لوجه الحذاء سماكة ورباط
1- الكابوس
الأرض بساط من زجاج مطحون. الجدران أعمدة من نار. النوافذ أظافر مغروسة على أكتاف الأعمدة، والباب جلود زرقاء لأجساد تعطرت بالطين. الأرض، الجدران، النوافذ، الباب. تدور عيناي، وأنا واقف في ظلام شحيح. أسمع شهيق رئتي. اسمع زفيرهما، لكني لا أتنفس. لا أتنفس. يصعد نمل على أصابع قدميّ الحافيتين. كيف يخرج النمل من أرض زجاج؟؟ لكنه يصعد. يدبُّ على ساقيّ العاريتين ببطء. أحسه يصل ركبتيّ، وأحس أن المزيد يصعد. يصعد، يصعد. أحاول بكل الجهد العضلي الذي بقي أن أحرك أطرافي. كيف والقالب الذي أنا فيه محكم، حتى على مفاصل عظامي؟؟ الخوذة الفولاذ تمنعني من أن أحني رأسي، فأرى: هل هو نمل؟؟! يداي المثبتتان على الجدار عاجزتان عن الحركة. أريد فقط أن أغلق قبضتيّ لأتحمل هذا الدبيب المؤلم. أن أغلق قبضتيّ فقط. يصل الزحف الى نصفي، ثم الى صدري العاري. ينقسم من مفصلي الكتفين. ينتشر: طابور الى ذراعيّ. طابور الى رقبتي، وجهي، فروة رأسي. يا يديّ، يا رأسي، يا فروة رأسي. أُصاب بالنمل. بالنمل. فلقد رأيته الآن. بطن لامع منتفخ، عينان كبيرتان، قرنان طويلان، وأرجل لا أنجح في تعدادها، ولا أعرف إن كان للنملة قلب؟؟ بتروٍ، وفي لحظة واحدة، يغرس النمل الواقف على صدري أنيابه في جلدي. ويقفز النمل الواقف حول عينيّ، في ماء عينيّ. أحاول ابتلاع ريقي، فلا يمهلني الوقت. تتوقف دقات قلبي. أقول: اقتحمه النمل. يبدأ بصري في التلاشي. أصرخ: أطفأه النمل. يا قلبي. يا عينيّ. يسقط قلبي مخضباً بالنزيف. ينفجر ماء عينيّ. أشد بكل قواي. ينصهر الفولاذ ويسيل حارقاً جلدي. تفزُّ كل مواقع جسدي من وطأته. يساعدني هذا على التخلص من القالب المحكم عليّ. أضم نفسي حول نفسي وأركض باتجاه الباب. فرحة التحرر أنستني وجع الزجاج المهشم تحت قدميّ. أركض باتجاه الباب. اصطدم بمادة صلبة. أتحسسها، فإذا هي حذاء سميك برباط سميك. أشعر، والظلام يملأ رأسي، أن الحذاء يرتفع في الهواء، ثم يهوي على نصفي، صدري، وجهي. ولا يزال قلبي مخضباً بالنزيف، وماء عينيّ يسيل.
2- الخروج
- لماذا ترهقني في إيقاظك؟؟
- لأنني ببساطة، أحب النوم.
- لكنك بهذا الأسلوب، تؤخرني عن عملي. تؤخرني كل يوم، وتعرف أن وظيفتي هي دخلنا الوحيد.
- أعرف يا حبيبتي.
- بعد أن توصلني، نم كما تشاء.
تهبط من السيارة. تهرول والعباءة تتخاطف رجليها، نحو بوابة المعهد. تدخل.
ألفُّ السيارة باتجاه الشارع الذي جئت منه. أدخل البيت، لكني لا أستطيع النوم، فأخرج.
3- الإجراء الأخير
- لقد وعدتموني أن أراجعكم بعد شهر. راجعتكم، قلتم عُدْ بعد شهر، متى ينتهي شهركم؟؟
- يجب أن تتحمل. الحصول على الوظيفة ليس سهلاً، والاجراءات لها أشكال كثيرة. ثم: لماذا تحرمنا من رؤية وجهك الطيب؟؟
4- الحذاء
أشكال الاجراءات أعرف معناها. أكره الوظيفة، لكني أبحث عنها. أبحث عن الوظيفة، لكن الاجراء الأخير يقول بخفاء.
- انه يكرهُ (هم)، فلا أشتغل.
- أهمُّ بالخروج من المصلحة، باحثاً عن مصلحة أخرى، ليس فيها من يقول:
- انه يكره هم.
أثناء خروجي، يدخل رجل. يهز رأسه لي مبتسماً ومليئاً بنشوة الانتصار. أنظر في قدميه، فأراه يرتدي حذاء سميكاً برباط سميك. أركض الى سيارتي. أغرس المفتاح في بابها بسرعة، خوفاً من النمل، ومن أن يداهمني الوقت فأتأخر أكثر عن موعد خروجها من المعهد. هذه التي ستقول لي أول ما تصعد.
- لقد حسموا من مرتب اليوم، أيضاً.
هذه التي ستصمت قليلاً ثم:
- ماذا فعلت بخصوص الوظيفة؟؟
الرياض – يناير 1984م
ناهر السيل
ينبض الفجر ببطء على هذا الركن الصامت. وأصيح من داخل الصف الطويل.
لن يبقى لنا لحمٌ أيها الناس.
فيضربني الواقف أمامي بمرفقه اليابس. ويشدُّ الواقف خلفي ياقةَ ثوبي.
لن يبقى ..
وتتجمعُ راحاتهم على فمي.
** ** **
تنفض الشمس خيوطها العمودية على هامة الطريق الضيق.
أحاول أن أمسح العرق المتساقط من جبيني، لكنني أخاف على الورق الأصفر الذي تحيطه يداي. يجعلني الطريق الحار أقفز بقدميّ الحافيتين من ترابِ الى تراب، لأطرق في النهاية بابنا المغلق على...
- أمي، هل عاد؟؟
وكأني لم أسألها شيئاً. تنظر الى الورق المبتل. تأخذه من يدي. تفرده على الأرض، وتجلس اليه. تطالعه دون مبالاة، وتغلقه مرة أخرى، ثم تقف. ترسل عينيها لي، وأنا قد بدأت أغرف ماءً كي أشرب.
- بعد كل هذا الانتظار الطويل، تجيـؤني بهذه البقايا؟
أرد عليها، والماء يرشحُ من عنقي وصدري.
- أخاف أنه لن يعود.
تلتقط الورق. تدخل ناحيةً مقابلة، وظهرها يحمل عمودها المُقوَّس ويداها بدأتا في ابتلال.
أكبُّ على رأسي شيئاً من الماء، ثم أنفضه، وأنا أصرخ.
- تعرفين أنه لن يعود.
تدخل اليَّ راكضةً، وقد استقام ظهرها قليلاً.
تنشب أصابعها في كتفي، وتصرخ بصوت أعلى من صوتي.
- هل قلتَ شيئاً أمام الناس؟؟
أنزع أظافرها، وآخذ أقبّل راحتيها.
أقول لها بصوت وديع.
- نحن ننتظر طويلاً، ثم لا يبقى لنا سوى الفتات.
تعرض عني، وتصير تنظر الى النافذة الخشبية، المغطاة بسلك معدني. تتأوه.
أضع يدي على عظمَتَي كتفيها.
- أنا ابنه يا أم.
تتجه للماء. تغرف. تشرب، ثم تسألني.
- متى تريد الأكل؟؟
أحس أنني بصدد بكاء.
أغمز لها.
- ليس اليوم..
أستدير باتجاه الباب، وقبل أن يغلقني للشارع، أُضيف.
- ليس اليوم يا أمي.
** ** **
الثقوب ناصعة على هياكل البيوت الصغيرة، والغبار يتوسد مخدته وينام. أركض للمسجد، لأصطاد وجوهاً أعرف أنها كانت معي في آخر الصف.
- تقبّل الله.
- منا ومنكم.
وأدخل بينهما، وهما يخرجان تواً.
يلتفتان اليَّ، ويسألني أكبرهما دون أن ينظر الى وجهي.
- ألم يعد؟؟
تحرق الظهيرةُ رجليَّ، فأدفعهما للظل.
أهمس لهما.
- انه مسافر.
ينظر كلٌّ منهما للآخر، ثم ينظران اليَّ.
يشد أحدهما رأسي اليه.
- هذا هراء.
يهز الآخر رأسه مؤيداً، ثم يكمل الأول.
- كيف يسافر، ونحن على هذه الحال.
** ** **
هذا ما بقي من العصر.
وهذا هو النبع الذي يملؤه الشتاء، ويمتصّه الصيف، حيث تعوّد أن يجلس، وحيث رأيته آخر مرة والشتاء يحزم ثيابه الصوفية ليغادر. كان المطر وقتها يجلد الأرض، فيقفز ظهرها الى الهواء، ثم ينهار ليسيل ملوّثاً بالتراب والحجارة. كان يجلس غير محتمٍ إلاّ بنشيد باكٍ، وكان صوته صافياً، لم تستطع سهام المطر اختراقه، فكأن غناءه نسيج لحديث خبأه عن الناس الخائفين على بيوتهم الهشة.
وصلني إنشاده قبل أن يتيح لي ضباب المطر أن أراه في ذلك المكان البعيد. ركضت اليه. حين وصل أذنيه صوتُ خطواتي المسرعة على الماء، استدار هلعاً. التصق وجهي بوجهه، فرأيت كم صار مختلفاً. اختفت التجاعيد التي كانت تستلقي على جبينه، وزحفتْ عيناه الى شاطئهما المبكر. أبصرتُ جلد خديه مرآةً ينهض عليها شعر كثيف أسود. صرخ بي.
- كلها سقطت؟؟
ابتلعتُ ريقي للنور الذي كان ينطق به وجهه.
- ثلاثة بيوت.
لم أقل له أن بيتنا، كان أحدها.
قام مثل نسر. رمى رجليه الى الماء، وصار يتجنب أن ينحني خط مشيه. ناديته، فلم يقف. لحقته راكضاً، لكنني لم أكن قادراً على الوصول اليه. دخل البيوت من يسارها، دون أن أكسر المسافة بيننا. رأيته يدفع باب المسجد، ويدخل. حاولت أن أتغلب على ثقل المطر في ثيابي، وأن أركض أكثر. عندما وصلت المسجد كان قد اعتلى المئذنة. وسمعتْ البيوتُ كلها صوتاً يتفجّر.
- الصلاة جامعة.
** ** **
عاشت البيوتُ ثلاثة أيام من المطر، وعاشت ثلاثة أيام من الأسئلة.
- من هو؟؟
كنتُ أنصت لهم يسألون من خلف جدرانهم التي شققّها المطر، وقد غاب خوفهم من الغيوم، وصار الخوف الأكبر.
- من هو؟؟
** ** **
أفرغتْ السماءُ كل ما لديها، وبدأت العصافير تهشُّ الشمس بأجنحتها البادرة. وأصبح الناس جماعات، جماعات، ينتشون بخروجهم من ظلال البيوت، والأرض ابتدأتْ في عشب أخضر فاتح. صرت أتنقل بينهم لأسمعهم يسألون عنه. توقعت أن المطر أزال خطبته التي قالها مثلما أزال أسقف كثيرة.
قلت لهم.
- من؟؟
اندفع شابٌ ملتحٍ، كان يضع خشباً على الماء الراكد، أمام دكانه الصغير.
- ناهر السيل.
وقفزتْ الأعناقُ لهذا الاسم.
فترك الخشب الذي كان في يديه، وجاء إلينا ليكمل.
- لم أسمع في حياتي رجلاً ينهر السيل مثلما فعل. كان يرتجف وهو يصيح بنا أنه السبب. كيف يقول أن المطر لا يختار إلا البيوت الضعيفة.
هز الشاب رأسه منكراً، ثم أضاف.
- والله، لقد كان كلامه سبباً في استمرار المطر. ليتنا لم نصلّ خلفه.
** ** **
بحثتُ كثيراً في مكانه المعتاد، فلم أجده. احترتُ أين يمكن أن يختفي. فمنذ خروجه من المسجد، لم يعد. أرسلتُ صوتي الى البقعة الفارغة.
- أبي، يا أبي.
ولم يرتدّ الصوتُ لي.
فكرت في حديث الناس، وفرحت كثيراً بالخطبة التي قالها.
أطلقت ندائي مرة أخرى.
- يا ناهر السيل.
ولم تكنْ إلاّ العصافير تعبث بالهواء الرطب.
عندما رجعتُ الى البيوت، لم أجد رغبة في الوقوف عليهم، هؤلاء الذين لا يعرفون أن أبي صار وجهاً جديداً عنهم، وأنه اختفى.
باريس/ أواخر 1985م
الفضاء الأخير لحارس الحَمَام
التقطي الحَبَ من يدي أيتها الحمامة. من يدي. فلم أنسَ متى خرجتْ هذه الكف، المشرعة أمامك من قلبي.
** ** **
أذكر بقايا تلك الليلة التي نِمْتُ فيها كي أحلم، ليس بالحلوى البعيدة، مثل كل أطفال حارتناالقاسية، لكن لكي أرى في المنام، أن لي أصابعَ، كفّاً، معصماً، وساعداً. أتذكر الآن أني رميتُ كتفيّ على سرير أخي، الذي لم يمر على موته المفاجيء سوى ليلة واحدة، وأنني بكيت طويلاً، وشعرت بعد نحيبٍ طويل برغبة في الضحك.
** ** **
كان أخي يمسكني كل صباح من خصري، ويجعلني أصعد سطحَه الصغير. سطحه الذي أخفاه عن العيون ومدّه للفضاء. كان يأخذني من خصري، ويصعدُ بي. نقف سوياً أمام مكعب خشبي، صنعه من صناديقَ نَثَرَتْها تلك الحارات النظيفة. كان يقول لي كل يوم وهو يقف أمام البوابةالمفتوحة.
- لقد خرج الحَمَام.
- وسوف يعود؟؟
ثم ينظر اليّ، دون ساعدين، ودون معصمين. دون كف وأصابع ويقول.
- يطير الحَمَام، ثم يعود كي يلتقط الحَبْ.
** ** **
غمستُ رأسي في مخدته، بعد أن بلَّلَّتها عيناي.
رائحة الريش تنقلني الى سطحه الصغير.
- كيف سَقَطْتَ يا حارسَ الحَمَام؟
أعرف عينيها، هذه التي يهذي بها نائماً. رأيتها ذات صباحِ عادي، وهي تدير رأسها الناصع نحوه. يومَها، رقصتُ معه. كان منظري مضحكاً وأنا أرقص دون ذراعين. كنتُ أنا الذي يضحك. أنا الذي شجّعه أن ينتزع من حاجبيه غمامةَ الحزن من أجلي وأن يضحك. ضحكنا حتى غمرنا التعب. أمسك خصري ودخلنا معاً. مشينا داخل البيت ثم صعدنا. صعدنا أكثر، ثم كنا هناك. مدَّ رقبته، فرآها تقف على سطح مجاور. لَوَّحَ لها. طلب مني أن أقترب كي أراها، فَخِفْتُ من هذا الارتفاع شجّعني.
- لا تخف. تعال لتشاهد أجمل حمامة.
ولم أخَفْ عندما رأيتها، كانت بيضاء والسواد يغطي رأسها، ومنتصف ظهرها. قال لي.
- لَوِّح لها.
- أغمضتُ عينيّ، فتذكّر وابتسمتُ.
ضمّني من الخلف وصار يلوّح بيديه، وهو يخفي رأسه خلف ظهري، فأرختْ رأسها لفرحي الطاغي وحزني الخفي.
** ** **
كنت أنام بقربه وكان يقول لي.
- ليتها تطير الى سطحي.
- انثرْ لها حبَاً وستجيء.
- إذن لم ترَ رجلها.
- رأيتُ رأسها فقط.
تنهّدَ بحرقة بالغة، وحكى.
- مددتُ يدي لها مرةً، فنَظَرَتْ إلى رجلها.
كان الصديدُ ينزفُ من الدائرة الحمراء التي صنعها الحبلُ على ساقها.
** ** **
ضربتْ أمي وجهها، وصارتْ تصرخُ بكاءً مراً.
صار جسد أبي ينتفض لحبس الدموع، وصرتُ أقوم وأسقط، دون أن يمسكني أحد كــي أستقيم.
سألنا عمي، الذي دخل تواً، وهو يمسح لحيته الحمراء.
- هل سقط من هناك؟
وأشار الى السطح الصغير، فزاد بكاءُ أمي وازداد انتفاض أبي وألقيت أنا ظهري على الجدار.
نظرتُ الى الفضاء، فإذا هو خالٍ.
** ** **
كان غريب الطور ذلك الصباح.
حاولتُ إقناعه أن نبدأ فطورنا، لكنه رفض. قلتُ له.
- لكنني جائع.
- وأنا.
وضع كفيه على وجهه، وأضاف.
- أنا مثلك، أحس ألاّ ذراعين لي.
تفجَّرَ كلامه في قلبي، فعجزتُ عن الرد. أجبرتُ ترددي، وقلت.
- لكنهما هنا. أنظر إليهما. أنظر إليهما جيداً. ذراعان كاملان، كاملان والله.
- لكنني لا أشعر بهما.
رفع كفّيه عن وجهه فجأة، وجاء باتجاهي. أمسكني من خصري، ودفعني الى السطح. رأيته يرفع سقف المكعب الخشبي ويرميه جانباً. جلس بجانبي وصار ينظر مزيحاً وجهه عني، باتجاه السطح المجاور.
قلت كي أكسر صمته.
- لن يدخل الحَمَامُ الى هنا دون سقف.
لم يجبْ. قفز فجأة على الجدار الفاصل.
رفعتُ رأسي اليه، فوجدته يضحك ويلوّح بكلتا يديه. أحسستُ في نفس اللحظة أنني أسمعُ تنفساً غريباً. تنفساً واضحاً لشخص ليس معنا. ازداد هذا الصوت، وهو لم يزل يلوّح ويضحك. شعرتُ بأنه ليس لشخص واحد، بل لأشخاص. تلفتُّ حولي خائفاً.
صرخت.
- هناك من يراقبك. أخفض رأسك.
لكنه لم يكن يسمعني. صرختُ مرة أخرى.
- أخفض رأسك.
أسندتُ ظهري الى الخشب القائم الى جانبي. قمتُ على ركبتيَّ، ثم على قدميَّ. وضعتُ أذني على الجدار المشترك بين سطحنا والسطح المجاور، فاكتشفتُ أنه هو الذي يتنفس. ثم اكتشفت أن كل الجدران تتنفس بصوت واحد، ومخيف.
- الجدران. الجدران تراقبك.
رأيته يحمل في كفّيه حبّاً كثيراً، ثم يضعه على الجدار المشترك. صعد. التقط الحَبَ مرة أخرىداخل كفيه، وصار يمشي على الحافة. أحسستُ أن الجدران صارت تتنفس بشكل أكبر، ومع كلشهيق وزفير، صارت تتحرك. وفي اللحظة التي مدَّتْ الحمامةُ رأسها الناصع له، شهقت الجدران بصوت متحد، فانتفخت معاً.
شاهدته يهوي الى الأرض البعيدة، وسمعت هديلاً مخنوقاً، أخرسَهُ الزفيرُ الأخير لفواصل الطين المتآكلة.
** ** **
لم تمضِ سوى ليلة واحدة. كانت مرارة الوقت دخاناً يخنقني. وكانت أركان الغرفة الضيّقة، تَنْشَقُّ كل لحظة ليخرج من رحمها ريش متعفّن يسقط على وجهي، فلا أجد من ينفضه. كنت أنفخ فيخرج الهواء من رئتيَّ حامضاً، وضعيفاً.
- ليتَك سمعتني، فلقد رأيتهم. رأيتهم يخرجون من الطين، أجساداً برؤوس مشقوقة الى نصفين، والغبار يملأ جماجمهم الفارغة. ليتك سمعتني، فلقد كانوا يدفعون أياديهم المتفحمة نحوك. كانت أوردتهم الجافة خارج جلود أياديهم، وكانوا يدفعونها نحوك.
نفختُ، ونفختُ، لكن الأركان لا تزال تلِدُ والغرفةُ صارت مملكةً من ريش ينزّ دوداً.
أحسستُ أن هذا الدود يزحف باتجاه عريي. وكانت أمي قد دفعتني الى الماء بعد أن خَلَعَتْ كلثيابي، وتركتني. انتظرتُها، فلم تعد. سحبتُ الباب الخشبي برجلي، وخرجت الى الغرفة. استلقيت عارياً وجلدي لا يزال رطباً.
- لا تقترب أيها الدود. لقد فقد العاجز أخاه. لا تقترب.
غطّى الدود جلدي، وشعرت بدمي يتفجر الى الخارج. انقلبتُ، فسقطتْ مجموعة كانت تمتص نصفي السفلي. حاولتُ أن أقوم، ففشلتْ. صار الدود الملتصق بكتفيَّ ينهش بقوة. صحتُ، فلم يجبني أحد. أوشك دمي على الانتهاء، فدخلتُ في شبه صفار لكني لم أزل أشعر بالدود يعضُّ لحمي. نظرتُ الى الأركان، فرأيتها تنظر اليَّ بعينين يملأهما الغباء والعَوَر. تمنيت في تلك اللحظة، أن لي قبضتين كي أسددهما لتلك الوجوه التي تستمر تتقيأ الدود.
- لو سمعتَني، ما استطاعت هذه الجدران أن تكبر، ولجعلتها مدْرَجاً لحماماتك الطليقة دوماً.
ازداد الصفار، فتحول دخان الغرفة الى شاشة رأيت فيها حمامَتَه. رأيتها تنتفض وهي تراقبه يهوي. وشاهدت لأول مرة الحبلَ يحيط ساقها العارية. لمحتُ نفسي أقف على الجدار، وقد صار لي جناحان كبيران. طرت. ملأني الفضاء برائحة لم أشمُّها من قبل. رائحة عطرية لم أشمّها من قبل. طرت أعلى..
- ليتك.
ملأ الصفارُ عينيّ. أكل الدود كل لحم كتفيَّ. اختفت المناظر أمامي، لكن المنظر الذي كان داخلي، لأركان الغرفة، استمر.
- قبضتان.
اندلع لهيب من رأس الكتفين، فزال بعض الصفار. لمحتُ ثعبانين يزحفان من داخلي ويخرجان الى جنبيَّ، الأيمن والأيسر. دققتُ النظر. صرختُ بجنون.
- ذراعان.
دخلت أمي راكضةً الى الغرفة يتبعها أبي، فوجداني أوجّه اللكمات للجدران الأربعة، وأنا أضحك، والدم ينزف من بين أصابعي، وفراش أخي لم يزل مرتباً كما غادره آخر مرة.
** ** **
التقطي الحَبَ من يدي أيتها الحمامة. من يدي. فلم أنس متى خرجت هذه الكف المشرعة أمامك من قلبي.
تقترب الحمامة. تقفز الى يدي. تنقرها مرة، مرتين، ثلاثاً. أهزُّ يدي، فتطير. أترك مقعدي فيالحديقة الفارغة، وأخرج ليسلمني رصيف الى رصيف، وليأكلني اسمنت المدينة الباردة.
وفي الفضاء الأخير، كانت الحمامة.
باريس - أوائل 1986م
العطش
قافلة
مدّ الشيخ صوته للمراعي النابتة بالإبل.
لم يعد لنا مكان.
نهض الرجال عن عصيهم، هشّتْ النساء القطعان الساكنة، وتقافزت أرجل الأطفال الحافية. التفّوا جميعا حول الشيخ. بلّلَ الشيخ بصعوبة طرف لفافة التبغ وألصقها على أسطوانة الورق المحشوة. بصق على يساره وثبّت اللفافة بين شفتيه الجافتين. أشعلها وسحب دم هوائها بنَهَم.
لم يعد للعشب ماء.
سألتْ المرأة، وهي تضغط على رضيعها.
- وكيف نخرج من هذه الصحراء؟؟
زعق الرضيع، فهمس لها زوجها.
- هناك بوابات كثيرة، ولابد أن يجد الشيخ مكاناً لنا.
ركض الولد الى الشيخ. التقط العباءة الشهباء، وفردها له. وقف الشيخ، وهو ينظر لوجه الطفل المغبّر بالأسئلة. ارتدى الشيخ عباءته، فارتدى الرجال عباءاتهم. وضع اللثام على وجهه، فوضعوا اللثامات على وجوههم. رفع يده للصحراء. وابتدأ في الخروج.
ارتفعت أقدام الرجال والأطفال، ثم ارتفعت أقدام النساء والقطعان. صارت الأقدام تتابع على الخط الذي تجرّه قدما الشيخ الراحلتين.
بعد أن التهم الأفق إنحناءات أكتافهم، خرجت الفتاة من خيمة قصوى، وعلى وجهها لؤلؤ النوم. مسحت عينيها المكتحلتين، فتساقطت من رموشها كواكب الصحراء. لم تصرخ وهي ترى الريح تمسح آثار أقدامهم الحارة. عادت الى خيمتها في سكون شاسع. فكّت ضفائرها. جعلت شعرها المائل للحناء يهطل على براري ظهرها المبتل، ثم ناولتها الأرض المتشققة فراشها كي تعود للنوم.
سماء
ضغط الولد على حفنة من الرمل، فانتثرتْ رائحة السواد من بين أصابعه. غمس كفه في الرمل مرة أخرى. بكى حتى تمرّغتْ عيناه، فصارتا عاجزتين عن تمييز جثث القوم المتناثرة على المدى.
هشيم
سألني البائع.
- علبة أم علبتين؟؟
كان أول الليل، وهذه الدكاكين تغلق أبوابها باكراً.
أجبته.
- اثنتين.
قبل أن يعيد لي بقية النقود، فتحت العلبة الأولى وأخرجت لفافة تبغ. أشعلتها، ثم نظرت الى واجهة البراد الزجاجية، فرأيت القوارير يقفن والندى مثمر على قاماتهن. شعرت بعطش بالغ. تحركت الى البراد. فتحته. مدت يدي الى داخله، وانتزعت أبعدهن. ذاب الندى في يدي، فتقاطر الماء. خلعت غطاءها بتوتر شديد. قرّبتُها من شفتيَّ بهدوء، وأفرغتها في دمي. صاح البائع بي.
- النقود.
كان أول الليل، وهذه الدكاكين تغلق أبوابها باكراً. انتزعتُ واحدةً أخرى. التقطتُ من البائع بقية النقود، وغبت في الشارع المظلم.
اختباء
أشعلتُ عودَ ثقاب كي أرى أين أنا في الغرفة. كان الظلام يغرس أشواكاً في عينيَّ، وأنا أهذي، كي أقاوم خوفي.
- ألمْ تجد الكهرباء غير هذا اليوم لتنقطع؟؟
بدَتْ الأشياء في ضوء الثقاب كبيرة، وظهرتْ الأوراق التي استهلكتُها لكتابة المقاطع الأولى للقصة كثيرة جداً. أشعلت عوداً آخر، ليقودني الى درج الطاولة. في الدرج، وجدتُ شمعةً قصيرة. أشعلتها، فتطاير النور داخل الغرفة. وضعتُ الأشياء التي معي على الطاولة. جمعتُ الأوراق المتناثرة. رتّبتها ثم أعدت قراءة ما كتبت. شعرت بالعطش مرة أخرى. حركت أصابعي ببطء على الطاولة، باتجاه القارورة. لمستها، فأحسست بالرطوبة، واجتاحت يدي برودتها الغامرة. صرت أنشب أصابعي في اتساع قامتها، وكانت تلين ثم تشتدُّ، لأضغط أكثر. تبللت عروقي باحتقاناتها. دفعتها نحوي، فاهتزت الشمعة ثم سقطت. احتشد الظلام في الغرفة مرة أخرى، لكن يدي بقيت مضيئة.
- لماذا الصحراء؟؟
التصقتْ شفتاي بها، وأفرغتها أيضاً في دمي. تركتها، وبحثت بحركة هستيرية عن الشمعة تحت أرجل الطاولة. أشعلتها بعود الثقاب الأخير. لمحت قامتها وسط الطاولة فاذا هي فارغة، ورائحة الندى تفوح في أنفي. كان القلم مختبئاً تحت الأوراق سحبته وكتبت المقطع التالي.
سماء
توسّد الولد ناصية الرمل. حاول أن يطعن صدر البكاء، لكن خنجره التوى، ليفتح للحزن مرمى داكناً. صاح بحرقة وألم.
- من يجفف نارك أيتها الشمس؟؟
لكن الصحراء صمتت. فعرف الولد أن البوابة التي ابتلعتْ قافلة الشيخ والرجال والنساء والأطفال والقطعان، تُنكرُ أنه بقي خيمة قصوى، خيمة لم تمسسها الشمس، وأنه كان بداخلها فتاة مبتلّة بالفيء وبالنوم.
توسد الولد ناصية الرمل ومات.
أوردة
رن الهاتفُ فانتفضتُ. أبعدتُ الكرسي وصرت أُدير رأسي بسرعة باحثاً عن مكانه. ركضتُ خطوتين أو ثلاث. رفعته.
- أهلاً.
سمعت صوتها يأتي ملتفّاً بخوف زجاجي شفاف.
- أنا آسفة. لم أجد وسيلة أراكَ بها.
رددتُ كي أحمي زجاج صوتها.
- لا بأس يا حبيبتي.
وأحسست أن كلماتي هي التي تخرج مهشمة.
سألتني.
- ما بك؟
أجبتُها.
- أنا خائف.
ردتْ.
- أنت؟؟ مم؟؟
قلت وأنا أحبس رئتيَّ عن الهواء.
- أحس أن الصحراء ستداهمني.
بدأ ضوء الشمعة في التقطع، ثم التلاشي.
استأذنتها. مشيت الى الشمعة. حين اقتربتُ منها انطفأت، وتصاعد خيط رفيع من الدخان، ليشعل ظلاماً جديداً. عادت خطواتي العمياء الى الهاتف، رفعته بسرعة، وهمست لها:
- أنا..
لكن، لم يكن أحد هناك. أرخيت الهاتف، ثم ارتميت على السرير الملاصق لساقيَّ. شعرت برغبة في إشعال لفافة تبغ. نهضت. مشيت الى الطاولة بحذر. لمستْ كفي الأوراق، القلم، علبة التبغ، صندوق الثقاب، ثم القارورة. تناولتُ التبغ فتذكرت أن الثقاب قد نفذ. رفعت يدي، فاصطدمت بالقارورة الواقفة. كانت فارغة، والبرودة لا تزال تصطفيها، وكنت قد بدأت أشعر بالعطش والكتابة. لم أجد صعوبة في التقاط قلمي. أمسكته من منتصفه. رميته داخل جوفها، فابتهلني النوم.
قبل أن أغفو، قررت أن أمزق الأوراق التي ابتدأت بها كتابة القصة، تماماً مثلما قررت في الليلة الماضية.
الرياض – اوائل 1986م
الصوت
منذ بدأ في الكتابة، لم يرفع قلمه عن الورقة. هي المرة الأولى التي أراه فيها يكتب، فلقد تعودت أن أراه على سريره، يمسك كتاباً بين راحتيه ويقرأ. حتى عندما يجيؤون لأخذه للصدمات الكهربائية، كان يضع الكتاب في الجيب الواسعة للسترة التي يلبسها، والتي نلبس كلنا مثلها.
قلت لنفسي.
- هو وحده الذي قصصتُ عليه كل شيء. وهو وحده الذي فهم كل شيء، منذ كل شيء. لقد طلب مني أن أعود الى سريري، واعداً أن يخلّصني بنفسه من الجثة التي تلازمني. لكن كيف، وهو مثلي ومثل البقية، يتربّص المكان بنا، فلا نستطيع الخروج إلاّ للكهرباء؟
** ** **
غرقت مثل الآخرين في نعاس ما بعد الظهيرة، فالهواء اتسع في الدفء كاسراً وحشية برد الصباح. صحوت على يده تهز كتفي. همس لكيلا يسمعه أحد المناوبين.
- اقرأ هذه الأوراق. انها وعدي الذي منحتك إياه.
نظرتُ الى الأوراق التي بين أصابعه، فابتسمت بخجل بالغ، وصوت منخفض.
- كيف أقرأ؟! لقد مَحَت الكهرباءُ كل ما في رأسي.
صرخَ باختناق.
- ولماذا يبقونك هنا؟!
- كي أتخلص من الجثة التي تتجدد الموسيقى منها كل يوم.
نظر في عينيّ بحرقة، ومشى الى سريره، وهو ينثر الأوراق الكثيرة، واحدة بعد الأخرى.
** ** **
طالع الرئيسُ الطاولةَ المتسعة، الجالس حولها كل المناوبين باختلاف درجاتهم.
قال بوقار مصطنع.
- لقد عثرنا أيها السادة على هذه الأوراق مبعثرةً على أرض المكان الذي تتناوبون عليه. نحن هنا لنقرأ ما فيها من معلومات، قد نكتشف منها خيطاً يوصلنا الى أشياء نبحث عنها.
وضع الرئيس الأوراق أمامه، وبدأ قراءتها بالترتيب:
بقعة الموسيقى
تحملُ جسدَكَ المنهك، وتخرج للشارع المتكيء بالعمال المصطفين في انتظار حافلاتهم، فتصطف معهم.
تحكُ هامة رأسك الملفوفة تحت شماغك المبقّع بالزيت، فتطلق آهةً حارة. يلتفت زميلك اليك. يبْسمُ لمجيئك، ثم ينطق بلهفة.
- ستقول أيضاً أن بكَ صداعاً صباحياً شديداً؟؟
- أنت تعرف ذلك جيداً.
- هل تريدني أن أصدق بأن صوت ماكينات الحفر هو الذي يشفيك؟
- نعم. إنه الموسيقى الوحيدة في حياتي. إنه موسيقى رأسي، وموسيقى دمي.
تدوّي عجلاتُ الحافلة. وهي تنعطف داخله للحي.
يتحرك الصف في محاولة للنظام.
وعندما تقف الحافلة، يتزاحم العمال الى بابها التالف.
لسان واحد
بعد أن يجمعكم في فناء الشركة، يصيح رئيسكم بلغة خطابية نصف عربية.
- نعرف أنكم تعملون ليل نهار، لكن الشركة لن تدفع أكثر. نرجوكم توفير إحتجاجاتكم.
ينقسم العمال الى قسمين، وتدخل أنت في القسم الذي يهتاج بلسان واحد.
- الرزق على المولى الكريم.
الصحراء محقونة
لم تكن هناك حافلة تعيدكم، والآبار في عمق الصحراء.
يصيح أحدكم.
- نجمع الحجارة في وجه الرمل، ونرمي حتى تندفن الشركة.
تتناثرون في كل المسافات.
تغيبون زمناً لا يعرف أحدكم مقداره، فالبعض يقول أياماً، وبعض يقول شهوراً، وبعضٌ دهراً، لكنكم حين تجتمعون مرة أخرى، تجدون الصحراء محقونة بالشركات.
الظلام الخارج
تعود الى بيتك بعد أن تكون هذه المرأة في انتظارك نصفاً من الليل.
- تأخرت.
تحاول أن تجيب عليها، لكن لسانك تضخّم، فعجزت عن إخراجه. تتذكرُ الحجارة التي تملأ جيوبك. تُخرجها واحدة واحدة، لتبدأ في قذفها على النوافذ والأبواب، مصدراً صوتاً أشبه بعويل النساء.
تركض المرأة بهلعٍ الى الغرفة. تجمع الأطفال، وتهرب بهم الى الظلام الذي خارج البيت.
مرايا النوم
وترغمك الموسيقى المنبعثة من الجثة العارية، الممددة فوق سريرك، على الدوران حول النقطة التي يغرسها مصباح السقف على الأرض. تدور. تدور. تدور. هكذا منذ تبدأ الموسيقى. ومن فتحة في مؤخرة العتمة يتقاطر الى أذنيك صوتُ خطوات منتظمة، فيغمرك شعور عاصف بالرقص. لكنك تكون قد أشهرت مفاتيح غيبوبتك، فتسقط. ينفتح الباب. تدخل امرأةٌ من خيوط حريرية، لتمنح الجثة العارية نصف خيوطها، وتمنحك البقية. تكون أنت الآن مقيد الأيدي والأرجل وتكون الجثة منسوجة في كفن كامل. أما المرأة، فتصير عارية تماماً. تفتتح المرأة هذا العري برقص خائف من عينيك المحمومتين نحوها. يصعد اسوداد عينيك مع صعود جسدها النافر في هواء الغرفة. يختفي الإسوداد، وتصير عيناك أوردةً من بياض مبلل باحمرار. تُحلّقُ المرأة فوق جسدك الممدد، الباديء في الانتفاض. تهبط حتى تبدأ أنت تستنشق رائحة الماء في إبطيها. تتزحلق في الهواء وتشعر أن أصابع رجليك تنغمس في كثبان شعرها. تنتفض أكثر، حين تحس أنها تدخل من بين أظافر رجليك. تنتفض الآن باتساع أعضائك كلها. تصير الخيوط التي تقيدك زجاجاً يتكسر لإرتعاشاتك. تقف منتشياً. تضرب الأرض بكفيك وتقفز. تضربها وتقفز ثم تقفز. تلتقط هشيم الزجاج وتقطّع به شرايينك واحداً واحداً. تتلون بالدم، فتزداد في الرقص. يزبد فمك، فيتراشق الزبد نتفاً على أرض الغرفة. تكبر كل نتفة، فتغدو وجهاً. تمتليء الغرفة بالوجوه التي تعرفها والتي لا تعرفها. يزداد هياجك لمنظرهم، وهم يطالعونك بتشفٍِ ناقع. يضيق المكان بهم، فتقفز قفزة عالية، تُوصِلُك للجثة المكفَّنة. تبدأ في رقص ضيق لا تلامس فيه سوى الجثة. وحين تحسُّ أن الوجوه المحتشدة صارت تلاصقك وتتنفس هواءك، تلوي جسدك صارخاً، وتدخل جسد الجثة من بين أظافرها. يبدأون يراقبون الجثة ببلاهة، في حين تأخذ الموسيقى المنبعثة منها تتقطع شيئاً فشيئاً حتى تنعدم. يحملون الجثة على أكتافهم. يفتح أحدهم الباب، ويخرجون جميعاً. أثناء سيرهم في شوارع الحي المقفرة، تتناوب جدران البيوت المهدمة في إطلاق زعاقات بللورية يتشقق لها قماش الكفن الحريري. تشعر، وأنت محمول على أكتفاهم، بأصابعهم تتسلل عبر شقوق الكفن، لينزعوا شيئاً من لحم الجثة. تراهم يمضغون اللحم بعد أن يفسخوا الجلد عنه، ويرمونه في عرض الطريق. حين يصلون المقبرة تكون الجثة قد تلاشت، ولم يبق سوى الكفن الممزق. في أحد القبور المفتوحة، يرمون قطعة القماش، ويضرمون النار فيها، ويصيرون يدورون حولها. لا يتوقفون حتى يسمعوا من آخر الحي صيحةً أشبه بالعويل، يصدرها ديكٌ عجوز شوّهتْهُ نار الشمس، فصار حين يقترب شروقها، ينفض جناحيه المكورين باتجاه السماء ويزعق مسترحماً. يتوقفون، وتتحول قاماتهم الى شجر مشتعل. يهدر شلال الفجر في كتف الليل، فيتبخرون. ينفجر الفجر، فتتقافز قطع الجلد التي كانت متناثرة على الطريق، وتلتصق ببعضها البعض، وتعود الى الغرفة: الى جسد يتقلبُ ذات كل اتجاه، طلباً لنوم، أو بعض نوم.
صليب الحجارة
في كل منعطف من منعطفات الحي تمضي نهارك وبعض مسائك، وأنت تلفُّ على جسدك ثوباً تلطخ بأيامٍ لا تحصى.
على رأسك يتجمع شماغك المبقع بالزيت وبالصديد الذي ينزُّ من جرح الكي الذي صلبوا به هامتك ليُخرجوا منك الموسيقى. ليُخرجوا الجثة التي صارت تلازم سريرك.
في كل منعطف، تنتظر. تنتظر أنت أن تمر حافلة، أي حافلة، لترشقها بالحجارة.
** ** **
بعد أن فرغ رئيس المناوبين من قراءة الأوراق، قلبها، فلمح كتابات على جزء صغير من ظهر احدى الورقات.
التقط الورقة.
شاهد مقاطع مكتوبة دون ترتيب، بحيث تداخلت هذه المقاطع ببعضها.
بصعوبة شديدة، استطاع أن يقرأ.
· المقطع الأول (أفقي):
كل إنسان معرض لأن تصيبه جثة.
هناك أناس يفاخرون بها، ولا يقاومونها مثلك.
· المقطع الثاني (أفقي أيضاً):
ماكينات الحفر صارت تعمل دون أصوات.
يجب أن تنسى الموسيقى
· المقطع الثالث (مائل):
لا تتوقع أنني بلا جثة.
كهرباء الصدمات التي تدخلني، تحرقها يوماً بعد يوم.
· المقطع الرابع (رأسي):
لن يستطيعوا غسل الأرض.
لن يغسلوها من الحجارة.
** ** **
مدّ الرئيس يده الى كأس الماء الذي بجانبه. تجرّعهُ دفعة واحدة، دون أن ينظر للمناوبين الذين كانوا يراقبونه بصمت تام.
الرياض – 1986م
محاولة فاشلة لرواية
(شهادات الحمى)
لم تثقب نظرة الطفل الواقف خلف نافذة الخشب صدري هذه المرة. وجهت اليه عينيّ المحمرتين، فضحك.
حاول أن يناديني، لكن لسانه المكسور انحبس داخل فمه. رفعت سبابتي اليمنى الى شفتيّ، أنْ:
- اسكت الآن.
فازدادتْ الضحكة على فمه.
زعق العريف بي.
- تحرك.
هرولت حتى التصقت بالصف الطويل.
ولم تكن خطواتنا منتظمة. كنا نسحب أقدامنا لتنزع من التراب رائحته الأخيرة.
همس الذي بيني وبينه اثنان أو ثلاثة.
- أظن أنها الأخيرة.
فرددت عليه بصوت خفيض.
- وليكن، ما دمنا قد قمنا بجزء من واجبنا.
صاح الأعرج الذي يستعد لصعود الحافلة المكشوفة.
- تكلم عن نفسك فقط.
وقبل أن يكمل، لكزهُ العريف بمؤخرة الهراوة.
- إخرس.
** ** **
لم يتح لي دوري المتأخر أن أحظى بمكان أجلس فيه، فوقفت مع آخرين في صندوق الحافلة، ممسكاً حبلاً صوفياً امتد في الهواء بين طرفي سقفها المكشوف لسماء غائمةٍ، قريبةٍ للفجر وللبرد. كان الجميع ينظرون في الجميع. وكانت كل الوجوه مغبّرة وناقعة في السهر والتحفز. مشى العريف الى الغرفة الصغيرة التي تسد طريق الشاحنة. بعد أن دخل، قلتُ لهم بصوت مسموع.
- من الأفضل ألاّ نستفز العريف.
رد الأعرج.
- لو تسكت أنت، يهون كل شيء.
فلم أجد بداً من السكون.
خرج العريف بصحبة ثلاثة من الأنفار. صعد اثنان معنا، واصطحب الثالث معه الى مقصورة الحافلة. اشتغل المحرك ببطء وبصعوبة. تحركت الحافلة الى الخلف مسافة قصيرة، ثم سلكت طريقاً ترابياً ممهداً، وبدأت في الابتعاد عن البيوت.
كنت قادراً على رؤية الطفل خلف نافذة الخشب، وهو يلوح لي بيديه المربوطتين بقماش مبقع بدم جاف. كأنني رأيت شفتيه ترتعشان في محاولة للإنفراج عن لسانه المكسور، فرفعت سبابتي اليمنى الى سماء غائمة وقريبة للشمس وللدفء.
أحسست أنه سمع همسي الحار.
- اسكت الآن.
لكن عدم استواء الطريق جعل الحافلة ترتجّ. فلم أميز إن كان الخارج من فمه ابتسامة.
وضع أحدهم يده على كتفي.
التفتُّ، فإذا هو النفر الأصغر سناً. ربتَ على كتفي وقال.
- إجلس، فالطريق أمامنا طويل.
** ** **
جمعت الأوراق التي فرغت منها. وقمت.
سألني صاحبي.
- الى أين؟؟
رددت.
- الى الجريدة.
- قصة جديدة اذن؟؟
- لا أدري.
تنهدتُ بحرقة بالغة، وكان هو يعرفني بشدة. قال.
- تمهل.
** ** **
نهضت هذا اليوم على ضجيج الشمس الذي ملأ غرفتي. نظرت الى الساعة، فوجدتها فائتة. حاولت أن أنهض من سريري لكنني وجدته محاطاً برمل عميق ليس له مدى.
- ها هم مرة أخرى.
لففت رأسي بذراعيّ وعدت للنوم.
سمعتُ صوت أمي، وهي تحاول إيقاظي.
صحوت رعباً.
- انتبهي.
نظرت الى مكان قدميها، فاذا هو بلاط اسمنتي.
- صباح الخير يا أمي.
- لقد اتصلوا يسألون عنك.
** ** **
جلب صاحبي كأسين من الشاي، وجلس قريباً بجانبي.
- لقد رويت لي هذه القصة كثيراً، لكنني لا أفهم لماذا تخاف منهم؟
قربت كأس الشاي من فمي، لكن رائحته أصبحت تضايقني.
قدم لي سيجارة.
قلت له.
- أنا أخاف الغرق في هذا الرمل.
سحب الأوراق التي تحت يدي، وأخذ يقرأها. وكأنه يعرف ما بها مسبقاً.
وضعها أمامي.
- إنها مدخل لرواية.
ابتسمت بشكل مصطنع.
- رواية؟؟ هل تمزح؟؟
- إذن ما قصة هؤلاء الذين تسوقهم الهراوات الى حافلة تمضي في طريق مجهول؟
- انهم الذين أعلنوا غشاوة هذا الرمل.
- لكن الطفل ذا اللسان المكسور واليدين الجريحتين، كان سيقول شيئاً.
- كل الأطفال يتهيأون لأن يقولوا شيئاً.
- والأعرج؟؟ لماذا يحقد على الراوي، ويوجه له اللوم فيما حدث لكل هؤلاء الناس؟
أحس صاحبي بالضيق.
تركني الى النافذة المغلقة.
حاول أن يفتحها، لكني طلبت منه ألا يفعل.
طالعني صامتاً وكأنه يرتب كلامه.
قال بهدوء.
- أريد أن أفهم.
صمت قليلاً، ثم واصل.
- لماذا تجعل البطل سلبياً دائماً؟
- أي بطل تقصد؟؟
ابتسم بخبث وعاد ليجلس الى جانبي.
سألني.
- هل تريد أن نتحدث في موضوع القصة أم لا؟
تنهدت للمرة الثانية، وسارعت بالقول.
- أنت تفترض، كما يبدو، أن الراوي هو البطل.
- ان من سيقرأ هذا المقطع سيصل مثلي الى أن الراوي هو البطل، فهو محور العلاقات.
- أية علاقات؟
- مع الطفل ذي اللسان المكسور. مع الحافلة. مع الأعرج. مع العريف. مع الأنفار. حتى مع الهراوات التي كانت تقود الناس الى المصير المجهول.
كنت أهز رأسي أثناء حديثه. عندما توقف، سألته.
- والرمل؟
- الرمل؟!
- ألا تعتقد أنه هو البطل الحقيقي؟
- لكن الرمل غير موجود في الكتابة التي قرأتها.
- بلى. إنه موجود في كل مفردة. في كل فاصلة ونقطة. الرمل يملأ الأبجدية. تصوّر لو أنك كتبت عيناً على ورقة، ومرّ الرمل عليها ليجعلها حرفاً آخر. حرفاً لا يستطيع الرؤية كالعين. وبدل أن يكون هذا الحرف العظيم إصبعاً توجه الاتهام به، يصير إصبعاً يضعك في الاتهام. هذا هو الرمل يا صاحبي. هذا هو البطل الرئيسي الذي يقود كل الأبطال الآخرين الى حافلة تحرسها هراوات وتمضي الى مجهول بعيد لم يعد منه أحد.
قام صاحبي عن الكرسي باتجاه النافذة، ثم فتحها. تبلل المكان بالهواء، فاستدار اليّ قائلاً.
- اذن لن ينجو إلا الطفل؟
جمعت الأوراق، وقمت كي أذهب للجريدة. عندما فتحتُ الباب، دخل من النافذة تيار هواء قوي. لكنني كنت أمسك أوراقي بشدة.
** ** **
الجريدة غامقة جداً، والذي يتبعني حَمَتْهُ الشوارع مني. كنت أريد أن ألتقط حجراً وأقذفه لسحابة أرختها السماء. وكنت أريده أن يتبع ذلك الحجر. أن يغمس شاربيه في زيت الفضاء ليعرف كم هالك هو، كم هالكون هم، كم ضحايا نحن. لكن الشوارع أخفت خياله الملتصق بكعبيّ، فدخلتُ الجريدة.
** ** **
لا أذكر بالتحديد منذ متى بدأ مطاردتي، في حين أذكر أن أطفالاً اجتمعوا في بيت قصي من بيوت حارتنا، وصاروا يبكون بكاء تصدعت له جدران هذا البيت.
اجتمع الشباب والرجال والشيوخ، وقرروا أن يهدموا هذا البيت على من فيه.
هرعت الأمهات الى أكبر الشيوخ، وحاولن أن يسترحمنه في أطفالهن. لكنه صرخ فيهن، وطلب منهن نسيان الأمر.
لم تستطع الأمهات أن تحتملن، فجلبت كل واحدة منهن خنجراً حاداً، وبقرن بطونهن الواحدة تلو الأخرى.
دفن الرجال جثث الأمهات، بعد أن جف الدم من جلودهن. وبعد أن عادوا من المقبرة، طلبوا من البنات أن يغتسلن بالماء المعطر وأن يسكبن على أعناقهن زيت الورد، ليسيل على صدورهن وظهورهن. اشتعلت الأنوار في كل ناحية من نواحي الحارة، وتدلت الزينة من نوافذ البيوت. اختلطت رائحة الورد المنبعثة من أجساد البنات برائحة العرق التي كانت تفوح من آباط الرجال المنهمكين في سلخ الذبائح المكتنزة. كانت حرارة النيران المتقدة تحت القدور الضخمة تضيف للجو الملتهب مزيداً من الصيف. وكانت تحركات بعض الشباب المريبة تدفع الشيخ الأكبر لأن يسأل أحدهم بصوت لم تطفئه سنوات عمره الطويلة وشحمه المترهل.
- هل تأكدتم أن أحداً في الحارات المجاورة لن يشعر بشيء؟
أجابه الشاب الأقصر قامة والأكثر دمامة، وهو يمضغ قطعة نيئة نزعها من أحشاء أقرب ذبيحة له.
- اطمئن يا شيخ.
وأضاف بعد أن ابتلع اللقمة:
- والله لو انتقلت سحابة من سمائنا الى سماء أي حارة مجاورة فستحلف هناك، أنها مرت على حارة بالغة في الأمن والسلام والرخاء والخير والاستقرار.
ضحك الشيخ، فتضاحك الشباب، وتجشأ القصير الدميم.
** ** **
تناول الجميع لحوم الذبائح بنهم شديد، حتى لم يبق سوى العظام، على الصحون التي ُرصّت في صف واحد.
بإشارة من يد الشيخ، قام الناس عن الطعام واتجهوا الى أقصى الحارة، حيث بكاء الأطفال داخل البيت ما زال حاراً يقصف المسافات.
لم تمض لحظات حتى أحيط البيت بالقش وأُشعلت فيه النيران.
فجأة، توقف الأطفال عن البكاء وبدأوا في الأناشيد التي لم يتجاوزوا مقاطعها الأولى حتى سمع الجميع فرقعة جماجمهم الصغيرة.
** ** **
عاد الشباب والرجال والشيوخ الى بيوتهم، ليستهل كل واحد منهم عرساً جديداً مع تلك البنات اللواتي كن ينتظرن أن يحدث أي طاريء، إلا أن تكون هذه الليلة حقلاً لإنجاب أطفال لا يبكون بكاءً حاراً يقصف المسافات.
** ** **
في الفجر صحوت من نومي، وخرجت.
رأيت قبوراً تحيط بيوت حارتنا. نبشت القبر الذي أمام بيتنا. أخرجت أمي، ونفضتُ الغبار عنها. سألتها عن أخي الصغير، فقالت.
- إنه في أقصى الحارة يبكي.
وانغمرتْ في نشيجٍ مر.
جلبتُ لها الماء، فاغتسلتْ. مشينا معاً الى البيت القصي، فوجدناه هشيماً. جمعنا الجماجم في كيس من الخام الأبيض، وخبأناه بيننا. صرنا نمشي حتى نفذنا من حارتنا الى الحارة المجاورة. هناك، صادفتنا امرأة تبحث في الرماد عن جمجمة صغيرة.
** ** **
منذ هناك، توقفت أمي عن البكاء وصارت تكتفي بالنظر الخائف صوب كل الاتجاهات.
- لا تخافي. لن يعثروا علينا.
أرختْ من يدها الكيس المملوء بالجماجم الصغيرة. أدخلت يدها فيه، وأخرجت جمجمة. بعد أن تحسستها جيداً، مدتها لي وقالت.
- علمني القراءة.
من الرماد المنتشر حولنا، التقطت إصبعاً من الفحم وعدت لها.
قلت.
- حسناً يا أمي. سوف أعلّمكِ.
** ** **
لم يكن أبي قادراً منذ شبابه على الشفاء. كان مرضه من النوع الغامض الذي يغريني دائماً بمحاولات اكتشافه. وكانت هذه المحاولات توقعني في حزنٍ طاغٍ. لأنني كلما أجد خيطاً، يقودني الى خيوط أكثر تشابكاً.
أبي لا يتيح لي، ولبقية أخوتي، فرصة أن نستمع له. كان يريد أن يسمع هو.
- لماذا أنتَ نحيف هكذا؟
وأردُّ عليه.
- أظن أن في بطني ديداناً تأكل طعامي.
ولا يظهر على وجهه تعبير محدد، بل يسارع بالقول.
- فقط لا تفكر بشيء وأنت تأكل.
أمي هي التي جعلتني أؤمن بأن ديداناً تعيش في بطني. فلقد جئتها ذات مرة بعد أن كنت أراقب أولاداً يعلبون الكرة بعنف وصلابة.
سألتها.
- لماذا أنا نحيف وقصير؟
أجابت، وهي ترتب الأدوية المتكوّمة بجانب فراش أبي.
- لأنك لا تأكل جيداً.
قلت بحسرة.
- والله إني لا أتوقف عن الأكل. آكل في البيت وفي المدرسة. وعندما أدخل بيوت جيراننا لا أرفض الأكل الذي يقدمونه لي.
تنظر اليّ نظرة بين التوبيخ والقلق.
- اذاً، في بطنك ديدان.
أتذكر الصوت الذي أسمعه في بطني بعد كل وجبة آكلها. أرد عليها بسرعة.
- معك حق.
ويظهر على وجهي شعور الخوف، فتبادر.
- لا تخف. عندما تبلغ، تموت الديدان وتخرج. سوف تراها وهي تخرج من مؤخرتك، بيضاء لا رأس لها ولا ذنب.
كان بيني وبين البلوغ سنوات، لذلك ارتبطت الديدان بهلعي ومخاوفي المستمرة. كنت أراها في الحلم، تخرج من بين أضلاعي وتلتهم لحمي لكي أظل نحيفاً وقصيراً.
** ** **
لم أحس، ولو مرة، بأن أبي قد يتساءل عما أفكر فيه أثناء تناولي للطعام. أكثر ما كان سيعتقد، أنني ضقت ذرعاً بهذا البيت الذي صار ضيقاً فلا يكاد يتسع لمجموعنا التسعة، لكن هذا لم يكن ليشغلني في شيء. فأنا عندما أصحو مفزوعاً من الديدان أواسط الليل وأشاهد أجساد أخوتي المتناثرة حولي، يبرد كابوسي.
انه فقط.
- لماذا يقطف هذا المرض بياضَ أبي؟
لم يطرأ عليّ أن تكون ديدان في بطن أبي. فهو بالغ. بالغ جداً بل أكثر رجال الحي، الذي كنا نعيش فيه، مقدرةً على كسب احترام الجميع. هو بعكسهم. لم يدخل يوماً في مشادة، سواء مع الحدّاد الفلسطيني، الذي يختلق ضجيجاً مسائياً متوالياً بسبب أطفاله الأشقياء. أو مع هذا الكهل الذي جاء من قرية في الشمال، واقتطع جزءاً من بيته لدكان صغير، يطلق من بابه الخشبي صراخاً يدافع به عن نفسه لكل من يقول له بأن بضاعته الفاسدة فاسدة. وكان أيضاً السمكري، الذي قدم الى حيّنا وأنشأ ورشة صغيرة واعتاد أن يجمع كل ليلة جمعة عماله في البيت، ليعزف أحدهم على العود، وثانٍ ليضرب على الدف، والبقية يغنون ويصفقون حتى منتصف الليل. كان خوفاً كبيراً في نفوس أهل الحي، الذين لم يعهدوا في حياتهم مثل هذا السمكري. قال أحدهم.
- نشتكي للشرطة.
قال آخر.
- بل لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأردف ثالث.
- المهم أن نضع حداً للأمر. بيوتنا مليئة بالحريم.
ولم يستطع أحد الإتيان بشيء.
وبعدما جلس أبي اليه في صباحٍ من صباحات الجمعة انتهى الأمر. ولم يعد أحد يرى في هذا البيت، سوى امرأة جديدة. عرفنا بعد ذلك أنها زوجته.
** ** **
- حسناً يا أمي، سوف أعلمكِ القراءة بإصبع الفحم هذا. هل ترينه؟
أجابت بفتور.
- نعم، إنني أراه.
ثم غرستُ الإصبع في فم الجمجمة، ليصير رطباً.
الرياض – 1986م
(* يوماً ما سأتعلم كيف أكتب هذه الرواية*)
الشائكــــة
الكتابة الثانية
الشارع منغمر بالسكون، وبالوقت البطيء والعتمة.
جدران الشقة هاربة الى بعضها، تستقي دفئاً لهذا البرد المنتصف موسمه. تجعل المخدة بين ركبتيها وصدرها، وتنشغل بإخراج ورقة كانت ملفوفة داخل زجاجة. تنجح في إخراجها. تفردها، فترى جملة مكتوبة بخط رديء.
- ما هذه؟؟
- زجاجة دواءٍ فارغة. كان الوقت متأخراً لشراء أخرى.
تناوله الورقة، وتضع إصبعها على الجملة، فهي تعرف كم هو مرتبك هذه اللحظة. تنطلق إجابته مبحوحة.
- مقطع من قصيدة شهيرة.
- ماذا يقول؟؟
- عنقي على السكين يا وطني.
- قصيدتك؟؟
يبتسم ببرود.
- لستُ شاعراً، أنا كاتب قصة.
- وعنقك؟؟ أليس على السكين؟؟
- لا تشغلي بالك بعنقي الآن.
ترمي المخدة عن حِجرها، تلتفت إليه بكامل جسدها.
- ستكتب عني؟؟
تتعثر الكلمات في فمه. يمتصُّ حزنه بشغف، ويجيب دخاناً أصفر.
- أنت شائكة. وسوف أهْلَكُ بشوككِ.
يملأ وجهها غيمٌ من الأحمر. ترتعش ذقنها، لكنها تستجمع جأشها، فتصبغ شفتيها بابتسامة صغيرة.
- أنا؟
يحس أن ناقوساً يجلد عظامه، وأن رأسه الثقيلة على وشك أن تنطلق لصدرها، وأنه سيبكي دهراً لم يبكه أبداً، وأنه سيشكو لها جلده المتقرّح بالوحدة، ونبضه الصامت بالانتظار، ولسانه اليابس بالخوف. لكنه يقوم، ثم ينحني تحت السرير، باحثاً عن قطرة دواءٍ أهملتها زجاجة. تسمع صوته تحتها بطيئاً وخافتاً.
- ألم يحن الوقت لأن تكسري هذه المرآة الباردة، وأن تغسلي وجهك من سموم تلك اللحظات القصيرة.
تتنهد، فيكاد هواء الغرفة أن ينقضي.
- وتعطيني أنت اللحظة التي لا تنتهي؟
تقع يده على زجاجة مقفلة. يسحبها، فيكون فيها نصفها.
يصنع جرعتين، ويمد لها واحدةً.
- ربما أكتب عنك.
ويضيف متسائلاً.
- هل تقرأين القصص؟؟
تعدّل جلستها، وتبتسم.
- قليلاً، بل نادراً.
- اذن، سوف لن تفهمي ما أكتبه.
- ولمَ لا تكتب شيئاً أفهمه؟
يغوص في حيرته، فتستعيد هي الكلام.
- لا بأس. سأحكي لكَ، وسأرى كيف تكتب.
قبل أن تبدأ حكايتها، تطوي الورقة بأصابعها وتُدخلها في بطن الزجاجة الفارغة. أما هو، فيفكر بالعنق وبالسكين وبالوطن، وبالكتابة التي لن تفهمها.
الرياض – 4 فبراير 1987م
الكتابة الأولى
تستيقظ من خصرها الفراشات المذهبة، ثم تطير، فيمتليء الهواء بالذهب.
تصحو هي.
تفتح نوافذ وجهها لدموع هذا الصباح.
- إرفعوا أياديكم عنه.. لا أريده أن يتسخ.
وتتكسر واجهاتهم، ولا يطلقونة.
- إتركوه. إنه خيط من دمي المستباح. وهو نور لظلمتي التي ابتدأتموها أنتم. دعوه يتعلم المشي خارج تربتكم.
ويتلاشى زجاج قاماتهم، فيصغرون، ولا يطلقونه.
يصغرون. يصغرون. يصغرون. فتدوسهم برجليها، وتمضي الى الخارج، وهم لا يزالون، لا يطلقونه.
** ** **
ينحني اليها.
- ترقصين؟؟
تهز رأسها، فيتساقط في كأسها قطع من البللور.
- أرقص.
تمتد يده لها، فتعطيه أصابعها، وتمشي الى المدى المصطخب بالموسيقى. تدخل وسط أجساد محمومة بالنار، فيصابون بالجليد. تدور بينهم، فيهوي كلٌ منهم بعد الآخر، ثم يشتعلون. على رمادهم، ترقص. وحدها ترقص، فتندهش الموسيقى. تتعثر الموسيقى، فتصمت، لكنها لا تزال ترقص.
إنها ترقص على رماد المدى والأجساد والموسيقى.
تنحفر الأرض تحت قدميها، وتنحفر.
يتدفق الماء الساخن ببطء ثم ينفجر. تبلل بالماء، وهي ترقص. تتحول ذراعاها الى جناحين، فتطير، ويطير الماء معها.
يصرخ هو.
- الماء.
ويصرخون هم.
- لقد اختطفت منا الماء.
** ** **
ينغمر الشارع بالسكون، وبالوقت البطيء. تندفع السيارة باتجاه لا شيء.
- تمهل.
- أريد أن أصل.
- الى اين؟؟
- إليكِِ.
- لكنني معك.
- أنتِ؟!
- وهل ترى عكس ذلك؟
- إنني الآن لا أرى؟
- وأنا؟؟
- ماذا؟
- أريد أن أصل اليكَ.
- إذن هيا.
- هيا؟!
- هيا نتهيأ للموت.
وتدخل السيارة في شارع معتم.
** ** **
- قليلا من التنفس وأتعرف عليكم واحداً واحداً يا هؤلاء الذين اصطفوا أمام مقصلتي. فقط قليلاً من التنفس.
يحاول العسكري أن يفيقها، لكنها تستمر في الهذيان.
- أعرف هذا الذي غرس خنجره الأول. جاءني وأنا ألهو بوجه سنواتي الأولى، وغرس خنجره في ذهولي. رأيت الدم ينسكب قطرات من جلدي. ضحك، وشاركه أهلي. سألتهم: لماذا تضحكون؟؟ فلم يجيبوا. كان خادمنا يبكي، ويطرد كل اللاتي يحاولن التفرج عليَّ. حاولت أن أنهض، فلم أستطع. شددت ساقيَّ، فاستطعت الوقوف. حين وقفت، طلبوا مني أن أرقص. مسحت الدم عن جلدي، ولطخت به وجهي، ورقصت. كانوا جميعاً يصفقون. كنت أحاول أن أقترب من خادمنا كي أستظل به. لكنني عندما وصلت اليه، وهربت به الى الخارج، انطلقت رصاصة واستقرت في ظهره. تجمدت في مكاني، فهرعوا الي. كنت قطعة من الخشب، وكانت المسامير تملأني من جمجمتي حتى أصابع قدميّ. وضعوني في نعش من الاسفنج، وبدأوا يدورون بي على بيوت الناس. كانت النساء حين يرونني، يبصقن، والرجال يصطفقون بارتعاشات بيضاء غريبة. بعد أن استكملوا البيوت، خلعوا المسامير مني، وأودعوها فمي. في الصباح التالي، أفقت من النوم، وحاولت أن أقتلع المسامير، ففشلت. قلت لنفسي: أخلع كل يوم مسماراً ليتوزع الألم على ساعاته الكثيرة الطويلة المملة. بدأت في المسمار الأول. كنت أحس بطعم الصدأ في حلقي، بل في دمي. كان الجهد الذي أبذله في سحب المسمار يمزق قلبي. كنت أسمع صوت الجلد وهو يتقطع، وكنت أشعر بالدم وهو يقطر، فينسدُّ صراخ الهلع الذي ينتابني. بعد أن نجحت في نزع المسمار الأول عن فمي، غرسته في خشب سريري، وانتظرت أن يهوي الى الأبد، لكنه اشتد واتسع. استلقيت عليه، فوجدت أفواجاً من الرجال ينحنون حولي. وجدتهم واحداً بعد الآخر يستقلون الى جانبي، فلا يجعلون للأيام متسعاً كي أخلع بقية المسامير. عندما انتهوا لقيت الى جانبي صياحاً. قمت مفزوعة عن السير، ولحقت بهم، لكنهم كانوا قد استبدلوا وجوههم وتناثروا في الشارع العادي. عدت وأضرمت النار في الخشب، وبدأت أرقص حول النار. بعد أن غمر الحريق كل شيء، هدأ الصياح شيئاً فشيئاً حتى تلاشى. في هدوء النار، التفتُّ خلفي، فوجدتُ الرضيع متشبثاً بظهري، ووجدت أصابعه الصغيرة تحاول أن تمتد الى فمي لتخلع المسامير.
يشدّها العسكري من كتفيها، ويهزها بعنف.
- أنتِ.
لكنها لا تستجيب.
يستدير الى زميله.
- ننقلها الى المستشفى؟؟
لكنه يعترض.
- هذا الصنف للضرب. للضرب فقط.
يضربها، ويضربها، ولا تفيق.
يضربها، ولا تفيق.
- من يشتري؟؟ يشدُّ على نهديَّ الطريتين، ومن يشتري؟؟ من يشتري طفولته المتشققة؟
اقترب الحرس مني، فركضتُ. ركضوا، وركضت. ركضتُ حتى الجدار، لكنني أيضاً ركضت. بعدما فرَّق لحميَ الاصطدام، جمعوه. صرخوا صرخة الحرس فتجمعتُ. صفقوا، فرقصتُ. بعد أن ناموا، بحثت عن رضيعي، فوجدته مندسّاً في سترة أحدهم. التقطته والسترة، ثم هربت.
** ** **
ينحنون اليها.
- ترقصين؟؟
- إرفعوا أياديكم عنه.
- ترقصين؟؟
- أريد أن أصل إليكَ.
- ترقصين؟؟
- هذه الفراشات لا تتوقف عن الخروج من خاصرتي.
- ترقصين؟؟
- وهل تشتري؟؟
المدى مشحون بأجساد محمومة بالنار. تطير الفراشات حول النار. تطير تطير تطير حتى تنفجر الأرض بالماء الساخن، وتتوحد الفراشات في فراشة واحدة، فراشة من ذهب.
** ** **
تفتح نوافذ وجهها لدموع هذا الصباح. يتسلل جرذٌ الى غرفتها. ترمقه ببلادة، وهو يتحرك حتى يصل الى مخدتها، ثم يختفي في شعرها. تسمع صوته وهو يقرض عظام جمجمتها. وتسمع أصواتهم، وهم لا يطلقونه. لا يطلقونه أبداً.
القاهرة 9 يناير 1987م
الثوب
كانت تقول لطفولتي المتكسرة.
- يا ولدي، لا تجزع. سَيهبُكَ الله طولاً وعرضاً يُغنيانك عن هذا الطنين في رأسك. ستعشقك الحريم والبنات وسيحقد عليك الرجال والفتيان. وستدّعي العجائز، وهن يؤشرن لنهودهن وقد صارتْ مثل بالونات فارغة، بأنك أنت الذي أفرغت الحليب كله حين كنت رضيعاً. وسيحكي الشيوخ في كل مجالسهم بأنهم نطقوا الشهادة في أذنك حين سقطت من رحمي. سيهبُكَ الله يا ولدي طولاً تباري به بيوت مدينتنا التي سوف تباري السماء، فلا تجزع.
** ** **
وحيداً، أجلس في الطين الفارغ. أنتظر هذه الطرقات السريعة التي أفتح بعدها، فلا أجد أحداً. وأجد الى جانب الباب ثياباً بالية أو طعاماً بائتاً.
الطعام لا يحسن مذاقاً في فمي، بعد أن ازداد الطنين في رأسي، فصرت أحسّ أن نملاً هائلاً يركض داخل جمجمتي.
في الفجر، فيما أخرج من النوم، أشعر أن رأسي مثل رؤوس كل خلق الله، صغيرة وصافية. لكنني حين أقف أمام الماء وأطالع وجهي في تلك المرآة التي لم يبقَ منها سوى قطعة بحجم الكف، يجتاحني الطنين. فهذا الوجه يحمل أنفاً مفلطحاً يكاد يخرج من جانبي خدّي، وعينين صغيرتين لا أكاد أراهما، وفماً بشفتين عريضتين جافتين، لم تَنْمُ فوقهما شعرة واحدة، مع أني داخلٌ – كما يقول الناس – في الثلاثين.
أملأ كفيّ الضخمتين بالماء وأبلل بهما وجهي وأعود أبحث في الثياب عن ثوب يناسب قامتي المفزعة، فلا أجد، وأبحث في الطعام عن طعام، فلا أجد.
** ** **
وحيداً لا جارَ سوى هذا العامل الساكن أمامي. يرجع كل ظهيرة من عمله، حاملاً كيساً مدبقاً بالدهن، وحزمة كراث. يغلق بابه، ويستهل الليل بغناء موجع، للبلاد التي تصب في غربته.
لا ينقطع عن الغناء حتى وهو يأكل. وحين يخمد في البيت كل شيء: الضوء والحركة والصوت، أعرف أنه نام.
** ** **
يوم واحد لا يخرج فيه. يظل داخل البيت طوال الوقت. وعند اقتراب العصر، يفتح نافذة البيت، فتظهر على جدران الغرفة صور مقطوعة من مجلات ملونة، لنساء سمراوات وشقراوات، طويلات وقصيرات، نحيلات وممتلئات.
أذكر المرة الأولى التي شاهدته فيها، يفتح خشب النافذة، فرأيت هذا الحشد من النساء داخل الغرفة.
حسّبتهن لأول وهلة جنيّات يخرجن من الجدار، ويرقصن له حتى خيوط الفجر، ثم يأمرهن أن يتوقفن وأن يجتمعن على فراشه.
سمعته يتوقف عن الغناء ويبدأ في بكاء قصير، يصمت بعده، ثم يصلني شهيقه وزفيره.
ارتفع الشهيق والزفير شيئاً فشيئاً، حتى بدا وكأنه زئير جريح.
خفت أن يكون الرجل يختنق.
هممت بالخروج لمساعدته لكنه زفر ثلاث أو أربع زفرات ثم خمد.
قلت لنفسي: لعله مات. وخشيت أن أتورط به.
في اليوم التالي، رأيته يخرج لعمله كعادته كل صباح باكر، فعرفت أن ليس في الأمر شيء. ثم اعتدت أن أنتظر اليوم الذي لا يخرج فيه، لأراه وهو يفتح النافذة واسمعه وهو يرسل نحيبه وشهيقه. وعلى الجدران، لم تزل النساء.
** ** **
هذه الظهيرة، يمزقني جوع بارد، فلم يقرع الباب أحد، وبقايا الطعام تتكاثر حوله النمل والصراصير، بعد أن أجهزت الفئران على فتاته.
لا أجد أمامي سوى أن أخرج، وأن أطرق باب العامل.
يفتح الباب لي.
- تفضل.
- أريد شيئاً آكله.
- قلت تفضل.
أحنى قامتي كي أعبر الباب الى الداخل.
أمكث في الغرفة، ويختفي هو في بقية البيت. أطالع حولي، فأرى فراشه في الركن، أكثر سُمْكاً من فراشي، تغطيه ملاءة ممزقة، والى جانب الفراش صندوق خشبي غمرته الأتربة، في داخله ملابس متكومة على بعضها، وفوقه دورق ماء تحولت أطرافه الى هلال من السواد.
على الأرض حصيرة افترشتها ثقوب متناثرة، وبقع بنية.
يدخل حاملاً صحناً من الأرز. يضعه ويختفي مرة أخرى.
أبتلعُ ريقي لمنظر البخار وهو يتصاعد من الأرز المنقوع بالصلصة، والمغروس في وسطه بصل أبيض.
يعود ماسكاً في كل يد أعواداً من الكراث. يضع التي في يده اليمنى أمامي، ويبتسم لي.
- سيكفينا أنا وأنت؟؟
- بزيادة.
- بسم الله.
يغرس أصابعه في الأرز، ويملأ كفه. يضغطها، فيسيل الدهن الأحمر على ظهر يده. يفرغ اللقمة في فمه ثم ينفضها. يتناول عوداً من الكراث، ويمرر إصبعيه فوقه ليمسح التراب عنه، ثم يطويه وهو في الطريق الى فمه. ننتهي، فيحمل الصحن الفارغ، بعد أن يجمع ما تناثر من أيدينا وأفواهنا، ويخرج به.
يرجع بكأسين من الشاي الأسود الداكن. أتناول منه كأساً، فألمح شفته السفلى محشوة. أراه يبصق بصاقاً بني اللون، ثم يشرب شايه. اكتشفتُ سر البقع النية التي تملأ الحصيرة.
أسأله.
- ما هذا؟؟
- هذا للكيف. هل تريد أن تتكيف؟؟
- لا، أنا متكيف الآن.
- اذن، اشرب هذا الشاي.
أصمت وأنا أشاهده يراقبني، وأنشغل بمطالعة الصور المعلقة على الجدار، وقد بدتْ أكثر جمالاً ونعومةً وإغراءً.
- لماذا ثوبك قصير هكذا؟؟
- كل الثياب لا تجيء على مقاسي.
- ولِمَ لا تفصّل لك ثوباً؟
- لا أملك نقوداً.
- إعمل.
- لا أحد يُشّغلني. إنني طويل ومخيف والأطفال أينما أذهب يركضون خلفي، وهم يضحكون على قامتي، وعلى ثيابي القصيرة.
يبصق على الأرض، ثم ينهض الى الصندوق. يرفع بعض الملابس، ويُخرجُ حافظة جلدية مربوطة بمطاط سميك. يفتحها ويسحب ورقةً نقدية.
- خذ.
- ما هذه؟؟
- اذهب الى الخياط واطلب منه أن يصنع ثوباً على قياسك.
- وكيف أردّ هذه النقود لك؟؟
- أنا أعرف كيف استردها منك، خذ.
ويقترب مني. يقترب مني بشدة، وهو يزفر كالأسد الجائع.
- خذ.
** ** **
"سويقة" محتشدة بخطوات النساء وهنَّ يعبرن من محل الى آخر. عباءات تلتف على الأجساد الطويلة والقصيرة، النحيلة والممتلئة، السمراء والبيضاء.
نساء داكنات يكشفن عن وجوههن الدميمة، يجلسن الى الأرض وقد رصفن حلوى الأطفال على قماش، ومرطبات داخل أوانٍ بلاستيكية معبأة بالثلج الذي أذاب الصيف معظمه.
عجائز في أياديهن سلع رخيصة، ينادين بأصواتهن الخفيضة، لكن أحداً لا يستجيب لهن، فيواصلن المشي والمناداة.
محلات تلتصق ببعضها، داخلها بائعون يفرطون في الأناقة والابتسامات ورائحة العطر.
أنا في "سويقة" لأول مرة، أطالع ثوبي غير مصدق أن أكمامه تصل رسغيّ، وأن طرفه يلامس الكعبين. أمشي بين النساء دون أن أنظر لهن، لكني أحسهن يفسحن الطريق لي، فأبالغ في عدم النظر ناحيتهن. تصطاد عيناي أحد الشيوخ، وهو يفغر فاه لمنظري، ثم يهز رأسه قائلاً.
- الحمد لله. اللهم لا تبلُ أحداً منا.
وأسمع إحدى العجائز تهامس جليستها بحشرجة.
- هذا ليس إنساً، انه امتحان من الله لأمه. المسكينة، كيف كانت ترضعه؟؟ يا رب احفظنا.
لكنني أستمر، فهناك فتيات يتغامزن، تقرص كل واحدة منهن كتف الأخرى، ويشرن اليّ.
أدخل مساحة ليس فيها شيخ واحد. أقف أمام محل في داخله فتاتان تلبسان عباءتين شفافتين، وعلى وجهيهما غطاءان يُظهران ملامحهما العذبة وشعرهما الناعم المفروق من المنتصف.
البائع ينظر لإحداهما مرة ثم ينظر للأخرى، وعلى شفتيه كلام هامس ورقيق. ينتقي لهما ما تطلبانه من بضاعة المحل.
أندفع الى المحل، فيصطدم رأسي بالباب. تضحك الفتاتان، ويتحول وجه البائع الى غضب هائج.
- هذا المحل للنساء فقط.
أرد عليه.
- أنا لا أريد إلاّ النساء.
تخاف الفتاتان، وتتراجعان الى الخلف.
أتوجه للفتاة الأكثر امتلاء.
- لا تخافي، انه حاقد عليّ.
ترفع الفتاة حقيبتها، وتضربني بها على صدري وتبصق الأخرى في وجهي. يتقدم البائع نحوي، لكني أهمّ بالهرب. ينجح في إمساك ثوبي، فأنزع يده وانطلق خارج الدكان.
أركض، وقد انفرط كل ثوبي.
يصيح البائع بالناس.
- امسكوه.
يحاول كل الناس الامساك بي: الشيوخ والعجائز والباعة الشباب، لكن خطواتي الطويلة تفرُّ من شجاعتهم الخائفة.
بعيداً عن السوق، لا أحد ورائي. تنطق المدينة بيوتها أمامي. وبيوتها طويلة حتى السماء.
في واحد من هذه البيوت، ألوذ أسفل الدرج. أتمدد، حولي حشرات كثيرة. وفي قلبي، تركض أمي، يتبعها العامل الذي أعطاني الورقة النقدية، وهو يقترب مني بشدة، قائلاً.
- أنا أعرف كيف أستردها منك، خذ.
وهو يزفر كالأسد الجائع.
الرياض/ مارس 1987م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق