عندما يكتب البطل هزيمته

ح  سعد الدوسري، 1436

فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية

الدوسري، سعد

عندما يكتب البطل هزيمته  / سعد الدوسري، الرياض

الطبعة الأولى، فبراير 1436ه

88 ص، 21×14 سم

ردمك: 978-603-01-7776-9

1-المسرح، السعودية        2- المسرحية أ.العنوان

ديوي 792,9531              3897/1436

رقم الإيداع: 3897/1436

ردمك: 978-603-01-7776-9

الناشر: الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون

www.sasca.org.sa

هاتف: 00966114404804

بريد الكتروني: info@sasca.org.sa



الإهداء


إلى ذلك الممثل الذي ظلَّ في الهامش،

ينتظر دوره



مدخل


مُثّلتْ هذه المسرحية في الرياض احتفاء بيوم المسرح العالمي 27 مارس 1987م الموافق 27 رجب 1407هـ ولمدة خمسة أيام قبله وبعده. قام بإخراجها راشد الشمراني بإمكانيات فقيرة جداً استغل بها موجودات متبقية في مسرح المركز الثقافي التابع لجمعية الثقافة والفنون، وهو أيضاً مسرح غير مجهز بالأدوات المسرحية القادرة على ظهور عمل مسرحي متكامل.

استخدم المخرج (وهي التجربة الأولى له في الإخراج) أدوات بسيطة مثل: القماش العادي كخلفيّة، البطاريات اليدوية كعنصر إضاءة، جهاز تسجيل عادي كعنصر صوت، وغيرها من الأدوات البالغة في البساطة، والتي سيرد ذكرها في هذه الكراسة.

ساعد في إخراج هذا العمل ناصر القصبي (أول تجربة له في هذا الصدد)، وشارك في التمثيل مجموعة من شباب المسرح الجامعي (جامعة الملك سعود بالرياض)، وهو المسرح الذي قدّم العديد من الوجوه المسرحية المحلية.

ونظراً لاستحالة تصوير هذا العمل بسبب اعتماد المخرج طيلة المسرحية على عنصر الإظلام التام كجانب تعبيري مهم في العمل، رأيت أن أقوم بمحاولة رصد التجربة كما تصورتها أنا والمخرج، وذلك لكي لا تضيع هذه التجربة وسط المحاولات العديدة التي قدمها ويقدمها المهتمون بتطوير الحركة المسرحية في بلادنا.

والسبب الآخر لمحاولتي هذه، هو الأصداء المفرحة التي أثارتها هذه المسرحية في أوساط المثقفين والمسرحيين، الأمر الذي جعلني أمام مسؤولية أكبر تجاه هذا العمل.

أتمنى في النهاية، أن تكون محاولتي هذه كفيلة بوضع هذه المسرحية في مكانها الصحيح، كتجربة جادة وصادقة للتعبير المسرحي، وللإسهام في خلق حوار حول المعنى الحقيقي للمسرح ولجمهور المسرح وللتجربة المسرحية بكل عناصرها، ولإيجاد شكل جريء يعبر بطريقة مختلفة عن التجارب السائدة والتي تُوقِعنا في سؤال صعب ودائم:

- هل يوجد في واقعنا المحلي حركة مسرحية، أم أن الأمر لا يعدو كونه ترفاً ثقافياً ناقصاً، لاسيما في غياب المرأة عنه؟!!

محاولتي في تسجيل هذا العمل لا تحمل أية إجابة على هذا السؤال بالقدر الذي تثيره فيه.


الرياض

1407هـ  - 1987م



نقـــــاط


عنوان المسرحية:

«عندما يكتب البطل هزيمته». كتبت في يناير 1986م.

مـكان العـــرض:

مسرح المركز الثقافي، جمعية الثقافة والفنون بالرياض.

تــاريخ الافتتاح:

يوم المسرح العالمي (27 مارس 1987م الموافق 27 رجب 1407هـ).

مدة أيـام العـرض:

5 أيام.

المـمـثلــون:

راشد الشمراني، عبد الرحمن الرقراق، يوسف الجراح، عادل قباني، خالد السالم، ناصر القصبي.

مهندس الديــكور: م/ حسن الحمدان.

الإضاءة والصوت: عبد الإله السناني.

مــدير الـمســـرح: علي المدفع.

مسـاعد المخــــرج: ناصر القصبي.

المـــخــــــــــرج: راشد الشمراني.

المــــؤلــــف: سعد الدوسري.


النص والمسرحية


(إضاءة كاملة للخشبة والصالة. خلفية المسرح سوداء وكذلك جدران المسرح «مغطاة بقماش أسود». على الجهة اليسرى من الخشبة منصّة مسطّحة بارتفاع 10 سم. فوق هذه المنصّة منصّة أخرى على شكل نصف دائرة سطحها ذو اتساع ضيق.


سنُطلق على المنصة الأولى: «منصة ب»، والمنصّة الثانية: «منصّة أ». عندما يكون الممثلون على خشبة المسرح «الجزء الأيمن الخالي من المنصّتين»، سيمثلون بروفة العمل «مستوى البروفة». وحين يصعدون على «المنصّة ب»، سيمثلون الجزء الواقعي من المسرحية. أما حين يكونوا على المنصّة أ»، فسوف يمثلون الجزء الفانتازي «الغرائبي» من العمل.


على الجزء الأيمن الخالي من المنصّتين طاولة وكراسٍ يجلس عليها المشاركون غير الممثلين. على الطاولة جهاز تسجيل ومجموعة أشرطة ومجموعة أوراق. على هذا الجزء أيضاً حالة من الفوضى: علبة دهان، فرشاة دهان،  ألواح «كلها بقايا الاستعدادات لتجهيز الخشبة». المشاركون في العمل متناثرون: بعضهم في الكواليس وبعضهم مع الجمهور. من بين الجمهور يصعد المؤلف الحقيقي للعمل وهو في حالة نفسية مرتبكة حقيقية. يقف في منتصف الخشبة، ثم يسحب كرسياً ليعتمد عليه في تغطية ارتباكه الواضح).


المؤلف (يرتجل كلمة افتتاحية، باللغة الفصحى البسيطة): مساء الخير. أنا مؤلف هذه المسرحية، وهي المحاولة الأولى لي في هذا المجال. أنا خائف، صدقوني. أشعر بكمية هائلة من الرعب، لأنني حاولت أن أجعل هذا العمل يختلف عن كل المسرحيات التي سبق أن قرأتها أو شاهدتها. استحملوا محاولتي أرجوكم... شكراً لكم.


المخرج (يخاطب المؤلف، وهو يمسكه بيده ويسحبه باتجاه مستوى البروفة): لو سمحت، تعال. نحتاجك معنا. تفضل هنا.


المؤلف (مستغرباً): أجلس معكم؟!

المخرج: طبعاً، أنت جزء من العمل، ومن حقك أن تشارك بالرأي. في النهاية، هذه بروفة نهائية للعمل الذي كتبته.


المؤلف: العمل عملك يا صديقي. أنا بعد أن كتبته وسلمته لك، خرجتُ منه.


المخرج: تسعدني ثقتك بي.


المؤلف: إنها أكثر من ثقة. أشعر بأنك أنا.. أنت تشبهني إلى حد كبير.


المخرج: ولذلك جعلتني المخرج والبطل؟!


المؤلف: أكيد. هل نسيت أنك أنت من حرضني للدخول في هذه التجربة؟! لولا وعدك لي بأننا سنشترك فيها، لما تحمستُ لها.


المخرج: أعدك بأنني سأبذل كل جهدي، كمخرج وممثل لأن أجسد هذا النص بالشكل اللائق. (يتوجه لمساعد المخرج) ولذلك اخترت أفضل شباب المسرح ليكون مساعداً لي.


المخرج: (يخاطب مساعد المخرج بعد أن يناديه باسمه الحقيقي، باللهجة الدارجة) الآن سنبدأ بالمشهد الأول.

مساعد المخرج: (من خلف الطاولة، باللهجة الدارجة): نعم. المشهد الأول سيكون على المستوى الغرائبي. وسيعبّر هذا المشهد عن الجزء الأول من المسرحية. وبعد هذا المشهد سيهبط البطل إلى المستوى الواقعي حيث يدور حوار هاتفي بينه وبين صديقه حول المشهد الأول.


المخرج: (يخاطب الممثلين) هيا.


(مهندس الإضاءة يطلب بصوتٍ عالٍ أن تُطفأ إضاءة الصالة والخشبة، كما يضغط على زر آلة التسجيل لتصدر موسيقى تعبيرية عبارة عن عزف منفرد على العود يصاحبه صوت رياح. يخفت الصوت تدريجياً حتى ينقطع. ثلاثة من الممثلين يقفون على الجسر «المنصّة أ»، في يد كل منهم بطارية إضاءة يدوية، وفي اليد الأخرى إطار خشبي يحيط وجوههم ويجعلها كالصور. يضيء الأول على وجهه ببطاريته، ثم يضيء الثاني، فالثالثيطفيء الأول إضاءته، فالثاني، فالثالث. الثالث يضيء بطاريته باتجاه قاع المسرح المغطى بالأسود، فتصبح الإضاءة دائرة متسعة. الأول يضيء على وجه البطل الواقف على نفس المنصة بمجرد أن يبدأ كلامه).


البطل: (في مواجهة الثلاثة، باللغة العربية الفصحى) هذا صحيح يا سيدي (يخطيء الممثل الثالث في إسقاط الإضاءة على وجه البطل في نفس الوقت الذي يبدأ به الكلام. فيطلب المخرج «الذي يمثل في نفس الوقت دور البطل» من الممثلين أن يعيدوا المشهد من أوله. يكررون).


البطل: (في مواجهة الثلاثة، بالفصحى) هذا صحيح يا سيدي. لقد كنتُ وما زلتُ أؤمن بأن سحابة ستجيء، وستمطر. لكني لا أدري من أين؟! (يطفيء الأول إضاءته، ويضيء الثاني على وجه البطل) لا. لم أخبر أحداً. لقد احتفظت بهذا السر لنفسي خشية أن أكون متهماً بتشويه صورة الحزن والقلق المنتشرين (يطفيء الثاني إضاءته. يضيء الأول على وجه البطل) نعم. أعرف يا سيدي أن أحلامي غير لائقة بكم. (يطفيء الأول إضاءته. يضيء الثاني على وجه البطل) وكيف ستمنعون الحلم عني؟!! (يطفيء الثاني، ويضيء الأول) عفواً سيدي؟! (يطفيء الأول، ويضيء الثاني) لكن هذا مستحيل (يطفيء الثاني ويضيء الأول). نعم. لقد جربت وكانت النتيجة كما ترى. (يتحرك الممثل الثالث الذي كانت إضاءته موجهة لقاع المسرح المغطى بالقماش الأسود مكوناً دائرة ضوئية أصغر) باب غرفتي صار يتضاءل شيئاً فشيئاًً، ومنفضة سجائري تعملقت إلى هذا الحد الذي تراه الآن. كل الصور التي علقتها لهؤلاء الذين سيحملون السحابة إلينا، انقلبت واحدة بعد الأخرى. كل المقاطع التي نقلتها على ورق من بياض صارت رماداً متداخلاً. نعم يا سيدي. لقد جربت أن أنام عن الحقيقة. (الثلاثة يطفئون إضاءتهم اليدوية، إظلام تام).


صوت رنين هاتف يُصدره الممثل الرابع.


الممثل الرابع يوجه إضاءته اليدوية إلى البطل الذي ينزل عن المستوى الغرائبي «المنصّة أ» إلى المستوى الواقعي «منصّة ب»، والممثل الرابع يتابعه بالإضاءة، وهو لا يزال يُصدر صوت الرنين. البطل يصير في مواجهة الممثل الرابع الذي يركز الإضاءة الآن على وجه البطل).


البطل: (حوار من طرف واحد لأنه يمثل حواراً هاتفاً بالفصحى) أهلاً يا صديقي العزيز. مرحباً بك. أعرف أنك متلهف لقراءة النص. صدقني أنت القاريء الوحيد الذي يهتم بي. (ينصت قليلاً ثم يضحك). أبداً أبداً. لقد سبق أن قلت لك أنني أعيش تجربة أولى في الكتابة المسرحية. كما أنني حدثتك عن الفكرة، لكنني - وبصدق - غرقت فيها. لقد اتسعت يا صاحبي، وأنا لا زلت في المشهد الأول. (الممثل الرابع يقرّب إضاءته اليدوية من وجه البطل ثم يدور حوله).


البطل: (بارتباك) لا. لا. هذا المشهد يحمل جواً غرائبياً لرجل يعيش وسط حصار من الصور المقلوبة والعبارات المشوهة. وسط رمادٍ من أعقاب السجائر التي ضيّقت المكانيظهر هذا الرجل في حالة استجوابية يردّ على أسئلة غامضة. (الممثل الرابع يقرب إضاءته اليدوية مرة أخرى لوجه البطل).

البطل: (يحاول التهرب) لا أذكر الحوار بالتفصيل لأن الأوراق ليست معي الآن. (البطل يتكيء بمؤخرته على طرف جسر «المنصّة أ» وقدميه على «المنصة ب» والممثل الرابع في مواجهته مركزاً الإضاءة على وجه البطل).


البطل: (باستغراب) اليوم؟!! (يفكر. يقف. يفكر مرة أخرى) لا. ربما أذهب لزيارة صديقٍ في الجريدة.


(الممثل الرابع يبعد إضاءته اليدوية عن وجه البطل بحيث تظلُّ الإضاءة على منطقة الوجه).


البطل: (يتذكر) أووه. الأمسية الشعرية. نسيتُ كل شيء عنها. (يهز رأسه) طبعاً سوف أحضر. (ينصت) إذاً  نلتقي هناك.


(الممثل الرابع يطفيء إضاءته، إظلام تام. مهندس الإضاءة يطلب بصوتٍ عالٍ أن تُضاء الصالة والخشبةالممثلون يهبطون من المنصتين إلى الجزء الأيمن من الخشبة، والذي هو مستوى «البروفة»).


المخرج: (يخاطب مساعد المخرج، باللهجة الدارجة) الآن، سنشتغل على المشهد التالي. مشهد البطل مع صهره. أليس كذلك؟!

مساعد المخرج: (باللهجة الدارجة) نعم. في هذا المشهد سيطرح البطل مأزقه مع زوجته.


المخرج: (يخاطب المؤلف، باللهجة الدارجة) هل لك أن توضح ما الذي تريد قوله في هذا المشهد؟؟

المؤلف: (باللغة الفحصى المبسّطة) في هذا المشهد سيتحاور البطل مع أخ زوجته، وسنكتشف من خلال هذا الحوار تأزم العلاقة بين البطل وبين المؤسسة الاجتماعية التي تمثلها زوجته. هذه الأزمة لها علاقة كبيرة في فشل البطل في خلق لغة مشتركة مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.


المخرج: (للممثلين، باللهجة الدارجة) إذاً، هيا يا شباب، لنستعد.


(البطل والممثل الأول الذي سيلعب دور الصهر، يصعدان إلى «المنصّة ب» حيث سيمثلان هذا المشهد على المستوى المسرحي الواقعي. في حين أن الممثلين الثلاثة سيصعدون على «المنصة أ» للمشاركة في هذا المشهد كعناصر إضاءة فقط، عن طريق البطاريات اليدوية التي معهم. الممثل الأول «في دور صهر البطل» يقف على حافة «المنصة ب» بمواجهة الجمهور والبطل في مركز المنصّة نفسها. مهندس الإضاءة يطلب بصوت عالٍ أن تُطفأ إضاءة الصالة والخشبة، الممثل الثاني يضيء بطاريته اليدوية على مؤخرة رأس صهر البطل في نفس اللحظة التي يبدأ بها الكلام).

صهر البطل: (باللغة الفصحى) معذرة، فكما تعرف وقتي ضيق جداً وجدول أعمالي مزدحم. (الممثل الثالث يضيء بطاريته على وجه البطل في نفس اللحظة التي يبدأ بها الكلام، في حين يطفيء الممثل الثاني إضاءته عن صهر البطل).


البطل: لا ضير لو تجلس دقيقتين على الأقل. أنا مشتاق لك.


صهر البطل: (تعود إضاءة الممثل الثاني عليه، في حين تنطفيء عن البطل) لم يعد للشوق مكانٌ في ازدحامنا اليومي. عندما تخطو الدقيقة يا صهري، تعلنُ بأصابعها انتصاراً لعملة أو هزيمة لأُخرى. (يستدير استدارة كاملة بحيث يصبح ظهره للجمهور وتصبح الإضاءة القادمة من الممثل الثاني على وجهه تماماً) ومع ذلك، سوف أجلس.


البطل: (بانفعال) إسمع. (الإضاءة اليدوية لصهر البطل والممثل الرابع تتوجه لوجه البطل حالما يقول هذه الكلمة) أنا أعرف أنك أكثر أفراد عائلتك تفهماً لمشكلتي الدائمة مع أختك (يذوب انفعاله) هي لا تطيق أن تعيش معي، وأنت لابد تعي محاولاتي المستمرة لردم الهوّة بيني وبينها.


صهر البطل: (الإضاءة اليدوية تتوجه اليه من البطل والممثل الثاني والثالث حالما يبدأ بالكلام في حين تنطفيء الإضاءة عن البطل) لكنك تفهم أن ليس لزوجتك ذنب في هذا الإشكال. هذا هو ظرف وعيها ولابد أن تتقبله أنت. (يتحرك إلى أن يصبح في مواجهة البطل والإضاءة اليدوية تتبعه) لابد أن تتقبل هذا الصراع، فهو غير جديد عليك، إنك تواجهه في كتاباتك المستمرة في الصحف والمجلات. تواجهه مع قرّاء يعيشون نفس درجات وعي زوجتك. (بتحدٍ واضح) لقد قبلت الرهان منذ البدء.


(الإضاءة اليدوية تطفيء كلها ما عدا إضاءة صهر البطل التي يوجهها لوجه البطل مقترباً منه بشدة) وأرجو ألاّ تكون بصدد إعلان فشلك. (مهندس الضوء يطلب بصوتٍ عالٍ أن تُضاء الصالة والخشبة).


مساعد المخرج: (يخرج من خلف الطاولة إلى الممثلين الذين هبطوا من «المنصّة أ» و»المنصّة ب»، باللهجة الدارجة) يعطيكم العافية يا شباب. المشهد التالي سيكون على المستوى الغرائبي او الفانتازي.


المخرج: (يخاطب المؤلف باللهجة الدارجة) في هذا المشهد نرى البطل يواصل كتابة مسرحيته. أليس كذلك؟؟


المؤلف: (باللغة الفصحى المبسطة) نعم. بعد أن تمَّ طرح الإشكالية الأولى للبطل مع زوجته، نراه يعود للكتابة بنفس الرؤية السابقة التي شاهدناها في المستوى الفانتازي وبنفس الشكل الغرائبي.

مساعد المخرج: (يخاطب المؤلف، باللهجة الدارجة) يعني أن صدمة مكاشفة صهر البطل له بأزمته في الوصول إلى زوجته، لم تؤثر فيه.


المؤلف: بالضبط.

المخرج: لنستعد إذاً لهذا المشهد.


(مهندس الإضاءة يطلب أن تُطفأ الصالة والخشبة، إظلام تام، الممثلون الثلاثة يصعدون على «المنصة أ» وكذلك البطل. الممثل الرابع على الطرف البعيد من «المنصّة أ». البطل ركبتاه على أرض «المنصّة أ» في حالة انكسار. الممثل الأول يجعل الإطار الخشبي الذي في يده اليمنى في مواجهة وجه البطل. كذلك إطار الممثل الثاني والثالث بحيث تكون الإطارات خلف بعضها، وكأن الإطارات في حالة ضاغطة على البطل المنكسر. الإضاءات اليدوية في اليد اليسرى لكل ممثل تتوجه لوجه البطل أيضاً ومن خلال الإطارات. إضاءة الممثل الرابع موجهة لقاع المسرح المغطى بالقماش الأسود مكوّنة دائرة ضوئية).


البطل: (بأسى، باللغة الفصحى) نعم يا سيدي، هاأنذا أنامُ عن الحقيقة وها هي النتيجة. (الممثل الرابع يقرب إضاءته من قماش قاع المسرح فتصغر الدائرة الضوئية) ها هي النتيجة يا سيدي. لقد تضاءلت الفتحة أكثر. إنها بالكاد تمرر قامتي (الممثل الأول يرفع إطاره عن وجه البطل، ويتحرك ليكون في الجهة الثانية من البطل. في تحركه يسقط عن «المنصّة ب» نظراً لضيق المساحة المتاحة لوقوف الممثلين. هذا السقوط خارج عن النص، لذلك يطلب المخرج إعادة المشهد من جديد. تتم إعادته حتى ينجح الممثل الأول في التحرك للجهة الثانية من البطل، على المنصّة نفسها) وأنت تعرف يا سيدي أنني لن أحنى قامتي أبداً. (الممثل الثالث يبتعد بإطاره عن وجه البطل، في حين يبقى إطار الممثل الثاني مركزاً على وجه البطل) معك حق. يجب أن يمر الإنسان بكل التجارب ليكون حكمه مبنياً على قناعات ثابتة. (الممثل الثاني يبتعد بإطاره عن وجه البطل. الآن الإطارات على وجوه الممثلين والإضاءة موجهة لوجه البطل) لكن هذه التجربة مريرة جداً. مرير أن نصمت عن كل هذا التخريب، وأن فقط ننتظر شيئاً ما يحدث. (الممثلون الثلاثة ينظّمون لبعضهم بحيث يصيرون في جهة واحدة، الإطارات على وجوههم والإضاءات موجهة لوجه البطل) صحيح. لقد اعترفت في البداية أنني متفائل بسحب كثيرة ستمطر، وبعشب أخضر سوف يتسلق الأعناق، وبابتسامات ملونة، وبأفق راكض للشمس. لكنكم يا سيدي اتهمتموني بارتداء قافلة عكسية، وأجبرتموني على نومٍ خالٍ من الحلم. (إضاءة الممثلين الثلاثة تنتقل من وجه البطل إلى قماش قاع المسرح لتشترك في تكوين دائرة ضوئية، وإضاءة الممثل الرابع التي كانت موجهة لقماش القاع تنتقل إلى وجه البطل) إنني يا سيدي أطاوعكم وها أنذا أنتظر مثل بقية الناس أن يحدث طاريء. أنتظر دون أن أشارك بأي خطوة نحو هذا الآتي. (إضاءة الممثلين الثلاثة تنتقل لتشترك مع إضاءة الممثل الرابع على وجه البطل) هذا ما تريدون تماماً يا سيدي. (الممثلون الثلاثة يقتربون بأجسامهم وبإضاءاتهم على البطل الذي ازداد انحناءً) أليس كذلك؟؟ (بانفعال) أليس كذلك؟؟ (يقترب الممثلون بأجسامهم وإضاءاتهم أكثر للبطل الذي أصبح في حالة خنوع) أمرك سيدي. (تُطفأ إضاءة الممثلين الثلاثة معاً بعد هذه الكلمة. كما تُطفأ في نفس اللحظة إضاءة الممثل الرابع التي كانت على قماش عمق المسرح).


(مهندس الإضاءة يطلب أن تضاء الصالة والخشبة. كل الممثلين يهبطون من «المنصة أ» إلى «المنصة ب» ثم إلى خشبة المسرح).


مساعد المخرج: عظيم. الآن مشهد الأمسية الشعرية.


المخرج: (يخاطب المؤلف) الأمسية هي الموقف الثاني لمواجهة البطل مع المحيط.


المؤلف: (باللغة الفصحى المبسطة) فعلاً. في هذا المشهد يظهر لنا بداية تحول البطل، إذ أنه يتواجه بشكل واقعي مع المحيط الثقافي، الذي يمثّله الشعراء من خلال أمسية شعرية يحضرها البطل برفقة صديقه الذي كان يتحاور معه بالهاتف في مشهد سابق.


(مساعد المخرج يطلب من الممثل الأول والثاني والثالث أن يدخلوا إلى الكواليس بعد أن يضع كل واحد منهم كرسياً على «المنصة ب» والتي تمثل المستوى المسرحي الواقعي. كما يطلب من البطل والممثل الرابع أن يدخلوا وراءهم إلى الكواليس أيضاً، بعد أن يضع الممثل الرابع حاملاً خشبياً ينتهي بلوحة صغيرة مقلوبة. من الكواليس ينطلق الممثل الأول ثم الثاني ثم الثالث إلى الخشبة، وهم يحيون الجمهور بتصفيق مشترك وابتسامات كما يحدث في نهاية المسرحيات. ثم يظهر البطل ومعه الممثل الرابع، يعبران الخشبة ثم ينزلان  منها إلى الصالة، حيث يقفان أمام الخشبة ملتصقين بها، ظهورهم للجمهور ووجوههم للممثلين الذين لا يزالون يصفقون. في لحظة واحدة، ينقطعون عن التصفيق وتختفي الابتسامات من وجوههم ويتصنّمون. تظلم الصالة والخشبة إظلاماً تاماً. الممثلون الثلاثة سيلعبون دور شعراء أمسية، والممثل الرابع سيلعب دور صديق البطل الذي كان يتحاور معه هاتفياً في مشهد سابق. إضاءة يدوية من البطل على الممثل الأول الواقف في عمق المسرح، وهو يمسك خيطاً رافعاً إياه إلى أعلى. هذا الخيط يمتد من الممثل الأول إلى الممثل الثالث الجالس على الكرسي الأخير من جهة الجمهور. يمر هذا الخيط أمام الممثل الثاني الجالس أيضاً على كرسي، لكن هذا الممثل لا يمسك الخيط. آلة التسجيل تصدر موسيقى تعبيرية عبارة عن إيقاع متلاحق لطبل. مع الإيقاع تهبط من الطرف العلوي للخيط ثلاثة أقنعة حتى يصل الأول منها للممثل الثالث، حيث يسحب القناع الأول من الخيط. الممثل الثاني يسحب القناع الثاني. القناع الثالث يسحبه الممثل الأول ثم يجلس على الكرسي. الإضاءة اليدوية من البطل وصديق البطل كانت تتابع حركة الأقنعة ووصولها إلى كل ممثل. الممثلون الثلاثة يرتدون الأقنعة. الإضاءة اليدوية تتركز على اللوحة التي صارت الآن في مواجهة الجمهور. مكتوب على اللوحة جملة رئيسية هي: «أمسية شعرية»).


أحد الشعراء يلقي قصيدة:

«في يومٍ عاصف بجليد رعاة الأبقار،

كتبتكم على تضاريس المعابد المهملة،

وطواحين الهواء  الصدئة،

وأعربتكم كزرافات تركض إلى حتفها،

فهل تنتهي هذه الأنهار إلى حدائقنا المفرطة؟


الشاعر الثاني: (ينتشي طرباً أثناء إلقاء القصيدة، ويطالب الشاعر بالإعادة): أعد أعد، ثكلتك أمك!


صوت خارجي: (هو صوت مهندس الديكور الجالس على الطاولة الموضوعة في الجزء الميت من الخشبة «أقصى اليمين»، مع المؤلف ومهندس الإضاءة ومساعد المخرج) في نهاية هذه الأمسية الشعرية الرائعة، نشكر شعراءنا الأفاضل، ونشكر أيضاً هذا الحضور الجميل الذي سيسعدنا أن نتقبل منهم الأسئلة والآراء حول ما طُرح من قصائد، وذلك لنُضيف بالحوار جواً من النقاش الحر.


البطل: (إضاءته اليدوية على الممثل الشاعر الأول. بالفصحي) لقد حَفَلتْ هذه الأمسية بشعر فني جميل. لكن هذا الشعر - ولو سمح لي إخواني الشعراء - لم يلمس رغباتنا الطموحة في فهم ما يدور حولنا الساعة. لقد لمس هذا الشعر - الذي سمعناه - كل شيء باستثناء الحقيقة.


(بحركة آلية يقوم الممثلون الشعراء الثلاثة ويتحركون حتى حافة «المنصة ب» ثم يتذكرون شيئاً. يعودون حتى يصلوا المقاعد. يخلعون الأقنعة ثم يبدأون بالتحرك بشكل طبيعي. الممثل الشاعر الأول يبحث بإضاءته اليدوية عن مصدر السؤال حتى تقع إضاءته على وجه البطل. يتحرك الممثلون الشعراء الثلاثة فيهبطون من «المنصة ب» إلى الخشبة يصبحون في مواجهة البطل على شكل سهم «الممثل الشاعر الأول» في المقدمة وعلى جانبيه في مستوى واحد الممثل الشاعر الثاني والثالث).


صديق البطل: (الإضاءة اليدوية من الممثل الشاعر الأول إلى وجهه) من حقه أن يسأل.


الممثل الشاعر الأول: (الإضاءة من البطل إلى وجهه) أعرف ذلك.


صديق البطل: (الإضاءة اليدوية من الممثل الشاعر الأول إلى وجهه) ولماذا لا تجيب على سؤاله؟؟ (الممثل الشاعر الأول يتراجع إلى الخلف ويتقدم الممثلان الشاعران الثاني والثالث حتى يلتصقا، في مواجهة البطل).


الممثل الشاعر الأول والثاني معاً: (الإضاءة اليدوية من البطل وصديقه موجهة إلى وجهيهما) لأن سؤاله لا يحتاج إلى إجابة. (يتراجع الممثل الشاعر الأول والثاني إلى الخلف حتى يصبحا في خط واحد مع الممثل الشاعر الأول).


صديق البطل: (الإضاءة اليدوية من الممثل الشاعر الأول على وجهه) إذاً ، ماذا تريد منه؟؟

الممثل الشاعر الأول: (الإضاءة اليدوية من البطل إلى وجهه) أريد أن أُسرّ له بشيء.

(يتحرك الممثل الشاعر الأول حتى يصبح في مواجهة البطل قريباً جداً منه. ينحني على إذن البطل ويهمس له. ( يقف مرة أخرى ويتراجع حتى يصبح في نفس الخط مع الممثل الشاعر الثاني والثالث. الإضاءة اليدوية من البطل وصديقه تتابعهم. ببطء وبانتظام يصعدون «المنصّة ب». يجلسون على كراسيهم. يرتدون الأقنعة. إظلام).


(مهندس الإضاءة يطلب أن تُضاء الصالة والخشبة).


مساعد المخرج: (يخاطب المؤلف، باللهجة الدارجة) البطل سيواجه في المشهد التالي صدمة أخرى.

المؤلف: (بالفصحى المبسطة) بعد أن تواجَهَ البطل على المستوى الواقعي مع المحيط الاجتماعي الذي تمثّله زوجته وصهره، ثم المحيط الثقافي الذي يمثله الشعراء، سيواجه محيطاً جديداً هو المحيط الصحفي. وهو محيط مهم جداً بالنسبة للبطل. لأن الصحافة هي قناة الاتصال بينه وبين الحمهور الذي بدأ البطل في الاهتمام الواضح به، أقصد الجمهور طبعاً.


(الممثلون يأخذون مواقعهم على «المنصة ب» و «المنصة أ». الممثلون على «المنصة أ» عناصر إضاءة في حين أن هذا المشهد سيكون على المستوى المسرحي الواقعي «منصة ب»، حيث سيكون البطل في حوار مع رئيس تحرير الصحيفة. إظلام الخشبة والصالة بطلب من مهندس الإضاءة. الممثل الأول رئيس التحرير على حافة «المنصة ب» في مواجهة الجمهور. البطل في وسط المنصّة).


الممثل الأول رئيس التحرير: (إضاءة البطل موجهة إلى مؤخرة رأسه) أنت بهذا القرار، تضعني في موقف محرج أمام القراء.


البطل: (الممثل الأول يستدير ويسلط إضاءته على وجه البطل) يجب أن تفهم أن هذا قرار نهائي. أنا لن أكتب زاويتي بعد اليوم.


الممثل الأول: (يستدير مرة أخرى إلى الجمهور وإضاءة البطل عليه) وما الذي دفعك لهذا القرار الإنفعالي؟!

البطل: (يتقدم خطوة وإضاءة الممثل الأول على وجهه) من فضلك. لا تضع أوصافاً ساخنة لقراري، فأنا لن أحيد عنه.


الممثل الأول: (إضاءة الممثل الثاني من «المنصّة أ» على وجهه) لكن، لابد أن يكون هنالك مبرر.


البطل: (إضاءة من الممثل الأول على وجهه) لقد اكتشفت أن الصحيفة لا تخلق علاقة وثيقة مع القاريء. بالتالي فإن كل ما نكتبه لا يملك تأثيراً حقيقياً.


الممثل الأول رئيس التحرير: (يستدير إلى الجمهور وإضاءة البطل إلى وجهه) هذه إنهزامية.


البطل: (يستدير الممثل الأول بإضاءته اليه) بل واقعية صرفة.


الممثل الأول رئيس التحرير: (يدور على البطل وإضاءته اليدوية موجهة لمنطقة الوجه) مسألة العلاقة مع القاريء حسمتها جريدتنا بشكل كبير، فنحن نفخر أن لجريدتنا أصدق وأوثق علاقة مع القاريء هنا.


(الممثل الرابع في دور قاريء، يصعد من خشبة المسرح إلى «المنصة ب» وإضاءته اليدوية تبحث عن شخص ما. إضاءة الممثل الثالث من «المنصة أ» موجهة للممثل الرابع الذي يقف في مواجهة البطل والممثل الأول رئيس التحرير).


الممثل الرابع القاريء: (إضاءة الممثل الأول عليه) عفواً على مقاطعتكما. لكن ثمة خبراً يجب أن يُنشر في عدد الغد.


الممثل الأول رئيس التحرير: (الإضاءة من البطل عليه، بتلهف) وما هو؟؟

الممثل الرابع القاريء: (الإضاءة من الممثل الأول عليه) لقد ماتت أم مدينتنا. البطل والممثل الأول رئيس التحرير معاً: (الإضاءة من الممثل الرابع والممثل الثالث مــن «المنصة أ») أم مدينتنا؟!


الممثل الأول القاريء: (يمشي إلى عمق المسرح بشكل جنائزي يتبعه البطل والممثل الأول والإضاءة اليدوية عليهم من الممثل الثاني والثالث) كانت خيمةً تمنحُ الفيء للجميع والعشق للجميع. كانت هي المدينة، حليب الرضاعة، حنطة الشتاء، وفاكهة الصيف. كانت هي النبع الذي يشدُّنا للماء. كانت الماء الذي يجمعنا. كانت الحكايا التي تضُّمنا. كانت السامر الذي تشتبك له أيادينا، لنرقص حتى يغمرنا ترابها.


(يتوقف الممثل الرابع على حافة «المنصّة ب» من جهة عمق المسرح، ويتوقف خلفه البطل والممثل الأول).

البطل: (بحزن، دون إضاءة على وجهه) وماتت ؟؟


الممثل الرابع القاريء: (يستدير باتجاه الجمهور ويمشي على «المنصة ب» مخترقاً البطل والممثل الأول) ماتت. دخلنا اليها، فإذا يدها اليمنى مغروسة في تراب بيتها العتيق، ويدها اليسرى مرفوعة للفضاء. (يتوقف في وسط «المنصّة ب»).

الممثل الأول رئيس التحرير: (يتحرك للممثل الرابع وإضاءة الممثل الثاني والثالث من «المنصة أ» على وجهه) كلامك جميل. شعر (يدور حوله) نستطيع نشره كإعلان. لكن (يفكر) ليس اليوم.


البطل: (باستغراب، الإضاءة من الممثل الأول رئيس التحرير عليه) إعلان؟!!


الممثل الأول رئيس التحرير: (الإضاءة من الممثل الثاني والثالث من «المنصة أ») نعم. سوف يكون هذا الإعلان صياغةً جديدة (يحرك يديه بافتعال) إعلان شعري: تصور.

الممثل الرابع القاريء: (الإضاءة من الممثل الأول عليه) لكنني لا أملك مبلغ الإعلان. أنا هنا كي أمنحكم خبراً لا إعلاناً.

الممثل الأول رئيس التحرير: (الإضاءة من الممثل الرابع عليه، بتغطرس) نحن نحصل على الأخبار بطرقنا الخاصة.


الممثل الرابع القاريء: (الإضاءة من الممثل الأول عليه) لكن هذا الخبر سبق صحفي.


الممثل الأول رئيس التحرير : (يتحرك حتى يصير على حافة «المنصة ب» باتجاه الجمهور والإضاءة من البطل والممثل الرابع عليه) هل أنت هنا لتعلمنا وظيفتنا؟؟ إن أردت الإعلان، فها هو قسم الإعلانات، في آخر الممر الذي جئت منه. صدقني، لا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا.


الممثل الرابع القاريء : (يتحرك حتى يصير خلف الممثل الأول وإضاءته اليدوية موجهة إلى ظهر الممثل الأول). لكنكم تفردون مساحات لأخبار خارج وجودنا. أخبار لا طائل لنا منها. أما هذا الخبر فهو نحن، نحن هذا الخبر.


البطل: (يتحرك حتى يصبح خلف الممثل الرابع وإضاءته اليدوية موجهة إلى ظهر الممثل الرابع) معك حق يا صديقي. نحن هذا الخبر.


(كل الإضاءات اليدوية تُطفأ ليصير الجو إظلامـاً تاماً. مهندس الإضاءة يطلب أن تُضاء الصالة والخشبة. الممثلون ينزلون من «المنصةأ» و»المنصّة ب» إلى خشبة المسرح. المخرج ومساعد المخرج والممثلون يتعاونون في وضع صفين من الكراسي على خشبة المسرح بحيث تكون ظهور الكراسي باتجاه الجمهور. المخرج يطلب متطوعين من الجمهور ليشاركوا في واجب عزاء «أم المدينة».

يصعد مجموعة من الجمهور بعدد الكراسي. يجلسون ثم يقف الممثلون الأربعة. أمامهم. مهندس الإضاءة يطلب أن تُطفأ الصالة والخشبة).

(من آلة التسجيل اليدوية على الطاولة التي يجلس خلفها مساعد المخرج ومهندس الديكور والإضاءة والمؤلف، تصدر موسيقى لإيقاع شعبي راقص لدفوف وطبول. الإضاءات اليدوية من الممثلين الأربعة تتناوب في الإضاءة على وجه البطل الذي يقف في عمق المسرح في مواجهة الجمهور، يرقص على إيقاعات الطبول. الممثلون الأربعة يحاصرون البطل بالإضاءات ويضيّقون الخناق عليه. البطل يحاول مقاومتهم ليكمل رقصته لكنهم يحاصرونه أكثر. ينجح البطل في المرور من بينهم ليصعد «المنصة ب» ثم «المنصة أ». الإضاءات موجهة اليه).


البطل: (يصرخ بانتصار) إنني أدعوكم جميعاً لحضور مسرحيتي الأولى.


(إظلام تام. لحظات وتنبعث الموسيقى الخاصة بالمشهد الفنتازي الأول وهي موسيقى تعبيرية عبارة عن عزف منفرد على العود، يصاحبه صوت رياح يخفت تدريجياً حتى ينقطع. يعيد الممثلون نفس المشهد الفنتازي الذي سبق عرضه وهو: ثلاثة من الممثلين يقفون على الجسر «المنصة أ»، في يد كل منهم بطارية يدوية وفي اليد الأخرى إطار خشبي، يحيط وجوههم ويجعلها كالصور. يضيء الأول على وجهه ببطاريته. ثم يضيء الثاني، فالثالث. يطفيء الأول أضاءته، فالثاني، فالثالث. الثالث يضيء باتجاه قاع المسرح المغطى بالقماش الأسود، فتصبح الإضاءة دائرة متسعة. الأول يضيء على وجه البطل الواقف على نفس المنصة بمجرد أن يبدأ كلامه).

البطل: (في مواجهة الثلاثة، بالفصحى) هذا صحيح يا سيدي. لقد كنت وما زلتُ أؤمن بأن سحابة ستجيء وستمطر. لكني لا أدري... (يتصاعد لغط من خلف الطاولة التي يجلس خلفها مساعد المخرج والمؤلف ومهندس الديكور والإضاءة. يتصاعد اللغط أكثر فيُسمع واضحاً صوت المؤلف وهو يتحدث لمساعد المخرج معترضاً).


البطل المخرج: (يوجّه إضاءته اليدوية للطاولة، باللهجة الدارجة) ما الذي يجري يا شباب؟؟


مساعد المخرج: المؤلف معترض على هذا المشهد.

البطل: (يخاطب مهندس الإضاءة) أعطوني الإضاءة.


(مهندس الإضاءة يطلب بصوت عال أن تضاء الصالة والخشبة، إضاءة كاملة. الممثلون يهبطون من «المنصّة أ» في حين يبقى البطل على نفس المنصة. الجمهور الذي تم اختيارهم للعزاء لا يزالون على كراسيهم).


البطل: (يخاطب المؤلف. الحوار بالفصحى المبسطة) ما الذي تعترض عليه؟؟


المؤلف: (يفز من خلف الطاولة ويمشي على الخشبة ثم يصعد «المنصة ب») اعترضُ على قيامك بتمثيل هذا المشهد.

البطل: (يبقى على «المنصة أ») لماذا؟؟


المؤلف: لأنه لم يعدّ يعبّر عني.


البطل: لكنه جزء من المسرحية.


المؤلف: صحيح. هذا الجزء كان مطروحاً حين كان البطل يحمل رؤية ضبابية.


البطل: تقصد أن هذا المشهد يعبر عن حالة ضبابية لدى المؤلف.


المؤلف: نعم. المؤلف كان يعيش صراعاً مع نفسه. كان يحاول أن يقول الحقيقة، لكن الحقيقة محاصرة بمجموعة من الأزمات التي يعيشها هو. وطالما لم يواجه هذه الأزمات ولم يحسن الصراع معها، فكل ما يكتبه يكون في الإطار الضبابي غير الواضح، غير المتصل مع المتلقي.


البطل: أنا لست متفقاً معك إطلاقاً.

المؤلف: كيف؟؟


البطل: هذا المشهد مكتوب بلغة شعرية، وبشكل حديث يتناسب مع حداثة الوسائل التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح.

المؤلف: قد ترى أنت أنه كذلك. قد يكتب أي كاتب نصاً بلغة حديثة وبشكل جديد، لكن هل يعني هذا أن الرؤية واضحة لديه؟؟


البطل: أي رؤية تقصد؟؟


المؤلف: الرؤية العامة. رؤية الواقع الذي نعيش فيه والذي صار متردياً إلى الدرجة التي يجب فيها أن تتعامل معه بكل موضوعية.


البطل: لكنك بذلك تخسر نفسك. تخسر حقك في أن تجرب وتغامر. الفن مغامرة.


المؤلف: أنا لست معترضاً على التجريب. أنا معه تماماً. لكنني ضد التجريب للتجريب. حين تخسر الإتصال مع الجمهور في سبيل تقديم شكل جديد، تكون قد خسرت نفسك أولاً، ثم خسرت المتلقي الذي تتوجه له لتغييره.

البطل: أنت تتحدث عن نفسك؟؟


المؤلف: نعم. ثم لا تنسى أنك بطل في عملي. أستطيع أن ألغي منك ما أشاء. أن أسمح لك بالحوار معي، ليس معناه أن تقدم باسمي ما لا يمثلني.


البطل: لكنني مقتنع بما أؤديه تماماً.


المؤلف: مقتنع بأن تؤدي هذا المشهد؟؟


البطل: نعم. هذا المشهد كما قلت لك، يحمل لغة حديثة وشكلاً جديداً.


المؤلف: لقد واجهتَ أنت، كشخصيةٍ رئيسة لهذا النص، مجموعةً من الأزمات التي جعلتكَ في النهاية تتواصل مع الناس. بعد أن اكتشفتَ أنك غير قادر على التفاعل مع زوجتك. حين عرفتَ أن هنالك شكلاً ثقافياً لا يتماس مع القضايا الصغيرة اليومية للإنسان. حين أدركتَ أن الصحافة لا يهمّها أن تكون في قلوب جمهورها. حينها فقط، استيقظتَ من سباتك الضبابي، وقررتَ أن تكون واضحاً. لذلك فإنَّ هذا المشهد «الفانتازي» لا قيمة له، ومن الخطأ الواضح أن تعود بعد ذلك لتؤديه.


البطل: أنا فعلت ذلك لإقتناعي الشديد بجمالية هذا المشهد.


المؤلف: أنا الآن لا تهمني الجماليات. هذا المشهد لاغٍ.

البطل: يبدو أنني وأنت لن نتفق. (يفكر) ما رأيك لو احتكمنا لجمهور المعزّين هؤلاء (يشير للجمهور الذي تم اختيارهم لمشهد العزاء).


المؤلف: لم أفهم.


البطل: الذي يؤيد ما تقول يصافحك معزياً إياك في موتي. والذي يؤيدني يصافحني معزياً إياي فيك.


المؤلف: هذا تحدٍ رائع. أنا موافق.


البطل: (يشير لجمهور المعزين) لو سمحتم.


(جمهور المعزين يقفون ويصافح كل واحد منهم من يرى كلامه متناسباً معه، يصفق الممثلون والمشرفون على المسرحية لهم، ثم يصفق الجميع للجمهور).



إشـــارات

-1 كان جمهور المعزّين في كل عرض من العروض التي قُدمتْ فيها المسرحية ينقسم إلى قسمين: قسم يؤيد المؤلف في وجهة نظره والقسم الآخر يؤيد البطل.

بشكل عام كان مؤيدو المؤلف أكثر بكثير من مؤيدي البطل. وللإستاذ المخرج السوداني عثمان قمر الأنبياء «مخرج في المسرح الجامعي، جامعة الملك سعود»وجهة نظر في ذلك وهي: «أن البطل يثيرنا عاطفياً ضده، ليجعلنا نقف مع المؤلف».


-2 صالة مسرح المركز الثقافي التابع لجمعية الثقافة والفنون والتي تتسع لحوالي مائتي شخص كانت ممتلئة في العرض الافتتاحي، على الرغم من أن الجو كان ممطراً، وكان نفس المساء يشهد مناسبة رياضية هامة «مباراة في كرة القدم» وهي الرياضة الشعبية الأولى على المستوى المحلي. في العروض التي تلتْ العرض الإفتتاحي، بدأ الجمهور في التناقص تدريجياً وفي العرض الأخير في المركز نفسه لم يتجاوز عدد الجمهور عشرين شخصاً.


-3 تزامن عرضنا للمسرحية مع فعاليات مهرجان الجنادرية، وهو مهرجان يهتم بالتراث الشعبي. وصادف أن طلبتْ اللجنة الثقافية للمهرجان من جمعية الثقافة أن تقدم عرضاً مسرحياً لجماهير المهرجان. الجمعية بالتالي طلبت من المخرج راشد شمراني المشاركة بهذه المسرحية كواحدة من فعاليات هذا المهرجان الشعبي الكبير الذي يزدحم بالناس بشكل يومي. وافق الاستاذ راشد شمراني على عرض المسرحية على الرغم من أنها تجريبية بحتة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال عرضها أمام جمهور عريض، جمهور مثل جمهور التراث الشعبي. كما أن صالة الجنادرية ليست صالة مسرحية، فهي صالة محاضرات ضخمة جداً، وغير مهيأة أبداً لعرض مسرحي. كان للمخرج رأي في المشاركة وهو محاولة جس النبض، كما أن جنون المغامرة الذي يحمله الفنان سيطر على راشد لحظة موافقته. هناك مسألة أخرى أيضاً، وهي أنها المرة الأولى التي يطلب مهرجان الجنادرية عرضاً مسرحياً ضمن فعالياته، وكان راشد يريد أن يجعل المسرح جزءاً من هذا المهرجان السنوي الهام، والذي يحضره الجمهور بشكل منقطع النظير، كما أن اللجنة تدعو له مثقفين من كل أنحاء الوطن العربي.

كان راشد يقول: «أنا أعرف رد فعل الجمهور مسبقاً، ولكن لنضحي بهذا العمل، لأننا اذا رفضنا فسوف يعتبر المسؤولون عن المهرجان رفضنا هذا موقفاً سلبياً من وجود المسرح في المهرجان، وسوف لن يدعو مسرحاً مرة أخرى».... ودخلتْ هذه المسرحية التجريبية تجربة العرض الجماهيري، وكانت النتيجة معروفة بطبيعة الحال!! الأستاذ المخرج سمعان العاني، والصحفي «وليد نجم» اعتبرا هذا العرض مقياساً لكتابتهما عن التجربة (طالع: حوارات حول المسرحية). في حين أن بقية الكتابات كانت من واقع العرض في مكانه الطبيعي، المركز الثقافي. ومن هنا يمكن اعتبار كتابة «العاني» و «نجم» ذات إطار ناقص، لاسيما أن «العاني»  لا يعرف ظروف موافقة فريق العمل بالعرض في الجنادرية، وأن «نجم» يتصور أن عرض الجنادرية هو العرض الوحيد!!


-4 ينبغي معرفة أن حوارات الممثلين المسرحية خارج المستوى الغرائبي «المنصّة أ» والمستوى الواقعي «المنصّة ب» هي حوارات ارتجالية غير مكتوبة وأنها تختلف في كل عرضولكن هذا الاختلاف يكون في توصيل المضمون المتفق عليه أصلاً. هذه الحوارات هي: حوار البطل (المخرج) مع المؤلف، البطل (المخرج) مع مساعد المخرج، مساعد المخرج مع المؤلف.

-5 حين يخطيء أحد الممثلين في أحد المشاهد، فإن المخرج أو مساعده يطلب إعادة المشهد لإضفاء روح التلقائية ولكسر الرهبة بين الخشبة والصالة.


-6 ولتأكيد هذا الجانب (التلقائية والكسر)، فإن المخرج لم يستخدم ملابس محددة، وأعطى الحرية لكل ممثل في أن يلبس ما يشاء.


-7 بسبب ضعف الإمكانات المادية الممنوحة لمثل هذه الأعمال التجريبية، فلقد قام فريق العمل بالاعتماد على أنفسهم في تجهيز احتياجات المسرحية:


(أاستخدمنا خشب ديكور مسرحية سابقة، وهي مسرحية (1/صفر) تأليف عبد العزيز الصقعبي وإخراج عامر الحمود وتمثيل ناصر القصبي «مسرحية مونودراما».

(بقمنا بأنفسنا ببعملية دهان الخشبة باللون الأسود.

(جقمنا بتغطية جدران خشبة المسرح بالقماش الأسود الذي اشتريناه بأنفسنا.

(دقمنا بكتابة منشور المسرحية بخط اليد وصورناه بأنفسنا ووزعناه على كراسي الحضور. (ساهم في عملية الخطوط الفنان عثمان الخزيم).

(هلم نوجه دعوات رسمية لأحد، وكان الخبران المنشوران في صحيفتي «الرياض» و»الجزيرة» هما الدعوة الوحيدة.

(وكلمة منشور المسرحية: «المسرح بالنسبة لنا مغامرة نخاطر من أجلها بكل ما نملك. نحن زاهدون بكل شيء إلا بالمسرح. لا نريد أن يكتب أحدٌ عنا. نريد من الجمهور الجمهور فقط، أن يعطينا حكمه. لا نلغي الناقد ولكننا نفتقده هنا، وهذا مؤسف... واذا كانت الحياة بالنسبة للرموز مسرح كبير، فإننا نذهب إلى أكثر من ذلك، فالحياة بالنسبة لنا «بروفة» مسرحية يشترك كل الناس فيها. وكل الناس يحلمون، في النهاية، باليوم الذي يقدمون فيه المسرحية التي تعرضهم جميعاً».


-8 لم تحظَ المسرحية بالموافقة على العرض خارج الرياض، على الرغم من أنها طُلبت من قبل فرع الجمعية بالدمام!!


-9 أشار بعض من كتبوا عن المسرحية لاختيار المخرج راشد شمراني لبعض المثقفين والكتّاب للمشاركة في العزاء في نهاية المسرحية، وتصوروا بأن هذا لا يتناسب مع دعوة النص للإتجاه للناس. أؤكد أن هذه الإشارة صحيحة بشكل لا يقبل الجدل. لكن راشداً رأى (والرأي له) أن يجسَّ نبض المثقفين الذين حضروا العرض تجاه مقولة النص الأساسية. ولعل هذا قد حدث في عرضين فقط. أما بقية العروض، فلقد تركزت على استنطاق آراء الحضور بمختلف درجات وعيهم.


حوارات حول المسرحية

هذه مجموعة من المقالات التي نُشرتْ في الصحف والمجلات المحلية بعد عرض المسرحية.

ونظراً لما تحمله هذه المقالات من آراء تثري الحوار حول المسرحية بشكل خاص وحول المسرح المحلي بشكل عام، رأيت أن أقوم بنشرها في ملحق خاص من هذه الكرّاسة.

****



مساءلة للتجريب في مسرحية

«عندما يكتب البطل هزيمته» - د. فهد اليحيا

رب ضارة نافعة، فكان اضطراري إلى تأجيل سفري من الرياض سبباً في أن أحظى بحضور العرض الأول لمسرحية «عندما يكتب البطل هزيمته» لكاتبها سعد الدوسري، وكانت المسرحية قبل عرضها تثير جدلاً بين المتعاملين مع المسرح ذلك لكونها تنتمي للمسرح التجريبي. وبداهة ان كل جديد في بحر الثقافة الرحب لابد أن يثير جدلاً بين مناصريه ومعارضيه، وهذا الجدل ليس أمراً طبيعياً فحسب، بل هو صحي وضروري بشرط التزام الموضوعية أي الاستناد إلى العلم والعقل والابتعاد عن التشنج والأهواء الشخصية. ولأن المسرح لدينا ما زال جديداً كل الجدة هلامي الشكل مشوه الملامح فإن المسرح التجريبي يمثل إغراءً لا يقاوم سواء في ممارسته أو الجدل حوله. لذا كانت سعادتي كبيرة أن أرى المسرحية ليتسنى لي متابعة ما ينشر حولها ورأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع ورأيت أيضاً أن أعرض في عجالة للمسرحين الأرسطي والملحمي قبل الدخول إلى مناقشة مسرحية «الدوسري» لئلا يكون الكلام حولها حديثاً في الفراغ منفصلاً عن الأسس التي نشأ عليها وتطور من خلالها المسرح.


المسرح الأرسطي:

يختلف كثير من أساتذة الفن المسرحي حول بدايته ويذهب كثير منهم مثل أدوارد كريج إلى القول بأن إرهاصات هذا الفن كانت موجودة لدى الإنسان القديم متمثلة في الطقوس الدينية الجماعية عند الشعوب البدائية والاحتفالات الشعبية في مواسم الصيد والحصاد وأعياد النصر حيث كانت هذه الطقوس الاحتفالية تكرر المشاهد المكونة لثقافة تلك الجماعات البشرية ولكن جميع الباحثين يتفقون على أن أرسطو الفيلسوف الإغريقي هو أول منظر لفن المسرح وهو الذي نحت المصطلح «دراما» وبيّن أنها تنقسم إلى تراجيديا وكوميديا ووضع الأسس لكل منهما وتلاه «هوراس» في كتابه فن الشعر حيث كان الشعر لغة المسرح الاغريقي الروماني من بعده، وتبعت كل الأشكال المسرحية الشروط في البناء المسرحي حتى بدايات هذا القرن. ومع أن مسرح أرسطو كان يعرف بالوحدات الثلاث (وحدة الحدث، وحدة المكان، وحدة الزمان) إلاّ أن الباحثين اختلفوا حول الوحدة الأخيرة وفي ضرورتها في المسرح الأرسطي وظهرت أشكال من التجديد ضمن المسرح الأرسطي شمل وحدتي الزمان والمكان وأثبت على وحدة الحدث. ومن ناحية البناء المسرحي والحبكة الدرامية ظهرت مسرحيات الميلودراما والفرس والمسرح المسيحي علماً بأن هذه التنويعات لم تلغ الشروط الأساسية للمسرح الأرسطي وأهمها هو «الايهام» ليندمج المشاهد في العمل المسرحي وبتصاعد انفعاله الشعوري مع الذروة الدرامية للعمل المسرحي ليتم ما أسماه أرسطو «التطهير» لدى جمهور النظارة عند «الكشف» سواء في الكوميديا أو التراجيديا.


المسرح الملحمي:

يعد بريتولد بريخت أو التجديد في المسرح الذي قام بهدم أسس المسرح الأرسطي وبنى على أنقاضه المسرح الملحمي. ورغم أن أرسطو ( على عكس ما يعتقد به كثيرون) يؤكد على أن للمسرح دوراُ تعليمياً وهدفاً اجتماعياً (وليس مجرد فن للفن) يتمثل في أن يتعلم المشاهد أن يتجنب المنزلقات التي انزلق فيها أبطال المسرحية التي شاهدها. إلا أن بريخت رأى أن المسرح الأرسطي محدود القيمة في هذا النحو، لذا يقوم المسرح الملحمي أساساً على كسر الإيهام وإسقاط الحائط الرابع وهو الحائط الوهمي بين جمهور النظارة وخشبة المسرح. ويؤكد بريخت على أن يعي المشاهد أن ما أمامه ما هو إلا محض تمثيل وأن ما يقدم على خشبة المسرح ليس كياناً منعزلاً عنه، بل يرتبط بحياة المشاهد وواقعه المعاش وعليه أن يعمل عقله وإدراكه بصورة شعورية، لذا عمد بريخت إلى استخدام عدد من الحيل المسرحية التي تكسر الإيهام مثل استخدام الراوي الذي يعلق على الأحداث أو أن يتحرك الممثلون في أجزاء من المسرحية في قاعة المشاهدين لتصبح الصالة كلها جزءاً واحداً وليس هذا المقام بكاف لتوضيح كل أسس المسرح الملحمي.


مسرح التجريب:

أدت صناعة رأس المال إلى احتكار رؤوس الأموال الكبيرة للإنتاج الفني، واذا كانت هوليوود خير مثال للإحتكار السينمائي فإن برودواي في نيويورك هي الاحتكار المقابل في المسرح. واعتمدت مسارح برودواي على الأسماء اللامعة والأجور العالية والتقنيات الباهظة التكاليف وعلى أساليب الدعاية والإعلان، وكان اثر ذلك سيئاً على المسرح. فتغطية التكاليف والربح تؤدي إلى ارتفاع أسعار التذاكر وكذلك دخول المسرح في عجلة التجارة أدى إلى سلب المسرح للكثير من قيمه وخضوعه لشروط التجارة ومقاييسها، مما أدى إلى ظهور المسرح الفقير ومسرح «الشارع» في أمريكا. وظهرت في العالم تجارب أخرى مثل مسرح المقهى والمسرح المتجول، وهذه الأشكال الجديدة لم تكن تناطح في مسرح جديد في الشكل بقدر ما كانت تهدف إلى خلق مسرح ينعتق من قبضة السوق، ولم تحط معرفتي بمصطلح يفرق بين هذه الاتجاهات الجديدة والمسرح التجريبي. لهذا استعملت مصطلح «مسرح التجريب» ولا أقول هذا تسجيلاً لموقف ريادي، فهذا شرف لا أدعيه، ولكن أذكر هذا لئلا ينقل عني القاريء الكريم هذا المصطلح معتقداً أنه مصطلح متداول. وفي العدد «850» من مجلة اليمامة كتبت مقالة بعنوان «مع الخيل يا عربان.. ومسرح التجريب»، قلت فيه عن مسرح التجريب «ليس لمجرد البحث والحب في التجربة ذاتها، ولكن استشرافاً لنموذج جديد يلائم ظروفاً زمانية ومكانية واجتماعية محددة، وأزعم مرة أخرى أن الظروف الخاصة التي يعيشها المسرح في السعودية والحصار المعنوي والفقر المدقع في الامكانات المالية والمادية والقدرات الفنية المحدودة والتي لا نغمطها حقها، وكذلك الجمهور الذي تعود اسفاف المسرحيات التجارية شرقاً وغرباً، والتقاليد المسرحية التي لا تتجاوز المسرح المدرسي الخطابي أو حفلات السمر الكشفية الهازلة، كلها مجتمعة تحتم علينا البحث الجاد عن أشكال جديدة لا تتطلب تغريبات في البناء المسرحي، ولا تعقيدات في الإخراج، ولا انهاكاً للممثلين في الحركة والصوت، مما يؤدي إلى وأد فنانين حقيقيين في طور التكوين، وعلى سبيل التوضيح اضرب مثلا بمعماري خلاق يبني بيتاً من اللبن آية في العملية والمعمار لأنه لم يجد اسمنتاً ولا خرسانة ولا ارمسترونج.


عندما يكتب البطل هزيمته:

تبدأ المسرحية بظهور كاتب النص سعد الدوسري على خشبة المسرح ليحدث الجمهور بإيجاز عن مشاعره المضطربة تجاه أول تجربة له في المسرح، ويظهر أبطال المسرحية على الخشبة، ويستبقي المخرج، وهو بطل المسرحية أيضاً راشد الشمراني سعداً، حيث يجلس إلى جوار مساعد المخرج ناصر القصبي ومشرف الاضاءة عبد الإله السناني، ويبدأ الممثلون في التمثيل. وبين كل مشهد وآخر يتحاور المخرج مع الكاتب والمساعد حول المشاهد التالي، وأحياناً يتدخل مساعد المخرج للتوضيح، ولا يعرف المشاهد اذا ما كان الأمر من صلب المسرحية أم هو تدخل عفوي، وربما ظن البعض آنذاك أن العرض لم يكن إلا بروفة ولا بد أن منهم من ظن أن الممثلين لم يحفظوا أدوارهم كما يجب.

تدور المسرحية حول عزلة المثقف، وهذه العزلة يتحمل مسؤوليتها المثقف نفسه ذلك أن تلك العزلة تتناقض مع منطق الثقافة ودورها. فها هو بطل المسرحية بتخبط في علاقاته مع المجتمع ومع أبطال الرواية التي هو بصدد كتابتها وتتداخل المستويات الثلاث (المستوى المسرحي حيث يقف الشمراني والمستوى الفنتازي حيث يظهر أبطال الرواية المزمع كتابتها). ومن هذا التداخل وبصورة مباشرة نعرف أن ذلك المثقف يعاني من اختلاف في العلاقة مع زوجته. وفي مشهد آخر يحمل عنوان «أمسية شعرية»، تسخر المسرحية من الشعر المنفصل عن المجتمع والذي لا يعي المثقفون أمثال بطل المسرحية منه شيئاً. أما المشهد قبل الأخير فيورد حواراً بين المثقف ورئيس تحرير المطبوعة التي يعمل بها، ويأتي من ينبيء بموت أم المدينة (وهو اشارة إلى عزلة المثقف المتخبط ورمز لموته معنوياً ممثلا في انقطاع خيوط التواصل مع مجتمعه وقضيته). ويختار المخرج عدداً من الحضور للصعود على خشبة المسرح وتقديم واجب العزاء. وفجأة يختلف كاتب النص مع بطل النص عندما يعود البطل/المخرج إلى اعادة أول المشاهد والذي يعتبره الكاتب مشهداً ضبابياً غرائبياً موغلا في الإيهام وهو في نظره مدان ويجب تجاوزه. أما المخرج/ البطل فيرفض ذلك التفسير معتبراً إياه تراجعاً من قبل كاتب النص ومبطناً رؤية تختلف عن رؤية الكاتب وتؤكد ان للفن دورته الخاصة المنعزلة عن المجتمع ثم يتفق الاثنان على أن يقوم المعزون بالتحكيم بينهما (وهذا هو المشهد التلقائي الوحيد) ويتوجه المعزون في العرض الذي شهدته لتأييد كاتب النص وتنتهي المسرحية.


تحليل المسرحية:

بداية المسرحية تورد للذهن مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للإيطالي لويجي برانديللو في تجسيد الشخصيات التي في ذهن البطل على المسرح وكذلك مسرحية الفرافير ليوسف ادريس حيث يخرج المؤلف على خشبة المسرح مخاطباً الجمهور. بيد أن المخرج في مسرحية الفرافير هو من يقوم بدور المؤلف ويقوم ببطولة المسرحية ممثل آخر وذلك أمر سليم إذ أن المخرج هو المسؤول الأول عما يدور على خشبة المسرح بينما تبقى مسؤولية المؤلف في حدود النص المسرحي، ومما زاد في تعقيد مسرحية الدوسري هو قيام المخرج الشمراني بلعب الدور الرئيسي فيها وهذا ما أفقد المسرحية جزءاً من قوتها في نظري.. وان اتفقت مسرحية الدوسري مع مسرحيتي برانديللو وادريس، إلا أن ذلك الإتفاق لا يعدو الشكل والبداية فقط ثم تتخذ المسرحية منحاها الخاص.

النص بلاشك تجريبي للغاية، ولكن الإقدام على عرضه بهذا الشكل في تلك القاعة الفقيرة المسماة مسرح المركز الثقافي بالفوطة، مغامرة يتحمل تبعاتها صانعو المسرحية ولن يعفيهم المشاهد من المسائلة، إذ يحكم على مشاهدته للعمل دون النظر إلى الظروف المحيطة به (تماماً كما يحكم الممتحن عن إجابة الطالب دون أن تؤرق ضميره الظروف التي لم تساعده على المذاكرة كما يجب). والمسرحية كتبت وأخرجت لتمثل على مسرح متكامل مجهز بنظامي اضاءة وصوت متقدمين وليس على مسرح هو في الواقع قاعة محاضرات وخطابات. ولسوء الإضاءة تحولت المسرحية في معظم مشاهدها إلى تمثيلية اذاعية تعتمد على الصوت، أما الحركة فقد ضاعت في الظلام البهيم المطبق على المسرح ورؤية الوجوه المضاءة ببطاريات اليد تعتمد على بعد المشاهد عن خشبة المسرح وعلى زاوية رؤيته. واذا كانت الإضاءة ببطاريات اليد والمسلطة على وجوه الممثلين موفقة في المشاهد الفنتازية، إذ تضفي الدوائر البيضاء على الخلفية السوداء في العتمة بعداً سيكولوجياً، إلا أن ذلك التأثير يسقط في المشاهد الأخرى.

من ناحية أخرى يبدو لي أن المسرحية في سعيها إلى كسر الإيهام وقعت دون قصد في الإيهام وضاعت فكرة المسرحية في فقر الامكانات والافتقار للترابط بين المشاهد وهو الأمر الذي سعى صانعو المسرحية إلى تلافيه في الحوارات المرتجلة بين المشاهد، وازعم أن جمهور الحضور لم يتبين رابطاً بين الحوار الأخير بين الشمراني والدوسري وبقية المسرحية.

المشهد الدرامي حقيقة، والتجديد الفعلي كان في المشهد الأخير في المسرحية، أعني صعود عينة من النظارة إلى خشبة المسرح والتحكيم بين المؤلف والمخرج وهذه العملية مجردة هي حيلة ذكية وجادة لمشاركة الجمهور في المسرحية. وذلك أمر طالما دعا اليه سعد الله ونوس الكاتب السوري وقبله يوسف ادريس وغيرهما من المسرحيين، إلا أن ذلك المشهد لم يخلُ من بعض المثالب في نظري.

أولاً: أن المخرج لم يختر... في العرض الذي شهدته ... عينة عشوائية وإنما اختار سبعة من الكتّاب السعوديين، وهذا يخالف ما أعلنه صانعو المسرحية في النشرة التي وزعوها قبل العرض والتي نصت على انهم يعبأون برأي المشاهد العادي دون الناقد او المتخصص، وهذا في رأيي أمر مشروع إذ أن العمل الفني  وبالذات المسرحي يتوجه لقطاع اعرض وأعم من قطاع الكتّاب وحملة القلم، لذا لم يكن اختيار الشمراني موفقاً ومتسقاً مع هدف المسرحية.

ثانياً: أن رأي المعزين/ المحكمين لا يمكن أن يؤخذ حكماً على العمل المسرحي بقدر ما هو حكم على وجهتي النظر اللتين أبداهما الدوسري والشمراني.

ثالثاً: ذلك الحوار كان من المفروض أن يكون أكثر تلقائيةً، وهذا يتم في أن تنقطع صلة الكاتب بالنص بعد تسليمه للمخرج وان لا يحضر المؤلف البروفات ولكن يشاهد العمل لأول مرة عند العرض الأول وهنا يتضح التناقض أو التوافق بين رؤيتي المؤلف والمخرج.

رابعاً: تحديد التحكيم بين وجهتي نظر هو في الواقع تحديد لمساحة الاختيار.. ماذا سيفعل المؤلف والمخرج لو ان قسماً من المعزين/ المحكمين أدار ظهره ولم يحكم بينهما لوجود رأي ثالث يراه.


بين التجربة والتجريب:

يبدو لي أن هناك لبساً وقع فيه صانعو المسرحية إذ خلطوا في التجريب أمراً لا يتفق معه، وهو ان يجرب كل فرد حظه في شيء جديد، فهي التجربة الأولى لسعد في التأليف المسرحي والتجربة الأولى لراشد في الإخراج ولناصر في المساعدة في الإخراج والأولى لعبد الإله في «عدم الإضاءة»، حيث تولى المدعو بشير إضاءة القاعة عند الطلب وتولى الممثلون إضاءة بعضهم البعض بمصابيح اليد إلا فيما ندر، أما الممثلون فهم من الهواة، وان اختلفت تجاربهم باستثناء عبدالرحمن الرقراق خريج المعهد العالي للفنون المسرحية.

ومن ناحية أخرى يبدو لي أن المجموعة المنفذة لم تتفق حول الفكرة بقدر ما اتفقت على الإضطلاع بالمسرحية. فالنشرة التي وزعت قبل العرض حملت تواقيع تباينت في مراميها من طموحات ذاتية مثل حلم خالد السالم بمرسيدس 500 إلى استعداد الرقراق لدفع كامل عمره لكي يستمروا وسعد الدوسري في عبارة ضبابية «لا توجد أماكن شاغرة». ونظراً لأن المسرحية تقدم في مجتمع لا يملك ثقافة مسرحية ولا يعرف تقاليد مسرحية، كان من الأفضل أن تحوي النشرة على ملاحظات وتوضيحات حول فكرة العمل المسرحي المعروض وإخراجه بدلاً من إخبارهم ذلك مباشرة وبصورة مملة وساذجة بين مشاهد المسرحية.


خاتمة لابد منها:

من الصعب التوسع في إيراد الملاحظات سلباً وإيجاباً حول المسرحية المذكورة، ومن الظلم تسفيه الجهد الذي بذله منفذو المسرحية. فلا ننسى الجهد الكبير الذي بذلوه ولا الليالي الطوال التي سهروها في البروفات، وقد حضرت واحدة منها. وليس المحزن هو تلك الامكانات الضئيلة التي وفرت لهم لإنجاز المسرحية، فالخشبة التي مثلت المستوى الفنتازي لم تكن إلا الجسر الذي كان جزءاً من ديكور مسرحية سابقة، وهذه الخشبة السيئة أماتت الأجزاء الحية من المسرحية وحدّت من مساحة الحركة.

إن التطبيل تحت مسمى التشجيع، والهدم تحت اسم الدفاع، وجهان لعملة واحدة هي الرداءة،  ويبدو لي أن الحل الأمثل لواقعنا المسرحي هو تشجيع كل المحاولات، تقليدية كانت أم مجددة، وهذا التشجيع هو بدعم كل محاولة،  ولو مالياً من جيوب المحبين، لظهور العمل، ثم النقد الجاد وتبيان جوانب النقص والكمال فيه. وهذان الشكلان من التشجيع، كفيلان بالوصول إلى الأشكال المناسبة في هذا الواقع غير المناسب لإيجاد بداية حقيقية لمسرح يفجر القدرات ويستثمرها ولا يجعلها حكراً على القادرين.


د. فهد اليحيا

طبيب نفسي وكاتب مهتم بالمسرح

جريدة الرياض الخميس 18 شعبان 1407 هـ

17 أبريل 1987 مـ


تفاصيل قصيرة عن مسرحية: عندما يكتب البطل هزيمته - صالح الشهوان

أثارت مسرحية «عندما يكتب البطل هزيمته» للزميل سعد الدوسري في عروضها المحدودة جداً شهية للحديث عن المسرح على نحو مغاير لمسار النقاشات التي أعقبت العروض في المسرحيات السابقة.. على ندرتها!!

وقد أتيح لي أن أسمع عن قرب وأن أقرأ أيضاً التعليقات التي تداعت على هامش مسرحية الدوسري. كما أتيح لي كذلك مشاهدة العرض المسرحي.. وكل هذا كوّن عندي عدة ملاحظات.. رأيت تسجيلها على النحو التالي:

* وثائقياً.. فالمسرحية العمل التجريبي الأول الذي يتحمل تبعته راشد الشمراني أكثر من سعد الدوسري.

* ووثائقياً أيضاً.. يأتي الدوسري الثاني في الترتيب كقاص يلجأ للمسرح بعد القاص عبد العزيز الصقعبي إذ هو أيضاً سبق له خوض هذه التجربة..

* فنياً.. أرى أن الشمراني قد وفق في إخراج المسرحية على نحو يخدم النص.

فالشكل التجريبي بمستوياته الفنتازية الثلاثة، والصمت الأكثر من الحوار، والظلام الدامس مع الضوء الشحيح، وإسقاط الحائط الرابع بحيلة البروفة، والأقنعة والتحكيم، كل هذه مجتمعة قامت بتعميق حالة اللاتوصيل بقصد التوصيل.. بمعنى أن هذا الابهام المفتعل نقل المشاهد إلى درجة عالية من التقلب وبالتالي الاحساس بالاغتراب وحالة العزلة التي يعانيها البطل بهزيمته أزاء كل من حاول التغلب عليه ولم يفلح!!

* الذين أدانوا الشكل بحجة أن التجريب غير هذا الذي تم، كانوا، على الأقل من وجهة نظري، يفترضون «مشكلات محددة» للتجريب وهو افتراض يهدم مسرح التجريب من أساسه لأنه بشكل أو بآخر يقول بصيغ «جاهزة» لهذا النوع من المسرح، الأمر الذي يتعارض بحدة مع التجريب باحتمالاته اللانهائية، وبالتالي فإن الشكل الذي تمسرحت به مسرحية الدوسري لا يمكن اعتباره إلا تجريباً.. وانه اذا لم يكن كذلك فلن نجد اسماً له، ولو نحن حاولنا أن نخلع عليه أي اسم، فلن يكون هذا الاسم إلا ابناً باراً لرائد التجريب «بريخت» كما ألمح الدكتور فهد اليحيا في «مساءلته» للمسرحية!!

* على أن هناك تحفظاً غمغم به البعض حول هذا العرض بغرائبية، مرده الخوف من استمرار هذا النوع من العرض المسرحي الذي هو في نهاية وبداية أي تحليل، ما هو إلا «نخبوي»، بمعنى أنه «ترف ثقافي» أو «ترف ذهني» أو «لياقة عقلية» تخص قطاع المثقفين أكثر من غيرهم وبالتالي فخطورته تتمثل ليس فقط في كونه يمارس «مزايدة» بحق المسرح الاجتماعي وإنما بكونه أيضاً وهو «يزايد»، يفتعل تشكيل شريحة بشرية «هم المثقفون»، تنعزل رويداً عن هموم الناس بحجة الذوق الفني، أي أنه في ذات الوقت يقوم تلقائياً بعملية إقصاء للدور الفعلي للمسرح.. هذا «التحفظ» على وجاهته وعلى ما يبدو عليه من عقلانية لا أرى إلا أنه «تضخيم» لاحتمال هو كغيره من الاحتمالات التي، لو سمحنا لانفسنا بأن نتمادى فيها لما صار لنا أمل بأن نعلق على مثقفي الأمة أي دور.. ذلك أن مثل هذا التحفظ يلغي أو «يغفل» حساسية المثقف الواعي ودأبه في البحث عن صيغ وأشكال وأساليب ومنافذ للتواصل مع المجتمع.. نعم.. هذا التحفظ يشكك ...على نحو بريء ... بعقلية المبدع ويفترضها على قدر كبير سهلة الوقوع في الاغراءات، وهو افتراض، لو تأملناه بصدق، لأخجلنا من أن نصل بأنفسنا كبشر.. فما بال المثقفين إلى هذا الحد من الاستهانة بالعقول!!

* الذين يبدون أبداً خشيتهم من انفضاض الجمهور من حول المسرح بسبب من رداءة الأعمال أو بسبب من غموضها اتخذوا من مسرحية الدوسري فرصة لتأكيد هذه الخشية.. واذا كنا نقف باستمرار ضد الأعمال الرديئة القائمة على الإضحاك والاسفاف وقشور القول وغبار اللغة فانه لا مجال أبداً للجمع بينهما وبين أعمال توصم بالغموض، ففرق كبير جداً بين الحالتين. ونظن أن جمهورنا ينفض بسبب من الرداءة في الأعمال المقدمة هو جمهور على درجة من الوعي تشده إلى الكراسي لفك رموز ما يوصم بالغامض من أعمال على أن الخشية من اللاجمهور قد تدعو أيضاً إلى محاباته ومن ثم الخضوع له شكلياً وتقديم أعمال رتيبة ومكررة كالتي تكرسها المسارح المدرسية بسبب من انعدام الثقافة المسرحية الحقة. وهذا يقودنا إلى أن الحرص على جذب الجمهور إلى المسرح مطلب مهم لكنه يجب ألا يأتي على حساب «معنى المسرح». إن جمهور المسرح عادة يولد من خلال الحركة المسرحية الجادة، ومتى ما تواترت المسرحيات الجادة فلن يبقى للخوف في نفوسنا مكان ولن نحتاج إلى البحث عن طرق يعتاد الناس بها ارتياد المسرح، أو طرق تمنعه من الانفضاض من حوله.

* يبقى أن أقول أن «المغامرة» المسرحية التي قام بها الشمراني والدوسري وناصر القصبي والسناني وغيرهم في «عندما يكتب البطل هزيمته» على الرغم من كل ما قيل فيها من سلبيات تظل ايجابيتها الأهم كونها أثارت في النفوس رغبة الحديث عن المسرح، وهي رغبة تشي بالمسرح القائم في الأذهان والذي ننتظر انفراج الستارة عنه لكي يراه الجمهور.


صالح الشهوان

رئيس القسم الثقافي بجريدة الرياض

جريدة الرياض  الاثنين 22 شعبان 1407 هـ

21 أبريل 1987 مـ



عندما يكتب البطل هزيمته..

بين فن المسرح وغيابه - سمعان العاني

عرض مؤخراً على مسرح المركز الثقافي بالرياض نص أدبي قصير ممسرح بعنوان (عندما يكتب البطل هزيمته) للقاص سعد الدوسري وإخراج راشد الشمراني.

وذكر فريق العمل بأن المسرحية عرضت بمناسبة الإحتفال بيوم المسرح العالمي 26 آذار (مارس) وفي الحقيقة هو 27 آذار (مارس) وليس 26 - للمعلومية فقط -.

واعتباره نصاً أدبياً ممسرحاً.. هو في الحقيقة محاولة واجتهاد من الكاتب لطرق أبواب التأليف المسرحي.

والعمل بصورة عامة هو تجربة مسرحية مختصة جداً تصلح للمتخصصين بالمسرح وبعض الذين يمتلكون فهماً جيداً لأمور المسرح. وبعد نهاية العرض تجري مناقشة من أجل الوصول إلى الهدف والنتيجة المرسومة للمتلقين لذلك العمل والعاملين فيه.. على شكل ندوة موسعة ومنظم لها - هذا ما كان يجب أن يكون - والتجارب الشبيهة بهذه لا تحتمل أكثر من عرض ليلة واحدة ثم مناقشة العمل.

الحقيقة كان هناك دافع قوي وراء كتابة هذا الموضوع، وهو ما حدث من ردود فعل قاسية من قبل الجمهور أثناء عرض المسرحية في (الجنادرية) - أن يمر المسرح بهذا الموقف - هنا يجب علينا أن نتوقف قليلاً.. ونتساءل معاً!

من كان موقفه سليماً؟ نحن أم الجمهور؟ أم أن خطأ الإختيار هو السبب؟ والمؤلم أكثر عندما طلب الأخ راشد الشمراني مخرج العرض - من الحضور - وكان عددهم بالمئات، أن يرفعوا أيديهم إذا لم يفهموا المسرحية، فرفعت الأيدي لتكون 90% من نسبة الحضور. أكرر 90 تقريباً. هذا العدد هو شريحة من المجتمع تتم من خلاله إحصائيات واستفتاءات لأي شيء من أمور الحياة، علينا التريث قليلاً ودراسة الموضوع جيداً، ولا نتعجل فالمسرح باق ببقاء الإنسان.

أما ردود فعل عرض المسرحية بالمركز الثقافي فكان هادئاً.

التجربة بحد ذاتها محاولة للخروج على المألوف مضموناً وشكلاً، ذلك لأن عموم الذين شاهدوها تخلخل لديهم الوعي الثقافي والمسرحي، أي أنه من الصعب الوصول إلى تفسير واضح ومتكامل لهذا العرض، لطبيعة النص وخصوصية الموضوع.

وهذا ما لمسه فريق العمل لدى الجمهور، وتوصل اليه الكاتب والمخرج مما اضطر معه إلى اجراء مناقشة نقدية للعمل من خلال (المشهد الأخير) - والذي جمع الكاتب وبطله - لتوضيح الرؤية عند الجميع عند المنفذين والجمهور.

إن أهداف المسرح وعناصره وخواصه وقواعده لا يمكن تجاوزها لتحقيق هدف ذاتي بحت، وان مسألة الفهم تبقى ضرورية، والعمل الفني الذي لا يصل إلى الجمهور يظل محدود الانتشار ومحدود التأثير، وهذا هو الهدف الاساسي للعمل المسرحي. لقد غاب الحدث، والمسرح ليس إلا أحداث - حتى المسرح العبثي والتجريبي - يعتمد على فكرة (أو نقطة ضوء) تدور حولها الأحداث. وفي هذا العمل ليس هناك حدث مركزي واضح المعالم، وعليه فإن هذه النماذج (التجارب) لا تصلح أن تكون صوتاً للواقع المسرحي، وإنما هي انفعالات ذاتية ليس من السهل طرحها لمجرد النشر فكيف يجوز تقديمها كمسرح.

لقد سيطرت فكرة الضبابية والعبثية على جو العرض، وكان الشكل بالإخراج والأداء مكملاً للسيطرة الذهنية على العمل. إذن ما الهدف من وراء هذه الضبابية والهلامية والعبثية؟ هل المسرح العربي - وبخاصة السعودي - بحاجة لهذا النوع من المسرح؟ المسرح للإنسان والمجتمع، وواقعنا العربي لا يحتمل إلا الواقع ومجاراة الأحداث فيه. إنها تجربة استقطبت مفاهيمنا ومستوانا وإدراكنا الثقافي والمسرحي، ولكن هل دخلت إلى اسرار الواقع الحالي للإنسان والمجتمع. نحن لسنا ضد أية محاولة للتجربة على المسرح ولا ضد أي نوع من المسرحيات، ولكن أن يبتعد عن الناس ويصبح المسرح السعودي مختبراً ذا زمن حديث وشكل حديث لتطرح فيه صرعات خاصة قديمة أصبحت بالية في المسرح العالمي كصرعات (العبثية - الغضب - الصوفية - الرمزية وغيرها) تحت ستار المسرح التجريبي.

من المعلوم أن مشكلة الإنسان في المجتمع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية بل وحتى فترة الخمسينات، هي الرفض الكامل للمجتمع، ولم يعد البطل «اللامنتمي» كما صوره (كولن ولسن) هو الموضة في الفترات الأخيرة.

اختفى مسرح العبث واللامعقول وأصبح مجرد نصوص تدرس في الجامعات والمدارس على إنها كانت نماذج ممتازة للأدب والمسرح، رافقت مرحلة معينة من مراحل تطور الإنسان. لقد اختفى إحساس الإنسان المعاصر بعدم الانتماء وأصبح شديد البحث عن المعقول والمنطق.

المسرح العالمي الآن عاد إلى الواقعية والأسلوب في التعمير الدرامي، وتخلى عن الرمزية المعقدة والغموض والتناقضات للمواقف الدرامية، العودة إلى الروافد الأصلية - إلى الواقعية - فيها العلاقات الإنسانية منطقية ومفهومة، العلاقات بين البشر من خلال الشخصيات المسرحية قائمة ومنطقية، والتطور للحدث متسلسل ومنطقي ويكشف معناه.

يقال أن (هارولد بنتر) والذي يعتبر من أفضل كتّاب المسرح الانكليزي قد طلّق دراما الرموز الغامضة والشخصيات المعقدة والمتناقضة والأحداث غير المفهومة والرؤية الضبابية الحالمة، واقترن بدراما الواقع، لأن الكاتب المسرحي في العالم أجمع بدأ يعالج ويطرح ويبحث عن النظام والمنطق والمعقولية وسط عالم يفتقر إلى هذه الأشياء.

أروي لكم هذه الحادثة: حدث مرة في أحد المعارض التشكيلية أن أحد الفنانين قد نحت تمثالاً لرجل، معبراً فيه عن براعته في النحت من - خلال الحجم والحركة والتكوين - وفي أثناء الاستعداد لإفتتاح المعرض من قبل أحد المسؤولين - سقط التمثال سهواً وتكسر إلى عدة قطع - فما كان من هذا الفنان، إلا أنه جمع قطع التمثال وركّبها على القاعدة المخصصة له.

جاء المسؤول وبدأ التجوال داخل المعرض، وصل للتمثال والفنان بجانبه. استغرب المسؤول واستفسر عن الوضع الذي فيه التمثال، فرد عليه الفنان: إنني أعبّر وأرمز في هذا التمثال عن الإنسانية المعذبة والمحطمة.

وهذه الحادثة لا نريد أن تنتقل عدواها إلى المسرح. أعود مرة أخرى وأكرر ما كتبته في هذه الصفحة الفنية - قبل مدة قريبة - حول المسرح حيث قلت: التريث قليلاً في إطلاق المصطلحات الفنية الكبيرة، على ما قدم وسيقدم. فالمسرح من الإنسان وللإنسان، ومن المجتمع ينبع وفيه يصب». هاك مثال لذلك: ما حدث لتغطية العمل المسرحي «اللعبة» والتي عرضت في الطائف وعلى صفحات جريدة الجزيرة - صفحة فنون العدد 2550 يوم الخميس 14/6/1407 هـ فقد حُمّل العمل المصطلحات التالية: وهي «المسرحية» نمط مسرحي فريد - من المسرح الملحمي التلقائي، مزج بدراما إنسانية تراجيدية (مأساوية) وكوميدية (ساخرة). تعبير آخر (الإضاءة، راعت إلى حد ما البعد السيكولوجي، وكان يفترض أن تكون (إشارة) لأن واقع النص مأساوي أسود، والإضاءة الديكورية جاءت وردية حالمة.

تعبير ثالث (المذهب التعبيري للممثلين جيد، عبّر بصدق عن المذهب الملحمي للنص .. القصائد .. والاغاني والأهازيج .. اختيرت لتكريس (العبثية) انتهى . هذا ما أردت تبيانه من خلال هذه الأسطر المتواضعة. ومرة أخرى نبارك التجربة المسرحية كمسرحية (عندما يكتب البطل هزيمته) ونبارك للمؤلف وللمخرج ومن شارك فيها، وكل ما يتطلب منا قبل كتابة وتنفيذ أية مسرحية أن نتساءل؟ لمن؟ ومتى؟ وكيف؟ حتى نحقق الهدف الذي يسعى من أجله كل من اعتبر المسرح قضية تخدم الإنسان والمجتمع.ملاحظة أخيرة: قال شكسبير على لسان احدى شخصياته: «ما الدنيا إلاّ مسرح كبير ونحن الممثلين فيه».

وقال ناظم حكمت على لسان احدى شخصياته أيضاً: «اذا أنا لم أحترق وأنت لم تحترق ونحن لم نحترق فمن يبدد الظلمات».


سمعان العاني

مخرج مسرحي بجمعية الثقافة والفنون

جريدة الرياض الخميس 11 شعبان 1407 هـ

10 أبريل 1987 مـ


جدل البطل وهزيمته - عبد العزيز الجارالله

«عندما يكتب البطل هزيمته» مسرحية تجريبية قدمت خلال الأيام الماضية على «مسرح» المركز الثقافي بالرياض ابتداء من يوم الخميس 26 رجب، 26 مارس والذي يوافق يوم المسرح العالمي وحتى يوم الاثنين 30 مارس، كتبها القاص سعد الدوسري كتجربة أولى بالمسرح وأخرجها الممثل راشد الشمراني وهو أيضاً تجربة أولى بالإخراج المسرحي.

أبطال المسرحية يوسف الجراح، عبدالرحمن الرقراق، خالد السالم، عادل قباني، راشد الشمراني، مساعد مخرج ناصر القصبي، فني صوت الممثل عبد الإله السناني، مهندس ديكور حسن الحمدان.. «وعندما يكتب البطل» مسرحية تتحدث عن التجربة الضبابية التي مر بها مؤلف النص سعد الدوسري قبل الشروع بالتواصل مع الناس ولرفض المؤلف لهذه المرحلة الضبابية - والتي يقول عنها إنها تجربة جيل كامل - قدم هذا العمل التجريبي حتى يؤكد ضبابية المرحلة السابقة. ويعتبر هذا العمل تجربة شخصية بحتة للكاتب - رغم انها تجربة جيل -كما يراه المؤلف وفريق العمل - لكن تحدي المؤلف واستيعاب المخرج للعمل كان وراء تحديد هوية التجربة وادخالها في دائرة لا تقبل التأويل. فخطوة الامام التي قررها فريق العمل سحقت خطوة التراجع.

المؤلف الدوسري يقف على المسرح ليلقي الضوء على ظروف كتابة المسرحية وبعض الجوانب التي دفعته للمسرح وطبعاً ظهور المؤلف جزء من العمل نفسه، وهذا ما يراه المخرج بتقديم المؤلف للجمهور والتعريف بصاحب التجربة.

ومن الجدل الذي أثارته المسرحية، والذي اعتقده، لماذا يظهر المؤلف سعد الدوسري صاحب التجربة، اذا كانت تجربة جيل؟ وبالمقابل ما يحمله المؤلف من رد مقنع وقوي لكن لابد من طرح السؤال، وأيضاً لماذا يصر المخرج الشمراني على أن يحدد صاحب التجربة بالاسم ويطلب منه المشاركة ويخرجه على المسرح ليطرح قضيته- كان بالامكان أن يشارك المؤلف باسم فني وتكون التجربة لـ «سين من الناس» أو كاتب يختفي خلف السطور لا يكون «شريحة» ماثلة أمام الجمهور، فبالتأكيد أن هذه النقطة بالذات تعرضت لنقاش طويل حتى وصل المؤلف بالذات إلى قناعة مكّنته من القبول والوقوف مع القرار.

دخل المؤلف التجربة بتحد ليتعرى أمام الجمهور عن تجربته الخاصة في تلك المرحلة الغامضة من حياته والتي كانت كما يصورها ضبابية، تجربته الاجتماعية - الحياة الزوجية - تجربته الصحفية - أو الدائرة الاعلامية -موقفه من الثقافة. وهنا يتجرأ المخرج ليدفع بالمؤلف إلى الجمهور ويجعله يتحدث عن تلك التجارب، ويغفل فكرة «سين من الناس» فتظهر شجاعة الكاتب مؤلف النص ونضجه وإحساسه بالمسؤولية الثقافية وأيضاً قدرته على التملك ودفع الأشياء إلى الامام.

المسرحية تبدأ مشاهدها «بالعتمة» والظلام طوال العرض تقريباً ليؤكد المخرج على ضبابية المرحلة و»التلاعب» بالإضاءة المركزية للصالة بإرهاق الجمهور واستفزاز هدوئهم من خلال الإضاءة العالية والظلام الحالك وكثرة المداخلات من فريق العمل الفني والقطع السريع ومشاركة مهندس الديكور ومساعد المخرج  وحركة فني الصوت، ما هي إلا محاولة لاستفزاز وإزعاج و»إرباك» المتلقي حتى يصل إلى الضبابية التي كان يعيشها المؤلف. ولو رجعنا إلى ما قبل العرض لشعرنا بالمفاجأة خارج القاعة. الوضع في اللحظات التي سبقت الإفتتاح كانت «عادية جداً» لدرجة إنك تشك وأنت خارج الصالة أن الليلة هو العرض الأول للمسرحية وأيضاً المسرح عادي على غير عادته في العروض السابقة، كما أن الوجوه داخل الصالة هي الأخرى أكثر من عادية رغم تحفزها، فالشعور أن هناك حفلة شاي أو اجتماعاً مصغراً يعد له ترتيب مسبق.

وبالفعل المسرحية لم تحفل أو تحظى باهتمام المسؤولين بالجمعية، فالدعوات لم  تحفل أو تحظى باهتمام المسؤولين بالجمعية. فالدعوات لم تصل إلى الكثيرين، إنما اجتهادات شخصية من الممثلين لدعوة الضيوف، فكانت الوجوه المتواجدة بالصالة من تلك التي ألفتها العين من أدباء وصحفيين وكتّاب وفنانين ومن لهم اهتمامات بالفن ومن لهم علاقة بفريق المسرح وللتجربة نفسها. بطاقات الدعوة «سحبت» على ورق أبيض ولم توزع إلا يوم الإفتتاح، كتب على هامش الدعوة بعض الجنون الجميل الذي لا ينفصل بالتأكيد عن العمل، مثلاً: «لعدم وجود إمكانية لعمل ديكور فقد قرر المخرج وضعي كديكور على الخشبة، عذراًمهندس الديكور حسن الحمدان». وهنا نسأل ما هو موقف الجمعية من المسرحية ولماذا لم يعد المسرح إعداداً لائقاًً؟ الإهمال الذي لقيه فريق المسرحية اضطرهم إلى تقديم المسرحية بدون ديكور ولا مؤثرات إضاءة ولا مؤثرات الصوت. فمتابع العمل يحتاج إلى جهد كبير لضعف الإضاءة والصوت، ولتجريبية العمل، فقد كان الفريق الفني على يمين الخشبة: الحمدان مهندس ديكور، السناني فني الإضاءة، القصبي مساعد مخرج، المؤلف سعد الدوسري، والمسرحية أشبه ما تكون بالبروفة النهائية. جهاز الموسيقى التصويرية فوق طاولة الفريق الفني وكذلك فناجين وثلاجة الشاي وخيوط دخان السجائر وأعقاب السجائر، وقد أهملت الأشياء بشكل فوضوي على الخشبة، نفايات الديكور وعلب البويا والدهانات وفرشة الدهان، وخلفية سوداء وبقايا «الأكسسوار» لمسرحية «واحد صفر» والتي قُدمتْ قبل عام. طبعاً هذه الأشياء كانت موجودة وبالامكان التخلص من النفايات والدهانات وبعض الأشياء، لكن المخرج أصر على بقائها ليحافظ على هوية التجريب ويعطيها ذلك البعد الذي نستطيع له أن نربط ما بين ديكور واكسسوارات المسرحية والعمل نفسه ورؤية المخرج والهامش الذي ارفق بالدعوة.


الإخراج:

الشمراني عُرف كممثل بفريق جامعة الملك سعود وجمعية الثقافة والفنون، وثانياً ككاتب مسرحي، قدم مسرحية «مع الخيل يا عربان» والتي عُرضت بمهرجان الكويت ووصفها النقاد بأنها العمل الأول للمسرح السعودي، ثم مسرحية «ابن زريق» ومسرحية «عويس التاسع عشر» والتي قدمت بدمشق.

«عندما يكتب» هي التجربة الأولى بالمسرح، فكانت تجربة صعبة للمخرج لكونها التجربة الأولى، ولصعوبة النص لأنه يتعامل مع مؤلف «كاتب قصة» ولم يكن متخصصاً بالمسرح وأيضاً لقوة وجرأة النص. والعلاقة القوية التي تربط ما بين المؤلف والمخرج وانصهارهما بالتجربة كان لها مردود جيد على العمل، فكان استيعاب الشمراني ظاهراً على العمل، ولم يسحق المؤلف من خلال رؤيته للعمل ولكنه حافظ عليه بحيث يكون للمؤلف حضور دائم» فكانت رؤية الشمراني بطولة جديدة للنص، فاستخدامه «للكشافات اليدوية» ولحالة التعتيم والظلام وتأكيد بعض المشاهد من خلال إعادة البروفات وشرحها لبعض المشاهد كانت بطولة إخراجية جديدة تنضم إلى النص الجيد. فعن طريق الصالة استطاع أن يشبع مشاهد الضبابية و»كشافات اليد» أغنت الإبداع في محاولة للتركيز على الحدث وإبرازه وإحراق المساحة المجاورة ومحاصرة الحدث داخل دائرة ضوئية ضيقة وذات تأثير من «كشاف اليد». ولكن شيئاً ما قد اختلط في ذهن بعض الجمهور هو التداخل ما بين المؤلف والبطل الذي حاول الشمراني في بداية المسرحية توضيحه عندما طلب من المؤلف على خشبة المسرح تحديد مستوى المؤلف على الخشبة ومن البطل. فالمخرج الشمراني قام بدور المؤلف بطل النص - أي بطل المؤلف - مما أوجد خللا في متابعة التسلسل الدرامي والخلط ما بين المؤلف والبطل.

وقد وفق الشمراني في عملية الربط بين المشاهد وأحداث المسرحية على الرغم من سرعة البديهة أو الفلاشات السريعة التي أرسلها المخرج للمتلقي، وهذه النقطة أثارت بعض النقاش حول سرعة التنقل بين المشاهد وعدم إعطاء الفرصة للمتلقي ليتشبع وينغمس بالتفاعلات الدرامية. ولكون العمل تجريبياً جاءت الأشياء تجريبية، عبد الإله السناني فني الإضاءة من على خشبة المسرح يبتسم ويعطي تعليماته لمشغل الإضاءة، كذلك ناصر القصبي مساعد المخرج، يساعد المخرج في شرح الحركة التي أخطأ فيها الممثل فيقدم الحركة بطريقة كوميدية لطيفة. لكن المخرج يُضيّق المساحة على القصبي للمحافظة على هيكل العمل الجاد، لكن ذلك لا يمنع من مشاركة المخرج نفسه في التعليقات الجانبية على حركات بعض الممثلين، كما يحدث فعلاً بالبروفة بالاضافة إلى مخاطبة الجمهور ببعض التعليقات.

والعمل يأخذ الجانب الجاد والملتزم رغم القدرة على تحويله إلى عمل كوميدي ساخر لوجود أكثر من عنصر كوميدي بالمسرحية ولقدرة الممثلين على التعبير بشكل ساخر لتلك المرحلة المرفوضة من المؤلف. لكن المؤلف والمخرج قدما العمل بالشكل الذي يتناسب مع التجربة نفسها، وعبر عنها سعد الدوسري في المشهد الأخير «العزاء» عندما اختلف مع بطل المسرحية حول الاستمرار بالضبابية أو التواصل مع الناس. فقال المؤلف: ان الضبابية كانت لعدم نضوج الكاتب، لذلك خرجت الكتابة غامضة جداً ذات رؤية مشوشة والبطل الذي يود الاستمرار «لرفع مستوى ثقافة الناس» وليس الغوص فيهم. لكن السؤال هل الضبابية والتي أطلق عليها الدوسري المؤلف هي فعلاً ضبابية وأن طلاقها سيكون بشكل نهائي والتوغل في التواصل مع الناس والمجتمع، ويعبر بالتواصل بمشاركة الناس في حياتهم اليومية والرقص معهم والانغماس فيهم. فهل كان المؤلف منفصلاً في الفترة التي يطلق عليها ضبابية رغم أنها هي المرحلة التي كونت المؤلف ككاتب قصة وهي التي مهدت لولادته ورفضها بهذا الشكل الحاد، سيثير التساؤل عند الكثيرين، لكن ما قدم هي رؤية المؤلف والمخرج، مشهد العزاء الذي يختار المخرج سبعة من الحضور لعزاء المرحلة الضبابية، رؤية إخراجية من الشمراني لمشاركة الجمهور العمل. وبالطبع كما يقول المؤلف على المسرح لا نريد أن نحتكم إلى هؤلاء بل إلى الناس جميعاً، كل الناس وليس بانتقاء الأشخاص، وهذه النقطة المهمة، الاحتكام إلى الناس، أن يكونوا هم حكام المرحلة المقبلة وليس انتقاء «الصفوة» فالناس ستقول رأيها حول التواصل وماذا يود أن يقدم المؤلف الدوسري للناس وخاصة بالمسرح بعد أن قرر التواصل معهم. كذلك ماذا قرر الشمراني وهو صاحب الرؤية الاخراجية أن يقدم للناس بعد أن قرر التواصل؟ والمسرحية فيما أعتقده من المفترض أن تكون ذات تواصل للناس لولا رؤية الشمراني الخاصة في تأكيد الضبابية أو المرحلة المؤلمة في حياة المؤلف وأيضاً لتسويه المرحلة الغامضة التي أوشكت أن تؤدي بالمؤلف إلى الدمار والانهيار على حد قول بعض الراصدين.

وبقيت نقطة لابد من الإشارة إليها لأهميتها، ليس بالأمر السهل أن يقف الكاتب أمام المسرح والناس يتعرى ويتحدث عن تجربته الشخصية المؤلمة التي مر بها، وتتمركز الصعوبة عندما يذكر التجربة كوحدة متكاملة ويرفض تجزئة التجربة الثقافية والتجربة الاجتماعية التي تدخل ضمن خصوصيات الكاتب ويحتفظ عليها، فالأدب المكشوف مؤلم للكثيرين هيكله وتفاصيله والمؤلف كان شجاعاً عندما رفض «سين من الناس» الذي خاف منه الكثيرون وتحفظ عليه الأدباء والعامة واغتالوا هذا السر داخلهم حتى يظهروا أمام الناس «ملمعين» ومزركشين كواجهات الرخام وبريق كل المعادن والأحجار الكريمة المشعة.


عبد العزيز الجارالله

محرر صفحات الفن بجريدة الرياض

الخميس 4 شعبان 1407 هـ

3 ابريل 1987 م



لقد كتبت نهاية الجمهور بيدك - وليد نجم

اذا قدمنا لطفل رضيع حليباً يختلف عن حليب أمه، تكون النتيجة أحياناً قتله. فما بالكم لو قدمنا للرضيع وجبة، تحوي على عناصر غير قابلة لا للإنسجام، ولا للهضم في معدته، أليس هذا كافياً لقتله؟!

لعلّي من خلال هذا المثال البسيط، يمكن أن أدخل إلى العرض المسرحي الذي كتبه سعد الدوسري، وأخرجه راشد الشمراني، فقد قدما وجبة بمنتهى الغرابة لجمهور لم يعتد أصلاً على هضمها، ولا حتى تقبل شكلها وأعني بذلك المسرحية التي قدمت على مسرح الجنادرية مؤخراً.

في البداية أحب أن أؤكد بأنني لا أتهم الجمهور بالطفولة المسرحية، بل يجب أن نعترف بالحقائق، فالمسرح أصلاً في المملكة العربية السعودية ما يزال يتلمس دربه واذا أردنا أن نجامله نقول بأنه مسرح يحبو.

فكيف يغامر سعد بكتابة نص ليعرض في الجنادرية؟ والأغرب من ذلك كتب نصاً تجريبياً، يحتاج لجمهور عريق في المسرح، بل يمكن أن نصنفه بجمهور النخبة.

فكيف يغامر راشد الشمراني بإخراج مثل هذا النص، والأغرب من ذلك يقدمه على مسرح الجنادرية.

المسألة تحتاج إلى أكثر من وقفة، والذي دفعني للكتابة حرصي الشديد على سعد واحترامي لامكانيات راشد.

فكرة المسرحية، تتلخص بإنسان يكتشف بعد زمن بأنه فاشل أو محبط، بمجابهة الواقع، ويحمل نفسه أسباب الفشل او الاحباط، ثم يطرح العودة للحياة بأسلوب جديد، لعل هذا ما استطعت أن أنتشله أثناء عرض النص في الجنادرية. وأعترف بأنني لم أقرأ النص، لذا لن أدخل في حبكته الدرامية، ولا حواره، بل سأكتفي في الفكرة التجريبية، وأحاول أن أربط بينها وبين الجمهور.

بعد خمس دقائق من العرض، بدأ الجمهور بالاحتجاج بطريقة ذكية، لعل من كان يقف على المسرح أدركها. راح الجمهور يتهامس، وكأنه يرفض استمرار العرض.

وبعد ربع ساعة بدأ قسم من الجهور بالانسحاب من الصالة، أما الباقي من الجمهور فقد كان ينتظر لحظة الخلاص بفارغ الصبر، حتى تحقق له ذلك. عندما أكد المخرج أو مساعده - لم أعد أذكر - بأن المشهد المقدم هو آخر مشهد وأقسم على ذلك!!

وابتدأت مراسم العزاء، طلب المخرج من بعض الحضور الصعود إلى خشبة المسرح للعزاء وكنت مرغماً أن أكون واحداً منهم، لأنني محرج من هذا العزاء، بل أكره العزاء أصلاً.

وعندما طلب المخرج من جمهور المعزين أن ينقسموا بين مؤيد ومعارض لما طرح في المسرحية احتار الجمهور إلى أي صف يقف، بل بعضهم طلب من المخرج أن يدله على المكان؟!

ببساطة هذا ما جرى في المسرح سواء على صنعته او في صالته.

الآن يمكن أن أناقش سعداً بهدوء:

على منصة المسرح وقفت إلى جانبه مؤمناً بهدف الفكرة، وقلت، ليس العيب في المسرحية، إنما العيب في المسرح.

يا سعد: وأنت الكاتب والناقد، هل فكرت مسبقاً بأن مثل هذا العمل كبير وكبير على الجمهور، يحتاج أصلاً إلى فهم مكونات المسرح الكلاسيكي، فكيف بالمسرح التجريبي.

واذا افترضنا بأن الجمهور مثقف مسرحياً، يا ترى النص الذي قدمته تجريبياً؟! تقديري أنك جربت نفسك بالكتابة المسرحية، وهذا حق لك، ولكن ليس من حقك أن تعرض تجربة، تفتقر أساساً إلى العمق المسرحي وإلى عناصره التي تعرفها جيداً، بحكم مطالعتك ونقدك للمسرح وللكتابة بشكل عام.

التجريبية يا عزيزي سعد، وأعتقد أنك توافقني، هي مدرسة حديثة ذات مضامين وأبعاد تشمل فنون العمل الأدبي والفني كله من مسرح إلى رواية إلى قصة وشعر ورسم تشكيلي ونحت وحتى السينما.

فهل التزمت بقواعد هذه المدرسة؟! اسمح لي أن أقول لك لا.. أنت جربت فقط ولعلك تدرك نتائج تجربتك جيداً.

واسمح لي مرة ثانية أن أقول لك بأنك متورط في هذه التجربة، أي في كشفها على الجمهور، ولا أعرف من الذي ورطك، فأنت تملك حسّاً مرهفاً، و»إنطفاءاتك» شاهد على حسك، فهي تقرأ من جمهور المثقفين حتى خارج المملكة ويحملون من خلالها لك الإحترام، وأنا واحد منهم.

فكيف يا سعد تغامر بتجربة، بالأساس لا يمكن أن يكتب لها النجاح، فقد صُدمتَ، وصَدَمتَ الجمهور أيضاً.. وتجربة ثانية مثل تجربتك كفيلة بالقضاء على الروح المسرحية أو البدايات التي راحت تتشكل لدى الجمهور السعودي.

والآن جاء دور النقاش مع المخرج راشد الشمراني.

استغرب يا راشد وأنت فنان تسير بشكل صحيح في مسيرة المسرح، فقد رأيت عملك في دمشق «عويس التاسع عشر» وصفقت لك كما صفق جمهور دمشق.

استغرب كيف قبلت بإخراج مثل هذا النص، الذي لا يمكن أن يُبسَّط، ولا يمكن أن تضيف اليه شيئاً من إبداعات الإخراج.

وعلى افتراض أنك كنت مجبوراً أو محرجاً، لأسباب أخرى! لماذا لم تفكر في وضع المنصة أولاً، ثم وضع الصالة؟

تقديري أنه لا يمكن لأي مخرج في العالم أن يحرك شخوصه على صالة عمقها أكثر من عشرة أمتار وطولها حوالي ثلاثين متراً.

مثل هذه الصالة لكي يتم التشكيل المسرحي عليها، يلزمها لعبة كبيرة في الديكور والاضاءة، ولعلك تقف معي وتقول: كان العنصران غائبين.

ثم أن نصاً مثل مسرحية سعد يحتاج إلى أكثر من وسيلة لإيصال الحوار، كون النص يعتمد على الحوار لا على الحركة.

بربك هل رأيت مسرحية تعتمد على الحوار، يستعمل فيها ميكروفون واحد، ينقل من يد ممثل إلى آخر؟!

كيف يا راشد تتنازل عن المستوى الذي وصلت اليه في «عويس التاسع عشر»؟ كان بإمكانك أن ترفض الإخراج أو العرض على الأقل، عندما رأيت أن الصالة غير مجهزة. ترى هل المسألة مسألة حضور، أو حضور؟!

تبقى ملاحظة في إخراجك للنص، هل تعتقد بأنك نجحت في إلغاء البعد الرابع في الصالة أو باختصار هل اقتربت من الأسلوب البريختي في الإخراج؟!! اسمح لي أن أقول: لا، فالبريختية أيضاً مدرسة لها أصولها ولها قواعدها، وإلغاء البند الرابع ليس لعبة سهلة، انه يحتاج إلى توقيت مدروس، وعناصر متدربة موهوبة أيضاً، وجمهور ذواق للمسرح، أليس كذلك؟!

التجربة، لا التجريبية التي قدمها الزميلان سعد الدوسري وراشد الشمراني لم تكن موفقة، لكن ذلك لا يعني نهاية الفن.

كل أملنا أن نراهما معاً في عمل مسرحي حتى لو كان تجريبـياً، بشرط أن يلتزما فيه بواقع المسرح، وواقع الجمهور الذي يقدمان اليه عملهما.على كل تبقى مشاركتهما في مهرجان الجنادرية، نقطة مضيئة لصالح المهرجان، الذي كرسا فيه التقليد المسرحي بحيث أصبحت المسرحية جزءاً من أعمال المهرجان وأنشطته الثقافية.


وليد نجم

صحفي سوري

مجلة اليمامة الأربعاء 24 شعبان 1407 هـ

23 أبريل 1987 مـ



معركة البطل وهزيمته - صالح الأشقر

تتفجر بداخلك مجموعة من الأسئلة، سؤال يتبع سؤال، وكلما تجاوزت واحداً ينتصب آخر وهكذا، حتى تقف أمام جميع الأسئلة. إنها مواجهة صعبة صعبة جداً. لحظة حاسمة تحدد بعدها طريقك. تتهادى باطمئنان وتؤدة تعرف أين تسير وأين تحط قدمك، وما بين هذه المعرفة وبين الأسئلة هناك عوالم مختلفة على كل المستويات وفي النهاية لا يبقى إلا أنت. فإن كنت رساماً فإن ما ترسمه يعتمد على معرفتك، وإن كنت روائياً أو شاعراً أو نحاتاً أو كاتب قصة فلن يكون إبداعك إلا ما تعرف وما تؤمن به حتى وان تجاهلت أنت كذلك.

هكذا توحي لنا مسرحية «عندما يكتب البطل هزيمته» لسعد الدوسري في يوم المسرح العالمي. وتوحي أيضاً أن بطل المسرحية حقيقة هُزم وتوارى بلا رجعة، ولابد أن يكون هزم على كل مستوى. هل يمكن أن يُعمم هذا الانتصار والهزيمة على مرحلة أو جيل؟

يبدو لي أن التجارب الشخصية تلعب دوراً بارزاً في الإجابة على هذا السؤال. فقد تجد من مزامني تجربة الانتصار من لم يستطع الخروج من دائرته، وقد تجد من قتل بطله في مرحلة مبكرة ويبقى السؤال يغري بتناول خاص.


*   قبل العرض:

«المسرح بالنسبة لنا مغامرة نخاطر من أجلها بكل ما نملك، نحن زاهدون بكل شيء إلا بالمسرح، لا نريد أن يكتب أحد عنا. نريد من الجمهور، الجمهور فقط أن يعطينا حكمه. لا نلغي الناقد ولكننا نفتقده هنا، وهذا مؤسف. والحياة بالنسبة للرموز مسرح كبير، أما نحن فنذهب إلى أكثر من ذلك، فالحياة بالنسبة لنا «بروفة» مسرحية يشترك كل الناس فيها. وكل الناس يحلمون في النهاية باليوم الذي يقدمون فيه المسرحية التي تعرضهم جميعاً». ثم وفي تقديمه للمسرحية يقول الكاتب سعد الدوسري: «هذه هي تجربتي الأولى وهي عادة محفوفة بالخوف والرعب والتوتر. هذا الفن (المسرح) هو وقود كل الفنون. في هذه المسرحية ليس هناك كوميديا وما يثير الضحك.


*   بعد العرض:

المسرحية هي مشاهد من سيرة فنان يتخذ من الكتابة وسيلة تعبير، أو هي صور متفرقة لأزمة فنان يبحث عن معنى لفنه وموهبته، بعد أن اكتشف أنه يبتعد عن ذاته وبالتالي عن مجتمعه، باستغراقه في «ضبابية» وضياع فكري وعدم وضوح «رؤيا» ويبرز هذا في المشهد الأول في لغة البطل الشعرية الحالمة المحلقة بعيداً عن الحقيقة، بعيداً عن الواقع وكان لابد لهذه الأزمة من مواجهة وهنا ندخل أو يدخلنا الكاتب أمام إشكالية التعبير. هذه الإشكالية التي قامت عليها المسرحية والتي تقول: «أنت تكتب لمن؟ بمعنى هل أنت مخلص للفن وحده!؟ أم للفن كعلاقة فاعلة بين الانسان ومجتمعه، وتتفجر هذه الأزمة حين يواجه الكاتب مجموعة من الاحباطات تهز قناعاته الحالمة والرومانسية. كان في حالة سكون يستسلم للحالة الضبابية حتى ارتجت تحت قدميه الأشياء. أول مواجهة للبطل كانت مع «المؤسسة الاجتماعية» التي ينتمي اليها ممثلةً بالزوجة. فهو في طريق وهي في آخر ولا يلتقيان. هو يريد منها أن تتفهم تفكيره غير المستقر وهي تريده أن يقترب من وعيها. ويعبر عن هذه الاشكالية «الصهر» الذي يبدو أكثر تنظيماً.

هذا المشهد وكما أعتقد أكثر المشاهد تماسكاً لغة وحواراً وتصويراً لضبابية الكاتب وعزلته عن مجتمعه، وكذلك ازدواجيته فهو يكتب بمنظور يختلف عن ممارسته العملية. انه اكتشاف جاد يعكس بصدق كثيراً من ممارسات الواقع الثقافي. فأنت تجد عند بعض المثقفين صورة ناصعة بيضاء حين يكتب أو ينظر وتختلف الصورة اختلاقاً كلياً في الواقع الموضوعي. ان هذا المشهد في رأيي أقرب من غيره إلى الكاتب لأنه يشكل العلاقة اللصيقة بين الكاتب ومجتمعه وبالتالي لا يرتبط بشكل وثيق بمؤسسات أخرى، في حين أن الاحباطات الأخرى أو الصدمات التالية (الأمسية الشعرية والاعلام) علاقاتها ترتبط بنظام قائم ومنظم يمكن أن يجد الكاتب في واقعها ما يبرر خرابها أو ابتعادها عن جمهورها ومتلقيها. ينتقل بنا الكاتب إلى مشهد آخر وهو علاقة الاعلام بالمجتمع، ويصاب بالاحباط حين يكتشف أن الاهتمام ينصب على الشكل ويبتعد عن هموم الناس، ويتجلى ذلك في موقف المسؤول في الجريدة من «موت أم المدينة» فهو أي المسؤول يتعامل مع خبر الموت كاعلان وفوق ذلك يؤجل هذا الاعلان إلى وقت آخر متغافلاً مشاعر الناس. ويأتي مشهد «الأمسية الشعرية» بإيحاءاته الواضحة كابتعاد بعض الشعر عن هموم الناس وقضاياهم في الوقت الذي يلقى هذا الشعر أمامهم، وأعتقد أن هذا المشهد كان يمكن أن يستثمر بشكل آخر كأن يقوم أحد الشعراء بالقاء قصيدة تتجلى فيها الضبابية وعدم وضوح الرؤية. أو أن يتحاور أحد الشعراء مع الحضور او بقراءة نقدية تقود هي الأخرى إلى ضباب آخر بجانب أن هذا المشهد كان يمكن أيضاً أن يمد لغة وحوار المسرح بابعاد أخرى من أجل ابراز الأزمة الحقيقية أو الإشكالية الرئيسية وهي الإشكالية التعبيرية أو الثقافية بصورة أعمّ ثم يأتي مشهد العزاء وهو تكرار للمشهد الأول.

تلك في رأيي كل أو أبرز حركات المسرحية، وكما أن المسرحية مغامرة اولى للكاتب أعتقد أنها التجربة الأولى لراشد الشمراني كمخرج.

المسرحية تدخل في مسرح التجريب، الذي يعتمد البساطة في الاخراج والتصميم والديكور ومن قلة عدد الممثلين اعتمد المخرج الشمراني في هذه المسرحية على استغلال حرية المسرح التجريبي وأوغل في التغريب والتجريب اذا جاز هذا التعبير مما جعل النص يتوارى قليلا أمام الاخراج لاستخدام الضوء الخافت والظلام والأقنعة طغى على الحوار.

وكما شاهدت المرة الأولى مسرحية تجريبية في مسرح «الغرفة» في القاهرة عند المسرحي «يعقوب صنوع» كان الإخراج في المسرحية بسيطاً جداً واستخدام الضوء كان معقولاً حيث برز النص وهو المهم عند التجريبيين.

يبقى أن نقول أن هذه التجربة فوق كل شيء سوف تشق طريقاً لتجارب قادمة تبنى مزيداً من الحوارات والأسئلة والفرح، ويزيدنا فرحاً أن الشباب الذين قاموا بهذه التجربة «شباب مسرح الجامعة»، يستحقون من الجميع كل احترام وتقدير.


صالح الأشقر

قاص ومحرر ثقافي بجريدة الرياض

جريدة الرياض الخميس 4 شعبان 1407هـ

3 أبريل 1987مـ



قراءة أولية لمسرحية فتية على مسرح مسجى - منصور البكر

«المسرح قناع.. من يهتك هذا القناع يستطيع أن يتصفح قلب أوروبا وعقلها..»   - د. لويس عوض

بهذا الكلام البسيط أنهى لويس عوض كتابه «أقنعة أوروبية».

بهذه المقدمة الرائعة للفهم الراقي للمسرح المعاصر استطاع لويس عوض أن يجبرنا فيها على احترام المسرح الذي له دور كبير في تطوير مجتمعات من خلال ربطه بحياة الإنسان الإجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية. لعل الشيء الحقيقي الذي أضافه سعد الدوسري إلى المسرح هي تلك اللغة المتنوعة طبقاً لنوعية الشكل والمضمون.

لقد كان لهذه المسرحية مذاق خاص.

حيث أن المؤلف كتب هذه المسرحية بعد أن عاصر الوسط الثقافي من خلال معايشته اليومية، ومن خلال افرازات ذلك الوسط ومن خلال وعيه لذلك الوسط وادراكه لما يدور فيه. كتب تلك المسرحية لكنها كانت محفوفة بالمخاطر والعواصف حيث أن المسرحية اجمالاً بها مضمون جيد، لكنه لم يوظفه توظيفاً كاملاً. وأعتقد أن المؤلف غلبته المحاذير، لذلك جاء النص متكلفاً بعض الشيء من حيث أداء الممثلين للعمل المسرحي.

لكن المسرحية دفعت المتفرج إلى عرض لم يكن متعوداً عليه حيث جعلت المتفرج طول العرض المسرحي متوتراً ومتعلقاً بمجرى الأحداث لإجباره على مراقبة العمل المسرحي، وأعتقد أن سعد الدوسري أخذ بالشكل الملحمي الذي نادى به بريخت حيث خاطب عقل المشاهد لا شعوره حتى يستطيع أن يدفعه إلى الحركة والتغيير بدون أن يثير شعوره.

كذلك كان كل مشهد قائماً بذاته لكي يخدم العمل المسرحي من خلال المشاهد القائمة بذاتها. ولقد عمل سعد على روي الأحداث لكي يجعل المشاهد مراقباً وبالتالي يتخذ موقفاً من العمل المسرحي.

لكن المسرحية خرجت بشكل جديد بالنسبة للمتفرج العادي لكي تضع أمامه كثيراً من التساؤلات ولتعطي المتفرج فعاليته وايقاظ حسه لكي تضعه في مواجهة الأحداث.

لكن كاتب المسرحية كما اعتقد كان يريد من هذا التجريب أن ينشر الوعي المسرحي وتعريف الجماهير بقواعد لغة المسرح وتقاليد المسرح المعاصر. وكشف لنا سعد المرحلة الضبابية التي يؤكد على أنها تجربة جيل كامل، لذلك يجب الخروج منها وتعريتها بوعي كامل حتى يضع الأمور في نصابها وبالتالي تكون مرحلة تطورية.

أولاً: «المسرح التجريبي» يحتاج إلى وقت طويل حتى نستطيع أن نطلق عليه هذا المسمى. ومن هنا اهتمت فكرة التجريب بما يسمى «بالحس التاريخي» الذي يحدده «تي. س. اليوت» بأنه ليس الوعي الحاد بالماضي فحسب بل اعادة اكتشافه في الحاضر، واحياؤه فيه حين يحتوي عقل الفنان «عقل أمته» وحين يعيش الأجداد في دمه.

«كل ذلك لن يأتي إلا اذا أصبح (العمل التجريبي) متواصلاً من جذوره من التجارب الماضية حيث يصبح النظر إلى التجارب الماضية ومعرفة ما تم انجازه شرطاً أساسياً ليعمق الإحساس بالتراث». لذلك فإن كل التجارب التي خاضها عظماء المسرح المبدعين أمثال «جروتوفسكي» و»بريخت» أولئك الذين يعرفون دينهم للماضي ويقيمون بناءهم الخاص على الأسس التي وجدوها قائمة، حتى حين يتقاطعون معها أو يتجاوزونها. لذلك عندما بدأ التجريب في المسرح العالمي والمسرح العربي كان له ما يبرره حيث يملك تاريخاً يستطيع أن ينطلق منه وأن يستلهم من كل هذا الكم الذي سبقه وبالتالي يكون التجريب مطلوباً لخلق نوع جديد من الإبداع المسرحي وبالتالي يعطي رؤيا مسرحية جديدة.

لكننا نحن لا نملك الحد الأدنى من المسرح المحلي الذي يمتلك صفة الديمومة والتي تخلق مبرراً لمسرح تجريبي. «كل ذلك يؤكد أن العمل التجريبي ليس مجرد اندفاع أو فورة بل أن له جذوره الفعلية وعليه فإن التجريب لا يمكن تحقيقه إلا في ضوء ما أنجزه الآخرون من العاملين في المجال نفسه».

ثانياً: «الغموض في المسرحية» عدم قدرة الكاتب الخروج من الغموض بالنسبة للمتفرج العادي. بالرغم أن الكاتب كان طول العرض المسرحي يريد أن يعري الغموض بالنسبة للمتفرج ولم يستطع أن يخرج من هذا المأزق الذي كان يلح عليه طول العرض المسرحي. لذلك لم يستطع المؤلف أن يخرج من الشباك المنصوبة حوله «الغموض».

ثالثاً: «المسرح الحديث» يتجه إلى المسرح البسيط. ونجد أن المسرحية بها تكلف كبير لا من حيث الامكانات لأن الامكانات كانت فقيرة، بل من حيث استخدام الممثلين للأدوات المساعدة :المصابيح المحمولة - الأقنعة -.. الخ»» التي تعطي صعوبة في حرية المثل وبالتالي تقلل من ابداعيته بسبب انشغال الممثل لاحكام حركة الأدوات المساعدة وبالتالي تحد من إظهار المسرحية بشكلها المرسوم لها.

رابعاً: «مكان عرض المسرحية» لم يكن موفقاً حيث لم تكن ظروف خشبة المسرح معدة اعداداً فنياً جيداً مما أثر على العرض المسرحي لأن نوعية المسرحية كانت تحتاج إلى خشبة مسرحية معدة إعداداً جيداً فنياً لكي تعكس الصورة التي رسمت لها وبالتالي تعكس الصورة الحقيقية للمسرحية.

خامساً: لم يكن المزج بين المسرحية ككل حيث خرجت بعض المشاهد قوية والبعض الآخر خرج بشكل باهت. فمثلاً مشهد «الأمسية الشعرية» كان ضعيفاً ولم يعط المدلولات التي رسمت له، بعكس «مشهد العزاء» حينما أشرك الجمهور في العزاء في نهاية العرض المسرحي. أعطت المسرحية روحاً أخرى وشدت المتفرج الموجود في الصالة لكي يساهم في الرأي وبالتالي ومع المتفرج لكي يكون عنصراً مبدعاً في المسرحية ولكي تعطي أبعاداً أخرى للمسرحية وبالتالي تكرس حقيقة أن المتفرج عنصر مبدع من ضمن سياق العمل المسرحي.


منصور البكر

مهندس زراعي

مثقف متابع للحركة المسرحية المحلية

مجلة اقرأ الخميس 24 رمضان 1407 هـ

22 مايو  1987 مـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...