الأعلى
- الإزرار يخنقني.
- هكذا قالت "مشاعل" بعد أن طلبت منها أمها أن تربط الإزرار الأخير في قميصها، قبل أن يذهبا إلى الحفلة.
- يجب أن تربطي إزراركِ. هذا أمر.
- ولكنه يخنقني يا ماما.
- ولماذا وضعوا الإزرار إذاً؟!
- لا أدري!!
بقيت مشاعل طيلة الحفلة تضع إصبعها بين ياقة القميص وبين عنقها قائلةً لنفسها.
- سيخنقني.
ثم تردُّ على نفسها.
- ستغضب مني أمي لو فككتُ الإزرار.
* * *
قال الإزرار الأدنى للإزرار الأعلى ساخراً.
- أنت دائماً تبقى مفتوحاً في كل القمصان.
سأله الإزرار الأعلى.
- ولماذا أنت منزعج؟!
أجاب الإزرار الأدنى.
- لأنك تحظى بكل الإهتمام.
- لم أفهم.
- البعض يفرحون بأن يبقوك مفتوحاً، والبعض الآخر يتفاخرون بأن يربطوك. أما نحن، بقية الأزرّة، فلا أحد يهتم بنا، دائماً يربطوننا.. دائماً.
* * *
لم تستطع مشاعل أن تستمتع بالحفلة، فقال لها الإزرار الأعلى.
- فكيني.
ردّت عليه مشاعل.
- لكن أمي ستغضب.
- اذهبي لها وقولي أن عنقك الصغير لا يحتمل الضغط.
- لن تقبل كلامي.
فكّر الإزرار الأعلى طويلاً، ثم قال.
- لديَّ حل.
شهقت مشاعل.
- وما هو؟!
- سوف تساعدينني أن أتخلص من خيوطي.
- كيف؟!
- اقطعيني، ثم قولي لأمك أنني سقطت.
فكرت مشاعل برهة ثم قالت.
- لا. لن أكذب، بل سأصارحها بالحقيقة.
توجهت مشاعل إلى أمها التي كانت تجلس مع مجموعة من الأمهات.
كانت احدى الأمهات تفك إزرار قميص ابنها الذي قال لأمه.
- ماما، إنني أختنق.
بعد أن فكّت الأم الإزرار الأعلى لقميص ابنها، وقفت مشاعل أمام أمها وهي تضع إصبعها بين عنقها وبين ياقة قميصها.
كان وجهها محمرّاً، وكان الإزرار الأدنى يضحك بشدة.
البعيد
قالت حنان لقطتها الصغيرة، وهي تمسح على شعرها الأبيض.
- أنا امك.
ردّت قطتها.
- لا. أنتِ لستِ أمي. كيف تكونين أمي وانتِ لا تشبهينني؟! انظري إلى امك، أليست تشبهك؟!
- بلى، ولكن أمي أحضرتكِ لي منذ أن كنتِ صغيرة جداً، مغمضة العينين، وقالت لي. هذه القطة الجميلة لكِ. صرت أعطيك الحليب بنفسي إلى أن كبرتِ. أهتم بمظهرك وأضع حول عنقك شرائط ملونة وألعب أنا واياكِ طيلة الوقت، تقفزين على سريري وعلى طاولة كتبي. كل هذه الأشياء تعلمها الأمهات لأطفالهن، لذلك يقول أبي أنكِ ابنتي.
- أعرف كل هذا يا صديقتي. أعرف أنكِ تضعين لي في غرفتك صندوقاً صغيراً بداخله وسادة بيضاء لأنام عليها، وأنك تطعمينني ما أحبُّ وتأخذينني معك لكل نزهاتك، وتجعلين كل صديقاتكِ يتعرفن عليّ ويمسحن على شعري، ولكنني لست ابنتكِ. أبوكِ وأمكِ يعرفان ذلك. أنا لي أم. أمي قطة مثلي، مثلما أمكِ انسانة مثلكِ.
- لكنكِ لا تعرفين أمكِ.
- هذا صحيح، لكنني يجب أن أعرفها.
- كيف؟!
- لا أدري. أريدكِ أن تساعديني يا صديقتي. أرجوكِ، ساعديني.
حملتْ حنان قطتها، ثم ذهبت إلى أمها بالمطبخ.
قالت حنان لأمها.
- أمي. أريدك أن تساعديني.
- فيمَ أساعدك يا حبيبتي؟!
- في البحث عن أم قطتي.
اندهشت الأم لهذا الطلب، فسألت ابنتها.
- ولماذا تريدين أن تبحثي عنها؟!
- لأن قطتي تريد أن ترى أمها. انها تقول ان كل طفل يحتاج إلى أمه.
تلعثمتْ الأم لبرهة ثم قالت.
- لقد وجدنا قطتك تحت شجرة، واعتقدنا أن أمها قد ماتت، لأن الأم لا تترك أطفالها.
لم تستطع حنان الرد على أمها، بل التفتت إلى قطتها. ورأت الدموع تتجمع في عينيها.
همست حنان في اذن قطتها.
- لا تيأسي. سنحاول بكل جهدنا.
ثم سألت أمها.
- تحت أي شجرة وجدتم قطتي؟!
فتحت الأم نافذة الصالة، وأشارت إلى شجرة كبيرة وبعيدة.
- هناك. أترين تلك الشجرة؟!
أجابت حنان.
- أجل.
في صباح الغد، خرجت حنان وقطتها خارج المنزل. مشت بين الأشجار إلى أن وصلت إلى الشجرة.
انطلقت القطة من بين يدي حنان وأخذت تتراكض في كل مكان، وحنان تركض خلفها.
لم يكن هناك أثر لأي مخلوقات باستثناء كوخ بعيد، بعيد جداً في وسط غابة من الأشجار.
قالت القطة لحنان.
- ربما تعيش أمي في ذلك الكوخ.
ردّت حنان.
- ولكنه بعيد والطريق اليه مخيف، وسوف تهاجمنا الوحوش.
حملت حنان قطتها، وعادت بها إلى البيت. وعندما وصلت، دخلت بها إلى الحمام وأخذت تحممها. وفي المساء وضعت حنان قطتها في سريرها، ثم بادرتها بالسؤال.
- لماذا تريدين الرحيل عني؟! هل مللت مني يا صديقتي؟!
- أبداً. ولكنني أريد أن أرى أمي.
- أينقصكِ شيء؟!
- لا ينقصني أي شيء. أنت تغمرينني بالحب والعطف والرعاية والدلال، لكن شيئاً ما يخفق في صدري عندما أرى أمكِ تحضنكِ.
- لقد حاولنا.
تنهدّتْ القطة ثم قالت.
- أجل. لقد حاولنا.
وبعد أن نام الجميع، نهضت القطة من سريرها وتوجهت إلى الصالة.
كان هواء الربيع يهبُّ من النافذة المفتوحة.
مرقتْ القطة من فتحة النافذة ثم ركضت إلى الشجرة البعيدة. وبعد أن وصلتها، استمرت في الركض باتجاه الكوخ البعيد، البعيد جداَ.
السمــاء
افترقت الغيمتان.
فرّقهما الهواء.
الغيمة الأولى حزنت، وحزنت الغيمة الثانية.
هل ستلتقي الغيمتان مرة أخرى.
* * *
قالت أشجار الغابة للشمس.
- يا شمس، لماذا لا ترحميننا؟!
ردّت الشمس.
- وكيف أرحمكّن؟!
- أن تخففي من حرارتك. إننا نحترق.
ضحكت الشمس ثم قالت.
- هل تظنون أنني خُلقت من أجلكّن فقط؟! إنني شمس الأرض، كل الأرض.
فكّرت الشمس قليلاً.
- هل تعرفون أن الأرض تدور حول نفسها دورة واحدة كل يوم؟!
- أجل نعرف.
- لذلك يكون هناك ليل ونهار. في النهار أطل عليكّن، وفي الليل أختفى عنكّن. قد أقسو عليكنّ نهاراً ولكنكنّ ترتحن مني ليلاً.
- نحن لا نجهل ذلك، ولكن حرارتك شديدة في النهار. ألا تستطيعين أن تخففي منها ؟!
فركَتْ الشمس رأسها.
- الغيوم وحدها هي التي تستطيع مساعدتكنّ اذا حجبتني عنكّن.
- هل تستطيع الغيوم أن تساعد أشجار الغابة؟!
* * *
الهواء لا يقف لكي يتكلم مع أحد.
انه ينتقل من جهة إلى جهة.
الطفل يلعب بطائرته الورقية ويفرح لأن الهواء يجعل طائرته تحلق في الفضاء وتطير من الشمال إلى الجنوب.
البحّار يعتمد على الهواء في رحلاته البحرية لأنه هو الذي يدفع أشرعة السفينة من الشرق إلى الغرب.
الهواء لا يتحدث مع أحد.
يتحدث الهواء دائماً مع نفسه.
- أنا لا صديق لي. الحياة لا تسير بدوني، لكنني لا أستطيع أن أستقر في مكان. أنا أسافر من مكان إلى مكان لأنقل البهجة لكل الكائنات.
ولكن.
- هل يستطيع الهواء أن يدفع الغيوم إلى سماء الغابة؟!
* * *
الغيمة الأولى فوق البحر. الغيمة الثانية فوق صحراء.
كل واحدة تبحث عن الأخرى، لكن دون فائدة.
الهواء الذي ليس له صديق، يدفع الغيمتين دون ان تدريان باتجاهات متعاكسة.
الغيمتان تريان أنفسهما أخيراً وتتجهان نحو بعضهما، لكن الهواء يتوقف.
صرخت الغيمتان بصوت واحد.
- يا هواء، لا تتوقف ،نرجوك.
لم يستطع الهواء أن يرد عليهما. طالع إلى الاسفل، فرأى الأشجار تجفف عرقها، وعلى وجوهها شحوب شديد.
قال الهواء لنفسه.
- أشجار هذه الغابة ستموت.
ثم قرر.
- سأبذل كل جهدي.
ساعد الهواء الغيمتين لكي تقتربا من بعضهما.
حضنت كل غيمة الأخرى، ففرحت أشجار الغابة لأن الغيمتين حجبتا الشمس عنهما.
الغيمتان فرحتان بلقائهما.
أشجار الغابة تشعر بالسعادة لأن حرارة الشمس خفّت.
الشمس تبتسم لأن ما قالته كان صحيحاً.
أما الهواء فإنه يفكر الآن في أي اتجاه جديد سوف يتحرك.
الأسبوع
السبت (الكلمات)
في الحديقة، كان هناك طفلان.
سأل الطفل الأول صديقه الطفل الثاني.
- لماذا لا يخرج صوت للأشياء التي نفكر بها؟!
فكّر الطفل الثاني طويلاً واستغرب هو أيضاً.
- صحيح.. كيف لا يسمع الانسان تفكير أخيه الإنسان؟!
لمعت في عين الطفل الأول فكرة.
- دعنا نتحدث لبعضنا دون كلام، وسنرى إذا كان أحدنا سيسمع الآخر.
جلس الطفلان في مواجهة بعضهما البعض.
فكّر الطفل الأول بالأسئلة التالية.
- لماذا اخترتك صديقاً لي؟! لماذا أحرص كل يوم على لقائك واللعب معك؟! لماذا حين نتخاصم نتصالح بسرعة؟! ولماذا نحب حارتنا كثيراً؟!
كان هناك عصفوران على الشجرة يراقبان ما كان يحدث ويسمعان كل ما كان الطفلان يفكران فيه.. ابتسم العصفوران ثم حلقا فوق رأسي الطفلين.. ومن بين أجنحتهما كانت الكلمات تتساقط على الأرض مسموعة.
التقط كل طفل كلماته ووضعها في جيبه ثم غادرا الحديقة.
الأحد (الريح)
كان الجبل طيلة حياته يهزأ بالوادي قائلاً.
- أنا الجبل الأشم. أنا الذي تصطدم الغيوم بي ثم تمطر. أنا الذي أجعل المطر يسيل اليك ويملأك بالماء والعشب. أنا الأشم وأنت المستلقي تحت قدميّ.
وكان الوادي لا يرد على غطرسة الجبل. يتركه يقول ما يشاء دون أن يرد عليه. يظل صامتاً للناس وهم يستفيدون من مائه ويزرعون على ضفاف أرضه حقولهم.
لا يرد الوادي على غطرسة الجبل، بل يتركه للريح التي تهب عليه من كل اتجاه وتعري صخوره.
الاثنين (الحرب)
نفخ حارس المخيم في بوقه لكن الصوت المعتاد لم يخرج منه.
أخذ الحارس يطالع البوق من الناحيتين لكن شيئاً لم يتغير في البوق منذ بدأ الحارس ينفخ فيه فجراً ليوقظ جنود المخيم.
وضع الحارس البوق على الصخرة وأخذ يطالع الأفق.
كانت السماء صافية، وضوء الشمس قد بدأ يرسم في صفحتها احمراراً هادئاً.
استغرب الحارس هذا المشهد، فهو لم يعتد عليه منذ بدأت سنوات الحرب. كانت السماء طيلة هذه السنوات ملبّدة بالغيوم ، تحجب الشمس عن الظهور.
ركض الحارس إلى المخيم ليوقظ الجنود بنفسه، لكنه لم يجد جندياً واحداً في المخيم.
كانت اسرَّة النوم مرتبة وفارغة، فخاف أن مكروهاً حدث للجنود. فكر ملياً، فتذكر أنه رآهم واحداً واحداً ليلة البارحة بعد أن عادوا من ساحة المعركة، وانهم ناموا من شدة التعب.
عاد الحارس إلى الصخرة والتقط البوق ثم حدثه قائلاً.
- ربما انتهت الحرب.
الثلاثاء (المدرسة)
دخلت المعلمة إلى الفصل، وأخذت تراقب الطاولات والكراسي والسبورة وأصابع الطباشير.
تجولت بعينيها على جدران الفصل، اللوحات المرسومة بألوان الطالبات، اللوحات المخطوطة بأقلامهن الخضراء والحمراء والسوداء والزرقاء، ستائر النافذة التي خاطتها مجموعة من الطالبات في جمعية الخياطة.
شعرت المعلمة بأن الفصل بلا طالبات مثل الحديقة بلا أزهار ومثل البحر بلا أسماك ومثل السماء بلا طيور.
مضى وقت وهي واقفة.
أغمضت عينيها، فجاء من بعيد صراخ الطالبات ومشاجراتهن وضحكاتهن وفرقعة أصابعهن حين يردن الرد على الأسئلة.
جاء صراخهن من بعيد، ثم اقترب شيئاً فشيئاً.
وشيئاً فشيئاً، صار أرض الفصل بحراً، وجدرانه حديقة، وسقفه سماء.
تقافزت الأسماك من ماء البحر، تمايلت الأزهار فوق الأشجار، غردت العصافير في السماء، وظلت هكذا حتى انتهت العطلة الصيفية.
الأربعاء (الحديقة الأولى)
تلك الفراشة كانت مزهوة بنفسها.
كان يحق لها أن تزهو بنفسها، فهي جميلة الجناحين رشيقة الجسد. تظل تحلق فوق الأزهار طويلاً.
- لماذا؟!
لا تريد أن تحطَّ إلا على أجملهن.
قالت القرنفلة.
- ستحطُّ علي أنا، لأنني أملك أجمل الألوان.
ردّت الوردة.
- من قال ذلك؟! كل المحبين يختارونني أنا دونكن جميعاً.
تدخلت الزنبقة.
- أنا أكثركن ندرة، والنادر هو الغالي دوماً.
سمعت الفراشة كلامهن، فازدادت زهواً بنفسها، لذلك حلقت بعيداً عنهن.
بحثت عن حديقة ثانية، فلم تجد.
وأخيراً وجدت حديقة جافة، ليس فيها سوى نبع راكد، تحيطه أعشاب نصف ميتة.
كانت الفراشة قد تعبت من الطيران، فلم تستطع العودة للحديقة الأولى، لذلك حطت على أعشاب الحديقة الجافة.
الخميس (الشيء)
قالت لها أمها.
- عندما تكبرين يا صغيرتي وتصيرين أماً، ستعرفين لماذا أسهر طيلة الليل إلى جانبك أثناء مرضك، ولماذا ينفطر قلبي من الفرح عندما أراك تنعمين بالصحة.
سألتها.
- ولماذا لا تقولين لي الآن يا أمي.
- لن تصدقي.
كبرت الطفلة، وصارت أماً.
حضنت طفلتها بقوة.
كانت تريد أن تقول لصغيرتها ما قالته لها أمها، لكنها لم تفعل لأنها عندما تكبر ستعرف هذا الشيء بنفسها.
الجمعة (التحدي)
قال القلم للورقة.
- أنت بدوني لا تساوين شيئاً.
ردت الورقة بغضب.
- و أنت ، هل تستطيع أن تفعل شيئاً بدوني؟!
أجاب القلم.
- أنا أستطع أن أخط خطوطي على أي مكان. على الجدران، على الطاولة، على الأرض.
ضحكت الورقة.
- أنت قلم غريب الأطوار. إن مكانك على الورقة فقط.
- أتتحدينني؟!
- أجل.
تدحرج القلم، فتناثر حبره على سطح الطاولة.
عندما دخل صاحب القلم، ورأى الحبر المتناثر على طاولته غضب كثيراً، ثم قال.
- هذا القلم لم يعد صالحاً للكتابة.
رماه في سلة المهملات، ثم أخرج من الدرج قلماً جديداً.
الشبكة
نصحت السمكة ابنتها بعدم الإقتراب من المياه الضحلة.
- لماذا يا ماما؟!
- لأن المياه الضحلة قريبة من الشاطيء وهناك، يستمتع البشر باصطيادنا.
اندهشت السمكة الصغيرة من كلام أمها.
- يصطادوننا؟ كيف؟!
ضحكت الأم قائلة.
- لقد كبرت الآن يا صغيرتي ويجب أن تعرفي أن هؤلاء البشر يرمون سنَّاراتهم وشباكهم في البحر لنعلق بها. إنهم يحبون أكل لحومنا.. أنصحك أن تبتعدي عن سناراتهم وشباكهم.
* * *
في المياه العميقة، كانت السمكة الصغيرة تلعب مع صديقاتها. تختبيء إحداهن خلف صخرة إلى أن تهرب السمكات الأخريات، بعد ذلك تخرج من مخبئها لتبحث عنهن، وتمسك بإحداهن.
وأثناء انشغال السمكات الصغيرات باللعب، هاجمهن سمك القرش. قفزت كل سمكة باتجاه، وهن يرتعدن من الخوف.
لاذت السمكة الصغيرة بحضن أمها.
- النجدة يا ماما، النجدة.
أحاطت الأم بزعانفها السمكة الصغيرة.
- ما بك يا حبيبتي؟!
- لقد كاد سمك القرش أن يفترسني.
أخذت الأم تلتفت في كل اتجاه وهي أشد خوفاً من ابنتها.
لابد أنه يبحث عنك.
وأضافت.
- هيا اتبعيني.
سبحت الأم بسرعة شديدة بعيداً عن مكان سمك القرش، وكانت تلتفت بين اللحظة والأخرى وراءها.
وفجأة، علقت الأم بحبال بيضاء، فأخذت تصرخ بابنتها.
- ابتعدي، ابتعدي.
وقفت السمكة الصغيرة في مكانها مندهشة.
- ما بك يا أمي؟!
أجابت الأم.
- لقد علقت بشبكة أحد الصيادين، لا تقتربي مني حتى لا تعلقي أنت أيضاً.
بكت السمكة الصغيرة بكاءاً حاراً.
- لا يا أمي لا تتركيني وحدي، أنا لا أستطيع أن أعيش بدونك.
قالت الأم بصوت حزين.
- لا بأس يا حبيبتي هذا هو قدرنا، إن لم يصطدنا البشر، يفترسنا سمك القرش.
وأضافت.
- هيا اهربي، حاولي أن تجدي مخبأً يحميك من سمك القرش.
- لا سوف أنقذك.
أخذت السمكة الصغيرة تقضم بأسنانها خيوط الشبكة، لكن أسنانها الصغيرة لم تكن تسعفها.
صرخت الأم.
- القرش، القرش، انه يتجه نحونا، اهربي يا ابنتي، اهربي. لكن السمكة الصغيرة بقيت مكانها.
وفجأة سمعت صوت البشر وهم يصرخون.
- سمك القرش قادم.
ارتخت الشبكة ثم اتجهت نحو القاع واستطاعت الأم أن تخلص نفسها.
هاجم القرش الصيادين، وعندما اشتدت المعركة، لاذت السمكة الكبيرة وابنتها بالفرار.
صائـد الطائــرات
غضبت شاشةُ الكمبيوتر من ثامر غضباً شديداً.
سألها ثامر.
- لماذا أنت غاضبة يا صديقتي الشاشة؟!
أجابته الشاشة.
- لأنك تقضي كل وقتك في هذه الألعاب التي لا جدوى منها.
استغرب ثامر.
- ولكن هذه الألعاب موجودة في جهازك.
- أعرف ذلك. ولكن عليك أن تختار.
- أختار؟!
- أجل لماذا لا تختار ألعاباً تعليمية؟! لماذا دوماً يقع اختيارك على ألعاب التسلية؟!
- لأنها تسليني، هل نسيت أننا في العطلة الصيفية؟! لقد انتهت الدراسة والتعليم يا صديقتي الشاشة.
- هذا صحيح يا ثامر، لكن الإجازة فرصة لكي توسع مداركك ومعلوماتك.
وأضافت الشاشة متسائلة.
- قل يا صديقي، ما الذي تستفيده من الألعاب الحربية التي تلعبها كل يوم؟!
ابتسم ثامر، ثم أجاب.
- إنها تعلمني كيف أصيب الهدف، إنني أحبها كثيراً يا صديقتي الشاشة.
- إذن، تستطيع أن تلعبها في وقت محدد، وأن تستفيد من الألعاب التعليمية بقية الوقت.
- أنا أكره الألعاب التعليمية، ألا تكفي المعلومات التي نأخذها في المدرسة؟!
- لا، لا تكفي. كل إنسان بحاجة لمعلومات جديدة.
تضايق ثامر من كلام الشاشة، فصاح بها.
- أرجوكِ، كفّي عن هذا الكلام، ودعيني ألعب لعبة صيد الطائرات.
الشاشة لا تستطيع معصية ثامر. لقد ضغط على زر الألعاب، ثم اختار اللعبة التي يحبها.
أخذ يوجه طلقاته على الطائرات الحربية الملونة التي كانت تهجم عليه من كل اتجاه، فيسقطها بطلقاته طائرة بعد أخرى بكل مهارة، وهو يصرخ.
- تساقطي أيتها الطائرات، أنا محارب شاطر، ولن يستطيع أحد هزيمتي أبداً.
صار ثامر ينتقل في اللعب من مرحلة إلى مرحلة ويسجل أرقاماً عالية. وبعد أن سجل الرقم القياسي، رفع علامة النصر وأخذ يهتف.
- سجلت الرقم القياسي، سجلت الرقم القياسي.
دخل أخوه سراج إلى غرفته مسرعاً ثم سأل ثامر بحماس.
- ماذا سجلت يا ثامر؟!
أجاب ثامر.
- سجلت رقماً قياسياً في إسقاط الطائرات.
وبعد أن رأى سراج الرقم، صاح.
- حقاً، إنه رقم قياسي أنت صائد طائرات ماهر.
جلس سراج إلى جانب ثامر، ثم أكمل كلامه.
- هذا الكمبيوتر اختراع عظيم، إنه يسلينا كثيراً، أتعرف من اخترعه؟
هز ثامر كتفيه.
- لا.
- ولا أين يصنع؟
زمّ ثامر شفتيه ثم أجاب.
- أظن أنه يصنع في اليابان.
- وأين تقع اليابان؟
- لا أدري.
- وكيف نستطيع أن نعرف؟
تدخلت الشاشة قائلة.
- تستطيعون أن تعرفوا مني.
سألها سراج.
- كيف أيتها الشاشة؟ّ
- تعال يا سراج.
تقدم سراج اليها، فطلبت منه أن يضغط زر الألعاب التعليمية. قالت له.
- إضغط زر الخرائط.
ضغطه سراج، فطلبت منه الشاشة أن يحرك السهم إلى أن يصل إلى اسم "اليابان". بعد ذلك ظهرت على الشاشة خارطة اليابان ومعلومات عن موقعها وعاصمتها وعدد سكانها ومناخها وأهم مدنها وأهم صناعاتها وعملتها الرسمية ولغة شعبها وديانتهم.
صار سراج يحرك السهم من دولة إلى دولة بكل فرح ودهشة.
أما ثامر، فلقد خرج من البيت ليبلغ أصدقاءه بأنه سجل رقماً قياسياً في صيد الطائرات .
الزيارة
نامت "عبير" فحلمت أن حولها أرضاً واسعة وأنها تمشي، تمشي وتمشي.
تعبت لأن التراب لا ينقطع، ولأنه لا يظهر في الأرض شجرةٌ ولا زهرة ولا ماء.
جلست على الأرض. بعد أن ارتاحت صارت تنظر حولها، تبحث عن أي شيء. فجأة سمعت صوتاً من الخلف. التفتت إلى الوراء، فرأت رجلاً تعرفه جيداً. شهقت من الفرح. سال الدمع من عينيها وهي تقف كي تحضن الرجل.
لما وقفت، تحوَّل الرجل إلى هواء.
صرخت.
- خالي، خالي، خالي..
* * *
ركضت الأم إلى الغرفة. فتحتها، فوجدت "عبير" تصرخ وهي نائمة.
- خالي، خالي، خالي..
حضنت الأم "عبير" ثم أيقظتها من النوم.
شاهدت أمها تحضنها برفق وحنان وخوف.
سألتها الأم.
- ما بك يا عبير.. ما بك يا حبيبتي؟؟
أجابت.
- خالي..
اندهشت الأم قائلة.
- ما به؟؟
قالت "عبير".
- لقد رأيته ثم اختفى.
مسحت الأم رأس "عبير" ثم قبلتها بكل حب، قائلة.
- لقد كنت تحلمين يا حبيبتي.
ثم قالت.
- لن يجيء خالي، فكل مرة تقولين انه سيزورنا. وحين لا يحضر، تقولين أنه كان مشغولاً.
نعست "عبير" ثم نامت في حضن أمها.
* * *
في الصباح، لبِسَتْ "عبير" مريولها، سرّحت أمها شعرها، حملت حقيبتها، ثم ذهبت إلى المدرسة.
أدارت الأم قرص الهاتف، فجاوبها صوت رجل. قالت له.
- أهلاً يا أخي.
- أهلاً يا أختي.
- كيف حالك؟؟
- أنا بخير، لكني مشغول جداً. كيف حال عبير؟؟
تنهدت الأم، فسألها أخوها.
- ما بك؟؟
- عبير تحلم بك. يجب أن تزورنا. أنت تعرف كم هي تحبك.
صمت أخوها قليلاً، ثم قال.
- سوف أترك عملي اليوم، كي أزوركم.
فرِحَتْ الأم.
- شكراً يا أخي.
عادت "عبير" من المدرسة. وضعت حقيبتها في غرفتها، ثم ركضت إلى أمها.
- ماما.. هل سيزرونا خالي اليوم؟؟
ابتسمت الأم لها.
- أجل.
* * *
بعد الغداء، خرجت "عبير" إلى الحديقة، وصارت تنتظر خالها.
جلست على أرض الحديقة المغطاة بالعشب الأخضر، وحولها الورود والزهور.
لم تكن "عبير" تحسُّ باخضرار العشب ولا برائحة الزهور، لأنها تنتظر خالها الذي طال غيابه عنها.
* * *
غربت الشمس. خرجت الأم إلى الحديقة، وطلبت من "عبير" أن تدخل لكي تستذكر دروسها.
دخلت"عبير" وهي تشعر بالحزن الشديد، لأن خالها لم يجيء.
* * *
نعست "عبير" وهي تذاكر، فنامت..
نامت "عبير" فحلمت أن حولها أرضاً واسعة، وأنها تمشي وتمشي وتمشي، والتراب لا ينقطع.
عبــد الرحمــن
كنّا، أنا وأمي وأبي، نجلس في صدر صالة منزلنا نتحدث عن البيت الذي ننوي الانتقال اليه، وفجأة أشار أبي بيده.
- اصمتوا لو سمحتم.
فصمتنا.
ركض إلى جهاز التلفزيون ورفع صوته.
كان المذيع يلتقي في البرنامج مع رجل يتحدث عن الناس وعن الحب الذي فقدوه وعن الألفة التي لم تعد تجمع بينهم وعن الانتماء للأرض الذي اختفى من قلوبهم.
صاح أبي.
- صدقت يا صديقي.
التفتت أمي إليه بدهشة.
- هل هو صديقك حقاً؟!
أجاب أبي بفخر.
- عبد الرحمن هذا، كان واحداً من أعزّ أصدقائي في الحارة القديمة التي كنا نعيش فيها.
ثم غرق أبي في خياله وصار حديثه مثل شريط الذكريات المسموعة.
- كانت هذه الحارة تظللنا بالدفء، وكانت جدرانها الطينية جزءاً منا، كأنها بعض من أهلنا. كان الواحد منّا ينمو كالعشب في قلب الآخر، كنا قلباً واحداً ينبض بالتكاتف.
تنهّد أبي ثم أضاف موجهاً الحديث لي.
- أذكر أن ضيفاً حل على بيت أهل عبدالرحمن وأن أبي في اليوم التالي فرش أرض حارتنا الترابية بالسجاد الذي استأجره من دكان في وسط الرياض وأنه ذبح ثلاثة خرفان، وبعد العشاء أحضر والدي الدفوف ورقص الجميع رقصة السامري حتى منتصف الليل.. أبو عبدالرحمن قال لأبي في نهاية الوليمة. لماذا فعلت ذلك!! لقد أحرجتني أمام ضيفي.. وقبل أن ينام أبي قالت له أمي. ألم تكن مديوناً؟! من أين أحضرت النقود؟! وأجابها. لقد استدنت مبلغاً آخر.. وما فعلته هو أقل ما يمكن عمله لضيف جاري..
صمت أبي قليلاً ثم قال.
- صدقت يا عبدالرحمن.. لم يعد يجمع الناس اليوم سوى المصالح ولم تعد الأرض بالنسبة لهم سوى مكان للركض وراء الدنيا وزيفها..
التفت أبي اليّ طالباً مني أن أحضر له حقيبته القديمة.
- إنها حقيبة بنيّة اللون ستجدها في الدرج السفلي من أدراج المكتبة.
وقبل أن أذهب لإحضارها، سمعت أمي تسأله.
- ماذا تريد من الحقيبة؟
- إني أحتفظ بدفتر قديم للهواتف.. سأتصل بصديق طفولتي عبدالرحمن.
بعد أن أحضرت الحقيبة، فتش أبي في أوراقه.
- هذا هو رقمه.
رفع سماعة الهاتف وطلب رقماً.
- مساء الخير.. عفواً على الإزعاج ولكنني أريد التحدث مع عبدالرحمن.. أليس هذا بيته؟..
انتقل؟!.. إلى أين..؟! ألا يزورك يا خالة؟!.. هل تسمحين أن تعطيني رقمه؟
وضع سماعة الهاتف وعلى وجهه ارتسمت سحابة من الإستغراب، فسألته أمي.
- ما بك؟!
- هذه أم عبدالرحمن.. تقول أنها لم تره منذ شهر مع أنه يقيم في الرياض وهذا هو رقم هاتفه.
- ربما لديه ظروف قاهرة منعته من زيارته؟!
- ربما.
رفع أبي الهاتف مرة أخرى وطلب رقماً آخر.
- مساء الخير.. هل أستطيع التحدث مع عبدالرحمن.. أنا صديق قديم.. لكنني أريد مفاجأته لو سمحت.
صمت أبي لبرهة.
- أهلاً يا عبدالرحمن.. كم سررت حين شاهدتك في التلفزيون.. ألم تعرف صوتي؟!.. لعل الزمن غيره، وعموماً أنا جارك القديم.. أريد فقط أن نسترجع أنا وإياك ذكرياتنا القديمة، فهل تقبل دعوتي لتناول العشاء في منزلي.. انه في حي بعيد لكننا ننوي الإنتقال إلى حي أقرب وأفضل بعد أشهر قليلة.. عموماً سأعطيك الوصف.
وصف أبي مكان بيتنا ثم ذكر رقم هاتفنا.
سألته أمي.
- كيف كان استقباله لك!!
تنحنح ثم قال.
- جيد.. كان استقباله جيداً.
- ومتى سيزورنا؟!
- غداً.
لم أنم تلك الليلة.. ظللت أفكر في عبدالرحمن وفي ذكريات أبي وصرت أرسم في خيالي كيف سيتعانقان بفرح وكيف ستفرح جدران بيتنا بلقائهما، وتخيلت أحاديث الماضي التي سوف تجري بينهما.. واستمر خيالي إلى أحلامي، فرأيت الرياض حياً قديماً واحداً ترقص جدرانه السامري وهي تلبس ثوباً أبيض وتطير فوق رؤوسها اليمام وتهب الرياح من حولها برائحة التمر. ورأيت نفسي في المنام أتحول إلى يمامة وأطير في الفضاء إلى أن تصير الرياض بحجم جسدي فأضمها بين جناحي.
في مساء الغد كان أبي يشرف على الوليمة التي أعدها لصديقه عبدالرحمن، وكان قد دعا كل جيرانه في الحي لهذه المناسبة.
- سوف ترون عبدالرحمن صديق طفولتي الذي يشاهده الناس دوماً على شاشة التلفزيون.. هذا الذي يحثنا على الحب والتكاتف والتعاضد..
* * *
لم يأت عبد الرحمن، ولم يتصل بأبي ليعتذر، وبعد أن غادر الجيران، جلسنا جميعاً أمي وأبي وأنا في صالة البيت، وكانت شاشة التلفزيون الوحيدة التي تتحدث، لكننا لم نكن نسمعها.
الطــارق
كانت "أنوار" و "منار" جالستين في صالة المنزل، تنتظران عودة أخيهما الأكبر الذي وعدهما بأن يشتري لهما لعباً وقصصاً وهدايا.
سمعت أنوار طرقاً خفيفاً على الباب، فتوقعت أن أخاها يمزح، فركضت لتفتح له، ولتقول له؛ عرفتك..
فتحت أنوار الباب، فوجدت طفلةً ممزقة الثياب، متسخة الوجه، تقول؛ أنا جائعة.
لم تستطع أنوار أن تتكلم في البداية، لأنها كانت مندهشة. صارت تراقب شكل هذه الطفلة المسكينة التي تملك وجهاً مثل وجوه كل الناس، لكنها نحيلة وشاحبة.
نادت أنوار أختها منار.
طالعت منار وجه الطفلة، ثم طالعت وجه أختها أنوار.
قالت الطفلة مرة أخرى؛ أنا جائعة.
حاولت منار أن تخرج لها، لكن أنوار شدتها إلى الداخل، ثم أغلقت الباب.
نظرت منار إلى عيني أختها أنوار، فوجدتهما قاسيتين.
قالت منار.
- لماذا؟؟
ردت أنوار.
- لا أدري.
قالت منار.
- سأجمع لها طعاماً.
أجابت أنوار.
- قد تكون محتاجة إلى نقود.
أحست منار بالحيرة، فهي تشعر الآن بحزن كبير من أجل هذه الطفلة التي طرقت بابهم لتقول؛ أنا جائعة.
ركضت منار إلى المطبخ وجمعت طعاماً كثيراً. وضعته في كيس، ثم ركضت إلى الباب.
فتحت منار الباب، فلم تجد أحداً.
سألت منار أختها أنوار.
- أين ذهبت ضيفتنا؟
أجابت أنوار بسرعة.
- لا أعرف. وأضافت. انها ليست ضيفة.
ردّتْ منار.
- بل هي كذلك .
وأكملت.
- سوف أخرج للبحث عنها.
ردت أنوار خائفة.
- المدينة كبيرة جداً، وستضيعين.
لكن منار انطلقت تبحث عن ضيفتها وفي يدها كيس الطعام.
* * *
تعبت منار من البحث، فهي لم تترك شارعاً إلاّ ودخلته، أملاً في أن تجد ضيفتها، لكنها لم تفلح.
دخلت منار حديقة صغيرة، واستلقت تحت ظل شجرة.
شعرت بالجوع، فأكلت شيئاً من الطعام، ثم شربت شيئاً من الماء.
ربطت الكيس مرة أخرى، ووضعته تحت رأسها.
نامت منار، دون أن تدري، لأن المشي الطويل أنهكها.
حلمت منار في نومها، أنها تمشي في طريق طويل، وأن ملابسها ممزقة ووجهها متسخاً، وأن على جانبي الطريق أبواباً خشبية متلاصقة، وأنها كلما اقتربت من باب تسمع صوت أختها أنوار يقول؛ أغلقوا الأبواب.
طالعت منار كل الأبواب، فإذا هي مغلقة بإحكام شديد. لم تحزن منار لأنها قررت أن تعمل باباً مثل كل هؤلاء الناس الذين يملكون أبواباً.
ركضت إلى الشجرة، فقطعتها بالفأس، وعملت من جذعها ألواحاً، وربطت الألواح ببعضها فصارت باباً.
ألصقت هذا الباب مع بقية الأبواب.
شاهدته من الخارج، فوجدته مشابهاً لكل الأبواب ففرحت لأن جهدها الذي بذلته طوال ساعات، لم يذهب سدى.
دخلت منار خلف بابها.
سمعت صوت أختها أنوار يقول؛ أغلقوا الأبواب.
لكن منار لم تغلق بابها، بل فتحته، فرأت في الطريق الطويل ضيفتها.
نادتها منار قائلة. تفضلي، لديّ طعام كثير لك.
بحثت منار عن الطعام، فلم تجده.
صرخت.
- أين الطعام؟! أين طعام ضيفتي.
تذكرت أنه كان معها في صحوها، وأنها الآن تحلم.
في حلمها، مدّت يدها إلى الصحو، وأحضرت الكيس.
فتحت منار الكيس لضيفتها، وجعلتها تأكل حتى شبعت.
بعدئذٍ نهضا معاً وأخذا يقطعان أزهار الأشجار ويقذفانها للسماء.
النافذة
وقفت "هديل" أمام جدار الغرفة المهملة.
كان في الجدار شقٌّ صغير، لكنه عميق.
صارت "هديل" تراقب الشق، وكأنما تراه لأول مرة، مع أن الشق موجود منذ زمنٍ طويل في جدار الغرفة المهملة.
تأملت "هديل" الجدار من أعلاه إلى أسفله.
ركزت عيناها على أطراف الشق.
سألت "هديل" الجدار.
- هل أنت مجروح؟؟
قال الجدار.
- نعم.
سألته.
- منذ متى؟
ردّ عليها.
- منذ الوقت الذي أهملني فيه أهل البيت، ومنعوا الهواء عني.
قالت "هديل".
- وإذا دخل الهواء، يزول الشق عنك؟!
قال الجدار.
- ربما.
بحثت "هديل" في الغرفة عن فتحة للهواء. وجدت نافذة صغيرة، لكنها كانت مغلقة بشدة.
ركضت "هديل" إلى أبيها.
- بابا، أريدك أن تفتح نافذة الغرفة المهملة.
استغرب أبوها هذا الطلب.
- لماذا يا هديل؟
ردّت عليه.
- لأن الجدار لن يُشفى من الشق إلاّ اذا دخل الهواء إلى هذه الغرفة.
ضحك أبوها، وهو يتساءل.
- من قال لك ذلك؟!
أجابته.
- الجدار.
قرّب الأب ابنته إلى صدره ثم قال.
- اذا فتحتُ النافذة، سيدخل الهواء، وسوف تمتليء الغرفة بالغبار.
سألته "هديل".
- لماذا يدخل الغبار؟
أجاب الأب.
- لأن الهواء يحمل الغبار معه، وأنت تعرفين أن الغرفة مهملة، ولا نريد أن نزيدها اتساخاً.
صرخت "هديل".
- الهواء ليس وسخاً.. الهواء سوف يُشفي جرح الجدار.
حاول الأب إقناع "هديل" بأن الهواء لن يشفي جرح الجدار، لكنها صارت تبكي حزناً.
طلب الأب من "هديل" أن تكفّ عن البكاء، قائلاً.
- لدي حل.
توقفت "هديل" عن البكاء ثم صارت تنظر إلى عيني أبيها.
سألته.
- ما هو؟
قال.
- أفتح النافذة لمدة يومين، وإذا لم يُشف الجدار، أغلقها مرة ثانية.
فكّرت "هديل" ثم قالت.
- حسناً.
ذهب أبوها إلى الغرفة المهملة.
فتح النافذة، وطلب من هديل أن تذهب لمذاكرة دروسها.
* * *
في الغد، ركضت "هديل" إلى الغرفة المهملة.
فتحت الباب، ثم طالعت الجدار.
وجدت الشق على حاله، فحزنت حزناً شديداً.
كانت ستخرج، لكن الجدار ناداها.
- هديل.
التفتت إليه قائلة.
- نعم أيها الجدار المسكين.
- لا تحزني، فسوف أُشفى من الشق.
سألته.
- متى؟
ردّ الجدار.
- اصبري، الجروح لا تُشفى بسرعة.
* * *
في اليوم التالي، دخلت "هديل" إلى الغرفة.
زعقت عندما شاهدت زوجاً من العصافير، يبنيان عشهما في الشق.
صرخت للجدار بفرح شديد.
- ما هذا؟
قال الجدار.
- ألم أقل لك أنني سوف أُشفى من الشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق