ذئب النهار

(1)

في بقعة من بقاع الأرض، كانت هناك صحراء، وكانت هناك ثلاث قبائل تحيط الصحراء من جهات مختلفة. القبيلة الأولى تعيش على ضفاف نبع من الماء، والقبيلة الثانية تعيش داخل غابة من الأشجار الكثيفة، أما القبيلة الثالثة فكانت تعيش في كهوف وسط جبال، وكانت كل قبيلة تضع للقبيلة الأخرى اسماً. "النبعاويون" هم الذين يعيشون عند النبع، "الغاباتيون" هم الذين يعيشون في الغابة، "الكهفيون" هم الذين يعيشون في الكهوف.

الصحراء التي تفصل بين القبائل الثلاثة، يسكنها وحش غامض أطلقوا عليه اسم ذئب النهار، لأنه يعوي بصوت مخيف عند شروق الشمس وفي منتصف النهار وقبل المغيب، لذلك لا يستطيع أحد من أبناء كل قبيلة الوصول الى الآخر.

في الليل لا أحد يسمع لهذا الذئب صوتاً، وكان أهل القبائل الثلاثة يخشون أن يكيد لهم مكيدة، فيهجم عليهم أثناء نومهم، لذلك فهناك حراس في الليل وحراس في النهار لحماية أبناء القبائل.

 

*                 *                 *

 

"هجرس الكهفي" هو فارس قبيلة "الكهفيين"، وهو الذي أقسم في ليلة عرس اخته "سلمى" على ابن عمها "صخر" انه سيخرج للصحراء ويقاتل. "ذئب النهار".

رفع "صلد الكهفي"، وهو شيخ القبيلة، رأسه الى هجرس قائلاً.

-    ليس من الحكمة أن تخرج لقتال ذئب النهار.

-     لماذا يا عم؟! أليس هو عدونا الوحيد؟! أليس هو مصدر خوفنا ورعبنا؟! انه يحرمنا من الإقتراب من الصحراء التي أمامنا، فلماذا يا عم لا أذهب لقتاله؟!

رد الشيخ "صلد" بوقار.

-    لا تندفع يا بني، نحن لا نعرف من ذئب النهار سوى صوته المخيف فقط، لكننا لا نعرف حجمه. قد يكون وحشاً ضخماً، فيمزقك إرباً بين أنيابه.

قال "هجرس".

-    وقد لا يكون كذلك، فأغرس رمحي في عنقه ونستريح منه الى الأبد. لِمَ لا يا عمي؟!

سكت الشيخ "صلد" قليلاً ثم أجاب.

-    إنها مغامرة كبيرة يا هجرس، ويجب أن نستعد لها يا بني.

هزَّ الرجال رؤوسهم بالموافقة، فصرخ الشيخ "صلد".

-    هيا يا أبنائي، لنحتفل بزواج صخر وسلمى.

رفع "صخر" رمحه في الهواء، مشيراً الى أن يبدأوا قرع الطبول، ثم أخذ يرقص وسط الساحة يشاركه "هجرس" وهما يغنيان مع النساء بصوت رددته الجبال وتناقل في الفضاء الى أن وصل الى الأشجار التي كانت تظلل قبيلة "الغاباتيين"، حيث كان "غصن الغاباتي" يغطي أطفاله النائمين، وحينها قال لنفسه.

-    لابد أنه عزاء لميت؟!

ثم أضاف.

-    ليتني معهم لأشاركهم حزنهم، ليت هذه الصحراء لا يسكنها ذئب النهار.

وحين وصل الصدى الى قبيلة "النبعاويين"، كانت "جواهر النبعاوية" تجدل شعرها على صفحة الماء الذي عكس ضوء القمر، فقالت لنفسها.

-    لابد أنه عرس.

وأضافت.

-    ليتني معهم لأرقص في فرحهم.. لعنك الله يا ذئب النهار.

 

 

(2)

دخل "هجرس" الى كهفه، فوجد زوجته "مرام" في انتظاره. وضع رمحه على الباب، ثم نظر في عينيها، فإذا الدموع تملأهما.

سألها.

-    ما بك يا مرام؟!

أجابته بسؤال آخر.

-    أحقاً تريد أن تخرج لقتال ذئب النهار؟

-     أجل يا زوجتي الغالية. أهوَنُ عليَّ أن أموت من أن أعيش تحت الحراسة ليل نهار. هذا الذئب يتحكم بنا بعوائه، ويحرمنا الخروج عن أرض قبيلتنا.

-     لكننا تعودنا العيش في هذا الخوف.

-     أما أنا فلا. إما أن أعيش حراً أو أموت شهيداً.

تنهدت "مرام"، لكنها لم تستطع أن تقول شيئاً، فقال لها "هجرس" مبتسماً.

-    دعينا من ذئب النهار، ولنذهب للنوم.

 

*                 *                 *

 

لم تستطع "جواهر النبعاوية" النوم، فهي تفكر في خطيبها "كهرمان" الذي لم يستطع العيش في القبيلة، فتسلل ذات ليلة بعد أن تزود ببعض الغذاء والماء، خارج القبيلة. وقبل أن يهرب قالت "جواهر لخطيبها "كهرمان" وعلى وجهها حزن شديد.

-    لماذا تهرب؟‍

أجابها.

-    أنا لا أهرب. إنني راحل لكي أجد لنا مكاناً أكثر اتساعاً. قبيلتنا تختنق، فليس أمامها سوى صحراء يسكنها ذئب يعوي بنا نهاراً ويهددنا ليلاً.

اندهشت "جواهر".

-    أتريد أن تخترق الصحراء؟‍

-     لا يا غاليتي، سأحاول أن أسلك الطرق الوعرة التي خلفنا، لعلّي أصل الى منطقة أكثر أماناً.

-     أخاف أنك لن تعود.

وضع "كهرمان" يده على كتف جواهر، ثم همس لها.

-    بل سأعود، وسآخذكم جميعاً معي.

قبل أن يبدأ "كهرمان" في رحلته، قالت له جواهر.

-    ابقَ الى الغد، وأخبر الجميع بهذا الأمر فربما يذهب معك رجال آخرون.

هزَّ "كهرمان" رأسه.

-    لا. إنْ أخبرتهم، فلن يدعوني أذهب. إنها مخاطرة، إن نجحت فيها، جلبت لكم السعد، وإن لم أنجح فإنا الخاسر الوحيد هو أنا.

همستْ "جواهر".

-    لا أريد أن أخسرك.

لكن "كهرمان" طمأنها.

-    لن تخسريني. سأعود باذن الله.

كانت "جواهر" قادرة على سماع خطوات كهرمان الهاربة بخفة من قبيلة "النبعاويين" الى المجهول، فلم تجد إلا الجلوس على شاطيء النبع.

بكتْ جواهر طويلاً، وأحست وهي تمسح دموعها بأن أحداً خلفها.

التفتت فوجدت أمها، فلم تحتمل.. رمت برأسها في حضنها وأكملت بكاءها.

قالت الأم.

-    أعرف أن كهرمان رحل. كان قلبي يقول لي أنه سيفعل ذلك. لقد رحل أبوه قبله، لكنه لم يجد لنا مكاناً يأوينا من هذا الخوف.. رحل ومن يومها لم يعد.

صرخت "جواهر" بأمها.

-     لا يا أمي. كهرمان سيعود. هو قال ذلك.

ردّت الأم.

-    أرجو ذلك يا ابنتي.

لَمَعَ البرقُ في سماء القبيلة، فظهرت الدموع الغزيرة على خديْ "جواهر".. ومنذ ذلك اليوم لم تجف. تجلس كل ليلة بلا خوف الى جانب النبع في انتظار كهرمان، متخيلة أنه يقضي وقته في المجهول من أجل بناء بيوت لقبيلة "النبعاويين" الذين تعبوا من الخوف ومن الصحراء ومن "ذئب النهار".

 

(3)

مسح "كهرمان النبعاوي" العرق عن جبينه وهو يطالع شجراً يلوح في آخر الأفق.

قال لنفسه.

-    الحمد لك يا رب، لقد عوضت تعبي وجهدي بهذا الشجر الكثيف الذي سأستظل به ولعلني أجد فيه مكاناً آمناً لقبيلتي.

وقبل أن يخطو خطوته الأولى باتجاه الغابة، عوى "ذئب النهار" عواء مخيفاً، لكن "كهرمان" لم يأبه به.

وعندما وصل "كهرمان" الى مشارف الشجر رأى رجلاً يمسك بطفليه، فقال لنفسه.

-     هناك من يعيش في هذه الغابة.

فكّر أن يعود من حيث أتى، لكنه سمع الرجل يناديه.

-    تعال يا أخي. لا تخش شيئاً.

فمشى "كهرمان" الى أن وصل الى الرجل، فرحب به ترحيباً شديداً.

-    يبدو عليك التعب الشديد.

رد "كهرمان".

-    لقد أتعبتني الصحراء، وكنت على وشك الموت.

-     من أي البلاد أنت؟‍

-     أنا من قبيلة "النبعاويين". أهلها ناس مسالمون يعيشون حول نبع الماء وهي تبعد كثيراً عنكم. لقد هربت منها لكي أبحث عن مأوى جديد يحمينا من ذئب النهار.

طالع الرجل طفليه، ثم أشار لهما برأسه أن يذهبا بعد أن همس لهما بشيء ما. فركضا الى داخل الغابة.

وضع الرجل ذراعه حول كتف كهرمان قائلاً.

-    مرحباً بك في قبيلة "الغاباتيين". نحن أيضاً مسالمون نحتمي بأشجار هذه الغابة الكثيفة ولا نستطيع مغادرتها خوفاً من هذا الذئب.

فكّر الرجل قليلاً ثم أشاف.

-    ولم أكن يا أخي أتخيل أن هناك أناساً غيرنا يعيشون في هذا المكان المرعب.

أقبل الطفلان وفي يد أحدكما جرة ماء وفي يد الآخرة سلة فواكه.. وضعاها على الأرض ثم ركضا مرة أخرى الى الغابة.

قال الرجل لكهرمان.

-    لابد أنك عطشان يا

فردّ كهرمان.

-    أنا اسمي كهرمان النبعاوي.

وبادره الرجل مبتسماً.

-    وأنا غصن الغاباتي، والطفلان اللذان رأيتهما هما أبنائي.

وأضاف.

-    تفضل يا كهرمان.. اشرب شيئاً من الماء وكل بعضاً من الفاكهة، لكي يزول عطشك وجوعك.

شرب كهرمان الماء ثم بدأ يقشر برتقالة، وهو يطال الأشجار الكثيفة والعالية التي تحيط بهما.

قال "غصن".

-    الغابة كبيرة كما ترى وربما تتسع لنا ولكم جميعاً.

فكر "كهرمان" قليلاً ثم قال.

-    أهل النبع لا يريدون أن يشاركوا أحداً في أرضهم. إنهم مسالمون لكنهم متمسكون بأرضهم.

-     ولماذا إذن خرجت لتبحث لهم عن مأوى؟‍

-     أنا لم أخرج برضاهم. لقد هربت أثناء نومهم، ولم يعرف يهروبي إلا خطيبتي جواهر.

ابتسم "غصن".

-    جواهر اسم جميل.

أغمض كهرمان عينيه لبرهة ثم أكمل.

-    وهي جميلة كجمال حوريّات الماء، ولها قلب يزهر فيه الحنان والحب.

-     وأنت تحبها كثيراً.

-     وأتمنى اليوم الذي أجد فيه بيتاً مطمئناً لأعيش فيه معها.

-     لابد أن يكون هنالك حل يا كهرمان. لا تيأس من رحمة الله.

-     أنا لست يائساً. سأحاول أن أجد مكاناً جديداً لقبيلتنا، وسأحاول إقناعهم بأن ينتقلوا له، فإن لم يقتنعوا سأعود للعيش معهم.

فكّر "غصن" مليّاً قبل أن يقول.

-    الحل الوحيد لمشاكل قبيلتكم وقبيلتنا هو القضاء على ذئب النهار.

سقطت البرتقالة من يد "كهرمان" الذي صوّب عينيه الى عيني "غصن".

-    ماذا تقول؟!

أجاب "غصن".

-    أقول ما سمعت.

-     لكن.. من ذا الذي سيستطيع القضاء على ذئب النهار؟!

 

 

*                 *                 *

 

في قبيلة "الكهفيين"، كان هجرس يشد حزامه على وسطه ويلقي جعبة السهام خلف ظهره. وقبل أن يتناول القوس والرمح من على الأرض، أمسكت زوجته "مرام" يده وهي تقول.

-    ليحرسك الله يا هجرس.

فقال لها.

-    لا تخافي يا حبيبتي، سأمزق جسد ذئب النهار.. والله انني سأمزقه وأريح قبيلتنا منه.

 

 

(4)

لم يلتفت "هجرس الكهفي" ليرى دموع زوجته "مرام"، بل انطلق حاملاً رمحه بيمينه وقوسه بشماله، وعلى ظهره السهام.

شقّ بقدميه القاسيتين رمل الصحراء باتجاه الشرق، حيث الشمس تغسل النوم من عينيها بالغيوم المتناثرة حولها.

كان "هجرس" في بداية رحلته يفكر بكلام شيخ قبيلته "صلد" الذي طلب منه أن يتريث في الخروج لمواجهة ذئب النهار، وكيف أنه رد على الشيخ قائلاً.

-    أعرف يا سيدي أنني أجهل العدو الذي أنا خارج لملاقاته، لكنني لا أجد طريقة أعرفه فيها. انه يعوي نهاراً ويتربص بنا ليلاً، ومهما حاولت يا شيخنا أن تثنيني عن رغبتي في الدفاع عن القبيلة، فلن أنثني.

وأجابه الشيخ "صلد".

-    أنا لا أريد أن أثنيك ولكنني أنصحك أن تدرب مجموعة من شباب القبيلة وأن تأخذهم برفقتك الى المعركة.

وصمت هجرس قليلاً ثم قال.

-     لماذا أخاطر بهؤلاء الشباب؟! أنا فارس القبيلة ومهمتي الدفاع عنها وعن أرواح أهلها، لذلك أطلب منك يا سيدي السماح لي بالخروج وحيداً، فإما أن أقضي على ذئب النهار، وإما أن أموت شهيداً.

بدأت الشمس ترتفع الى كبد السماء، وفي صمت الصحراء المطبق، انطلق هواءٌ اهتزت له الريح وتطاير له الغبار من كل الاتجاهات.

سقط الرمح والقوس من يدي "هجرس" الذي وضع كفيه على أذنيه من قوة العواء.

لم يكن هجرس قادراً على الرؤية بسبب الغبار، لذلك التقط قوسه وصار يطلق السهام في كل الاتجاهات وهو يصيح.

-    لن ترعبني يا ذئب النهار.. سأقتلك بسهامي.. سأقتلك.

وعوى الذئب مرة أخرى، فارتجت الأرض تحت قدمي "هجرس"، فسقط على وجهه وسال الدم غزيراً من جبينه، لكنه كان يسمع صوت أقدام تركض، فتوقع أن أحد سهامه قد أصاب الذئب، لذلك نهض مرة أخرى والتقط رمحه وقوسه وصار يركض خلف الصوت مطلقاً سهامه في فنس الاتجاه الى أن نفذت جعبته من السهام.

رمى "هجرس" الجعبة والقوس وقرر أن يحتفظ بالرمح للمواجهة الأخيرة.

بدأ صوت الأقدام يختفي والغبار يخف شيئاً فشيئاً الى أن عادت الصحراء الى صمتها وصفائها.

توقف "هجرس" عن الركض وصار يطالع في كل الاتجاهات، لكن شيئاً لم يكن هناك سوى الشمس والغيوم المتناثرة وكثبان الرمل الحمراء.

و

حدَّ "هجرس" في نهاية الأفق فرأى أطراف غابة خضراء، وتوقع أن يكون الذئب مختفياً هناك، فأطلق ساقيه راكضاً باتجاه الغابة.

 

(5)

كان "هجرس" يتوقع أن الذئب التجأ للغابة، لذلك لم يشعر بتعبٍ في ساقيه اللتين أطلقهما بكل قوته ليثأر للدم الذيسال من جبهته بعد أن أسقطته الرياح التي ثارت بعد أن عوى الذئب عواءه الجارح قبل ساعة.

حين وصل "هجرس" الى الغابة أحس بأن ساقيه ترفضان التوقف، فاستمر في الركض، وكان يكسّر برمحه (الذي لم يبقَ معه سواه) الأغصان المتدلية من الأشجار الكثيفة، الى أن فاجأتْه صرخةُ شخص خائف.

توقفت ساقاه عن الركض، وأخذ يتلفّتُ حوله والعرقُ يتصبب غزيراً من جسده. وبعد أن مسح بقع الدم الجافة من بين حاجبيه، صار يتلفّتُ في ظلام الأشجار الكثيفة صائحاً.

-    منْ هناك؟! مَنْ الذي يصرخ؟!

توقف الصراخ فجأةً، لكن "هجرس" سمع صوت تنفس انسان.. وبالضوء الشحيح المنبعث من بين الأشجار، رأى طفلاً مختبئاً خلف جذع شجرة، فاقترب منه بعد أن رمى رمحه على الأرض.

قال "هجرس" للطفل.

-    لا تخف.. لن أؤذيك.

مسح الطفل الدموع عن خده سائلاً.

-    هل أنت غول؟! هل أنت الذي تعوي كل يوم في النهار؟!

ابتسم "هجرس".

-    لا.. أنا لست غولاً.. أنا إنسان مثلك.

-    ولماذا أنت عملاق هكذا، وترتدي هذه الجلود على جسدك، وتحمل هذا الرمح الطويل في يدك؟! 

التقط "هجرس" رمحه من الأرض وأخذ يطالعه ثم يطالع وجه الطفل.

لم يستطع "هجرس" أن يجيب لماذا هو عملاق او لماذا يرتدي جلوداً على جسده، لكنه ردَّ عليه.

-    هذا الرمح لكي أقتل به ذئب النهار، وأريح الناس منه.

سأله الطفل.

-    وهل ستستطيع قتله؟!

-    أجل.. اذا أخبرتني عن مكانه، سأقتله.

-    لكننا لا نعرف مكانه.. إننا نسمعه يعوي في النهار، ونخاف منه.. أهلي ليسوا شجعاناً مثلك.

-    وأين أهلك؟!

أشار الطفل الى عمق الغابة.

-    هناك.

-    وهل تأخذني لهم؟!

-    أنت لا تريد قتلهم.. أليس كذلك؟!

-    أنا لست قاتلاً يا بني.. قل لي ما اسمك؟!

-    اسمي "ورد" وأبي اسمه غصن.. هيا كي آخذك اليه.

مشى "ورد" امام "هجرس" يقوده الى عمق الغابة، وما هي إلاّ دقائق حتى قابلهم طفل آخر، فركض "ورد" باتجاهه، وبعد أن صار الطفلان بجانب بعضهما، التفت "ورد" الى "هجرس" ثم قال له.

-    هذا أخي ريحان.

ردّ "هجرس".

-    أهلاً يا ريحان. أريد أن أقابل أباك.

ركض الطفلان يسبقان "هجرس" الى أن وصلا كوخاً مصنوعاً من جذوع وأغصان الشجر، وكان أمامه "غصن" الى جانبه "كهرمان".

نهض الطفلان يسبقان "هجرس"، فهمس "كهرمان" لـ "غصن".

-    من هذا الرجل الغريب؟!

ردّ "غصن".

-    دعنا نرى.

تقدم "غصن" باتجاه "هجرس" قائلاً.

-    مرحباً بك أيها الضيف.

شدّ "هجرس" قبضته على رمحه، ولم يحس "غصن" بذلك، لكن عيون "كهرمان" لمعتا بالحذر، فصاح.

-    إحذر منه يا غصن!!

تراجع "هجرس" الى الوراء، ولم ينتبه أن "ورد" كان خلفه تماماً.. فَقَدَ "هجرس" توازنه، قسط على الأرض وارتخت أصابعه عن الرمح.. وبسرعة، خطف "كهرمان" الرمح من بين أصابع "هجرس" وصوّبه باتجاه صدره صائحاً.

-    ما الذي تنوي فعله بنا؟!

كان "هجرس" منهك القوى، لذلك لم يتحرك.. كانت حزمة من الضوء تسقط على وجهه المتعب، فدفع "غصن" يد "كهرمان" قائلاً.

-    ابعد الرمح عنه، انه ينزف.

 

(6)

تعاون صلد وكهرمان في حمل "هجرس" الى داخل الكوخ ووضعاه على الفراش المصنوع من جذوع وأغصان الشجر.

 قال غصن لولديه "ورد" و "ريحان".

-    اذهب يا "ورد" وأحضر ماءً وأنت يا "ريحان" اجلب لي بعضاً من قشر الرمان الجاف.

غسل غصن جروح "هجرس" ثم وضع قشور الرمان الجافة عليها وربطها بعصابة بيضاء.

همس كهرمان في اذن غصن.

-    لا أظن أن جروحه خطيرة.

رد "غصن".

-    لا إنها سطحية ولكنه مرهق جداً، لندعه كي ينام.

نام غصن وكهرمان الى جانب فراش "هجرس"، وسمعاه وهو يهذي طيلة الليل.

-    سأقتلك يا ذئب النهار، سأمزق جسدك وأريح الناس منك.. الغبار.. الغبار.. الأرض ترتج.. سهامي ستقتله.. رأسي.. الدم يسيل من جبيني.. سأقتلك.. سأقتلك.. لقد نفذت سهامي.. آه آه.. سأقضي عليك برمحي.. الغبار.. الأرض.. إني أسمع صوت أقدامك أيها الوحش.. لن تفر مني.. أشجار الغابة.. إنه يختبيء هناك..

هدأ صوت "هجرس" بعد أن وضع "غصن" و "كهرمان" قماشاً مبلولاً بالماء على جبينه، لكن هذيانه لم ينقطع.

-    لا تخف مني يا "ورد".. أنا لن أؤذيك.. أنت ولد شجاع.. اقترب مني.

توقف هذيان "هجرس" بعد أن خفّت درجة حرارة جبينه ثم غرق في النوم.

طالع "غصن" عينيْ "كهرمان" وهزَّ كل منهما رأسه وكأنهما فهما قصة "هجرس".

قبل أن تشرق الشمس، أفاق "هجرس" من النوم، وكذلك أفاق "غصن" و "كهرمان".. نظر "هجرس" فيما حوله، وهو يقول.

-    أين أنا؟

أجابه "غصن".

-    أنت في كوخي.

-    وكيف جئت الى هنا؟

ردّ "كهرمان".

-    لقد وصلت الى هنا مساء أمس وكنت مهرقاً وجريحاً.

وضع "هجرس" يده على جبينه وبدا يتذكر كل ما مضى.. وضع "غصن" يده خلف رأس "هجرس" وساعده في النهوض قائلاً.

-    كيف تحس الآن؟!

أجاب "هجرس".

-    أنا بخير.. شكراً لك.

ثم أضاف.

-    أنت أبو ورد.. أليس كذلك؟

-    أجل أنا اسمي "غصن" واسم قبيلتنا قبيلة الغاباتيين، وهذا ضيفي "كهرمان" من قبيلة اسمها قبيلة النبعاويين.

نهض "هجرس" من فراشه وقال مصافحاً "غصن" ثم "كهرمان".

-    وأنا اسمي "هجرس" من قبيلة الكهفيين التي تبعد كثيراً عنكم.

قال "غصن".

-    وهل صحيح أنك كنت خارجاً لقتال ذئب النهار.

-    أجل، لكنني لم أستطع النيل منه، كنت أعتقد أنه مختبئاً في غابتكم.

ضحك "غصن" مستنكراً.

-    يختبيء هنا؟ مستحيل.. إننا نرتعد خوفاً من صوته، فكيف لو يهاجم غابتنا.

وأضاف "كهرمان".

-    لقد كنت تهذي طيلة الليل عن معركتك مع ذئب النهار.. أخبرنا كيف كانت المعركة.

سرد "هجرس" القصة عليهم كاملة، فانتابهم الخوف، لكنهما إُعجباً إعجاباً شديداً بشجاعة "هجرس"، وقال غصن.

-    لا أظنك ستخرج لقتاله مرة أخرى يا "هجرس"؟

-     ومن قال ذلك، بل سأخرج.

كان "ورد و "ريحان" يجمعان الفواكه من شجرة بجانب الكوخ، وكان يستمعان لكل الكلام الذي دار.

دخل "ورد" ومعه سلة فواكه، ووضعها أمام "هجرس" الذي مسح بكفّه على شعر ورد.

نظر "ورد" الى عيني أبيه ثم نظر الى عيني "هجرس" قائلاً.

-    أريد أن أخرج معك لقتال ذئب النهار.

تسمّر "ريحان" في مكانه ولم يستطع وضع جرة الماء على الأرض.

 

 

(7)

لم يصدق "غصن" الغاباتي ما سمعه من ابنه "ورد" وكذلك لم يصدق "كهرمان" النبعاوي ولا "ريحان" أخو "ورد"، لكن "هجرس" الكهفي وضع كفه على كتف "ورد" قائلاً.

-    منذ رأيتك يا "ورد" عند دخولي لغابتكم وأنا أحس أنك فارس شجاع.

ردّ "غصن" على "هجرس".

-    ما الذي تقوله يا ضيفنا العزيز؟! ورد لا يزال صغيراً على الحروب.

وعلّق "هجرس".

-    الشجاعة ليس لها عمر.. أليس كذلك يا "ورد"؟!

أجاب ورد بثقة.

-    هذا صحيح يا عمي. أنا واحد من قبيلة الغاباتيين الذين يرعبهم هذا الوحش ليل نهار، ويجب أن يتصدى له أحد من قبيلتنا كما يتصدى له هذا الفارس الهمام.

ابتسم "كهرمان" النبعاوي وهو يرى "ورد" يضع كفه على رأس هجرس، ثم قال.

-    ماذا تقصد يا ورد؟! هجرس سيحارب نيابة عن قبيلة الكهفيين وأنت ستحارب نيابة عن قبيلة الغاباتيين.. وماذا عن قبيلتي قبيلة النبعاويين؟!

لكن هجرس لم يأخذ كلام كهرمان على أساس أنه هزل، بل أخذه على محمل الجد، لذلك علّق بجديّة.

-    أنا أرى أنه من الواجب علينا التكاتف لمحاربة ذئب النهار. إن القبائل الثلاثة التي ننتمي لها تحيطها صحراء واحدة يعيش فيها وحشٌ يرعبنا ويهدد حياتنا.

هزّ غصن رأسه موافقاً.

-    أنت على حق يا هجرس، لكن هل تظن بأننا سنستطيع نحن الثلاثة أن نقضي على ذلك الذئب الذي يردُّ بعوائه الأرض ويثير بأقدامه زوابع الغبار الشديد؟!

مسح هجرس على رأس ورد.

-    نحن أربعة ولسنا ثلاثة.

فصرخ ريحان.

-    بل خمسة يا عمي.

ضحك هجرس وغصن وكهرمان ثم أكمل هجرس كلامه.

-    وما الحل في رأيكم؟!

أجاب كهرمان.

-    أقترح أن تعود يا هجرس الى قبيلتك وكذلك أنا، ويجهّز كل منا فرسان قبيلته ونعود مرة أخرى الى هنا، حيث يكون غصن قد جهّز أيضاً فرسانه وبذلك نكون قد أعددنا جيشاً من المحاربين، وسنستطيع بعد ذلك القضاء ليس على ذئب النهار فقط، بل وعلى سلالته.

نهض هجرس عن سريره دافعاً الغطاء بقوة عن جسده وخرج من الكوخ، فتطايرت الطيور من أعشاشها فزعة.

-    الى اللقاء اذن أيها الجيران.

وأمسك غصن بيد هجرس.

-    لا.. لن تذهب قبل أن تتناول الطعام، فأنت لم تأكل شيئاً.

-    لن أجد للأكل طعماً قبل أن أرى جيشنا وهو يتحرك للمعركة.

التقط هجرس رمحه وانطلق راكضاً بالاتجاه الذي أتى منه.. أما كهرمان، فأخذ يراقب ورد وريحان وهما يودعان هجرس بعيونهما الصامتتين، ثم همس لغصن.

-    لقد أحيا هجرس في قلوبنا نار الدفاع عن أنفسنا بعد أن كنا نظن أنها خامدة للأبد.. مرحى له وللصخور التي تربّى عليها.

صافح كهرمان غصن وحضن ورد وريحان.

-    يجب أن أرحل أنا أيضاً لقبيلتي.. الى اللقاء.

-    وبعد أن اختفى كهرمان عن الأنظار، عادت الطيور لتحط فوق أغصان الشجر، وضمَّ غصن ولديه الى صدره بحنان شديد.

-    هيا أيها الفارسان، فوراءنا عمل طويل وشاق علينا أن ننجزه قبل أن يعود هجرس وكهرمان.

 

 

(8)

في قبيلة الكهفيين كان الشيخ صلد يهديء من روع مرام زوجة هجرس قائلاً.

-    لا تخافي يا مرام.. هجرس سيعود منتصراً، انه مقاتل عنيد.

فردّت مرام.

-    أعرف ذلك يا عمي، لكن ذئب النهار وحش غامض ولا ندري من سيقتل الآخر.. إنني خائفة على هجرس.

سمع الشيخ صوت خطوات تصعد الصخور، فصرخ.

-    من هذا؟!

نهضت مرام وهي تصيح من الفرح.

-    إنها خطوات هجرس.. إنها خطواته.

وقف هجرس أمام الكهف مثل أسد جبار.

-    أجل. هذا أنا يا زوجتي الغالية.

ثم التفت الى الشيخ صلد.

-    كيف حالك يا شيخنا وتاج رأسنا؟!

صافح الشيخ صلد هجرساً ثم تعانقاً.

-    كنا خائفين عليك.

-    أنا بخير كما ترى.

-    هل قتلته؟!

نكّس هجرس رأسه ثم قال.

-    يبدو أنك كنت محقاً يا عمي.. كان يجب أن أصطحب معي فرسان القبيلة.

-    إذن لم تقتله.

-    بل سنقتله.. لقد قادتني الرحلة الى قبيلة مجاورة اسمها قبيلة الغاباتيين وتعرفت فيها أيضاً على قبيلة أخرى هي قبيلة النبعاويين ولقد اتفقنا أن نجهز جيشاً من فرسان كل القبائل الثلاث ونهاجم الذئب هجمة رجل واحد.

وبأعلى صوت يملكه هجرس، صرخ.

-    يا فرسان قبيلة الكهفيين، من منكم سيرافقني لقتال ذئب النهار؟!

وما هي إلاّ دقائق حتى خرج الشيوخ والرجال والنساء والأطفال من كهوفهم وصاحوا بصوت واحد.

-    نحن كلنا معك يا هجرس.

رفع هجرس يده عالياً.

-    أريد شباب القبيلة فقط.

فصاحت امرأة.

-    لن أدع زوجي يذهب وحده، سأذهب معه للموت أو للحياة.

وصاح طفل.

-    لن أترك أبي يخطو خطوة بدوني.

طالع هجرس الشيخ صلد، فإذا بعينيه تشعان من الفرح.

-    لِمَ لا يا هجرس.. لنخرج جميعاً.

وضع هجرس ذراعه اليمنى حول مرام وذراعه اليسرى حول الشيخ صلد.

-    عند شروق الشمس سيجمع كل منكم ما يستطيع عمله من سهام ورماح وخناجر ومقاليع وسنتحرك بهذا الاتجاه.

وأشار هجرس الى الاتجاه الذي جاء منه.

في الفجر كانت قبيلة الكهفيين عن بكرة أبيها تمشي في الصحراء يتقدمها هجرس ومرام والشيخ صلد.

وقبل الزوال وصل أبناء قبيلة الكهفيين الى مشارف قبيلة الغاباتيين ورأوا حشاً من الناس من الجهة الأخرى يقبل باتجاههم.

أشار هجرس الى أبناء قبيلته بالتوقف ثم ركض وحده الى الحشد، وعندما وصلهم استقبله كهرمان النبعاوي.. وبعد أن تعانق الرجلان، قال غصن.

-    لقد أصر كل أبناء قبيلتي على الخروج معي، ولم يبق منهم أحد إلاّ ورافقني، وها أنا وأمي وجواهر خطيبتي على رأسهم.

ابتسم هجرس ابتسامة فرح.

-    وهذا ما حصل معي أيضاً.

لوّح هجرس لأبناء قبيلته فانطلقوا اليه ودخلت القبيلتان في مصافحة جماعية.. وحين كانوا منهمكين في التعارف، أقبل من الغابة حشد آخر في مقدمتهم غصن وطفلاه ورد وريحان وامتلأت الأرض بالشيوخ والرجال والنساء والشباب والأطفال وكأنهم في عرس كبير.

فجأة اعتلى هجرس شجرة عالية وصاح بالجموع.

-    أيها الأحبة. لا وقت لدينا لنضيعه. إننا هنا لنقاتل عدوّنا المشترك. العدو الذي فرّقنا الى قبائل بحثاً عن الأمان.. العدو الذي سمّم نهارنا وخرّب ليلنا..

صاح كهرمان.

-    وفي أي اتجاه سننطلق يا هجرس؟!

أجاب هجرس.

-    سننتظر الى أن يعوي الذئب وحينها سنعرف اتجاهه وننطلق بأسلحتنا نحوه.

 

*                 *                 *

 

غابت الشمس دون أن يسمع أحد عواء الذئب.. وفي الليل لم يكن هناك صوتٌ لأقدام الوحش بل كانت أصوات الحكايات الجميلة لهؤلاء الناس الذين يتعرفون على بعضهم لأول مرة.

توالت النهارات، نهار تلو نهار.. وتوالت الليالي ليلة تلو ليلة. لا عواء ولا صوت أقدام وحشية، بل سمرٌ وقصائد مواويل فرح.

أجمل موال كان على لسان الشيخ صلد.. لم يكن موّالاً من الشعر بل من الحكمة، فلقد قال.

-    لن يظهر الذئب على قوم يجمعهم الحب وتجمعهم الأرض ويجمعهم العمل.

وأضاف.

-    هيا.. لنعد الى الغابة ولنتخذها وطناً لنا جميعاً.

قال هجرس معترضاً.

-    ونترك كهوفنا؟!

وأيّده كهرمان.

-    نحن هنا لنقاتل لا لكي نقيم.

ردّ الشيخ صلد.

-    إن عدتم سيعود الذئب.

صاح ورد.

-    دعونا نعيش معاً، فلن يجرؤ الذئب على الإقتراب منا.

لم يستطع هجرس أن يقبل الفكرة، لذلك ترك مكانه وسط الجموع وانفرد بنفسه في مكان بعيد في الصحراء وأخذ يفكر، وما هي إلاّ دقائق حتى رأى في الظلام عينين كبيرتين تتقدان شرراً وتنظران اليه.

شدّ هجرس بقبضته على رمحه ثم نهض مثل شجرة باسقة وأطلق الرمح باتجاه العينين.




























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...