحاطوا بها.
قالت سارة للحيوانات والطيور.
- لقد أضعت أهلي.
سألتا غزالة جميلة.
- وكيف أضعتيهم؟!
استرجعت سارة ما حدث.
- كنت في نزهة في الغابة مع أبي وأمي واجدتي وأخي. تعاون أبي وأخي في وضع الأغراض على العشب الأخضر، وتعاونت أنا وأمي في مساعدة جدتي على النزول من السيارة. انشغلتْ عائلتي في شوي اللحم وإعداد الخضروات الطازجة. أما أنا فكنت أضع رأسي على ركبة جدتي، وهي ترتب شعري، وتضع في فمي بين كل لحظة وأخرى قطعة صغيرة من الحلوى أو التمر.
قالت جدتي.
- انظري لعمق الغابة يا جدتي. انها مخيفة.
ضحكت جدتي.
- لقد كان جدك يدخل الغابة وحيداً.
رفعت جدتي رأسها الى السماء، ثم أكملت كلامها.
- كان يصارع أثناء الصيد الذئاب والسباع ولا يعود إلاّ وقد اصطاد جاموساً أو أكثر. كان أهل القرية يحبونه، ويعتبرونه فارسهم، فهو الذي يحل مشاكلهم، ويسدد ديونهم، ويعلمهم القراءة والكتابة. عندما مات جدّك، تجمع كل أهل القرية حول سريره. كان ينظر الى عينيّ بحزن شديد، وكانت آخر كلمة قالها لي. سامحيني.
أحسست بأن عيني جدتي تلمعان بالدموع، فحضنتها، وغمرني دفء صدرها، الذي يملأ بيتنا دوماً، والذي يجعلنا نعيش في حب لا ينتهي.
طلبت جدتي مني أن أمرح في الغابة. فأخذت ألاحق الفراشات، وجدتي تصفق لي بحرارة. لم أدرِ كم مضى من الوقت وأنا أطارد تلك الفراشة الزاهية الألوان، والتي حطت على غصن عال.
طالعت خلفي، فإذا أنا داخل غابة كثيفة من الأشجار.
صرت أنادي بأعلى صوتي.
- جدتي يا جدتي.
لكن لم يرد عليّ أحد.
أحسست برجل يقبل علي، من بين الأشجار، على حصان أبيض، مرتدياً ملابس صيد أنيقة.
ترجل الفارس عن حصانه، ووقف أمامي.
سألني.
- كيف جدتك؟!
أجبته بخوف.
- انها بخير.
- وهل تهتمين بها؟!
- أجل.
أخبرته كيف أركض الى غرفتها كل يوم، وأجعلها تساعدني في حفظ القرآن. وكيف أنها بعد ذلك، تطلب مني أن أجعل أمي وردةً متفتحة دوماًٍ، وأن أكون نحلة أرتشف من رحيقها.
قال لي الفارس، وهو يضع كفه على كتفي.
- جدتك هي سراج البيت الذي تعيشون فيه، فاحرصوا على إرضائها، كي يغمركم نورها.
قبل أن أسأل الفارس، هل أنت جدي؟ اختفى هو وحصانه من أمامي فجأة.
ركضت بين الأشجار بحثاً عنه، لكنني لم أجده، ولم أجد الطريق الى أهلي. وعندما تعبت، استرحت على هذه الشجرة.
قال الببغاء الملوّن لسارة.
- لا تخافي. نحن معك.
كانت بقية الحيوانات تهزّ رؤوسها بالموافقة والتأييد لما قاله الببغاء.
سألت سارة الببغاء، وهي تنظر اليه بلهفة.
- وكيف ستساعدني أيها الببغاء الجميل؟!
أجابها.
- دعي الأمر لي.
طار الببغاء، ترافقه بقية الطيور، تاركاً سارة تحرسها الغزلان والسناجب والأرانب.
بعد بحث طويل، وجد الببغاء العائلة، وقد تجمّعت حولهم عائلات كثيرة، كلٌ يبحث في اتجاه، عن سارة الضائعة، فأخذ يرفرف فوقهم بجناحيه. صرخت الجدة للأب والأم، وهي تشير الى الببغاء، وكأنها أحسّت بأمره.
- هذا الببغاء يريد أن يقول لنا شيئاً.
رفرف الببغاء فوق رأس الجدة، وكل من حولها مستغرب مما يحدث.
قلد الببغاء صوت سارة.
- جدتي يا جدتي.
لحقت الجدة الببغاء، يتبعها الجميع، الى داخل الغابة.
كلما نظر الببغاء خلفه رأى سحابة من النور، فوق رأس الجدة. وعلى السحابة صورة فارس على حصان أبيض، يرتدي ملابس صيد أنيقة. حضنت الجدة حفيدتها سارة، والغزلان والسناجب والأرانب والطيور تتراقص، وتغني أغنية جميلة للجدة الحنونة.
جدتي يا غيمة فجري
جدتي يا جدتي
جدتي يا وردة عطري
جدتي يا جدتي
جدتي تهديني قلباً
ناصعاً كبياض البدر
جدتي تشدو لي لحناً
حالماً كهدوء النهر
مهجتي تمشي اليها
بهجتي تعدو وتجري
حضنها جمر حنون
دفئها في البيت يسري
جدتي يا غيمة فجري
جدتي يا جدتي
جدتي يا وردة عطري
جدتي يا جدتي
جدتي تسدي لي نصحاً
نصحها شهد لزهري
جدتي نبع الهدايا
حلوتي، مشطي، وتمري
تشعل البيت سراجاً
نوره شمس لعمري
صوتها لحن رزين
يفتدي صمتي وجهري
جدتي يا غيمة فجري
جدتي يا جدتي
جدتي يا وردة عطري
جدتي يا جدتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق