الردهة
المصعدُ
لا يهدأ. رجالٌ ينزلونَ من غرفهم إلى ردهةِ الفندق. أطفالٌ يتسابقونَ
إلى المسبح الخارجي. نساءٌ يدخلنَ من الأسواق، أو يخرجنَ إلى محل
التجميل. مضيفو الطائرات يتناولونَ وجباتهم في المقهى، والمضيفاتُ يلتقطنَ
صوراً في الركن الشعبي، المزدان بدِلال القهوة.
ثلاثةُ شبابٍ يتضاحكونَ، وهم يخرجون من المشرب. رجلُ أمنٍ يأمرُ
حاملَ الحقائب بأنْ يُسرعَ لسيارة الضيوف الجدد. موظفُ استقبال يمرّرُ بطاقةَ
ائتمان نزيلٍ شبهَ نائم، وموظفة استقبال تناقشُ نزيلاً آخرَ، حول ثلاجة
الغرفة. المشرفُ على قسمِ الاستقبال، يحاولُ أنْ يمتصَ استياء العريس من
خدمات حفلته، ليلةَ البارحة. أبواقُ سياراتِ الشرطة في الخارج، تطغى على صوتِ
الموسيقى الداخلية.
في تلك الردهة. على أقصى مقعدٍ منها، رجلٌ في الثمانين من
عمره. يرتدي ثوباً أبيضَ، كبياض شعر رأسه. يحدّقُ في انعكاس صورته على
الزجاج الفاصل بين الردهةِ، وبينَ المسبحِ الخارجي.
كلَّ يوم، يأتي العجوزُ، ليحدّقَ في صورتِهِ وقهوتِهِ وصحفِه.
يتغيَّر الناسُ في الردهة،
تتغيّرُ تواريخُ صحفِه وقهوتِه،
لكنَّهُ يأتي كلَّ يومٍ، ليطمئنَ على صورتِه.
طوفان
أجدُني
اليومَ كما أنا: أرتاب بالشمس وأهزأُ بمرآة الصباح، حينَ تريني جدارٍاً لا
ينتهي خلفي.
بعيداً، وأراك. قريباً، وأختبيءُ من موسيقاك المضمّدة في خلخال
وحدتي. أقلّمُ عِصِي نافورتي المثخنة بالماء كي يَنفَضَّ البعوضُ عن دمي
الحامض، وأتذكرك.
هكذا ترتقي صورتي ناقوسَ التكبّر:
على تلٍّ من جماجم الفلّ، انصبُ فزّاعة العزلة، وأُخرّبُ العسلَ الذي
استشرى في نحلِ الظهيرة.
ترمي المنجماتُ كراتهنّ البللوريّة في زبدِ الغيب، وتصطففنَ في زقاق
نبؤتي.
أومئُ للخلق المحشورين في عباءةِ قشعريرتي، أن يشعلوا فتائل النزهة
الحجرية، وأن ينحتوا على مذاق العوسج ملحَ أساورهم.
أومئُ لهم ثم لا أجد في فخِ الطالع سوى نجمةٍ تهتكُ عِرْضَ السفينة
الناسكة.
يدغدغُ الهواءُ أصابعَ النفير، فيهتاجُ نحو النهاية.
أعدّلُ عباءتي، فتتحفزُ الأسرار المُقمِرَةُ، وتصطكُّ ركبتا موالٍ
جرّتْهُ مهرةٌ صابئة.
أدخل مغارتي. ووحيداً أدندنُ للصدفِ المتناثر رطوبة الإلهام الذي
لن يسردهُ أحدٌ غيري:
شاعرةٌ ترقّمُ الحصى كي تصل للذئب،
صعلوكٌ يعيدُ التفاحة لشجرة الغواية.
بحارٌ ينجرفُ بعشقٍ قديم لرعدِ العاصفة.
الفتى
يفتحُ الكفَن
بالذي تترقرقُ عيناه بالصحو، وتكابدهُ سجادة الليل. به يسهر، على
أرقهِ ينام.
بالذي تحاربه نفسه، ويتآمر ضدَّ نبضه. به يتلوّن، من على كتفه
يطير.
هكذا، يصير لليل معنى الوضوح. هكذا، يغدو النهار جديراً
بغموضه. هكذا يكون متلبّساً جريمة البراءة، خالعاً نعله ليدخل جمر الخطيئة.
هي الدماء التي تعصر أوردته، وترديه ذبيحةً لقِوام الاعوجاج.
هو المعوّج، الذي يرتكب الارتباك، ويمتشق الشوق، ليشقى.
أهلكته ممالك الفجر، فجّره النور إلى أشلاء سوداء. تركته
الصباحات، يستجدي الغناء، ولا عناءَ غير شهقاته، يلحّن منها عثرات صوته، ويجد في
نهاية الحفل، أنه بلا معطف يستر اسمه، ودون خطوات تقوده لمنفاه.
هكذا،
بالذي أتعبَهُ، اغتالَ نفسه، كي يحيا مطمئناً.
ظلَّ جثمانه على قارعة النهار، إلى أن أنعشه الليل، وساقته خطوات
الغرباء إلى قبره.
صرخَ أحدُ الذين تجمهروا حول نعشه:
- اهربوا. فهذا الزيتُ الذي يغمر الكفَن سيلطّخنا جميعاً.
هربوا، إلا فتىً رث، بقى طويلاً، يخامرهُ البكاء، ثمَّ فتح الكفنَ
بأصابع واثقة، وأخذ يقرأ الأغنيات، أغنيةً تلو أغنية.
في
غفلةٍ، تعلو
*إلى روح عبدالرحمن المريخي
تعلو اليومَ، كهواءٍ لا يبالي بوقتِهِ، وكفاكهةٍ تجرحُ أوردةَ
موسمِـها عِنوةً، كتَمْرِ "الخَلاصِ" الذي يُخْلِصُ لسُكّرِهِ
وللمْعَتِهِ ولفقرائه المتجمهرينَ حولَ نخيلٍ حَنَتْ أعناقَها، لكي تعتلي أنت.
تعلو، ثم تعتلي. لابدّ أنْ تعتلي. فليس أشهى من مسرحٍ مِنْ
أجسادِ النخيل. مسرحٌ كنت تختبئُ له وتلتجئُ منه، حيثُ لا أضواءَ تستجدي
الوجوه، لا مِكياجاً يشرخُ معاني الألوان، لا هندسةً تهجو جغرافيا الوقت، لا نصاً
يمتدحُ الغواية، لا ممثلينَ يتآمرونَ مع صوتِ الضوء، لا جمهوراً يترقبُ الجليدَ في
فجيعةِ الظلام، حيث أنتَ وحدكَ في غرامِ النخيل. غرامٌ لم يختْـرْهُ
سواك. لم يبقَ أحدٌ كأنتَ ليختارَ أنْ يعلوه وأن يعتليه. تعلو اليومَ
كغيمٍ انتشى باسمه، وكمطرٍ غيّرَ خارطةَ هطولِه، فآثرَ أنْ يعلو.
في غفلةٍ منْ أجسادِ النخيلِ، تعلو. في غفلةٍ منْ جمهرةِ
الفقراءِ، تعلو. في غفلةٍ منْ الأضواءِ والمكياجِ والهندسةِ والنصِ،
تعلو. في غفلةٍ من الأحساءِ، تعلو. في غفلة من الخلاصِ، تعلو.
في غفلةٍ مني ، أنا المتعالي بكَ، تعلو.
غزوة
المشري
في
غيبوبته الأخيرة، همستُ اسمي في إذنه،
فأمطرتْ عيناه.
***
هاتفني الطبيب:
-تعالَ حالاً.
شوارعُ جدّة تفوح بنفس الرائحة، وترسم زمناً بلّله الماء؛ زمنٌ شقَّ
عبابَهُ طائرٌ عنقاوي، عاش بالنار، ولم يستسلم للرماد.
-هل أنت مجنون؟!
-أريد أن أرمّمَ ما بقي مني لأجلها. إنها آخرُ قلب يرفرفُ
بعصافيره في روحي المنهكة. دعني أفعل أرجوك، فلقد تساقط مني كل شيء، ولم يعد
لي بنيان. هي حبري المرتعش، هي بصرُ عينيَّ الرماديتين، هي الخطواتُ التي
تقودني لقدميَّ الباردتين، هي مطرُ رئتيَّ المغبَّرتين، ودم أورتي الصامتة.
-أنتَ تقول ذلك منذ ثلاثينَ هجرة.
يومَها دخلتُ على معرفتي الأولى به، في شقته الصغيرة في
الدمام. راجعنا سوياً نصوصَهُ التي يحفظها عن ظهر قلب. لم أخرج ليلتها،
إلا وقد أسكنته بمرضه المستعصي، داخلَ خلاياي.
-إنها فاتحتي، وهي الخاتمة.
**
غربت الشمس، فانفتحتْ أمامَ عينيَّ قصصُهُ وألوانه
وقصائده. رأيته كأنما يخرج من غيبوبتِهِ، بكامل مرضِه، حاملاً جنوبَهُ
وقراطيسيه وفرشاته وأوتارَ عوده، ليغيب في أحياء جدة، متّجِهاً لغزوته.
غرقى
العلّي
غرقتْ
الخارطةُ بالرمل،
فكانَ على الجهات أنْ تستنشقَ البوصلة.
نخيله قريبٌ كسراج الرضاعة،
وبعيدٌ كشهادة غيمةٍ في جفاف الملّة.
محمد العلي؛ أسترجعُ ارتباكي أمامَ شراسة عينيه اللتين تنتظران
المساءَ بفارغ الأسْر. كأنه لا يرغب في الحديث عمّا جرى في عدَن
يناير 1986م، كما كان يفعل البارحة. وشيئاً فشيئاً، تقفز إلى عينيه أنهارٌ
أليفة، يكون أولها نهرُ معين بسيسو، الذي لم يمضِ على وفاته، وحيداً في فندق
لندني، سوى عامين، يقرأ له نصاً يشبهما، ثم تنهالُ الحكايات.
حين تكون في الثلاثين من عمرك، وتكون مفعماً
بحالة "الماء" الذي لن يعصمك منه إلا إشارةٌ تقودكَ
لنخيل "العمران" بالأحساء، ستقيّدُكَ الأسئلة:
لِمَ ابيضّتْ ستائرُ صوتِكَ،
لماذا تمطرُ كلُّ شمس بك؟!
في ذلكَ الحديث، تعرفتُ إليَّ.
بعدَه، التقينا.
كانَ المساءُ قد حلَّ كثيراً. استرقتُ عينيه المجهدتين، وسط
َالدهشةِ المعتادة للمحيطين بِصَمْتِه، فوجدتهما تسترقان عينيَّ:
-هل قرأتَ روايتي؟!
-هذه ليستْ رواية، إنها طاعون.
اطمأنتْ سفينتي بهذا الداء، وبدأتْ تمخرُ عبابَ الطوفان، بين غرقى قد
غرقوا، وغرقى سيغرقون.
نقش
شواطئُ
الهياكلِ العظمية تحاصره. تسبحُ في غرقِهِ. تقودهُ للجزيرة التي لم
يحلمْ بها أبداً.
-تعالي. انعشي الياسمينةَ التي تستظلُّ جاهدةً بفيء
قلبي. أنتِ لا تصْلِين لمخارجِ حروفي. تجهلينَ حشرجتي. لا
عليكِ. ستقرأين جلدي الأعجمي. انتِ وحدكِ مَنْ سيفهم لَكْنَتي. من
سيعومُ على قشتي. سأدفعكِ بيديَّ اللتين أنهكتْهما سباحةُ
الفوضى. ستجدينني أقودكِ إلى قمر الجزيرة. ستخلعينَ عنه
قميصَهُ. ستداوينَ جرحَ صدرِهِ. ستلعقينَ دمَهُ النازف. ستتكئينَ
برأسكِ على كتفِهِ. ستنامين. سأتركك تنامينَ، وسأجولُ الملحَ بحثاً عن
كلامٍ لكِ.
كان دوماً يزخرفُ الكلامٍ الذي يليقُ بغيابها عن رباباتِ حزنه.
-كيف أجدُ هذا الكلامَ يا غائبتي، وأنتِ لم تعودي تتلمسينَ همهمات براكيني؟؟
لحُسنِ ملحي، أنكِ ملحي. تقودينَ قوافلَ الماء، لأطفو فوقَ
همسكِ. منذ متى لم يجرحني همسك، بسيوفكِ التي أبتهجُ بنصلها. أنا
رهينتُكِ التي تتباهى بسجنكِ. أريدكِ أن تتمادي، فلقد أدمنتِ
جروحكِ. اجرحي بحري. لا تنصتي لمرارة الجزيرة التي دعوتكِ
لها. مرري سيفكِ على عنق فقدي لكِ، واجعلي دمي يتفجر على وجهكِ الذي نقشتُهُ
على وجهي.
أيتها
الظلمة، دثّريني
يكسرُ
قنديلَ الوشوشاتِ الغامضة، ويجعل الضوءَ يشهقُ لصورتِها.
يكتب على كف رائحتها:
-انتبهي. اذا فاحَ الضجيجُ في مفاصل قلبي، فاطلقي سجنَ منديلِكِ
واجعليه يتحررُ في رطوبة تشردي.
أنا أنتِ، حيت تلتفُّ الحشمةُ حول عضديك، وتبعثُ البردَ في قميصكِ
الوحشي.
أنا أنتِ، لمّا يتوارى شهدائي خلفَ مقبرة سيَّجتُها
بالنسيان. وكلما أنفخُ في السور، يتدافعُ الأفّاقون الى مقعدي الذي يحرسه
البنفسج.
أنتِ عندما أتبخّرُ، تصطفّين الماءَ من شهوة ملحي. وفي كرةٍ من
الموسيقى تجمعينني ثم تقذفينني في الشهادة، ولا أدري إلى أيّ محكمةٍ سأصل."
الجذعٌ يميل باتجاه كواليس رعشته. الرمانة تفكُّ أزرار سهرتها كي
تغفو الحمرةُ على مصابيحه. سربٌ من شهقات التوجس يدرأ الماء عن جمر أجنحته.
جذعُ الرمانة يشهق، ثم يسقطُ على هشيم كوّمَتْهُ المرايا المباغتة.
في النفق الذي لا ينتهي، يطفئُ الفسفورَ المشعَّ على جنبات الهياكل
المتحفّزة.
يصيح:
-أيتها الظلمة، دثّريني.
يصلُ إلى المحكمة، ترفرفُ فوق رأسه قصيدة، وتزحف بين قدميه أغنية.
يشيرُ القاضي إلى الشهود، فيلوذون جميعاً بالفرار.
حديقةٌ
بلا نهاية
حين بدأ
الدعاءُ ينهالُ على بياضكَ الأبدي، تذكّرتُ الشمسَ التي كان تشرقُ كلَّ مساءٍ في
حديقةِ غرفتكَ، لما كنتُ أستفزُ ذكرياتِ الرملِ داخلَك، لتنسى تلك القيودَ التي
تحاصرُ أوردتكَ بالمحاليلِ التي لا لونَ لها.
لم يكنْ سوى صوتِكَ المتحشرجِ بألوانِ الكبرياء. لم تكنْ سوى
ابتسامتِكَ الشمّاءِ، التي تُخْفي ارتجافَ كفكَ المحاصرةَ بكفي.
دمنا نطقَ، في تلك الأوقات، لغةً واحدة.
شهيقُنا دامَ ضوءً مطلقاً، وظلَّ بعد انقطاعِ الهواءِ عنكَ، صحراءً
شاسعة، أركضُ دوماً في حكاياتها.
أنتَ الذي صِغْتَ من التيهِ خرائطَ ملونةً بقصائدَ تنثرُ الفاكهةَ من
آهاتها.
مَنْ قالَ بأنكَ لم تعدْ بيننا، وأننا لن نستطعم سكّركَ مرةً أخرى؟!
حين يمرُّ تمْرُكَ بستاناً، فإنهما لا يغادران بعضهما.
هل تذْكُرُ أيها المسجّى الآنَ في الصمتِ، وعدكَ بأن نختلي بالنجوم
شرقَ الأرض، حيث المعدمونَ، الذين يتنفسونَ موسيقى تشايكوفسكي وروايات باسترناك؟!
هل تذكرُ، أيها الغنيُ بالدفءِ، أنكَ كنتَ ستجالسُ الفقرَ معي،
لأحكيهِ عن بردِك؟!
إنها مقاعدُ الحديقة، دوماً لا تفي بوعدِها.
أغنية
الملجأ
عجوزٌ لا ملجأ له. لا مأكلَ ولا مشرب ولا ملبس له. الصيفُ
يحرق جِلده، والشتاء يهشّم عظامه. العيد يمرُّ به، كما تمرُّ جنازات الموتى
الصامتة، وهي تنتقل من مساجد الحي إلى المقبرة الوحيدة، التي لا تبعد كثيراً.
كانَ جنازة تعيشُ في ثوبٍ حي.
ثوبٌ رث، تتصارع فيه الزيوت والروائح الكريهة:
-مَنْ يدلني لقبري؟! منْ يأخذني اليه؟!
كان يغني هذين السؤالين غناءً لا مثيل له، في الأفراح
والأتراح. وكان كل الفرحين أو الحزانى، يبذلون كل طاقاتهم، لإيقافه عن
الغناء، ثم لإبعاده قدر الإمكان عن المكان.
شيئاً فشيئاً. وصل به المكان إلى لا مكان، حيث لا فرح ولا
جنازات. هناك، صادفه شابٌ كان يعاني من أن لا ملجأ له، لا مأكل ولا مشرب ولا
ملبس. كان هذا الشاب يجهل كيف يغني. طلب من العجوز أن يعلمه غناءه.
ذاتَ نهار صيفٍ قائظ، شاهد الناسُ العجوزَ والشاب، بملابسهما الرثة،
وهما متشابكيْ الأيدي، كما يليق بجنازتين. شاهدوهما يتوجهان إلى المقبرة،
وهما يغنيان غناءً مشتركاً لا مثيل له.
غيداء
مرّت
فترة طويلة، لم تكن فيها قادرة على الجلوس على طاولتها، واستخدام حاسوبها، الذي
كان يحلّق بعزلتها الصامتة في فضاء الضوضاء والمحادثات والرسائل والصور. كانت
المواقع الالكترونية الرومانسية هي ملاذها، حين لا تجد سوى الليل الأعزل والشموع
الباردة. اختارت مجموعة من صديقات "النت"، لكي تعوض حزنها على
صديقاتها اللواتي تناثرن في سديم الهجران، خاصة بعد وفاة "غيداء"،
التي كانت مظلة بيضاء، تقيهن شمس القطيعة. حين انتشر خبر وفاتها على الطريق
البري المؤدي للمدرسة التي تعمل بها، صارت الطرق بالنسبة لها كالأفخاخ التي تتربص
بها. صارت طرقها تضمحل شيئاً فشيئاً الى أن تختفى.
وحيدةً غدت. نهارها يتشبث بستائر الليل، كي يستحيل الضوء ظلاماً،
وكي لا ترى رماد الطرق. حينها، حين ينكفئ الليل، تتصادق عتمتها مع قبسٍ بدأ
يُشتتُ دجاها: أسماء مستعارة تحادثهم، تطمئن على أحوالهم، تحكيهم عن مظلة
غيداء البيضاء، تختار لهم قصائد لنزار قباني وبدر شاكر السياب.
ها هي على طاولتها بعد فترة انقطاع. ها هي، يتباهى النرجس
بهامتها وتفيض الزنابق البيضاء من ضفائرها المحناة. فتحت بريدها الإلكتروني
واختارت أن تكتب رسالة جديدة:
-" باركوا لي يا بنات. البارحة احتفلت بخطبتي ".
ذهبت لقائمة عناوين "إيميلات" صديقاتها المستعارات، وبدأت إضافتها لمن سترسل اليهن
الرسالة. وما هي إلا لحظات، حتى وقعت عيناها على
عنوان "إيميل" هز حياض رموشها، وجعل النرجس يذوي على أوردة
هامتها.
أشاحت بوجهها عن شاشة حاسبها الآلي. أرخت رأسها على حافة ظهر
المقعد.
- أأمسح عنوانها؟! كيف أمسح شيئاً ارتبط بها، وارتبط بي
لها؟!! كيف تجرؤ أصابعي على أن تزيل حروفاً أخذت شكل ملامحها وروح
ملحها؟!! هي وحدها التي حرصتُ على الاحتفاظ بعنوان بريدها الالكتروني، دون كل
اللواتي تناثرن عني في ذلك السديم الأليم، فكيف أمحوه؟! كيف أمحوه، وهي التي
ظلت معي الى آخر مساء، والى آخر "تصبحين على جمالك"؟!! أتجرؤ
عيناي على ألا ترى عنوانها الذي لم تشأ أن تجعله مستعاراً، بل يحمل نفس اسمها؟!!
بشجاعة باكية، استدارت الى جهازها. عدّلت في نص رسالتها:
- " الى صديقتي التي لا
أفتقد سواها.
إلى الضوء الذي لا يزال يتقد في ظلامي.
باركي لي يا غيداء. لقد احتفلت البارحة بخطبتي ".
ولم ترسل الرسالة لسواها.
طائش
الأمل
أهم ما
في هذا الأبد، الذي دخلته محفوفاً بلا أحد، أنني كنت فيه، منذ بداية النهار، أضحك
بهوس كي أجبر دمي أن يتقاطر من أوراقي، الى أن تصفّر، الى أن تشتعل، تماماً عند
غروب الشمس.
لم أكن هناك فرحاً بالفرائس التي تتمدد تحت قدميّ من تلقاء نفسها، ولا
بالقمر الذي يتبدّر كل ليلة من أجلي، ولا بالهواء الذي يتضافر مع الشجر، ليغرفَ لي
ريحاً لا جهةً داخلها أو خارجها.
كنت أطفو على بحيرة وَهْم بأن امرأةً ما، تآمرت لي، لأقصد هذا الأبد
عنوة، وانها ربما هي التي كتبت "العار" ذات ليلة، لكي تختلي
بي غداً، في الضحك والدم والفرائس والبدر والريح.
أنا لا أفكر بالثعالب، ولا بالصحراء. أفكر بوهمي بالمرأة ذات
الفراء الرملي، التي قادتني الى الأبد.
يا الله، كم أنا طائش الأمل.
نسيت، ودوماً أنقاد مجبراً الى هذه العادة، أن ليس في هذا الأبد، ولا
في أي أبد، امرأةٌ، يكون بمقدورها أن تلعق كرية واحدة من هذا الدم الذي يغرقني.
لذلك، فلن يجدي الخروج من الصوم، ولا إطلاق الزغاريد والذبائح، فهذا
الذي سيعود للقبيلة، لن يعود: ربما يعود مَنْ هو غيره، وربما هناك من هو
غيره، ولم يغادر أصلاً.
فاتحة
الفاتحين
كَفّها،
حينَ ترسمُ عليه شفتايَ قُبلةً، تنبضُ بما يحويه قلبي مِنْ تراتيلَ عشقِها.
كَفّها، حينَ تفوحُ منه عطورُ السنينِ، وكبرياءُ الصبرِ، وباقاتُ
التحمّل.
كَفّها، حينَ يحينُ الحنّاءُ، فَتبْسِمُ له، كطِفلةٍ يافعةٍ بالوردِ.
كَفّها حينَذاكَ، يغدو كَفّين.
كَفٌ تفيأتُ بظل رحمتهِ، وكَفٌ اعشوشبت بتغاريد مِسْكِه؛ كفُّ أمي.
لتلكَ اللحظة. للحظةِ إنحناء رأسي لعروق كفّها، ألثمُ كلّ التعب
الذي أهدته لي، تقويمٌ من الحبال التي امتدتْ بيننا، منذ السر الأول، وحتى البوح
الأخير.
كم تختفي النساءُ، حينِ يشتعلُ الـبوحُ لها. أنا في الحقيقة لا
أبوح، بل أنثالُ كغصنٍ يئنّ لشجرتِه. كرأسِ ملّ الوسادات، ثم مالِ، ومالَ،
ولم يجد سوى قطنِها ليعتدل.
يا فاتحةَ الفاتحين لمشرقِ دمي، وخاتمة خواتمَ ليلي. يا بَدْوي
الراحلينَ من صحرائي لبحري. يا حَضَري المستوطنينَ حضورَ فؤاديَ لكِ. يا
كل القوافل والقبائلِ والسواحل.
ها أنذا أقتاتُ من نشيد محيَّاك، و اتنـزّه في سلسبيل ضيائك.
يا أمي. يا كفكِ الذي يتجمهرُ في وحدتي، فأصيرُ ازدحاماً اسمه
أنتِ.
***
يسفح على تلالي ماء ورْدكِ،
فتنهض رمالي لرقصة واديـَّةٍ، يهلع لها أقحوان الهواء.
حين آتيك بعد غيابٍ سجنني عنك بقضبان الوقت المتسخ باللاشئ ، يكون كل
الأقحوان ابتسامتك.كل الماء، الورد، الرمل أنت، حين تمسحين بكفك المعروقة بخرائط
القرى، على شعري، وأنا أمطر ظاهر يدك بقبلة جاهدتُ أن أزيّنها بطهارتكِ.
أراك في كل ارتحالٍ لي، تقودين، ببيارق النور التي ترفرف على حياض
عينيك، قوافلي الى مهجة المشارف التي لم يمسسها الزيف، ثم تستقبلين تعبي بمناديل
هدهداتكِ.
كيف لي أن أتيه، وأنت خارطتي؟!
كيف لا أجدل أعياد الطفولة، التي لم أذق حلواها من قبل، بأعياد
الأمومة، التي بللت أعناقها الماضية بدهن العود لك، لأنتهي بضفيرة تنسدل على كتف
عيد متغطرس بالحب؟!
أي حب يعادل هذه الشهقة التي تفوح من بين أضلعك سراً، لما تصطاد عيناك
عيني؟!
دبيب
الاصفرار
لم يستطع
النوم. للتو أراح رأسه المتعب على الوسادة. السرير يتكيء على الجدار
الذي تتوسطه نافذة زجاجية كبيرة، تكاد تكون بنصف مساحة الجدار. هو دوماً
يتساءل:
- لماذا كل هذا الحجم للنوافذ، وهذه البلدة كلها شمس حارقة، وكلها أناس
يكرهون الإقتراب من الزجاج؟!
حاول أن يتقيد بنصيحة أحد أصدقائه. جدَّد كل بطائن النوافذ لكيلا
تدخل ذرة غبار من الخارج الذي إتشح بغبار لم يشهد الناس له مثيلاً. لكن
النصيحة لم تجدِ نفعاً، ولعلها لم تفعل مع الصديق العزيز، وربما بسبب التعب الذي
تعبه في عملية تغيير بطائن نوافذه، أحب أن يوهم نفسه وأصدقائه أن المسألة
مجدية. وكيف ستكون كذلك والغبار اليوم صار يملأ الأجواء يومياً، فلا تتوقف
عاصفة رملية حتى تهب أخرى؟! وفي كل عاصفة، يكون الرمل في الهواء أكثر كثافة
من رمل الصحراء. كيف يطير مثل هذا الرمل في الهواء؟! لا ساري و لا أحد
غيره لديه إجابة لهذا السؤال. كل ما يعرفه، أن الرمل أخذ يخترق المساحات
المغلقة، أكانت هذه المساحة غرفة عازب على سطح بناية أو فندق من طراز خمس نجوم أو
مبنى شركة مساهمة خضراء أو مشفى كبار شخصيات. الغبار هو الوحيد الذي لا
يستثني أحداً. الكل أمامه سواء. الثري الرشيق في نادي بيته والبائعة
المتجولة الخائرة القوى والطفل المصاب بالربو والوزير الذي يلعن أي منغص يمس نشاء
غترته. حتى جدران المباني وواجهات العمائر الزجاجية وأحواش المنازل وأرصفة
الشوارع لم يستثنها الغبار الجديد العتيد العنيد، فصارت كلها أشبه بلعب أطفال
مهملة منذ زمن في شارع مترب. وكلما حاول الأهالي غسل هذا الضيف الثقيل، تحول
المشهد على أحسن الأحوال من مشهد مترب جاف إلى مشهد مترب مبلل. وما يجعل
التراب يثبت ويصعب تحريكه بالماء، فضلات الطيور والعصافير التي كأنها حلَّت على
البدة مع حلول الغبار اللزج، أو كأن الناس نسوها تتناسل على أعالي الأسقف الخارجية
وخلف مولدات المكيفات الجدارية وداخل جيوب القرميد و تحت الأقواس الحديدية لمواقف
السيارات، فوصل تناسلها الى أقصى مداه في الظلام النهاري للعواصف الترابية.
-أهو فرح الطيور بالغبار ؟! أيمكن أن يفرح العصفور أو أن تبتهج
الحمامة بإعصار رملي يحجب النور عن العيون والهواء عن الصدور؟!
هي الأسئلة تتوالى عليه، وهو يحاول أن يثلج صدره بهواء ليس له طعم
التراب، أو أن يشنف سمعه بهدؤ لا تعكِّره زقزقات العصافير وخربشات مخالب الطيور
على سقف غرفته. ولأنه لم يستطع هذا ولا ذاك، فإنه ظلَّ يحاول بكل جهده أن
يتناسى الهواء والصمت وأن يمرغ وجهه بقطن وسادته، علَّها تهديه إغفاءة قصيرة، يعود
بعدها للفترة المسائية من حياته، تلك التي تعج بالغبار وبفضلات الطيور.
مبخرة
الهواء
تهطلُ
كالليلِ، حينَ يذرفُ النهارُ أوردتَهُ على مبخرةِ السماء. أكونُ قَدْ كنتُ في
إنتظارِها كخيلٍ حطَّهُ الهيلُ في ثنايا جفافِ الفناجين.
بدونِها، أجِفُّ كبحرٍ تاهتْ خطاهُ على لسانِ شاعرٍ لا يصحو من
البكاء. وبها أستفيقُ من عناءِ النومِ، وأستريحُ في حربِ النهار.
هي:
شمعةٌ تحلِّقُ فوقَ عُشِّ الفراشاتِ، لترشُفَ منها حريقَ الرحيقِ ،
ولتكونَ شَهْدَ النساءِ وشاهدتهنَّ. كي تكونَ خُلاصَةَ مَشْهَدِهنَّ
المتعاليَ في فضاءِ إنوثتهِنَّ، وفي أجنحةِ نارهِنَّ.
هي:
ستارةٌ نذرتْ قِماشَها على مذبحِ الألوانِ، فنزفتْ الحريرَ تلوَ
الحريرِ، الى أن إستوى قوسُها على جودي قُزَح، ثم رمقتْ الطوفانَ بطرفِ قلبِها،
فاستكانَ للكتانِ المطبقِ على شفتيها.
هي:
شهقةُ الفجرِ، تنهيدةُ الشفقِ، حمى الصباحِ، قشعريرةُ الضحى، إنتفاضُ
الظهيرةِ، إرتجافُ المقيلِ، صبابةُ الأصيلِ، فورةُ الغسقِ، إشتعالُ المغيبِ،
وجمرُها هو الذي يحومُ الظلمةَ راسماً نجومَ السهرِ، نجمةً نجمة.
هي:
رنة الليلِ، الذي ترنو مبخرتي لهوائِه،
والتي أنتظرها كخيلٍ هيلُهُ رحيقُ شمعتِها.
هو
مطرُكِ
إزدانَ
المساءُ بخطواتها التي مزّقتْ صمتَ المساء. وكناسكةٍ، تجيدُ فضحَ جيدها،
دخلتْ تسأل المكانَ عن صلاةٍ نائمة. كان هواءُ المكان قد ضاقَ بجسدِه
المعتل. كانتِ الساعةُ المعلّقةُ تهذي لجلدِها، بأن الوقتَ قد حانَ
للجليد. لولاها، لتفتقتِ الجدرانُ بالهشيم، ولسالَ نهرٌ من التجاعيدِ فوق
إبتسامات، تأجلتْ دهراً تخبأ في ذاكرةٍ ضائعة.
دخلتْ، فاستفاقَ الوردُ، واصطدمتْ بيارقُ النشوةِ ببعضها.
بكبرياءِ العاشقةِ الملهمةِ الخيل، أطلقتْ رسنَ صوتِها، و أشعلت جمرَ
صورتها. هناك، حيث لا نِزالَ إلا للفوز بها، إستلّ هو غناءه، وإستهلّ
ضراوته، ففرّ الفرسان له، وركعَتْ الصحراء لإنتصارِه.
هو الآنَ يجدلُ ياسمينها بنشيجهِ.
هي الآن تخضّبُ رمالَهُ بتراتيلِ عينيها.
سألته:
هل هذا الذي يهطل من ظلامك، هو شجرُك؟؟
أجابها:
بل هو مطرُك.
وفي النور الذي عمّ المكان فجأةً، نهضا يمطران، كطفلينِ أخرجهما
الزمنُ من كهولتهِ.
أمطرا، الى أن فاضَ المكانُ بماءٍ يخجل منه العطر.
وجهُكِ
شواطئ
الهياكل العظمية تحاصرني. تسبح في غرقي. تقودني للجزيرة التي لم أحلم
بها ابداً. ها أنذا على ملحها. أصرخ أن تعالي. أنعشي الياسمينة
التي تستظل جاهدةً بفيء قلبي. انت لا تصلين لمخارج حروفي. تجهلين
حشرجتي. لا عليكِ. سأتنفسكِ. سأحكّمكِ كل جزائري. سأجعلكِ
تدخلين إلى مسامي. تقرأين جلدي الأعجمي. انتِ وحدكِ من سيفهم
لَكْنَتي. من سيعوم على خشبتي التي لا أملك غيرها. ستعومين لا
تخافي. سأدفعك بيديّ اللتين أنهكتهما سباحة الفوضى. ستجدينني أقودك إلى
قمر الجزيرة. ستخلعين عنه قميصه. ستداوين جرح صدره. ستلعقين دمه
النازف. ستتكئين برأسك على كتفه. ستنامين. سأتركك تنامين، وسأجول
الملح بحثاً عن كلامٍ لكِ. كنت دوما أبحث عن كلامٍ يليق بغيابك عن ربابات
حزني. كيف أجد هذا الكلام يا غائبتي وأنت لم تعودي تتلمسين همهمات براكيني؟؟
لحسن ملحي، أنكِ ملحي. تقودين قوافل الماء، لأطفو فوق همسك. منذ متى لم
يجرحني همسك؟؟ ومع هذا تظلين تمسكين السكين التي أبتهج بذبحها. أنتِ
وحدك من يقذفني في فضاء الارتهان. أنا رهينتك التي تتباهى بسجنك. أريدك
أن تحيلي هذه الجزيرة قلعة لا شواطئ لها. أريدك أن تتمادي في تعذيبي، فلقد
أدمنت جروحك. يا شفائي، اجرحي بحري. اجعلي التائه يتيه فيك. لا
ترأفي بلومي. لا تنصتي لمرارة الجزيرة التي دعوتك لها. مرري سكينك على عنق
فقدي لكِ، واجعلي دمي يتفجر على وجهك الذي نقشته على وجهي.
سمّيتُ
على اسمك
خطى قهوة
الجمعة متسارعة،
وسوف لن أغفر لكَ أن ترتلَ صورةَ البارحة،
إنها صورةٌ طويلةٌ،
تعريتَ فيها كهدهدٍ لم يأت بخبرٍ،
لأنَّ بلقيسَ كانت معنا،
كنا نشي بسليمانَ لها،
وأنه سيغزو رنينَ خلخالها،
ثم يموتُ على كرسيِّ نملِهِ في غفلةٍ منا.
سألتكَ:
-ما الفرق بين الدم وزرقة الرسائل المتأخرة؟!
أجبتني:
-كلاهما يتهجّئان الهواءَ، ويهجوان الماء.
كان اسمكَ قبل ليلتين، ضائعاً في سنّارة الصحراء، وكنتُ أحاول أن أفهم
مغزى أن يكون للرمل معطفٌ وطاولةٌ وابتسامةٌ للعابرينِ إلى الداخل دون أن يكون
بامكانهمِ الخروج.
قبل ليلتين، راودني أسمكَ وهو يطبقُ بأظافره على
عنقي. تشهّدتُ. رأيتني أتحولُ شيئاً فشيئاً الى شهدٍ يسيل على سنارة
بحّار أعرفُ آثار شاطئه. لوّحت له، فجلب لي أشرعة هوائه.
-أتعرفني؟!
صرختُ به:
-التقطه.
رفع السنّارة،
فأخذتَ تسعلُ وتسعلُ وتسعل.
أزحتُ علبة سجائركَ التي ظلّت أمامك طيلة العري الذي جمعنا.
سألتني النادلة:
-هل لصاحبك إسم؟!
قهقهتَ ونحن في طريق الفجر إلى غرفتينا.
سميّت عليكَ وعلى اسمك، ثم غادرتك كي تنام.
صلاة
الدمع
كان
الأرملُ يتوقع أنْ يصلَ، هو وابنتُهُ البالغة سنتين، إلى بيت أمّهِ قبلَ آذان
المغرب، لكنَّ الزحامَ لم يسعفْه. دخل بها إلى مسجدٍ صفيح صغير، في حيٍّ من
أحياء الفقر العشوائية، والتي لا تبعدُ عن حيِّ أمه كثيراً.
صفَّ للصلاة التي أقامَها الإمامُ قبل دخوله. ولأنه لم يترك
ابنتَهُ، منذ وفاة أمِّها قبل سنة، إلاّ مع أمّه، فلقد جعلها تَصُفُّ للصلاة معه،
إلى يمينه، في منتصف الصف الأوّل.
طيلةَ الصلاة، كانت ابنتُهُ واقفةً عكسَ القبلة، تحدّقُ في وجوه
المصلين في الصف الثاني، وجهاً وجهاً. كان البكاءُ يصارع ذقنها وعينيها.
لم يخشع المصلون. أخذوا يحدقون في تحديقها، وأخذَ البكاءُ يصارعُ
ذقونَهم وعيونَهم.
بعد برهةٍ من تسليمةِ الإمام، حضنَ الأرملُ ابنته، ثم نهضَ بها خارج
َالمسجد بخطواتٍ عجلى، وكانت هي تسندُ رأسَها على كتفه، مخفيةً وجهها ودموعها.
دونَ أيّ اتفاق، قام كلُّ الذين كانوا يصلّونَ في الصف الثاني،
ليعيدوا صلاتهم.
ذلكَ الذي اختاروه ليؤمَهم، أجهشَ بالبكاء، قبل أنْ يقرأ سورةَ
الفاتحة.
صاعقة
اعتادَ
أنْ يلبسَ أجملَ حُلله. أن يتعطرَ بأجمل الأريج الذي تخبئُهُ
قواريره. يظلُّ يذرعَ السوق جيئةً وذهاباً، لكي ترى حللَهُ إحداهنَّ أو تشمَّ
أريجه، ويظنُّ أنَّ هذه تنظرُ اليه، أو تلك لا تسقطُ عينيها عنه. هو لا يتورع
أن يرمي ورقةً أنيقة تحمل رقم هاتفه واسمه المستعار، على مَنْ تريد وعلى من لا
تريد.
في ضحى سوقٍ ساكن، لمحَ امرأةً شابة تدخل محلاً تلو محل، واهماً بأنها
لم تأتِ في هذا الوقت إلا للتسكع. كانت المرأةُ في عجلةِ من أمرها، ولم يسعفه
الوقتُ لأن يرمي لها رقمه. خرجتْ من السوق، واستقلَّتْ سيارتها.
عادَ بنظره الى آخر محل كانتْ فيه، فوجد البائعَ الآسيوي يركضُ حاملاً
حقيبتها. اعترضَ طريقَهُ، مدّعياً أنه يعرفها. أخذ الحقيبةَ وركض الى
بوّابة السوق، لكنَّ سيارتَها كانتْ قد غادرت. فتح الحقيبةَ محاولاً البحث
عمّا يمكّنُهُ من الاتصال بها. أثناءَما كان يستعرضُ ما بداخلها، احمرَّ
وجهُهُ فجأة، وبدأ العرقُ يتقاطر من جبينه. كان كمن صعقتْهُ كهرباءٌ مرجفة.
أشعّة
الهمس
كان
الصيادون يتبارون في رمي سنَّارات أفئدتهم وسط موج البحر. وكان نبضي هو
الأبعد.
-هل سأنتشيكِ؟!
مالت الشمس للنحيب، ولا أزال أكتبُ ضحتكِ. صفحة الماء
مُنهَكة. أكاد أرى لمعة صوتك.
-مساءَ السَيْر.
أغرب ما في كلّ شهر، أن أيامَهُ تتلألأُ بعناقيد إنتظارك. هدّني
العنب. عَصرتْني أشعةُ الهمس، ولا سبيل إلاّ أن أتذوقَ ظلَّ عرائشك.
- أوجعتْني سنارتك.
- أعرف يا حبيبتي، تحمَّلي.
أظافري قصةٌ غارقةٌ في أنامل الطريق. أُطيلها، كي أقتصَّ من
بُعْدكِ.
- هيا. عدْ من غيبوبتك.
كنت سأصحو من نشيج السرير، لولا أنَّ البحرَ نعسَ عن قواربه وأخلدَ
لشاطئه.
في المدى، هُنالكَ خدُكِ، يتعلّمُ الفجر النطقَ على
صفحتِهِ. تقتربُ الأهلّةُ من مشيمةِ قصيدته، فتصومُه اللغة، ثم تَلِدُ قافيةً
تشبهه.
بعد أيام، سيهتزُّ نجمٌ، وسيضطرب في مدَاراتكِ الوقت. سأصعدُ
بروحكِ، سأحنّي بصوتها الغيمَ، وسأعطّرُ الكواكبَ بظلِّ شفاهِها. وحينَ
تتفتّحُ السماءُ، سأزخرفُ معها أرواحَ العشاقِ، روحاً روحاً. وعلى كلّ ِروحٍ،
سأنسجُ حلماً، وسأروي بذرةَ قصة.
ها أنا أعود!
الساحة
حين كنتُ
أمشي باتجاه مقعدي وسطَ ساحة النساء، شعرتُ بأنني أغادرُ نسائمَ حديقتي الخافتة،
إلى بيادر ساطعة من الأضواء. كنتُ كأنني أعبرُ جداراً يفصلني عن صحراءٍ
مغتربة: منذ طفولتي، وأنا وحيدةُ أبي الأرمل. كان يراقب أغصاني، وهي
تنتشرُ في ساحة البيت، ويراقب أزهاري وهي تتفتحُ، لتملأ حياتَه بعطري، الذي لم يكن
يستحقه سواه. وحين اختارَ مَنْ يقطف ثماري، تمنيتُ أن يكونَ شبيهاً به.
الرجل الآنَ خارج الساحة، تَصِلُني عنه أوَّلُ القصص، بأنه
نزع "بشته"، وتفرغ لخدمة الضيوف: هوذا أبي، وانه كان أولَ
الضاربين على الدف، وأولَ مَنْ عَلَتْ قصائدُه لتزخرف َالفضاء بالوجد: هوذا
أبي، الذي يحول كلَّ مكان يكون فيه الى خيمةٍ تدفئُ ضيوفَها بحكايات
العشق. كم كنت أودُّ لو وُلِدتُ ذَكَرَاً، لأشاركَهُ فروسيته. أشفقُ
عليه كنتُ، حين يخلقُ من العدم، ما أريد. ولم أكن أريدُ إلا أن أراهُ رايةً
شامخة، تعلوها النار.
هكذا كنت أريد الرجلَ الذي سيختارَهُ لي. هاهي الزغـاريدُ تهتاجُ
الآنَ، احتفاءً باقترابه من مقعدي. الآن، سأراه.
حصّة
الحزن،
هو سيْلُ الوقت، حينَ يهطلُ من شهيقِ الظلام، لينغرسَ في الرملِ الذي ينخرُ قدميك.
الحزن، هو أن تصلي جمعةَ وحدتكَ، ثم يُعْدي دعاؤُكَ دواءَك، ويبقى
الداءُ في خشوعك.
الحزن، هو أن يختلط الأمرُ على قدميك، فتمشي بهما إلى ملجأ سريرٍ لا
ينام.
الحزن هو أن تغرورق الصور في عينيك، فترفعهما في وِتْر الليل، ليعرف
الله كم لا أحد يصافحهما، ويسألهما:
-أين هيَ حصّة؟؟
الحزن هو جهةٌ تؤاخيها البوصلة، وتنحاز لها مواسمُ الريح والمطر.
في ظلمةِ الشارع،
إلْتفتَ آخرُ المعزين وهو يحملُ ما بقى من ضجيج الأيام الثلاثةِ
الماضية، ليجدني أجمعُ الدموعَ من الطريق، وأبذرها في ترابِ الصمتِ الكاسرِ الذي
بدأَ يزحفُ بإتجاهي.
يزحف، يزحف.
كنت على وشك أن أستعيدَ تنفسي ونفسي، حين شعرتُ أنها تكتبُ صوتَها على
سياج ظلمة الشارع. كانتْ بحّتُها تختلطُ ب "نسيم" قبرها
الذي غادرتُه قبل مغيب الشمس، فصار الهواءُ لا يجرؤ أن يدخل رئتيَّ.
الصمت الكاسر يزحف نحوي، ليلتهم َكل عظامي التي ظلَّتْ، طيلة حياةِ
شللها، لها.
كتاب العيد
في
حنائها
تسهرُ ليلةَ العيد تجمعُ أحباباً فارقوها،
تسترجعُ سنواتٍ قضتها معهم،
سنةً بعد سنة.
-يا لها من سنوات،
كم طالتْ بي، منذ فارقوني.
كم تركوا في ذاكرتي جروحاً أستعيدها كلَّ عيد.
فَقْدُهم هو جرح،
وإجتماعُهم حولي هو فرح.
تسرّح الحناءَ على شعرها الذي لم يفقدْ وهجه.
تجمع خصلاتٍ منه بين كفيها، لتشمَّ عطره،
كأنها تشم مواعيدَ أخلفوها معها، فبدتْ وحيدةً، تستعد لأن يأتوا:
-عيدكِ مبارك.
تحدّق في ثوبها الذي تحرص أن يزدانَ بألوان الريف، وبلمعة الشمس،
وبرائحة المطر.
هي هكذا تراه،
زمناً في مكان، أو مكاناً في زمن.
ترتديه لتقول للعيد، بأن الأبناءَ والأحفاد هم ثوبها المطرز برائحة
القرى، وهم ظفائرها المحناة بتلويحات من غادروها.
كلَّ عيد، تحضن الأحفاد بإبتسامةٍ تشوبها دمعة، وتصافح الأبناء بدمعةٍ
تتوجها فرحة.
كلَّ عيد، تغادر غرفتها فجراً، لكي تمنح الجميعَ شمسها الممطرة،
وفي الليل، وبعد أن يستلقي العيدُ متعباً على فراش اليوم الأول، تغلق
الباب خلفها لكي تعايد الذين ظلوا في انتظارها طيلة اليوم.
يدخلُ
كالبخور
يتسلل
الفجرُ لسريره خائفاً هامساً:
-هاهو كما كان بالأمس، غارقاً في هواجسه، تتقاطر المحاليل الدوائية إلى
أوردته ببطء، غير عابئ بها. أهطلُ في غرفته بصمت، أزيح الظلامَ الخانق وأغرس في
الزوايا نوراً بهياً، لكنه يظلُّ يحدّقُ في الفراغ الذي لا يفرّق بين الضوء والعتمة.
هذا الفجر غير كل فجر،
إنه فجر العيد.
كان قبل أن يغمد المرضُ خنجرَه في خاصرته، يستقبل العيد على جبال
تهامة.
كان العيد يتبلل بفرحه،
كان أكثر من يفرح بالهلال وهو يبزغ في سماءٍ لا يراها سواه،
كان يزخرفه بالبياض وبالهدايا وبالابتسامات، ثم يطلقه للأطفال
وللصبايا وللفتيان،
وكانوا جميعهم يشمون العيد نهاراً ببخوره وبغيومه، وليلاً بقصائده
ورقصاته،
كانا، هو والعيد، جسداً واحداً،
لا يفرق بينهما سوى قافلته، وهي تهم بالرحيل بعيداً، حاملة ذكريات
الضحكات وأريج اللقاءات.
ثم ها هو في سريره،
بعيداً عن تهامة،
كبُعدِ الصحو عن الغيبوبة،
وكبعد السرير عن الخطى التي تآخت مع الجبال العسيرة.
ها هو يصارع حقيقة أن يكون بعيداً عن العيد، وأن يفترق طيلة هذه
السنوات عنه، داخلَ غرفةٍ لا تتحدثُ بلغة الهلال، ولا تتفهم زخرفة البياض.
ها هو يسمع الباب يخطو باتجاهه، فيظنها ممرضته، لكنها لم تكن هي.
كان مزيجاً من بخور وضوء ومطر.
يخرج من
بكائه
تكاد
الريح تقف بين يديه،
تلامس تلك النظرة في عينيه، وهو يرمق الأفق باحثاً عن جواب:
-لماذا يطرق العيد بابي كلَّ عام، دون أن يؤنس وحدتي أحد؟! لماذا كنت
وحيداً دوماً، لا أباً يغلّف اسمي، كما يغلف المطر فاكهة الشجر، ولا أماً تهدهدُ
وحشة قلبي المنهمر خوفاً وقلقاً؟!
يدوّي العيد بضحكاته العالية، بعد مغرب الشمس.
يراهما يضحكان معاً، فيخنقه البكاء،
لكنه ككل عيد، يخرج من بكائه إلى ساحة الفرح المنتظر، حيث الحلوى
والألعاب والهدايا البيضاء. يخرج من أسئلته اليومية إلى الأجوبة التي يكتبها العيد
ذلك الصباح، لعلها تملأ الأفق، فتمحو كل نظرة ظلَّ ينظرها.
-ما يجعل العيد عيداً، هو الرفقة بكل الأطفال الذين لا يعنيهم أمر أبي
وأمي، فكل آبائهم وأمهاتهم يفرحون مثلما نفرح، ويتركوننا نتأرجح في الهواء وفي
الصراخ وفي المرح.
تسابق الساعاتٌ نفسَها في يومه الأول،
يحاول أن ينشب أظافره في الوقت، لكي يتوقف، أو أن يبطئ،
لكن المساء يلفظ أنفاسه،
فيعود يجرجر ذلك الهم الذي يطبق على قلبه، قبل أن ينام:
-ألن يصطحبني أحد إلى فراشي، فيراني وأنا أتهيأ للنوم، بعد هذا العيد،
وهذه الحلوى، وهذه الضحكات التي ملأت السماء رنيناً؟!
لا يجيب أحدٌ على هذا السؤال.
يطرق بابَ وحدته، مثل ما يفعل كل ليلة،
يدخل، وهو يفكر بالمطر الذي يغلف الحلوى،
وبالهدهدة التي تبدد وحشة القلب.
يرتمي على السرير،
ليحلم بيوم آخر من أيام العيد.
صهواتها
ظلَّ
العيدُ يحلّق هائماً في فضاءات الزمن، إلى أن شارفتْ خيولُ "هتون" على
الوصول للقرية الصغيرة.
سأل العيدُ أهلَ القرية:
-هل وصلتْ هتون؟!
أجابوه:
-ليس بعد.
-ومتى ستصل؟!
-ها هي الخيول تستريح من عناء الرحلة التي جاءت بها. ها هي على مقربة
منا. نكاد نشم رائحة سريرها الصغير، المزدان بأزهار كل حدائق الزمن.
-سأستعد إذاً.
-يجب أن تفعل، فقدومها هو ميلادُ قدومك.
ذهبَ العيدُ إلى النهر. وبالماء المعطّر بأوراق التفاح والليمون،
استحم.
وتحت شجرة اللوز اليانعة، استلقى لكي يجدد نشاطه.
وما هي إلاَّ لحظات، حتى نعس، ثم غفا.
حلم بأن الخيولَ تتسابقُ باتجاه القرية، وهتون تمتطي صهواتها، صهوةً
بعد صهوة.
وفجأةً، لمعتْ عيونُ وحشٍ عملاق، كان يترصَّد لها.
ارتعبت الخيولُ، ثم هاجت،
كادت هتون أن تسقط بين الأقدام الخائفة،
لكنَّ فارساً مرتدياً حلةً من بياض، التقطها،
وحلّق بها إلى غيمة بعيدة،
هناك، خبأها، ثم عاد ليغرس سيفه في قلب الوحش العملاق.
صحا العيد، فوجد هتون تعبر بوابة القرية، ترافقها الغيوم.
ووجد الفارس، يصيح:
-هذا عيدُ حفيدتي، هذا عيدُ حفيدتي.
القطة
خلفَ النافذة
بذل
بتّال كلَّ جهده ليشرح لقطته بأنها يجب ألاَّ تكون معه في هذا اليوم.
سألته القطة:
-لماذا؟! لماذا لا أكون معك في هذا اليوم، كما أفعل كلَّ يوم؟!
-لأنه يوم العيد.
-وما هو العيد؟!
تردد بتّال قبل أن يجيبها، وبدتْ عليه علامات الارتباك:
-العيد هو مناسبة نلبس فيها ملابس جديدة، نفرح ونجتمع مع أقاربنا ونحصل
على الهدايا.
-ولماذا لا أفرح معكم؟!
ضحك بتّال بسخرية:
-تفرحين؟! كيف تفرحين وأنت قطة؟! كيف تلبسين ملابس جديدة، ومن سيعطيك
الهدايا، وأنت لا أقارب لك؟!
***
هلَّ هلالُ العيد، وانشغل بتّال بتجهيز نفسه لصباح اليوم التالي.
كان يظن أن قطته عملتْ بنصيحته، وأنها اختبأت في بيتها الإسفنجي
الصغير، داخل غرفة أخته الكبرى، حتى ينتهي العيد.
***
في فجر العيد، نهض بتّال نشيطاً، على الرغم من أنه لم ينم سوى ساعات
محدودة.
استحم، ولبس ملابسه الجديدة، ثم توجه لصالة البيت.
هناك، قابل أمه وأباه وإخوانه وأخواته.
باركوا له بالعيد، وانطلقوا جميعاً إلى المسجد.
كان يشعر بأن شيئاً ما ينقصه، لكنه لم يكن يعرف ما هو.
***
بعد عودتهم، وأثناء دخولهم للمنزل، لفت نظره قطته، وهي تجلس خلف
النافذة.
كانت على وجهها علاماتُ حزنٍ، لم يسبق أن رآها.
حينما فتح أبوه الباب، انطلق بتَّال بأقصى سرعته إلى غرفة اخته.
في جهة
الغابة
كان يمشي
متبختراً في بهو من المرمر الأبيض اللامع،
مرتدياً ملابسَ زاهية الألوان،
والعطور تفوحُ منه حيث مشى.
يقف في مواجهة كل نافذة من نوافذ القصر المطل على البحر من جهة،
وعلى الغابة الخضراء من جهة.
يطلُّ بوجهه النوراني، وكأنه يبحث عن شئ ما.
-عما تبحث أيها العيد؟!
-أبحث عن أقواس النور التي سأستقلها لهم.
-لهم؟! لمن؟!
-لكل الأطفال الذين ينتظرونني.
-أتتركنا من أجل أطفال؟! تترك هذا القصر، وهذه المملكة، من أجل أطفال؟!
تأخذه النافذة الأولى إلى نافذة ثانية، وفي عينية لهفةُ المنتظر.
-هذا القصر وهذه المملكة، لم تكن لتكون، لولا فرحة الأطفال. هم الذين
شيّدوا لي هذا البناء الشامخ المهيب. هم الذين صنعوا هذه المملكة التي يحيطها
البحر والنخيل والشجر. هم وضعوني هنا، كي أظلَّ زاهياً مشرقاً فواحاً بالورد
وبالأناشيد.
-ولمَ يفعلون ذلك؟!
-لكي آتيهم حينما يشاءون، وأحيلُ حياتهم إلى فرحٍ غامر.
-أنت تأتي على كل حال، شاءوا أم لم يشاؤوا.
-هذا صحيح. لكن قدومي قد لا يكون قدوم فرح. قد أحل على أقوام يحارب
بعضهم بعضاً، ويشرِّد بعضهم بعضاً، ويجوِّع بعضهم بعضاً.
-أنت إذاً متلهف للأطفال الذين ينتظرونك بفرح.
-أجل.
-وهل بإمكانك أن تنثر بعضاً من هذا الفرح على أطفال أقوام الحرب
والتشريد والجوع، فهؤلاء لا ذنب لهم.
-أنا أفعل ذلك كلَّ عيد، لكن المتحاربين يغتالون ببنادقهم ما أنثره على
أطفالهم.
أمي:
ألِفي، موضي، يائي
أكثر
مَنْ يفرحُ بكلماتي، هي "موضي". تلك الأميّةُ التي أهداني اللهُ، يومَ
مولدي، كتابَها. هي التي تحسستْ بفخرٍ شديد، ورقَ الجريدة التي حملتْ جنينَ
مقالاتي. وبفخر أكبر، وضعتْ النسخةَ الأولى من كتابي الأول، في صدر مجلسها. حين
أكتب، أشعر أنها تعدّل الورقةَ، لكي تستقيمَ حروفي، وحين يستعصي الماضي عليَّ،
تذكّرني وتذكُرني. لم أكتبْ قط، خارجَ أقواسها. كانت ألِفي، موضي، ويائي. ضوءُها
حبرٌ لا ينفد، يحيلُ العادي إلى معجزة، والهمسةَ إلى صراخ. لم تكنْ تحتمل صراخ
قلمي، تضعه كلّ ليلة تحت وسادتها لكي يهدأ، وبعد أن تغفو يبدأ يقطفُ رحيقَ أحلامها.
هي باختصار، أطولُ رحلةٍ للجَمال. تصمتُ بعد قُبلة الصباح، في انتظار
قِبلة المساء. ليس بين القُبلة والقِبلة، سوى ساعات طوال من الابتسامات التي
تستظلُّ بها قوافلُ الذين يعبرون خيمتها. عاريةً من الأم والأب والزوج الذين رحلوا
باكراً، تقفُ لتسترَ الأيتام والأرامل، ولتهديهم أمومتَها وأبوّتها وعشقَها، بهدوءٍ
لا مثيلَ لضجيجه. كلُ من عرَفها يعرف عرافتَها. دون أن تقولَ شيئاً، يكونُ ما
تقوله صحيحاً. أحاول أن أهدئَها بأنَّ الأمورَ تسيرُ إلى السلم، فتومئ بعينيها
أنها إلى الحرب. وما هي إلا أيام أو أسابيع أو أشهر، حتى تشتبك الأطرافُ وتتصاعد
روائحُ البارود وتنتشر جثثُ القتلى. كيف لها أن تتنبأ بما سيحدثُ في كل أجزاء
نشرات الأخبار التلفزيونية التي لا تغادرها إلا لتعود إليها، كيف؟!
في غزوات مرضها الذي طال إلى أنْ أنَّ جسدي الذي يلاصقُ جسدَها، كانت
لا تجيدُ معاهدات السلام. حاربتْ بكل ضراوة. وبعد كل انتصار، كان المرضُ يخذلها
مرةً أخرى، فتعود لتنتصر. لم أعش معها سوى انتصاراتها، حتى حين انهزمتْ أخيراً، لم
تكن تشعر بشيء. غادرتْ منتصرة. ابتسمتْ لمن كانوا ينتظرون ابتساماتها بفارغ الفقد،
لأبنائها وبناتها، ثم تحسستْ وجهي، كما كانت تتحسسُ طفولة كلماتي، بعد ذلك نامتْ.
ظللتُ أحرسُ نومَها طويلاً، وأنا أدركُ أنها تحلمُ أطولَ أحلامها، ذلك الذي لن
ينتهي أبداً، ولن تحكيه مطلقاً. أنا مَنْ سيحكيه، كما حكيته في كل القصص التي
رويتها، حيث كانتْ هي شخصيتي وشخصي، حيث لم أكن أشعر بأنني أكررها، بل أستجدُّ
بها، فكنوزها مترعة بالأنقياء وخزائنها ملأى بالقرى الفقيرة الشامخة.
بعد رحيل المعزين، فتحتُ صندوقَها الصغير، فوجدتني أتمددُ إلى جانبها،
انصتُ بكل خشوع لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق