مجرى الشتات ومرساه
تهذي القهوة، ينسكبُ الصباح
تفتتحين احتفال النص الارجواني. تهرع ملكات اللوز للخضوع بين يديك. أرفع يدي، فيرتخي الوقت لكِ. تعطينني يدكِ، فأمحو بشفتيَّ لمعانَ الثريا على أصابعكِ.
تعْتلين النصَّ، وعندما تُلْبسُني الملكات درع المبارزة، يتنفسُ في عينيك إعصارٌ حامض. تُصفقين، فيتدافع السيافون من كل جهات الحفل.
لحظة تقعُ أبصارهم عليَّ يصيبهم الخشوع ويتساقطون موتى. تلتفُّ ذارعك حول ذراعي، وعلى أجسادهم نخطو الى خارج النص.
* * *
فوق هامش هذا الظلام المتلأليء، أضع رأسي وأحاول أن أسكب على الرصيف بعض النعاس المعتّق في ذاكرتي. حاولت أن أقول لها بأن أزاراً واحداً فقط يفصل بين أن يطير من شفتيها المرجانُ، وأن يحيطها أطفال ذبحتهم غيلان المطر.
قلتُ: انصتي. ثمة طريقٌ يزحف باتجاه ضوئكِ السلسبيل، والطيور على جانبيه لا تستفيق حتى ترفعي عن فتنتكِ بللور فستانك المزركش بالظهيرة الباردة. هذا موعدنا. لا ترفعي عن معصمك الوقت، ولا تهشي الموسيقى الخافتة في انتظارك.
انصتي. غريبٌ تجرح مواطئَهُ النيازكُ وتتصارع الكواكبُ للنوم في معطفه البري. بجانب مشنقة النهار، يصرخ لليلٍ أن يُرخي عباءته الملكية. تغلي صرخاته السرمدية، فيفور الأرقُ ويظلُّ يحبس رئتيه لصدر نجمةٍ لم تُشع بعد في الأفق الزجاجي .
* * *
قطفتِ من رائحة السرير شمعةً، وابتسمتِ كرنين الصحو:
"هل أشعلها؟"
كانت الوسادةُ لا تزال تنهمر على شعرها الغاباتي. غطستْ عيناي في دبيب رموشها:
"أنت نجمة".
"حين أغادركَ لا تطفيء الشمعة".
كانت أصابعي قد اصطفّت في موكب أصابعها وكان مهرجانُ صوتها الخافتُ يزدان ببيارق من الحلوى. كان الصمت يباركنا بشهوته الطافية فوق نهر النعاس المرمري.
"أنا لستُ خائفة".
كفراشة تتبختر بحقلها، نهضتْ. توجّهت الى النافذة، وأغرتْها الستائرُ أن تغني للنور الباديء في حنجرتها العسلية، فَغَنّتْ. تقافزت سناجبُ الحديقة، وصعدتْ أغصان شجيرة الليمون، ثم سلّطت عيونها الكريستالية الى الغناء وعبق القميص الشراعي.
"أنتِ نجمة".
استدارتْ اليّ. سحبتْ الغطاء عن وجهي المختبيء ببقايا العتمة.
* * *
يا لهذا الصداع. كلما بَرَقَ العويلُ في مغاور جمجمتي المفقوءة، اشتاطُ برداً وخوفاً. وحيداً تحت سقف المجزرة الأنيقة، تتدلّى فوقي عناكبُ تنسج هداياها المفخخة على كتفيّ. صداعٌ لا يليق بحلم تَكّدّسَتْ له زنابقُ الأبهة المفاجئة.
حين توجَهَتْ لي، كانت العتبة تهتزُّ تحت قدميها. كنت لا أودُّ أن أسقط. انتفض دمي برائحة الغرفة. قبل أن أفتح عينيّ، مددتُ يدي لألتقط من أصابعها عربةً تُقلّني الى عُشّها الفضائي، لكنني صحوت. وكانت أول ما استقبلني جوارٍ مشوهات ربطن خواصرهن بسياط الشوك، وحملن علي رؤوسهن قدوراً يتقاطر منها الطين. أحسستُ أن جمراً ثملاً قد بعثهن ليَخُطن لي قبراً يناسب سريري المكتظ بالضحى والعطش.
"أيها الحلم الأليف كيف جئت؟! أيها الحلم كيف غادرتني. إنني الآن أدخل قبراً جديداً".
* * *
لتوقدْ في غيهب السواقي عشباً مكتحلاً بالرعشة. ولتحمل عني غسقَ التعب النامي في عرائش الجسد. إنني أستغيثُ ببلاط غربتكَ، فلا تدعني أنقر تمرةً لم يستو ضجيجها.
على ظهركَ خارطةٌ من كلاب الصيد، وعلى أضلعي وشمٌ لقرية غمرتها النوارس ذات صراخ، فاختفت. أتذكر؟! ركضنا معاً حتى مفرق الشجر. قبل أن أودعكَ، رأيتك ترتدي ظلّك وتمضي وحيداً.
كان النخيل ينحني لشهقات الماء، وكنتُ أبتهل الشمس أن يعود ظلك.
* * *
تجهّزتْ الوليمة للنار، واغتسلتْ الفضة بالريحان. قنديل البرهة الخائفة يسرق من الزيت بريق شهوته.
هل تجيئين؟!
تهشّمَ دورقُ الكلام، فانفرط العسل، ووجدتني أنظم لشفتيكِ عقد ابتسامات رشيقة. من صليل الشفق، انتقي لكِ أرجوحة نور وأتهيأ لاصطياد فراشات حلبتكِ المذهّبة.
تعالي. وستعرفين أن لبراري الفضاء أعراساً من أعناق الخزامى.
* * *
"إن اقتربتِ، ستصعقكِ كثبانه المرّة، وستتشقق قصائده في برد مراياكِ. سينخَرُ رمادُه خشبَ نايكِ، فلا تجدين معزفاً تخضرُ به وحدتك".
قالوا هكذا، أنه: "حطّ من وحي مسائي تحرسه بجعاتٌ رمادية. وحين خلع عنه قلنسوته، شعّ من الصخرة التي كان فوقها الظلام، وهطل من الغيمة التي كان تحتها ريش وحبر". هكذا وأنه: "لم يتشرد على أرصفة العطر من قبل، ولم تقتنصهُ شِباكُ البخور". قالوا: "هو يحتمي بصهيل الوحدة وبمواويل الرمل الشاحب، في انتظار أن تنبع من تحت قدميه بئرٌ من البياض". هكذا و: "ماذا ستغزلين من صفصاف يديه؟!"
قالوا: "شدي بساط جيادكِ وفرّي قبل أن تحطّ بجعاته الرمادية على كتفيكِ".
* * *
أنقش من درّ سهري فاكهةً تليق بجانبيْ مائدتك. كلما أرفع درّة نحو تمثالكِ، يهتاجُ الغواصون ويحتدُّ الميناء.
"لنقتسم البحر".
لكنهم يوجهون سنّاراتهم اليّ، فيصطادونك مني.
* * *
خارج قضبان السفر الذي لا ينكسر، أرى جمعاً من العرّافات يزغردن لي. وأراني أُخرِجُ يدي من فتحة في الجدار، فيلثمنَ خاتمي، عرافةً بعد أخرى.
أصيح: يا سلالة الغبار، انني أتطهر بعناقيد الهضبة الثلاثين، فاجلدوا جنيات سامركم على هضاب باديتي. كم يا غبار السلالات من جمر تبلل في أوردتي، فصار زلازلاً ثم شبحاً كلما هدّ القمر كاهل النجوم انتعشْ.
أصيح: يا بدو النوافل، هاكم الجبَّ والحنظل والهوادج المستريبة. خذوا من غشاوتي بصراً وأعطوني صحراء لا تكفُ عن الصحو. يا عرّافات اضربن الرمل عسى لتلك القضبان ألاّ تؤم صحرائي. يا سلالات. يا بدو. يا عرّافات. إن السفر خنجرٌ ينصهر بمراجل الظمأ.
* * *
التمّ القناصون على جثة القمر. أعلن القائد لهم:
"تهيأوا للجنازة".
صرختْ الفتيات اللواتي كنَّ يشربن أسرارهنَّ من نبع أخفتْهُ ضفادع خرساء:
"أيها القائد. كيف صوّبتَ الى نحورنا رصاصتك؟؟"
تجمهر الناس حولهن. صعدتْ أجملهن على مصطبة الهلع وأومأت للمرتبكين أن يحدقوا في بوابة التابوت. من كفن القمر، اندفع جحفلٌ من الفرسان البيض واعتلوا سلالم المساء.
"أيها القائد. لقد سئمنا شرف قناصيك".
* * *
ذاق الطفلُ لغزَ الشارع.
ابتسمتْ له الملوحة فمشى. مشى حتى نَبَتَ حول ساقيه خاتمُ الطريق.
سأرشُّ القيدَ بالزعفران وأقذفُ على سياج الوشاية فتائل النزهة. أوووه يا خبءَ المجرّات ويا قافلة تستظلُّ الخيامُ بأناشيدها. اجهشي بالكلام، لعل مغارة الفؤاد تستجيب لسمسم ندائكِ، فَتَدينُ الكنوزُ لنياقكِ. وحين تستلّين من سهوي عرقَ الدهشة، ستجدين أن اللغز ما زال مرّاً وأنكِ يا حبيبتي تزدادين ملوحةً.
* * *
يداي تحترقان.
مصائد القطا على بعد نافذة منا، وأنتِ سابحة في قارب مزاميري الندية. المصائدُ تتوثّبُ للطير الجائع. أريد أن أتحرك لأهشّ المصيدة، لكنني أخاف أن تستفيقَ بك ذراعي.
يدي تحترق.
الطير يلتقطُ الحَبَّ المفخّخ، فتنقضُّ مخالبُ الحديد على جناحه. تفزُّ المزامير، لكنكِ تطمأنين لذراعي ثم تعودين للندى. أضمّكِ مستجيراً بمظلتكِ الغافلة.
أنا وحدي الشاهدُ على المذبحة.
يداي تحترقان.
* * *
كان عليَّ أن أطرّز خوفَكِ بالثلج، وأن أقود سنابلكِ الى مرعى الشمس.
كان عليك أن تجدِلي هذا الثلج بهذه الشمس، لكي تَهُبُّ ظفائرُكِ في زرقة النشوة، فلربما تنبض الخلجان بالمحار، وتهتدي الأشرعةُ الى جزيرة مأهولة بتيجان العناق.
"أيها لكِ: هذيان قهوتي التي انسكبَ صباحها على يوم الصحيفة، أم صولجاني الذي أطرق به ولايات الجنون؟!"
لا تخشي حرّاسي، فلقد دربتهم أن ينحنوا لكل نظرة يسرقها خمارك المنقوش بالحياء. ولا تجزعي إن أنا وطأتُ سجاد تأتآتكِ.
أتذكرين أول راية غرستُها فوق موج شقاوتك. كنتِ تحاولين أن تصبّي النار من حنطة وجهك الى تعويذة صمتي.
أي نهايةٍ ستتفتح أكمامُها لو تسللتْ يداي الى رقصتكِ الخافتة؟! أي منجنيقٍ سَيَدُكُّ حصنَ ذلك المساء المتلبس بانهمار السوسن؟!
إن كوكبكِ الآن بوصلةً للأرق.
* * *
سأتلو في هدهدة المصابيح نشيداً يضجُّ بحباحب الشُهُب، وسأمتطي مُهرةَ الشطرنج لتقودني الى شرفة دفتركِ السرّي.
اليوم، سأجمع اللقالق حول مرفأكِ، وسأوقّع على المرساة اسم النادل الذي احتسيتُ في مقهاه نعناع مشيتكِ النافرة.
اليوم، يتثاءب الفستقُ على حبال الليلة الهلالية، فلا تَدَعيْ الموجَ يتدفق خارج كأسكِ الرملي. نسِّقي أغصان هذا الخريف على عتبة سريركِ، وانفخي فيها من روحكِ أوراقاً وبلابل.
اليوم. يشقُّ نخبي غمام السهرة الخائفة، لتفيض القرى بالمحبين.
فبرايـر 1989 م
كفاتحة النار، كسورة الصدر
قال لي موظف الجوازات بلا مبالاة:
إلى أين؟؟
وبخوف أن يعيدني من حيث أتيت، مددتُ له بطاقةَ الصعود إلى الطائرة، وأنا أركّز بصري على الممر الالكتروني.
ختم تأشيرةَ الخروج، ومدَّ جوازي دون أن ينظر إلى وجهي.
قبل أن أدخل الممر، أخرجتُ كلَ ما في قلبي ووضعته جانباً. مررتُ، ولمْ يَرِنْ. جمعتُ أشيائي، وابتسمتُ للعسكري الذي رآني وأنا أقَبِّلُ كفي ثم أضعها على قلبي الذي تكوّم كالأسير تحت شرايينه الوَجِلَة.
* * *
امتلأتْ أعمدةُ الجريدة بمتابعة الوفاة الغامضة لروبرت ماكسويل، امبراطور الصحافة البريطانية، اليهودي التشيكي، القادم من فقر الحرب العالمية الثانية إلى أحضان الملايين الإسرائيلية.
صرتُ أقلِّبُ الصفحات، أبحثُ في شوارع مدريد الفقيرة عن حمامةٍ يدلّلها أطفالٌ جوّعتْهم بنادقُ منع التجوّل. أطفالٌ فرّوا من القرى المحتلّة والمدارس المغلقة والكراريس المحرومة من ألوان العلم الفلسطيني وروائح حقول الزيتون.
أمامي، كانتْ امرأةٌ تنتصف في عقدها الثالث. ناعمةٌ كما يليق بأميرةٍ نجْديّة. عيناها مكتحلة برفاهية الطفولة. يتدلى من عُنُقِها المشعّ بياضاً عقدٌ من الألماظ، تغطي بعضَهُ خصلاتٌ من شعرها السائب، وتعلو شفتيها حمرتان أحداهما لدم لم تكسرهُ عِصِّي التخثر. يخرجُ من بينهما كلامٌ هامس، مرةً لزوجها الشاب، ومرةً لطفلتها المحفوفة بخادمات أربع. وكانت بين المرة والأخرى، تُطالعُني وأنا أشيحُ ببصري عنها، وأتساءل:
- هل كانت تقرأُ في عينيّ تلك المعزوفة الخافتة التي انفجرتْ أوتارُها منذ رفعتْ الطائرةُ جسدّها عن سرير الأرض.
* * *
اختفى العقيدُ خلفَ بابٍ موصد.
أعرف أنهم مهما استوقفوني، سيسمحون لي بالدخول.
كنتُ قد أتيتُهم من غصة الرمال، أحملُ حبالاً من المَسَدْ، لأنثرها في طريقهم كيلا يصلون إلى عنق "سليمان خاطر".
صرختُ في مظاهرات الجامعة. لوَّحتُ بقبضتيْ كما كان الطلبةُ يفعلون. هتفتُ بلهجتهم القاهرية وبدمهم الذي تترصّدُهُ جحافل الامن المركزي خارج أسوار الجامعة.
قالت لي ميسون، صديقتي العراق فلسطينية:
- سيضعونكَ في القائمة السوادء.
وفي المساء، أكّد لي ذلك صديقُها الذي يعمل في مركز الدراسات العربية. كنا في غرفته الضيقة المحتشدةِ بالكتب والمجلدات وقصاصات الصحف والمجلات.
سألتُهُ:
- أتستطيعُ أنْ توصل عريضةَ احتجاجنا لمحامي سليمان؟!
ابتسم وهو يحرّك السكّر في فنجاني المبقّع بالحبر.
- لن تُجدي كلُّ الاحتجاجات. سيغتالونه حفاظاً على ماء وجوههم.
سَرَتْ في جسدي رعشةٌ حامضة. طالعتُ ميسون، فاذا هي تنقر بأصابعها مقالاً لفهمي هويدي دون أنْ تكون عيناها عليه.
رفعتْ رأسها:
- سيعتصمون غداً في الأزهر. خالد محيي الدين وأعضاء التجمّع سيكونون هناك.
- وسيكون الأمن المركزي هناك أيضاً. لا تنسيا ذلك.
خارج المسجد، كان الجنود والمخبرون المختبئون داخل الناس يملأون الظهيرة بمشانق باردة. تعرف ميسون المخبرين من وجوههم. هَمَسَتْ في أذني.
- بعد أن غادرناه، اقتحموا غرفتَه وقبضوا عليه.
- اذن، كان صادقاً فيما قاله.
- لا فائدة.
بسيارتها الـ (نصر) البيضاء العتيقة، نَفَذْنا من زحام الجمعة إلى زحام الطيور الجارحة التي بدأتْ تنْهَشُ حيادنا.
في مكتبتها الصغيرة، أسندتُ رأسي على ظهر المقعد، يواجهني رفٌّ من اصدارات "دار الجليل" الفلسطينية ودواوين "سميح القاسم" وأعمال "غسّان كنفاني" الكاملة.
- لماذا لا تبيعين ترجمات الأعمال الروسية؟!
- أنا أركزّ كل اهتماماتي على القضية الفلسطينية.
- ستخسرين.
- أعرف. لذلك اضطررت مؤخراً لبيع الأدوات المدرسية. ومع ذلك سأخسر...
عاد العقيد وبين أصابعه جوازي الأخضر.
نادى اسمي بصوتٍ ذابل.
نهضتُ من معقدي. تناولتُ الجواز، دون أنْ أنظر إلى وجهِه ودون أن أنتظر أن يقول لي: تفضل، لأني أعرفُ أنهم خاسرون في النهاية.
* * *
كانت أعينُ المستقبلين تتفحصُّ الناجين من كمّاشة المطار. بعضهم نجا بأمتعته، بعضهم بسنوات اغترابه، وبعضهم: أنا، نجوت بأيام استرقتها من تقويمٍ تكدّس منذ سنين في أدراج من يصادرون السفر.
- هذا خروجي الأول أيها المستقبلون، فعساها تكون بينكم.
قبل خروج أوراقي من أدراجهم، قالتْ:
- حين يمنحونكَ السفرَ، سأحتفلُ بكَ. سأسافر قبلك. سوف أنتظرُكَ عند بوابة المطار، وسأزرع لك في القاهرة أياماً من الزيزفون.
كانت في آخر المستقبلين. ولما انفجرتْ عيناي بعينيها، قرَعَتْ الفراشات ناقوس البشارة.
هواءُ تشرين يهمسُ للبرد أن يجيء. سالَتْ كفُّها المرتبكةُ بين أصابعي المتحفزة للكلام، فاشتدت أوتار الأغنية.
في غرفة الفندق المطلّة على النيل، اجتاحتني رغبةٌ عارمةٌ في الصراخ. داخل الشرفَةِ، تجمّعتْ حورياتُ النهر، والماء يتقاطر من أجسادهن العارية. فتحت الباب الزجاجي، ودعوتهنّ للدخول. صِرنَ يُرتّبنَ حقيبتي. يُنسِّقنَ ورد المزهرية، وسلّة الفواكه.
رفعتُ مبخرتي لهنّ، فوجدتُهُنَّ واحدة. كلهنّ واحدة. كلهنّ حبيبتي التي صنعتْ هذا السفر لي. هذه المدينة لي. وهذا القلبَ المشوبَ بأغانٍ عطشانةٍ تبحثُ عن ماء يُذيبُ سكّرها لي.
اتكأتْ على السياج، فرأيتُ في ظلمة النيل الساطعة قمراً تزُفُّهُ رايات ملوّنة. تابعتُهُ وهو يصعدُ حتى حاذى وجهها. قَبّلَ شفتيها، فرفرفت الرايات.
وفي هياج الرفيف، اغتسلت الدقائقُ بإبتهاج الغيث.
* * *
لماذا تمنحني يا أباها كل هذا البياضْ؟! أنتَ الذي غسلتَ رمال هذا المرعى، وأطلقت فيه نجومَكَ الشامخة. أنت الذي هشَشَتَ الذئاب بدهن عود عباءتكَ، فتحوّلتْ حراساً لدمك البرّي.
تسلّلتُ أنا إلى شبّاك طمأنينتك، ودون أن أطرُقَ بخار قهوتكَ المرّة، دخلتْ. صففتُ في همهماتِكَ السرية، وقرأت قافية الوجل. علوتُ بصوتي، فأشتعلتْ أشجار الشيح، وتساقطتْ العقبان على جثث الجمر.
سألتني:
- من أي بدو أنت؟!
أخرجتُ لك حبلاً من الشوك، وقلت:
- اشنقني.
أوقدَت حطباً، ونهرتني:
- اصبرْ.
طلبَتْ أن أخلعَ ثيابي، ففعلت. فرْقَعَتْ جذوعُ الحطب، فصرختْ. تراكضتْ ذئابُكَ اليّ. وقبل أنْ تنهشني، وقعتْ عيناي على خيمة تحرسُها الضباء، وتطير فوق أعمدتها هداهدُ نشوانة.
صحَتْ بي:
- إصبرْ.
اكتسى ظهري بريش غضٍّ، وطرتْ. طارتْ الهداهد معي، وثنَتْ الضباءُ أرجلَها للذبح.
- من أي بدو أنت؟ّ
أنا بدويُّكَ الهائمُ بتشردكَ. بفتاةٍ تتزيّنُ بإبوّتِكَ صباح كلّ مرآة. تكتحلُ بهَيَجاناتِكَ مساء كل سرير.
على جدران غرفتي الصامتة، رسمتُ صحراءً وغيماً ونياقاً وهوادج. رسمتُكَ تيهاً لا يحدّه غبار، وسفراً تتصارع حوله خمائل السراب. في آخر الصحراء، تماثيلُ تفوح بالسنين المهملة، ومجدٌ يهتاج على مقبضيه شهداء القبائل المُتْربة.
انتظرتُكَ حتى علوتَ المجد، وحَنَتْ لكَ التماثيلُ أعناقها.
قبل أنْ أنام، شممتُ في مخدتي رائحةَ يديك، وتوقعتُ أنني سأصحو مشنوقاً بك.
* * *
يهربون من شطٍّ إلى شطّ. و "إمام" قائدُ مَرْكبِنا الشراعي، يهشُّ يعاسيب النيل عن وجهه المتحجّر، فتتطاير حول قدمه الحافية التي اراحَها بعيداً عن مقعد القيادة.
- لماذا يهرب القارب من يديك يا إمام؟!
- لأن قلبيكما يقوداني الآن.
للسنين آلافها. وللنهر وشمٌ تغرقه النار. يرمي الفقراء شِباكَهم بحثاً عن بوصلة خبأها فرعون. ونرمي نحن كأسنا المنتشي، بعد أن حفرنا على حافّتِه قُبلتين رطبتين.
فقراءٌ نحن أيها الشيخ. نبحثُ عن مركبٍ يقودنا إلى صُدَةٍ تحمينا من هذا العواء. أيمكن لمركبك المتهالك أن يحتمل هذين المنكبين على شفرةٍ تجلو حدّها صواعقُ اللحظات التي لن تعود؟!
قالت:
- أيُّ سلام هذا الذي نحن فيه؟!
صرنا نلوّحُ للصيادين، وللمسافرين المحشورين في عربات الماء باتجاه نوم "القناطر".
همستُ لها:
- بلّلي قميص عينيك بملوحة هذا المغيب.
وحين فعلتْ، هدأَ المركبُ، وخجلتْ الشمس.
* * *
يمشي "النيل" إلى جانبنا، فتتناثر منه عيون العشّاق وتوسلات باعة الشاي الأسود والمناديل والمكسّرات.
نراقب، هي وأنا، خطواتنا التي لم تعتدْ طريقاً جريئاً كهذا.
أصابعنا اهتاجتْ، بكت.
- لماذا نسرق دمنا؟!
في جسد من المستحيل، جمعنا أحلامنا، شهوتنا، صخبنا، وخبأناه في عتمة رئتينا. وحين تتنفسُ شفتاي إلى جانب شفتيها، يتشكّل الجسد، وندخل في طقس من السرقة.
هي لصّتي التي أخلقُ لها ليلاً خالٍ من الحرس.
أنا لصّها الذي تفتحُ لي نوافذَ كنوزها الغارقة في السر.
يمشي النهر.
طفلةٌ تتبع خطواتنا. وعلى اتساخ الرصيف، أحضنها. أسألُها.
- لماذا لم ينهشْ الشارع رائحةَ ابتسامتك؟!
تشيرُ إلى طرف النهر.
- أبي يعمل هناك. أتشتري مني هذا القرطاس؟؟ بربع جنيه فقط يابيه.
- ما اسمكِ؟
- دعاء.
- أتذهبين للمدرسة؟
وتكذبُ بصدقٍ شديدٍ قائلةً.
- أجل. أنامُ في الساعة الثانية بعد أن يغادر السيّاح. أصحو في السادسة. وفي الفصل أنام مرةً أخرى. أنت سعودي. مش كده يا بيه؟
تأخذ الجنيه الذي مددتُهُ لها، وتدعو بابتسامة خبيثة.
- ربنا يخلّي لك القمر دي يا بيه.
أصابع القمر تتدفق بين أصابعي، فتنتعش السرقة، ويتدافع اللصوص المحرمون لمبايعتي.
- أيها السلاطين المنبوذون في ممالك الريبة. هاكمْ براكين التوجّس الخامدة، فاضربوا. اضربوا بأرجلكم بِوادٍ غير ذي عشقْ.
* * *
أختها صورةٌ لها. وأنا حين أرسمُ، أغمسُ فرشاتي بأوردةِ ساعدي، وأحيكُ خيوط اللوحة بإبرةٍ من تفاؤلٍ شرس.
هي. وحين تشيحُ بوجهها لتردّ على فنان ضائعٍ في الحب، يشعُّ "الزِمامُ" من يمين أنفها إلى يسار روحي.
ولروحي يسارٌ، لا يستحمُّ في جدولِهِ غير الذين حين أرسمهم، ينهضون أكثر صحواً، فيركضون في طين هوَسي، ويُلطّخون جانبيْ قلبي.
لو لم تكنْ، لتمادى الساهرون في مقهى "الأوديون" في ضغينةِ حوارهم. لكنها، التي هي أختها، قبضتْ على مفاتيحهم واحداً إثر الآخر، وصارتْ تُديرُ أقفالهم باتجاه طفولتهم الناعسة، فتساقطوا حالمين.
وفي حلمهم، رأيتهم يستديرون حول أغنية يصوغ صخرَها بحرٌ من الكرمل، فينسلّ من حناجرهم حريقٌ أخضر يلتهمُ جفاف غربتنا جميعاً.
* * *
طلعَ من شاشة الساعة الأولى لفجرٍ حيادي. كمُومياءٍ ضائعة في لفافات النبيذ، وقف أمام امرأة يضطربُ البياضُ على جسدها اللدن. أعطتْهُ أصابعها، فانهمرتْ من بين شاربيه الكثيفين قُبلةٌ جفّتْ شواطئُها منذ ألف ملح.
لإبتسامته معطفٌ بالٍ تركه مسافرٌ معدمٌ يركضُ إلى قطار ينجو به من صفيح الغربة.
لوقفته فضاءٌ يرقبُ دهشَةَ المصطافين، دون أن ينفضَ عن منكبيه عَطَنَ التشرد، ومناقير العصافير الجائعة.
"البرنس"، هكذا يسمونه في مقهى "الأوديون"، كاتبٌ ضيّعَ الليلُ حِبر أرقه، فصار يجمع من نفايات الفجر خرائط تقودُه كلّ يوم إلى سريره المشوّش. وحين يصحو، يمدّ أصابعَهُ إلى الورقة، فلا يجد في رأسه سوى زجاجةٍ فارغةٍ.
* * *
كيف ينقلبُ الليل بين أصابعكَ نهاراً ترقص بين خنادقِه عواصفُ الُردى؟!
نظرتُ اليكَ، فارتبكوا.
قالوا:
- دَعْهُ وشأنه.
على كتفيك، أرى صقراً يُحَلّقُ بين الفينة والاخرى. ليسكب في كؤوسنا بيادق اللعبة الغامضة. أنا لمّا أفترسُ وجهاً أليفاً، فإنني أقودُهُ إلى تيجان الحفاوة. أغسلُ جراحَهُ بحبر السنديان، وأكفكفُ دمَهُ بفسيفساء الألق.
وفرائسي تهاجم دوماً عينيّ. تغرسُ ألفتها في بؤبؤيَّ، فيغدو الشجرُ خماسين لا ترحمها السنابك.
- دَعْه وشأنه.
لا ترتبكوا. لا تهابوا صقرَه. فهذا النادلُ حين يأتيكم، تكون عنجهيتُهُ قد خلعتْ حذاءها، وتوارتْ تحت شتاء العوز.
والعوزُ، أيها المرتبكون، نيشانٌ لا يملعُ إلاّ في ضحى الطواحين المهشّمة.
في الأوديون، يجمعنا سقفُ الهشيم: أنا وأنتم والزجاجات التي بَرَحَتْ صحوَها، و"محمد وجدي"، النادل الذي لا يغادر حتى ترحل الخطوات المتعثرة.
* * *
جلستُ بمواجهة موسيقى "اللامبادا". ثنيتُ ركبتيْ، فغاصتْ في وحل الأمزون. قالتْ حبيبتي:
- ستسبح؟!
وبأصابعها اللزجة، خلعتْ قميصي.
كان على صدري وسمُها. هي التي انهارتْ تحت شجرة الموز، وبكت.
أعطاها الساحر ميسمَ الجمر، وقال:
- أوسمي صدرَه.
كنت غائباً عن الوعي. آخر ما أذكر أن ثلاث فتياتٍ أمازونيات سمعنني وأنا أتلو قصيدتي، وأضرب بخيزران تفعيلاتها صفحة النهر. تجمعّن حولي. كنَّ يغرزنَ زهوراً بيضاء في شعورهن المجعّدة. يرتدينَ قمصاناً واسعةً من القطن وتنانير فضفاضة قصيرة. حافياتٍ، لسيقانهن لمعةٌ يشتاظ لها رحمُ اللوز.
أخذنَ بيدي. سألتني أجملهّن:
- مِنْ أي البلاد جئت؟!
أشرتُ إلى الماء، ولم يفهمن. صرنَ يتهامسن. ذهبتْ أجملُهُنّ. اختفتْ لبرهة خلف أشجار جوز الهند. عادتْ تحملُ إناءً نحاسياً مملوءً بعصير قصب، تفوح منه رائحةُ الصندل.
أومأت لي.
- اشربْ.
شربتُ. تمددتُ على عشب النهر، ومن بين الأغصان الكثيفة، رأيتُ النجوم وهي تثقب بطانة السماء، لينزّ منها رملٌ يتساقط على وجهي الضارب في الشَعر.
- مِن هذا الرمل، انبثقَتْ نيران قامتي. وحين قَضَمْتُ حبال الأسئلة، قالوا لي: إهبط. هبطتُ، فَشُلَّتْ أروقةُ لساني. ركبتُ قافلة الشمال، فلم تفهم البوصلةُ جنوبي. ووحيداً في الجهات، يتلاطمُ الأدلاّء في عمامة طريقي.
عَرَيْنَني، وبدأن في الغناء. رقصتُ. كنَّ يُنصِتن لرقصي، فيفهمن ما أقول.
كان لرقصي لكنةٌ ارجوانيةٌ لم تَخْفاهن. كنتُ أستظلّ بغيبوبةٍ دمثَةٍ، وهنّ حولي. عاريات، يتقافز من بين أظافرهُنّ شررٌ ساحلي يشاكسُ قلنسوةً ينخَرُ البَرُّ فَرْوها.
وأصحو.
ساحرٌ يناولكِ الميسم.
- أوسمي صدره.
وتبكين.
- أوسمي.
وفي فاتحة صدري، تلدغُني نارُكْ.
أمامهم، أرقص.
وحيداً في الجهات. أرقص كيّما تفهمين لكْنَتي، وكي أصعد إلى حدائق الأجوبة.
* * *
يخفقُ الصحو خلفَ احتدامِكِ في الكلام المر. تطلقينني في عنابر التسكع، وتأخذين بعضدي كي أجتاز ضوئي. كلما أدخلُ في اغتسال، يُفيقني ترابُ تَيَمُمكِ. وأراقبكِ تستغفرين لآثامٍ تكاثرتْ حول جثة صومي.
لِمَهاويّتِكِ زنجبيلٌ يشقُّ برْدي. ولِجواهرِكِ قاعٌ يغفو على وسادة بحارٍ استنطقتْهُ الجزرُ الكافرة، فأبى أن يُسْلِمَ لها مرساته المؤمنة.
معكِ تتلون الشفافية بزعفران السكينة. ويجتاح الدَعَةَ لغطٌ من سحائبِ الفضّة.
كان الوقت في تلك الليلة يصطكُّ بزنّار الرهبة. وكنتِ في كوّة المهابة، تنتقين الهواء من غَبشِ النرجس.
تهاويتُ على أريكةِ ودّكِ. وقبل أن أجرحَ لؤلؤَكِ، سألتني.
- عطشان؟!
يتبارى ماؤكِ في حلقِ نوافلي المجهدة. قلتُ وأنا تعقدُ الدهشةُ مهرتي الصابئة.
- تعبتُ.
أضأتِ فانوسَ ارتباكك، ثم خرجتِ.
مكثتُ وحيداً، أجاهدُ أن تفيء المرايا بالهديل.
على المنضدة، كان ثمة ورقة. تناولتُها. وبنور أصابعي، قرأت.
"كلما خطا نجمٌ، تعثرتُ في السديم. لحقتَهُ حتى مصبّ الشمعة. وحين لم أجده، أسدلتُ ستارة لثغتي به، وانجرفتُ في النحيب".
كنتُ أعرف أنني أشبهُ رحلتك. وأن صافرة الفجر التي ننفخُ فيها بخورنا صدأت. لكنني لن أتماثل للهذيان حتى تتفتتَ اللثغةُ في الرنين: رنين أنْ تجديه.
* * *
جلسنا إلى طاولةٍ تشرفُ على الشارع.
- ستأكلين فطيرتك، ثم نذهبُ للمكتبة.
جلستْ فتاتان إلى الطاولة المواجهة لنا. اختلفنا حولهما. قلتِ.
- كويتيتان.
قلتُ أنا.
- حجازيتان.
تراهنتُ معها.
- اذا اصبتُ، سأقبِّلُكِ. واذا أصبتِ تُقبّلينني.
أثناء خروجنا، انشغلتُ عنهما بخوفي عليها من بلل العتباتِ التي كان يغسلها صبي المطعم.
كان السائق في انتظارنا أمام الباب. قبل أن أفتح لها، لحقتني طفلةٌ تلطّخُ ثوبها سنين سبع. ركبنا. أخرجتُ من جيبي جنيهاً وناولتها إياه.
- ما يكفيش. أصلي عايزة اشتري من ده.
وأشارتْ للمطعم الايطالي.
ناولتُها عشرةَ جنيهات. وقبل أن أعطيها إياها، تذكّرتُ الرهان.
- قبليني أولاً.
أمسكتْ الطرف الخارجي لباب السيارة، ورفعتُ جسدَها. مددتُ أنا عنقي باتجاهها وقبّلتُ شفتيها الباردتين.
أحسستني شمساً تحيطُها كواكبٌ شتّى: حبيبةٌ اختلستُها من هدب النارنجْ، فتاتانِ ضاع نسبهما في زجاج الوشوشاتْ، وطفلةٌ تصعدُ درجاً مبلّلاً باتجاه مقعدٍ لا يليق بارتجاف عظامها.
قلتُ لها.
- هذا أنسبُ وقتٍ لمقهى "المَطَل".
فانحرف السائق يميناً داخلاً في ازدحام الشارع العمومي.
كانتْ تحدثُني عندما تعود من إجازاتها عن المقهى الواقع في الدور الثامن عشر لفندق فخم، والذي يتميز بشرفاتٍ منعزلة تطلُ على النيل. وتقول انها كلما تصطحبُ احدى صديقاتها إلى هناك، لا تتذكر سواي.
- هذا المكان ليس إلاّ لكَ ولي.
كانت الساعة تدخلُ في الغروب.
لم أنسَ المكتبة، لكنّ شمسَ "المَطَلّ" أشرقتْ في مضارب الدفء الذي استوطن كفّينا المتلاصقتين.
* * *
اغتسلتُ بأرخبيل نجومِكِ، ومشيتُ تتقاطرُ من مرفقيّ ذنوبٌ بيضاء أهملتَها حولَ جرحٍ غائرٍ في المكابرة.
في القِبْلَةِ، أرخيتُ جناحيَّ، فهدأتْ سجادتي. كان صفّانِ من النور يضيئان الطريق من حجارة أبي الهول المتآكلة إلى ماء زمزم.
كانت عيونهم تراقبنا في غرفة الفندق الصغيرة. أنا غارقٌ في تسابيح من المسكِ، وهي إلى جانبيْ، تغطي شعرَها وذراعيها بمنشفتي المبتلّة بياضاً شَبَّ فجأةً، فاستجبنا سوياً لنجومه المشرقة بالدعاء.
حين هممنا بالسلام، استدار الصفّان حولنا. كنتُ أحسبُ النور سيأخذُنا إلى أرض هجرها الرعيان، وأننا سنزرع لنا مراعٍ بحجم وحدتنا، وأنها ستثمر عناقيد من الرايات، تدلّنا إلى التيه.
لكنهم أخذوها وحدها. رموا منشفتي من رأسها وكتفيها. خلعوا ملابسها. دهنوا جسدها بزيت يفوح بحراً لم تمْسَسْهُ الأشرعةُ، فشعَّ جلدُها صراخاً ثم نحيباً ثم تأوهاً ثم غسقاً، وانفجرتْ غرفتي بوهج رهيف. وعلى نَصْلَهِ الذي سقط على عنقي، رأيتُ الحديقة المطلقة محصنةً بأغصانٍ يتقاطرُ منها حرّاس فَصَدوا أوردةَ شهواتهم.
حَدّقتُ فيهم، فَقَرَصتني نبضاتي المشرئبّة. حدقتُ أكثر، فاصطادتْ عيناي تقاسيم حارسٍ مجهدٍ، يحاول أن يخفي امرأةً في دمِهِ عن دمه.
أطفأتُ مصباح سريري. ومثلَ كلّ ليلةٍ، مِتُّ وحيداً.
نوفمبـر 1991م
حنجرة الوردة المضرجة بالصمت
على هامة القمر المتوتر، ثمة وشْمٌ نقَشَتْهُ عاشقات تُهْنَ في صحراء السماء، نَصَبْنَ خيمتهنَّ الى جانب القمر، وأخذنَ يكوين رجالهنّ البعيدين بجمر الغناء، جمرةً تلو جمرةٍ، الى أن اكتمل الوشم. حينها وجدتْ العاشقاتُ ثيابهنّ تتمزق، ولم يجدنَ لِسَتْرٍ عوراتهن سوى الشمس، فاحترقن بها. ومن رمادهنَّ الذي سقط على جبل ناءٍ، سال الى الارض نهرٌ من الظلمةٍ. وكلما مرّ على بلدٍ يُصابُ رجالُهُ العاشقون بشرف البُهاق، إلاّ رجلاً كان قد اعتصم بكهفٍ، ينقشُ على جدرانه قوافٍ تهطلُ عليه من مخالب طيور لا يراها. يسمعُ رفيفَها كلَّ ليلةٍ، فتهتزُّ الجدران ثم تتساقط الكلمات على رأسه لتشجَّ وحدَتَه بذَنْبٍ اقترفَهُ في وضح البلد، ولم يجسرْ أنْ يَدْلُقَ فجيعتَهُ في المحارة التي أنْبَتَها بين كفيْ صبيَّةٍ نذرتْ بحرها له. لذلك اعتصم في صيام الصخور وعزلة الاشجار التي لم تشهد نزهة الشمس من قبل، ليخفف من مراوح عويلة.
"انتَ الذي بطَشْتَ بسيفِ خطيئتِكَ قزَحَ القماش الذي التفّ على جسديكما، فانفرط لؤلؤ السياج، ثم هاجت الريحُ بكَ، وتهتّكتْ بكارة القصيدة التي رصَفْتَ بها حنجرة الوردة المضرّجة بدمِكَ الذي لم تكتشفه إلاّ حينما فاضتْ الجواهرُ على شفة بيدائك، وعرفتَ أنكَ ارتقيتَ بها شَهْدَ الفصاحة بأجنحةٍ من حبرٍ غصَّتْ به أصابعك، وأنَّ المروج التي لم تُرْخِ لجامَها لكَ. منحتكَ لأجلها خيلاً يزهر بالصهيل، لكنك الآن وسْط أبَّهةِ الخطيئة، تستدرُّ من الصمت فاكهة الصفح التي لم تحِنْ ثمار كلامها، وسيغرقُ في عرائكَ كلُّ اليقين الذي تكسَّرتْ مُهْجتُهُ، وغَرَقتْ عصافيرُه بسمائكَ، مُصْطَّفَةً في تراتيل سوداء، لِتُغيْبكَ في مرْجلِ الفجيعة، ولِتَسْتَثْنيكَ من شرفِ البهاق".
* * *
كان حين يهشُّ بمقلتيهِ سحائب ذكرياته، يفرُّ البرقُ من عتاده، وكلما حاول اللحاق به، تفتّق الرمل تحت قدميه بأفاعٍ ذواتِ أجراسٍ يشبه صوتُها رنين هاتفه.
"تعالي".
تدغدغُ الافعى ساقيه العاريتين، ثم تصعد لتنفث سُمّها فيه، ومسموماً ينهض ليرقص على عزفٍ لم تألفه قدماه. يترنح فتستدير المباني حول رأسه، وتنمو هفوات الجنازة من هشاشة أضلعِه. "أشتهيكَ يا أنت"،
لكنه لم يمتْ، فالافعى لا تزال تختزن له المزيد من سُمّها المكتحل بالاجراس.
"تعالي".
بيارق الغيبوبة تخفقُ على أسوار الخرائب التي بناها حول نعشه لكيلا يرى أحدٌ موتَه، وسواها لا يدخل أحدٌ، فهي التي تزحفُ في الخفاء على بطنها الى أن تصل اصفرار قدميه.
"ماذا أريد منكِ؟!"
"لدغاتي التي لا يراها أحد".
"لكنني أراها".
"ألا تريدها؟!"
يفرُّ البرق أكثر، يهرب بفضته الى سماء لا تصل اليها مقلتاه، فتغوص قدماه في رملٍ أعمق من الأفاعي، فيسندُ رأسَه على كتف النهاية التي صارت تحوِّمُ حول لهاثه.
"احرقيني أيتها البرق".
يومض نشيد طويلٌ من الصمت قبل أن تتشقق قشرة السماء، ويقطر منها شعاع مخفور بزنابقَ ونوارسَ مغموسةٍ بفجرٍ ليس له ساحلٌ، واذ به يسقط بين عينيه، فيبيضُّ وجهُهُ، ثم يسمع صوتَها المرمريَ.
"ها أنذا أسامحكَ، ها أنا ذا أبهِقُكَ".
* * *
بأيِّ برودة أختلجُ، وهذه النارُ لا تزال تمطر شرارها في يباس رحلتي. ناقتي تهدّل سنامُها، فأخذت تلوكُ بخفيها أثراً ضائعاً لرُحلٍّ طاردوا سراب موّالٍ ابتلعته هياكل الكلأ، فمضيتُ أمخرُ عباب الشوك، لا رفيق سوى هودجٍ يمتصُّ دم أصابعي ويردمُ هوّةَ المدى بصدىً من أحرفٍ لم أكن أعرف كيف أرتّبُ نشيجها.
حين غاصت الصحراءُ بي، فَرَدْتُ نسيج الهودج في الهواء، فتلاطمت أمامي قامةٌ مبعثرةٌ تنوح بأني لم أكُ شيئاً، وأن الناقة قُدّت من صخرةٍ، وأن الافق مستديرٌ لا ثغرةَ له، فمشيتُ والنشيج يستر عثراتي، الى أن شارفتني موجةٌ من غبار، فأيقنتُ أن الاحرف ضائعةٌ لا محالة.
"هات ما بيدكَ"،
فأنختُ نسيجي،
"هاتِهِ"،
وانتظرت أن أغبرَّ، لكن الموجة أشارت الى وادٍ طوته الارض في معطفها البالي، ولم أُحْر ركضاً، بل زحفتُ الى أن شممتُ عطرَ جملةٍ منتشيةٍ،
"يا للنصِّ".
فرفعتُ رأسي.
"أيَّ نصّ؟!"
"نصّكَ أنت".
تذكرت الهودج الضائع والناقة الصخرةَ والافق المستدير، وأنا الذي لم أكُ شيئاً،
"من أنتِ؟!"
"أناكَ، مرآتك التي ظلت تنشرخ في وجوههم بحـثاً عنك، جلدكَ المحفور على قوامي الذي لم يكن له ظلٌّ، صوتك المستتر بقواف تبحث عمّن يكسرها، أناكَ يا خاتم الضائعين".
* * *
تقلبتْ على لظى تنهداتها، دون أن تعرف من أي نارٍ يفوح هذا البياض المزخرفُ بنافذةٍ أشرعتْ درفتيها فجأةً في وجهها المحمّر بالبراءة، فاستجمعتْ خفقات قلبها ثم مشت الى شاطيء خبأته في سحّارتها، ولما فتحتها اندفعت الملوحة بين كفيها، ورأتْ على صفحته سوقاً يضجُّ بفقراء ينثرون شباكهم لمشرق الاسماكٍ التي تغرب بعيداً عنهم، وكان ذلك الأفقر يطلق ساقيه للعميق تاركاً وراءه صيحات الصيادين.
"أي مخبول هذا الذي يحسب أن الحورية في انتظاره"؟!
لكنه يتعمق ويتعمّق ويتعمّق، فيبتسم القاعُ له مانحاً اياه وسادته المغزولة بزعانف هَجَرَتها حورية غمرت أسرارها في عتمة الزرقة، وطارت على غيمة خرساء لكيلا تفشي انها الآن أمام سحّارتها، تسترجع اسرارها لتراه ينام مطمئناً على زعانفها.
"أأقول له: أفِقْ من كهرمان سباتك يا سيد الخطى المبجّلة بجرأة الفقر؟!، أأصيحُ به: ها أنذا أنظم لكَ خرزَ التعاويذ لتصحو، لأبايعك أميراً لشباكي التي ملّتْ أقبية الماء، ولم تعد ترى على صفحة الملح سواكَ؟! أتراه كما أخاله سيفتح عينيه، وسيقطف من المرجان الذي هيأته له بُراقاً يمتطي صهوته ليسري به بحراً من الوسادة القصيّة الى نافذتي التي لم يباركها سواه؟! أتراه؟!"
هبّتْ الستائر، فأسدلتها تاركةً للصمت أن يغرس عنجهيتَه في عنقها الرطبة بالحمى. بخجل ذريع، هفهف الهواء خدّ النافذة، فأسلبت قفلها، وبان من الخلف صهيلٌ ارجواني يجاهد الجدار في الدخول.
فرقعتْ بأصابعها، فانحنى الجدارُ، وفوق بساطها المشحون بصيفٍ لا فيءَ له، وطأت قدماه المرتجفتين جفافَ حقلها، فأزهرتْ السحّارة بأشجار التين.
* * *
أينعت فتائلُها، فلملمت جسدها، الذي كان كحلم يموجُ على ضفاف مرآتها، الى جانب نار صوته،
"أحبكِ"،
فانفجرت راحتاها بحناء فاح بصباها الذي حرسته بهلالٍ لم يتمكن أحدٌ من رؤية ليلته الاولى، فلقد أقصته خلف هضابٍ زاخرة بجثث رجال كلما عبر واحدٌ مهم، لم تجد على جبينه خارطةً لأسئلتها، فتدعُهُ يمضي الى حتفه، وتمضي هي الى حنائها، توقف بنقوشه لياليها لكيلا يجفل الهلال من سكونه، وترقّمُ نهاراتها بسديم له هيئة الاجوبة، وكلما جلس اليها:
"اطلقي هلالَكِ من حبسِهِ، علّهُ يذرف ضوءه على تائةٍ لا يعرف أبجديات طريقك".
تنهض منه لتستلّ من غِمدِ هدوئها بحيرةً تهوي اليها افئدةُ البجع من كل صمت:
"ليتكَ تعرف يا سديمي أنني كلما أجرح مرآتي، أجده مثخناً بي، وأنني أوقف الهلال له وأرقّم النهار به، وأن الزمن بين غمضتيْ عينيه هي اللثغة التي تفصل بين النبضتين اللتين تحفران هدية قلبي، وانه سيجيء ناصباً ارجوحته على شفة هلالي، وحين سأقول له اهبط، سيطلق يديه، وسأهيء لسقوطه حنائي بساطاً من المسك، وسنقذف عندها في الفضاء كُرَةَ العيد الذي لم يتلألأ له خصلاتُ شعري من قبل، من قبل يا سديمي العزيز"،
لكن السديم اختفى في سطوة النهار تاركاً اياها تجعد الاسماء التي تدلف بواباتها وترسم لهم كيف يخرجون من قلعتها موسومين بمعركةٍ لم ينطق محاربوها بسيف، فلقد اتكأوا على شرفة الوغى تاركين للسيرة أن تلتهم راويها لكيلا يشهد خسارتهم:
"أحبكِ تستلهمين الثري الذي أضيع على قافيته، فتنظمين لي أبياتاً من الاقحوان لأتنفس قارعةً تدبُّ على دمي بأحذية من فراشات ممشوقة بأجنحةٍ تلمع بالطريق الذي لم أكن أجيد علاماته قبلكِ، وتشقين عباءتي الصوفية ببرد الناس، فينسلخُ وجهي برونق راياتهم الجليلة، التي كنت أخجل دوماً من رفرفتها، لكنني بكِ أرفرفُ، أغرس ندبتهم في وجهي لتفضح جريمةً ظلّتْ تجول في فلك من الاظافر، وبك استجمع الصراخ لأنشبَ في أكتاف المجرمين صلصلة المشيمة التي لم تنتمِ لرحمهم، لكي نكون أنا وإياك فاتحة اللذين سيهشّمان رماد الثياب التي نلبسها لهم"،
"ألم أقل لكَ يا سديمي أنني سأجده؟!".
* * *
هناك من يطرق أعتاب الشجن الملتفّ على أغصانٍ تمتصُّ الندى من طفولة أصابعها:
"من هناك؟!"
منارةٌ من الأعين التي كانت تغرس مساميرها في الصلصال الذي نفث هو فيه أريجَ روحيهما، فحلّق في فضاءٍ تتزاحم فيه كواكبٌ مدارها الحريق:
"سيحرقوننا يا حبيبي".
ابتسمتْ عيناه لريش عينيها. شدّ على أصابعها، ثم طار بها تَحُفُّهُ البلابل التي عصفتْ بأجنحتها المنارات لتُدشن لهما كوكباً لا أعين له.
"اريد أن أقيّد عينيَّ بسُحنتكِ، فبصري لن يرفل إلاّ بمشهد الأسير الذي لا شهادة له غير ينبوعكِ المفضوح بي".
"فضيحتكَ هي التي تسترني".
"اذاً، لنبنِ لنا نجماً يطوف بنا فتنة الاماكن وأهازيج الزمن، فأنا حين أعتمرَ شهابُكِ هدبي، استحال كابوسي رقصاً على حبالٍ من ندف الحدائق التي كنتُ على موعدٍ شهيٍ مع تفاحها لأظفر بأرضكِ. كل الارض لكِ يا حبيبتي، فأي جهة تودين أن أسفحَ لكِ عشبها المطمور منذ الخليقة بانتظاركِ؟!"
جُنّتْ بهما الجهاتُ، فخلطا شمالها بشرقيها، وعزها بخوفها، وفيضانها بانكماشاتها، وجليدها بانسلاخاتها، الى أن صارت لهما جهةٌ سمياها بعروقهما المدججة بنكهةِ الفرار. يفرّان من نعاس الولّه الى قهوة غنية بركضٍ حافٍ يصبانه على خاصرة الشفق المضطرب بهما، فهما المملوءان ببيداء أرخت نعاسها على كتفين هائمين، عششّتْ عليهما البيارق لتُوهم الصعاليك بأن القصيدة التي يلاحقونها انقضت، وأن لابدّ لهما من ركنٍ ناشزٍ يطلقان عليه لونهما وصوتهما الذي يبُحُّ بأنوار لا تنشزُ همهماتها.
"أين نحن؟!"
"في مملكةٍ لا تنبس إلاّ باسمكِ الذي فتلتُ موسيقاه بمغْزَلٍ يئنّ كلما استدار بي، فيصنع من سفري معكِ قطيفةً أتدفّأ بها من خلجات إلهامي الذي أنطقني وجهَكِ".
* * *
"يا لوميضك الذي يُرخي أعنّتهُ على بروج خوفي، فيُجَنُّ الرمادُ المستكينُ بهديرٍ تتطاير ألسنَةُ شفائِهِ في أكواخ الظلمة، ويعجُّ الداء بترياق القاطرة التي نهبتْ سكتَّها من قضبانهم لتنتشل مسافراً ظلَّ مستسلماً لزعفران الانتظار. أراكِ توقدين مرجل الرحلة بجذوع احتطبتِها من ابتسامتكِ الاستوائية، لنستوي معاً على ريحٍ يتكدس على جانبيها القتلى المحرومين من جثثهم. ويا لوميضكِ الذي يئد قلادتي الظمآنة لكِ، فأنبشُ قبرَها ليلاً لأسترد عاري بك، ما بكِ؟! هل هاج القرشيون مرةً أخرى؟! ألم يهلعوا من خنجر ضجركِ؟! ألم تنصبي لهم مقصلة لغتكِ لتجزَّ أعناق فهمهم؟! أأكون في انتظار أن تسقط غيومهم في جب صاعقتكِ؟! اذاً، لَنْثنِ عذابكِ على قوس مقابرهم، ولتمسخي دخانهم بأهرام صوتي. ها أنا، لا معجزة لي سوى عضدكِ، أشدّ به فصولي لألتقط من شتاءِ اليمِّ جسراً دافئاً يوصلني لعاصفة جلبابك المثقل بالسواتر، فها نحن نبتعد بعدما أوصد الرعد بابه على بنفسج الضحى الذي تواعدنا خلفه: ألم أقل لكِ أن الطهارة حين تبسط أذرعتَها على عُرس الريبة، ينشطر المرمر البريُّ، وأجدكِ تبتعدين في فُلكِهِم الموبوء بسفرٍ مثخنٍ بنصرٍ رهيف يهدد عطشي لكِ، لِمَ لا تهذين بالجيوش التي سَمُونا بسلامها؟! ألم نتحدْ يا حبيبتي على وريدٍ سُرادقُهُ يظلّلُ أجنّةً لا أمَّ لها؟! من أين جئتُ بلا ابتسامتكِ؟! الأباليس تحاصرنا. تمنعني من أن أولج وردتي في عنق زجاجتكِ الطافية على جسارتهم، ومِنْ أنْ أُشِعلَ كبريتي لفتيل رُسُلِهم الذين يستجدون خيامي لتمنع الريح عنهم، وهم لا يدرون أنكِ ترصّعين هزائمهم بياقوت المهرجان الذي لم يحييه سوى فيروزكِ الذي ملَّ من كنوزهم.
* * *
"حاولتُ ما استطعت أن أَلْجُمَ فيافيهم. نثرتُ في وجوههم حنظل مخالبي، ومزّقتُ ذهبَ الصور التي علقوها على خزف اسمائهم. دعوني أهدهدُ القبس الذي يشعل مهدي، وبدفئه أختار اسماً لم تمنحوني إياه، وسأفطم عينيَّ بشغبه القروي، ليقرَّ فؤادي بتيههِ الأبدي. دعوني أعْرجُ بروحي الى شُهُبه كي تتقد طلقةٌ حشوتُ بها حيادي. ذئابهم سَبَتْ بريقي، اقتادت ظفائري الى مشنقة ألقابهم. وحليقةً من بداوتهم، ذرعتُ سجونهم بصوتٍ لم يكل من قصائدكَ الى أن تورمت قضبانهم بالصديد، وبحديدكَ خرجتُ مظفّرة لأدعو السبابا الى مَيْلٍ لا يخاف الارض، ورأيتهم يهربون بعدما خرّت الزنازنُ لي، ثم على تلٍّ قريب سمعنا جميعاً عواء ذئب شقّ نشوتنا.
"سنجهض زرعكنَّ، وسنثقب مجرتكنَّ لينزَّ منها عصيانكن، وستراه غيركنّ مجدولاً بالنار ليفجرّ الحقول بعيونٍ تلتمس من سياطنا الرأفة".
"إرأف بي وتعال كي نكويهم بمقلةٍ تمسخ مقاصل عجرفتهم، فأنتَ وحدكَ مَنْ تمنحه المحنةُ ليفَها لتطهّره بالحرير، وأنتَ مِن يعجن الغصَّة بالأنفةِ ليمسح عن ايائلنا الشاردة وعورة الموعد المستحيل، فتعال يا حبيبي للسفح الذي سأنزلق من حصى انتظاره الملساء. إرأف بي وتعال".
* * *
"سأختلسُ من اغفاءتهم ريشةً أطير بكِ على متنها الى إمارة يحكمها الطير، وسأعلن في الحشود الغاضبة أن الإمارة صارت لي، وأن لا قتال بعدما تبايع أصابعكِ أصابعي بيعةً لا ردّة لصولجانها. التاجُ الذي امتلك زمامَ مسائنا حاصرَهُ الرواة ليظفروا بأحاديث الأسرى. أحدثكِ يا ثقاتي أن أمراءك اجتمعوا تحت قدميَّ، رموا عتاد حروبهم المريرة ملتمسين أن أحيلهم شمعاً يضيء ليلتنا، وأنني أشعلتُ استسلامهم بخوراً لعنقكِ الذي لم أشهد له ضياء، وأحدثكِ أن شفتيَّ انجرحتا حين اعتليت نسغَ شفتيكِ، ثم ناديتُ أنني أكفهرّ بلمعة الخال الذي استرق مدينتَه من سمعي، فغدوتُ محموماً، امثولةً للسحرة يُعدّون من وهجي تميمةً يعلقونها على رقاب المغدروين، وأحدثكِ أن شعرتنا ابيضت بعد أن لعنت سوادهم، وغدت أحاديث الأسرى مصطبةً ينتعلون بها أدوار مسرحيتهم الممجوجة بنهاية صمّاء تخّدر استماعي لكِ. اسمعكِ، أسمعُ "أحبكَ" كما أسمع ذلك المغني الغجري، وهو يُجهد قيثارته لمنديلكِ المربوط على جبينكِ".
"يا لجرأتي".
"لِمَ لا يا حبيبتي، نحن استرقنا هذه اللحظة من بلاطات يحرسها هؤلاء الغلاظ الذين تعرفين سواعدهم، فلماذا لا أرقص على غناءٍ اتفقنا أن نحزم به ما اختلسناه، لتتسع الارض حولنا بهوَسٍ له صفتنا، نحن اللذان اشتبكنا معاً بزعقة الصبح، فاختلطت لذّةُ انبلاج النور بانعتاق بذرةِ بوحكِ من مزهرية الماضي الذي وقفتُ معه في انتظار حاضر عبوركِ. يا زجاج الماء، يا هديةً تخرّ لها شهقاتي، بأنكِ ستهدمين السدّ بيني وبينكِ، لتبنين لي مأرباً يليق بمأربي".
"ارقصْ اذاً، ارقصْ الى أن يستوي عنب قدميك".
* * *
حدّقَ في فوضاه، فلم يجد غير عجلةٍ تطحن أصابعه، ونسي كم رحىً مضت وهو مُرخٍ عُنُقَه لدواليبها، الى أن تآكلتْ بحةُ جنونه، وضاع شلآّل التواشيح من غرناطته، ليهيم في عواصم ينخر الجدري أصدافها.
كلما تلتئم الورقةُ له، يصفعها بزجاجة مشوّشةٍ ثم يغيب في هزيمة عَرْضُها سنواتٌ حادتْ عن قلمه:
"ما الذي أصابني؟! لِمَ يعتريني كل هذا البرد الكالح؟! ألأنها فقدتْ رماح الصيف التي كانت ترفع بها طفولة شمسنا، فغدا لسانها، بصدأ الوقت المتراكم، يتحدث لغةً لا أفهم مخارجها؟! أم لأنني فقدتُ الحريق الذي أرقتهُ على غابة السنة الأولى، فصارت السنوات بعدها تترمد على جفاف العنب الذي لم أعد أرقص لاستوائه؟! وكيف لم أعد قادراً أن أستوي على مائها لزنبقةٍ أخرى، أنا الذي برأتُ بها من سلِّ المخافة وانتعشت بالحبر الذي اعتصرته لي بيديها من زفرات الناس؟! ما الذي أصاب ريفنا الذي كان يعجُّ بتفاح دهشتنا، فاستحلنا شجرتين تؤديان واجب الحقل، ولم نكن من قبل لنأبه بسرطان جذوره؟! لقد جففتُ، أهدرتُ مائي في أول قحطٍ، وها أنذا عطشان أستغيث حماها كي تُشفِقَ بمُزنِها على بذوري التي أرهقتها الرحى، فهل تسمعينني؟!"
لم يكن يسمع نفسه، كان كمسلوبٍ يبحث عمّن يردُّ له ورقتَهُ التي هجَتْها الريحُ، أو عمّن يفقأ له موسيقاه المتضخمة في عودة الناحل.
* * *
"سأدَعَهُ اليّ يستريب بظلِّ خطاه التائهة عني، فهو يدركُ أنني ألبستُ خيمتي بوصلتَهُ وأنني أرمق الأفقَ من كوّةٍ ضاقتْ الى أن شُلَّ بصري، وأعرف أنه اتكأ على قشةِ تتربص النار بها، وبمقدوره أن يقصم الظهر الذي تلعثمتْ فقراتُهُ ويعيد اليَّ صدره المشعّ بالعقربين اللذين عاهدنا الوقت منذ الدقة الاولى أن نستجلب منه ساعةً نكسبُ بها رهاننا في قمار الضفادع التي تنقُّ على حافة بحيرةٍ غمرتنا بأيام لم نطِقْ نقيقها. انني الآن محبوسةٌ بوجلي منه، ووجلي عليه، فلماذ هَجَرَ نايَهُ الذي اعتدتُ أن أفيق على سوسنِهِ؟! أنا التي ضربتُ بأقدام عطشي جانبَ رمله، فتجلّت بماءٍ أثلج خوف مبتدئنا بأخبار مرفوعةٍ على أحضان الذين يحبهم. أفبعدما دقت الساعةُ منتصف وجْدِهِ، يُردي وحشتي قتيلةً ليؤثث قبري بحفيف غيابه؟! لا، لن أدعه يستريب بظلِّ خطاه، بل سأفضُّ أبراجه المذعورة لكي يستجمع ريش الستائر التي لن أقبل عزاءها، فإن نفخ في شتلتنا عاصفة الصقيع، فان لي حمماً تلثم حربَه البكماء، بلسان جارح سيغتال نسورَ نخيله".
* * *
انمحَتْ بصماتُهُ من بللورة الرؤية، فأصابته شبه جزرٍ قاحلة، يجدِّفُ اليها بعضلاتٍ أنهكها نعاسُ عمامته التي فضحت رأسه، فزقزقت الطيور على الخشب المهيأ لصلبه.
يهرب بمجدافين تقرضان زَبَدَهُ، ليذهب جفاءً كما جاء اول مرة، من مصباح فركَتْهُ طفلةٌ كانت تعبر بشقاوتها مقبرةً انتبذها الميتون، فلما رأته يركع لأمنياتها، زعقتْ به:
"لِمَ لا تستر عورتَك؟!"،
فأطلقت القبور قهقهاتٍ انشرختْ لها جمجمته، فوضعت الطفلة صرِّة شقاوتها على كتفها، ثم مضت تبحث عن علاء دينٍ آخر، يعرف كيف يستُر جِنَّ مصابيحه، ومضى هو، تُسترُ عورةُ مخّهِ أفاع يهتاج سمُّها باصفرار اللدغة المنتظرة:
"كيف لي أن أتآلف مع ضباعهم التي ظلت تنهش براكيني الخامدة؟! أريد أن أقذف عِلّتي على صفيح حفلتهم، أن أوقّعَ رقاعَ الدعوة بجرحي الذي بكى موائدهم الممشوقة بكل لحم، أنا من لا عَظْمَ لي سواها، ولا عَظَمَةَ لمائدتي المتقشفة إلاّ بملعقتها وهي تحرسُ شفتيّ، لتحرّمني عليهم وتحلّلني لإخضرار قافلتها التي لم يمسّها بيدٌ، فلماذا حاولتُ أن أُبيدَ ذنوبي بأعذارٍ أعرف أنها تجزُّ شرايين يديَّ؟! هي لم تختفِ من بللورتي، بل أنا الذي أشحتُ نبالي عن مرمى تضحياتها. لا أريد أن تكون أضحيةً لي، فعيدي لم يَرْتَقِ بعد لسلم بلوغه، وجاهدتُ أن أصدَّ شهوتَه، لكنها امتدحتْ اشتهائي، وانخرطتُ كأي يافع في وهم البهاء، ولم أكن سوى مشتجرٍ يثقب عمداً أبنوس الماء، لتسكب على جسده سُمّ الأمازون.
* * *
كانت تعرف أن الافاعي تحاصره، هو الذي منحها الظلامَ الذي تزحف عليه الى مخدع اللدغة التي بعدها شللٌ، وأنه بعدما حطّت الانهار تحت إمرته، صرخ، فلم ينهض الماء من مكمنه، فصرخَتُهُ مُتكلّسةٌ بالخياشيم التي اختنقتْ بدعاء الآثمين المنسيين بجوف المحيطات. لذلك طفق مُستغفراً جوفَهُ ثم هلك في اللُجة.
"يا أنا، أفصح عن بحركَ، ثم لِنْ بجذعكَ لطبول تقرعُ اسمينا اللذين لاذا بلقبٍ لا يخشى سلالةَ القبائل، تعبتُ يا حبيبي، هجوْتُ نسيانَكَ الى أن كَلَّ الجوع بالنطاق الذي عصبتُ به جوعي، لأُسمّي هيكلي المثخن بكَ. ومهما أجْهَزْتَ آهاتي بمنجنيق ادعاءاتَكَ، سأدّعي أنني أولدُ بكَ من رحم لا تجرؤ الصحراء أن تحيضَهُ، ولا ترضخُ إلاّ لعنفوان عُشْبِهِ المترجل من تربته الوليدة. وبكَ يا حبيبي أولدُ عشباً يتنفس به الصبحُ، ويغار منه عسسُ الليل، وألقاكَ مقبوضاً على ثَملِكَ وأنت تصرخُ: اتوني بحبيبتي، فآتيك شاهدةً على صحوكَ، فيلقون القبض عليّ".
* * *
هما الآن في زنزانة تقرض صمتهما، هي تخفي عَبَراتها في عباءةِ جسدها الممزقة بأسياخ السيرك الذي بَهرَجَ به غيابه، وهو ينفضُ الغبار عن لحاء صحوٍ داهم مرآته، فدمّر الرمق الاخير للكوخ البعيد الذي خبّأ به غابة مُجونِه:
"ألا تصدقُ أنني سامحتكَ؟!"
تتجمع الغربانُ على زلاّتِهِ، فارداً ذراعيه لكي تحطّ على ما بقي منه.
"لم يبقَ لكِ مني شيءٌ".
"بل بقيتْ هذه النارُ التي تلتهم باعتذاراتها ثيابي، فلا تطفئها يا حبيبي".
تقترب منه مخفورةً بشعراء من كل صعلكة، يحيطونه بالارصفة التي حرستْ نومهم، وبالكتابة التي عقدوا عليها قِرانَهم. وفي دائرة القصائد التي لثموا بها دهشتَهُ، قامت لرقصةٍ لم تتمايل بها نخلةٌ من قبل. ومن تحت قدميها تفجّرت الزنزانة أطفالاً يحملون سَعَفاً، فصرخ شاعرٌ به.
"تهيأ للكفّارة".
خلع ثيابه مطأطئاً جريمته، لكنها فكّتْ ظفائرها وسترتْ جسدَهُ بجسدها.
"انا كفّارتُهُ".
طلبتْ من الشعراء أن يستغيثوا الليلَ موسيقاه، ومن الاطفال أن يبتهلوا النهارَ أرصفته التي لا ينتهي حبرها. وحين حدّقَتْ في عينيه المحمّرتين، رأت همهماتِ المحرومين وهي تضربُ بمعالوها أحداقَه، ثم تُخرجُ من الأرض قلائد حاكها آباءٌ عن أجدادٍ.
رأت امرأةً تفردُ يديها للسماء مُغمِضَةً سنابل عينيها، وبساط ريحٍ مذهّبٍ يقتربُ من شفتيها، ثم يجلّلها بهمسةٍ لها نكهةُ بركان وجَدَ للتوّ فوهتَهُ.
"هل اندملتَ يا شجن أنفاسي؟!".
لم يجبْ.
انتزع قلبه بأظافره، وناولها إياه.
"اغسليني بضوئكِ، فأنا لم أكن سوى حجرٍ تتقاذفه الظلمةُ هاتكةً صلابته".
فبرايـر 1992 م
يأفلُ في وشوشات، يبزغُ من قنديل
همستُ له، وأنا أرخي خصلات توقي على كتفه.
- لنبقَ هنا الليلة. غداً ستتركني. وستخلو كفي من كفك، وطريقي من عينيكَ اللتين لم تغادرا حنطةَ وجهي منذ حطتْ الطائرة بخطواتك المتلهفة لمدينتي البعيدة، ولذراعيّ اللتين كانتا تنتظران صدرَك المزروع بي.
ابتسمَ بوداعة طفلٍ أدركَ الفرق بين قطعتي الحلوى، فتطاير السُكّرُ من بين أهدابه، ثم قال.
- كنتُ أريد أن أرصّعَ تاج ليلينا الأخيرة بفيروز يشعّ بالناس، فيُحيلهم إلى شهود. أوميء لهم بأوردتي ليصفقوا لك.
- ألا يكفي أن يصفق المحيط الهادر الآن لنا على بُعْد شرفة منا؟!
كانت غرفتانا الملتصقتان تطلاّن على المحيط الأطلنطي. وكان يرجوني كل ّليلة أنْ أمكثَ صاحية إلى أن ينتصف القمر في سماء الشرفة.
كان يُبررُ.
- أنا لست رومانسياً، لكنني أحبُ هذا الكوكب.
- بل أنتَ رومانسي حتى منابتِ الدم في عظامك.
أحببتُ هذا الطائش منذ خمس سنوات. كنتُ أعرف، قبل أن أتعرّف عليه، أنه مخبولٌ يرتدي ثياب الحكمة الغنائية، تلك التي لا يمكنُ تفسير أوتارها.
صادفته ذات استراحةٍ جماعية، في المصلحة التي نعمل فيها سوياً، وفتحتُ له باباً يعلم الجميع أنه يعشقه.
- لا أعتقدُ أن كُتّابنا العرب استطاعوا أن يجسّدوا واقعَهم، كما فعل كتّاب أمريكا الجنوبية مثلاً. استدار بكامل أذنيه إلى كلامي، وبدا كَمَنْ يريد أن ينجو من رتابة أحاديث صديقاته الأخريات.
- لمن قرأتِ من هؤلاء الكتّاب؟!
- لكثيرين. ماركيز وأمادو وبورخيس وخوليو كورتاثار وجاك رومان واستورياس وأليخو كاربنتييه.
وأضفتُ، راسمةً دهشة مصطنعةً.
- هل أنت تختبر ثقافتي؟!
- أبداً يا عزيزتي، أنا فقط مغرمٌ بكتّاب هذه القارة السحرية.
منذ ذلك اللقاء، المحفوف ببرد نيسان، وأنا مسحورة بدفئه.
كان يفاجئني بحضوره إلى مكتبي في أوقات مختلفة، دون أن يتيح لي أن اعرفها مسبقاً. حين يجدني، يفتح للحوار نوافذ، اضطربُ في استقبال هوائها. وعندما يخرج، يغدو مكتبي الصغير نافذةً لا تطل منها سوى عينيه الممطرتين بالجرأة والرفض، وبدخان السجائر التي لا تنقطعُ عن شفتيه، لكنها لا تعكّر عطره، الذي ظلّ يبقع جدراني إلى أنْ يجيء مرةً أخرى.
صرتُ، أنا التي تعوّدتُ ألاّ أبقى في مكتبي، أمكثُ ساعاتٍ في انتظاره، فهو حين لا يجدني، يتركُ ورقةً صغيرة.
- يالله، لماذا لم تكوني هنا؟! ما هذا الفألُ الجاف؟!
أو.
- كرسيّكِ الفارغُ باردٌ جداً؟!
ثم يغيّر نظام الاوراق على طاولتي، أو ينثر الاقلام التي أجمعُها في علبةٍ جلديةٍ، أو يعبثُ بتوقيت ساعة الحائط التي بلا زجاجة تحمي عقاربها.
لم أكنْ قد ارتبطت قبله بأي شابٍ من أبناء جلدتي. كنتُ أخاف حمّى ظهيرتهم وجروح بداوتهم التي يصيبون بها عميقاً، ويجهلون أو يتجاهلون مداواتها. كانتْ علاقاتي القليلة مقتصرة على أجانب المصلحة، الذين لا أتيح لهم، بقصدٍ، أن يشعلوا حمّاى، أو أن يصوّبوا باتجاه جرحي.
هانئةً كنتُ بشفائي.
- تبدين مستقرةً في حياتكِ.
- ولماذا تريدني أن أضطرب؟!
- لأن الاضطراب فنار الشفاء.
- ولِمَ الفنار؟! أنا هكذا هانئةٌ بشفائي.
رمقتُهُ خلسةً، وهو يسدد نبال عينيه إلى عنقي.
ارتبكتُ قليلاً، لكنني جففّتُ ارتباكي بمنديلٍ انتفض فجأةً بين عينينا.
- وأنتَ. تبدو مشتتاً وحزيناً.
- ألا تلاحظين أن كلاًّ منا خطا خطوةً على بساط الآخر، دون أن يطرق بابه؟!
استجمعتُ براكيني، فخرج صوتي ملطخاً ببحة حارّة.
- وأريد أن أخطو أبعد.
شبّك أصابعه بأصابعي، فارتخى توقي على كتفه أكثر من ذي قبل. همسَ في أذني.
- كما تشائين يا مليكة منفاي. سنُمضي سهرَتَنا في الغرفة.
شددتُ على أصابعه بامتنان. رفعتُ وجهي إلى مرآة وجهه المشعّة بالضوء الخافت.
سيكون حتماً في الفندق زجاجة الفاكهة التي تحب.
- وسأتذوقها لكِ، إلى أن يأفل القمر من سماء وشوشاتنا، ويبزغ في قنديلٍ خبأناه لرملنا السري.
- أهو نفسُ الرمل الذي سكبتَهُ في كفي الأيمن؟!
تمادتْ خطواتنا. مشيتُ في شوكِ خرائطِه إلى أن نزفَ مسكُهُ من كعبيَّ. وكلما أقفُ لأستردَ رائحتي، يلُفّني بعباءة جنونه فأطير. وفي هوائه، أستنجدُ المزيد.
- لماذا تُشقيني بكَ؟!
كان كلانا يعي أننا نمخرُ فيئاً يخاف الشمس، وأن المسافة بين ضفاف لوعتينا، أبْعَدُ من قاع الحلم. لكنه كان يحوّل صفيح تلك اللوعة إلى فضةٍ ننام على بريقها.
- أريد أن أقبّل كفَّك.
فاجأني صوتُه أكثر من مطلبه، الذي لم تسْبِقْهُ تحيتُه الهاتفية المعتادة: "أهلاً يا جنتي". كأن الهاتف صار سرداباً موحلا بطنين الأسئلة.
ترددتُ.
- لماذا يطلبُ مني قبْلةً كهذه، دون أنْ تكون أصابعنا، مجرد أصابعنا، قد التقتْ طيلة السنتين؟! أأقول له حسناً، وأخْدشُ سقفه؟ أم أقول لا، وأجرحُ مِعْصَمَهُ الذي تلتفُّ حوله ضفاف ياسميني؟!
تحسّسَ صمتي، فانلسعَ بحرارتي.
- لا بأس يا جنتي. أعتذرُ لك.
بعد دقائق، حضرَ إلى مكتبي جالباً معه رواية "ليلة القدر" للروائي المغربي الطاهر بن جلّون. وقَبْلَ أن يناولني إياها، طلب مني أنْ أمدّ كفي الأيمن باتجاهه.
هزّ الرواية من أعلاها، فانهمر الرمل من بين أوراقها إلى كفي التي اندهشتْ بارتجاف طفيف. انحنى بجذعه قليلاً، ثم طبَع ُقبْلَتَهُ على الرمل.
في الليل، تطايرتْ حمائمُ النوم عن سرير غرفتي. ظللتُ أسترجع حبات الرمل وذرات القبْلة. لم أقرأ الرواية، بل أخذتُ أبحثُ عن الصحراء المخبأة بين صفحاتها طيلة السهر. وكلما أغفو، أراه في مدينة مكدّسة بالكتب والقراطيس. يقرعُ الأغلفة والاوراق، فيهرعُ إليه فرسانٌ مصفحون بالحبر. ينطلقون خلف رايته المطرّزة بصحراءٍ تحدّها رباباتُ التيهِ من كل الجهات. وبعد كلّ حربٍ، كنتُ ألمحُ امرأة، لم أرَها من قبل، تصرخُ من خلف أشجار الشيح.
- كفاكَ حروباً.
يرفع رايتَهُ أكثر إلى أن تفاجئه على خيلٍ أدْهَمَ، وتغرسُ أظافرها في كبده. وحين يخرُّ صريعاً، أفيق. فتحتُ النافذة كي أجلو رئتيّ من قبضة الجدران. كانتْ شجرةُ الاثل العتيقةُ تهتزّ نصف نائمةٍ لهواء تموز، والسماء على جانبيها تغطّ في نجومها.
ارتعشتْ ذقني، ثم انكوى خديّ بدمعتين تركتهما تهبطان مرعى عنقي، وتقتاتان ترقوتيّ.
- يا ربُّ. ما هذا الذي أنا فيه؟
اقتسمتُ معه رغيف اضطرابه اليومي، إلى أن جفّ شفائي. صرتُ أتقدم حروبَه لكيلا تفاجئه الطعنة. أراه يخوضها، وعيناه لا تفارقان عنقي.
- أينوي قتلي؟
اتكأتُ برأسيُ على طرف النفاذة لأحتضن دموعي. وفي ماء يديّ، رأيتُ الفضاءَ يفتحُ ثغرةً لمطري. كان هو على طرف الثغرة، وكنت أنا على الطرف الآخر، بيننا نهرٌ من القرنفل.
صاحَ بنا النهر.
- لِمَ لا تغتسلان بي؟
في المسافة البعيدة التي تفصلُني عنه تعريتُ. قفزتُ قبْلَهُ في القرنفل، ثم أخذتُ أسبح باتجاهه.
أحسستني طاهرةً من كل خوف، نقيةً بعطره، هادئة باضطرابه. ولما وصلتُ إلى شاطئه، وجدته منهمكاً بسيجارته، والقلقُ يُنْشِبُ مخالباً في ملامحه.
سألته وأنا أستر عريي بالزهور.
- ألن تسبح؟
لم يُجبْ. همّ بالنهوص، فأعدتُ السؤال.
- ما بك؟
- هذا الفضاء لكِ. لكِ وحدكِ.
- بل هو لنا.
- هذا فرار.
- فرارٌ من أجلكِ.
- لن أفرّ بحبك إلى الفضاء.
هاج القرنفلُ، فأغمضت عينيّ.
- هل قلتَ: حُبِكِ؟
- أجل، حُبك. الميقاتُ الذي هداني إلى وقتٍ ظللتُ تائهاً عنه منذ منبتِ قلبي. وكلُّ ميقاتٍ قبلكِ كان غبشاً، تضمنُ الصحراء به سلالتها.
تصاعد من جوف الثغرة اذانٌ لؤلؤي.
رفعتُ رأسي عن ماء يديّ. أغلقتُ النافذة، ثم بدأتُ أصلّي.
الفضاءات لي. هي فراري. لكنه لم يقطع أبداً صلاتي. الأرض له. هي فرارُهُ. ولم أقطع أبداً قعقعة الحبر في حروبه. وعلى كل جرحٍ من جروحه، كنتُ أصبُّ هدنة قلبي.
- أحبكَ.
ولم أكنْ قد قلتها له.
أرخى كتاب "عشرة أيام هزّت العالم" لجاك ريد، الذي كان يقرأ لي منه، بحرارة، مقْطَعاً يصفُ فلاديمير لينين، ثم طالع في عينيّ مندهشاً، كقيثارة فاجأتها أصابع عازف قد مات. تنّهد طويلاً، ثم أغمض عينيه.
وبنفس يدي، أطبقتُ على يده.
- وسأحتملكَ.
كان قبل أن يدخل حرباً جديدةً، يأتي إلى مكتبي. يطفيء النور. يضع يديّ بين يديه، ثم يتلو نصوصاً أشبه بالسحر. نصوصُ هائم يحلم بغيمة يلفّ بها جسدي، لتمطرَهُ بي، بشفتيّ وعنقي وأصابعي. أكون أريد أنْ أرتمي على صدره، مُطلقةً للساحر قيد شهوته، ويمنعني خوفي من أن يؤجل حربه، التي طالما أنه فيها، يجدبُ السحرُ، تجدبُ الليالي والرسائل الصغيرة. تغدو المصلحة فقراً ينمو العلقمُ على ساعاتها الطويلة.
- أأنت الآن في النصر الذي تتوقُ له يا حبيبي، أم في الهزيمة التي تلاحق كتفيك؟
- أنا لا أخشى الهزيمة. الحربُ، مجردُ الحرب، هي نصري.
- وأنا؟ أيُّ منكَ لي؟
رفع رأسي عن كتفه، وأرخاه على وسادة السرير التي وضعناها على الأرض.
التقط الهاتف. طلب عشاءً وشاياً، ثم اتكأ على مرفقه إلى جانب رأسي.
- كأنني جئتُ أمس إلى هنا.
سألته بابتسامة اختبار.
- صحيح. متى جئت؟
- سأجيبكِ عندما أشرب.
لم نأكل شيئاً. احتسيتُ شايي، وأخذ هو يشربُ بشغف. كنتُ سأعيد السؤال مرةً أخرى، لكنه سبقني.
- لماذا أهديتيني المجيء اليكِ؟
- لأن أي هدية سواها، لا يستحقها سواك.
حين حطّت اجازتي أجنحتَها في هذه المدينة القريبة من المحيط، النابضة بخليط من المهاجرين، تذكرت هجرانه.
كنتُ أريدُ أن أبتعد ما أمكنني عنه، لكنني وجدتُهُ في سحناتِ المكسيكيين المغتربين. في المقاهي اللاجئة التي تعلوها أعلام كوبا وبورتوريكو والاوروغواي.
كان صوتُهُ الأخير يئنُّ في أذنيَّ أينما أكون.
- سافري. انفضي قلبك مني.
- أي قلبٍ سينفض خمس جنّاتٍ من نار عُمره؟
- أنا حجرٌ في مريء سنينك. يجب أن تشربي.
- لن أشربَ سواك. قطرةٌ موسميةٌ منكَ سينوء بها كاهل عطشي.
- أنت تكبّلين خوفي عليك.
- لا تخف.
- بل سأخاف. سأظلّ خائفاً حتى تبرأي مني.
- وهل تريد أنت أن تبرأ مني؟
لم يجب، فسافرتُ.
عندما أقلعت الطائرة عن الأرض، حاولتُ جاهدةً أن أُفرغَ عطر السنوات الخمس من قارورة ذاكرتي، وأن أستعيد تدريجياً، بعد كل مدينة نحلق فوقها، رائحتي الأولى.
- هو، بشتاتِهِ وتقلّباته، عاصمتي. فأيُّ رائحة ستكون لبلدٍ فرّتْ عاصمتُهُ من خارطة مطّرزة بأغنيات الخصب؟
همستْ لي أختي من مقعدها المجاور لي.
- أنتِ لم تأكلي شيئاً. سيلاحظ أبوكٍ ذلك.
كان يندهشُ من علاقتي الحميمة بأبي.
- إنه يملأ وحشتي بأوردة الابوّة اليافعة. يمنحني من اخضرار قلبه حدائق ترفرف على أشجارها الموسيقى. يقرأ في عينيّ كل ما أشتهيه، فيهيئه لي، قبل أن يندى به لساني. عندما أقارنُ بينكما، أحسكما رجلاً واحداً، يكفكف صباحاتي بكهولة مناديله، ويذرف مساءاتي بمقلتيْ شبابه.
- إذن، فلن تفتقديني حين أغيبُ عنكِ.
قلتُ لها.
- كم أفتقده.
- حسبتكِ حسمت الأمر.
- حاولتُ مراراً خلال سنين علاقاتنا أن أوصدَ يديّ دون نافذته، لكن رياحي تنهض، حين أنام عنه وتشرع صحوي له.
تناولت بعض العصير، ثم مسحتُ شفتيّ بإصبعي.
- سأتصل به عندما نصل.
- وماذا ستقولين له؟
- سأطلب منه أن يجيء.
- لن يجيء.
* * *
كادتْ رئتاي تمزقان أضلعي.
- ماذا لو لم يكن بينهم؟
استأذنت من الحارس أن أدخل إلى بوابة الطائرة.
ابتسم بخبثٍ:
- يجب أن أفتشكِ أولاً.
ركضتُ كطفلةٍ تسابق الليل لنهار العيد.
قال لي حارسٌ آخر:
- لقد خرجوا جميعاً إلى منطقة استلام الحقائب.
ركضتُ ثانية إلى خارج الطائرة.
صارتْ كلّ الوجوه في عينيّ وجهَه الأسمر، ذا العينين المختبئتين خلف زجاجتين تخفقان حدّة بؤبؤية.
- ها هو.
توقفتُ عن الركض لأسترد رخاوةً رئتي، ثم صرختُ من بعيد، باسمه.
كان قد استلم حقيبته، ووقف يجول ببصره في كلّ اتجاه.
تقاسمنا الركضَ، إلى أن تلامستْ أيادينا. طوى ذراعيه بجرأةٍ حولي، ثم طويتُ أنا ذراعيّ حوله.
- ألسنا في بلدٍ حر؟
- بلى.
كان صدرُه الملتصقُ بصدري، يخفقُ بإيقاع قصيدةٍ لم نقرأْها من قبل. دفنتُ وجهي في عنقه إلى أن استكملنا القصيدة. ولا أعرف كم مضى من الوقت، حين سحبتُ رأسه إلى الخلف بكفيّ، وقلتُ لعينيه:
- هل أتعبكَ السفر يا حبيبي؟
- بل أتعبني انتظار أن أصل اليكِ.
كان قد قضى يوماً وليلتين، يتنقل وحيداً من طائرة لأخرى، لكنه بدا منتعشاً، كمن خرج لتوّه من بحيرة التطهّر.
في السيارة التي كنتُ أقودها إلى حيث سيسكنُ، كان يضع كلتا يديه وخدّه على كتفي، يتلو سحراً أكثر بياضاً، أضَعْتُ بسببه الطريق.
* * *
- دعيني أزفّكِ إلى غرفتي.
دفعته بظاهر مرفقي.
- هيا. ادخل لترتاح.
- بل ستدخلين قبلي.
راعيتُ أن تكون غرفة الموتيل التي حجزتها له قبل أن يصل، قريبةً للمنزل الذي أسكن فيه، وللشارع المحتشد بالمطاعم والمقاهي.
- هل أعجبتك؟
- الزفّة؟ لا. لقد كنتِ مرتبكة.
ضحكتُ ثم رميت حقيبة يديْ على الأريكة.
تقدمت نحوه. شددت بأصابعي شعره.
- شكراً لأنك لم تخيّبْ ظني.
صمتَ لبرهةٍ، خلتُهُ فيها سيرمي مرساةَ شفتيه إلى بحر شفتيّ، ولم أكنْ قد أعددتُ مينائي له.
- لقد خيّبتكِ مراراً يا جنتي.
وضعتُ إصبعي على شفتيه.
- طالما نحن هنا، لا أريدُ أن نتحدث في هذا الموضوع. لنرمِ أثقالنا على جانبي قارعة الضوء. ولنركض حفاةً باتجاه شمس تمنينا دوماً أن نشعلها بين كتفينا.
- وسأداوي بهذه الشمس كل جرح سببته لكِ.
- قلتُ لك لا أريدُ حديثاً كهذا.
فاستسلم وجهه لي.
- أتعدني بذلك؟
- أحبكِ. هوذا وعدي القاتل.
قبّل كفّي، فاستأذنته.
- يجب أن أذهب الآن. لقد انتصف الليل.
- ومتى سأراكِ.
- لقد قلتُ لهم أن صديقاتٍ لي وصلنّ بالطائرة إلى هنا، وأنهنّ سيقضين أسبوعين. سأحضر لك كل يوم في الرابعة عصراً، وسنمضي بقية اليوم معاً.
عندما وضعتُ رأسي على مخدتي، تقافزتْ السناجب بفرائها الناعس إلى وجهي، وصارتْ تهدهدُني.
- لم أرَ المدينة إلاّ حين تسرّبَ هواؤها من بين أصابع وصوله. كان نومي قبل أن يجيء، أشبه بقطارٍ يدور حول رأسي، وكلما يصل محطتَه، أتفرّسُ في وجوه القادمين، فيذوبون.
في تلك الليلة، ودّعتْ مخدتي سكة الأرق، وانغمستْ في فراء السناجب.
* * *
ما إنْ جلسنا على المقعد المواجه للبحيرة، حتى تجمعتْ النوارسُ والعصافير الرمادية على السياج. نثر الذرة، التي اشتريناها من السوق المركزي، على الأرض، فحطتْ الطيور تحت أقدامنا.
- أكنتِ تحلمين أن ندفع معاً عربة التبضّع. أن نجوبَ أرفُفَ السوق لتلتقطي لي ما أحتاجُه وما لا أحتاجه.
- بلى تحتاجه. يجب أن تشرب العصير كلّ صباح. أعرف أنكَ لا تفطر، وأنكَ تدخن على جوف خاوية. انت هنا في عهدتي. دعني أهتم بك.
أوقفَ العربة، ثم طالعني مستغرباً.
- عُهْدَتُكِ؟
- أجل. عُهْدتي الموسومة بي. سأجعل من هذه الأيام ولادة أجهضتها سنواتنا الماضية. ستكون كل يوم، على شفا يديّ، وسأكون على مرمى تنهيدة منك. لا حرب لديكَ هنا، ولا أسوار تبتلعني عنك.
أحاط خصري بساعديه، ثم عضّ كتفي برفق.
- أآلمتُكِ؟
- لا تخفْ. هذا ليس حلماً.
التصقَ بي، ففزّت الطيور هاربةً، وأخذتْ تحلّق في شفق البحيرة.
قال وهو يشعل سيجارته.
- يا لطمأنينة البحيرة. إنها تستلم للناس الذين يذرعون شاطئها برياضة مسائهم، وللسنارات التي تمضي هوايتها في سمك قد لا يجيء، وللاطفال الذين يرمون فتات عشائهم للأوز الكسول، ولنا ونحن نغرس بصرَنا المغترب في زرقة سريرها.
- كأنك تحسدهم؟
- بل أرثي دمائي التي تنهشها ستائر العتمة.
صرختُ به مازحةً.
- هيه. هيه. هل نسيت وعدكَ؟
التصق بي أكثر.
- إنما كنتُ أجيبُ على سؤالك.
- ما بك يا حبيبي؟ لا تبدو سعيداً؟
- أبداً. لكنني كنتُ أفتقدكِ. صحوتُ باكراً وتمنيت أن أقطف أولّ صباح لكِ. شعرتُ لوهلةٍ، أن الستائر هنا هي ستائر هناك، فانقبض قلبي. كنت أراقب الرمل، وهوي يعبر بطيئاً عنقَ الوقت.
أعرف أنني أسرقكِ، لكنني ربما أريد أن أصحو على السرقة.
- وماذا كنتَ تفعل حتى جئت؟
- كنتُ أقرأ معوذاتي لباب غرفتي، لكيلا تقتله شهقةُ طَرَقاتِكِ.
* * *
فككتُ ربطةَ شعري، وصرتُ أنفضَهُ بقوة يميناً ويساراً. جمعتُهُ مرةَ أخرى، وأعدتُ ربطه.
مسحتُ العرق من عنقي بمنديلٍ ورقي قدمه لي.
- سترتاحين يا مهجتي، في هذا المطعم، من شمس الظهيرة.
- لقد مشينا كثيراً.
مددتُ ساقي على ركبته، دون أن أفكر، كيف تخلّصتُ بهذه السرعة من تحفظاتي، التي كان يستغربها في بداية علاقتنا.
- لماذا لا تكونين نفسكِ؟
- أنا هكذا نفسي.
- أتريدينني أن أصدّق بأنكِ لا تتوقين إلى أنْ أبذر قبلةً في مروج عنقكِ، أو أن أحصد من شفتيكِ شهْدَ سدرهما؟
- أريدك أن تصدق بأن هذا البرق، الذي يئنُّ في عينيكَ حين يتلامس وجدي بوجدكَ، هو الافق الذي أزرعه بكِ. وأن ثمارَهُ تفيضُ بكل القبل التي لم تهُبّ في نخيلي.
- سأحلّ رباط حذائكِ.
وبعد أن وضعه على الأرض، أخذ يدلِّكَ قدميّ.
- بعد أن نأكل، سنواصلُ جولتنا.
- لكنكِ متبعة.
- لن نغادر المكان حتى نرى كل شيء فيه.
كان مأخوذاً بالمكان.
ذهبتُ في العاشرة صباحاً. طرقتُ باب غرفته فلم أجده.
وفي المقهى الأقرب، لمحتُهُ يشرب قهوته ويقرأ.
فاجأته بأنْ صرتُ أعبثُ بشعره من الخلف. انتفض، فسقط الكتاب من يده.
- أنتِ؟
- وهل كنتَ تنتظر أحداً غيري؟
- صباح الزنابق التي بعثتها البارحة وراءكِ لتحرسَ نومَكِ.
سقطتْ عيناي على غلاف الرواية، فأجبتُهُ.
- صباح ليبيا التي يُزيِّنُها إبراهيم الكوني بروايته الجميلة هذه.
- هل قرأتيها؟
- أجل. واندهشت بالمناخات البكر التي لم يفضها كاتبٌ سواه.
- أأطلب لكِ قهوةً؟
- لا. يجب أن نذهب الآن.
- إلى أين؟
- إلى الاستوديوهات العالمية. سنحتاج يوماً لكي نرى كل شيء هناك.
- وهم؟
- لقد استأذنتهم.
وضع يده على يدي.
- لا يا حبيبتي. لا تجعليني أحسُّ بالإثم تجاههم. سأتعوّد على انتظاركِ.
نهضتُ عن الكرسي بتحدٍ حريري.
- ستذهبُ معي، أم أذهب وحدي.
كان أثناء تجوالنا، في مدينة الاستديوهات، يدرأ الشمس عن رأسي بمظلة ابراهيم الكوني، ويهفهفُ بها على وجهي، ونحن نصطفُّ في الطوابير الطويلة أمام دور السينما، ثم يلفّ خصري أو كتفي بساعده طيلة العروض.
وكنتُ أسأل نفسي.
- لماذا سكبَ المكان على قامتينا كلّ هذه الأنفة؟ لِمَ صرنا نطارد كالأطفال، فُقاعات المتعة. نُلوّنها بقمح بشرتنا البدوية، ثم نطلقها بحريةٍ صارخةٍ في هدوء السيّاح الشُقر، وضجيج باعة الأرصفة المهجّرين.
- ألم تعطشي؟
أوقفني أمام كشكٍ مظلّل، ثم اشترى كأسين من العصير.
ناولني كأسي وهو يسألني.
- أتعرفين من أيّ بلدٍ هذا البائع؟
- يبدو لي أنه من الصين.
- بل من فيتنام.
- يا للمفارقة التاريخية.
- هذا ما قلتُه له.
- وبماذا أجابكِ؟
- قال بأنكِ فاتنة.
* * *
مشتْ الغابة معنا.
كان، كعادته عندما يستقلُّ سيارتي عصراً، قد جلب معه علبتي مشروب مثلج، لفّ أحداهما بمنديل ورقي ووضع الأخرى في الدرج.
- لنخرج من المدينة. أريد أن يخلو المكان بي وبكِ.
اتخذتُ الطريق المؤدي إلى الكنيسة المحليّة العامة، ثم انعطفتُ باتجاه طريقٍ تكتنف الأشجار الباسقة جانبيه.
انتقى شريطاً لفيروز، ووضعه في جهاز التسجيل، فتبلل الزجاج بغيم صوتها.
"باكتبْ شِعرْ فيكْ
بكتبْ نثرْ فيك
شو ممكنْ يعني اكتبْ بعدْ فيكْ
معقولْ فيه أكثرْ
أنا ما عندي أكثرْ
ما كل الجُمَل يعني عمْ تنتهي فيكْ".
شدّتْ أصابعُهُ أصابعي.
طالعتُهُ فغمز لي مبتسماً.
كان قد أهداني هذا المقطع، بمجرد أنْ وصل شريط فيروز إلى الأسواق. وضعَه على مكتبي ذات خصام، مع ورقةٍ صغيرة كتبَ فيها.
- صدقيني. لا طعم للصبح، إنْ لم ينقُشْهُ حِنّاءُ عصافيرك. أنا بدونكِ مُظلم، يلطمُ بي صقيع جفائك، فارتعش فقداً.
بعد أن سمعتُ المقطع، اتصلتُ عليه.
- أنا لم أجفوكَ. لكنني بدأت أحسُّ أن الزهور التي يثمرها حريقُكَ بي، أخذتْ تتهشم. لقد اعتدتُ أن تكون محترقاً، تذرو النار في عينيكَ سجاد كلماتك.
- كيف جاءكِ هذا الإحساس؟ ألم أهديكِ في آخر زيارة خرزة هذياني، كي تحرس صمتكِ المفاجيء؟
- هذيانكَ لم يطفيءْ الرصاصة التي كانتْ تلاحقُ صدري، منذ انقطعتْ عني رسائلُكَ الصغيرة. صرتَ تجيء إلى المكتب، أشمّ عطر مجيئك. أبحثُ عن الورقة التي سأؤرخُ بها نهاري، فلا أجدها. ولا أجدُ الفوضى التي تعودتَ أن تتركها في مكتبي، فأستلّذ بترتيبها، وكأنني أرتّبُ باقةَ قلبك. لذلك أغلقتُ الباب عن شتائك، على أمل أن يستدير لي ربيعك.
لم يرد، فبادرته.
- أعرف أنك قد نحتّ لي أرجوحةً بين رئتيكَ لأغفو على شهيقكَ، لكن إغفاءتي لا تزهر اذا كففتَ عن هزّ حبالي.
- كم أنا مدينٌ لكِ.
- مدين لي؟! بِمَ؟!
- بكل طعنةٍ تداوين بها سَهوي.
وهددته بملوحةٍ الوله التي كانت تعصف بي.
- ان كررتَ سهوَكَ، فلن أسامح هَوَسَك.
مسح آخر الماء عن شفتيه، ثم صاح بي.
- توقفي هنا.
كانت الشمسُ قد ودّعتْ مضجع السماء، والأشجار الكثيفة قد خلعتْ قميص النهار، واستعدّتْ لصرير النعاس.
بعد أن أطفأت محرك السيارة، التقطَ العلبة الثانية ثم نزل.
- سنسير سوياً في الأحراش.
- ألا تخاف؟
- مِمَ؟
- لقد ابتعدنا كثيراً. لا بيوت ولا أضواء.
- سبق أن قلتُ لكِ. أريد أن أخلو بكِ.
- وماذا ستفعل بي؟
- سترين. تعالي.
دفعتُ بيدي الأغصان المتشابكة، ودخلتُ معه في العتمة.
انسلختْ جذوعُ الشجر عن جنيّات يشعُّ النور من أجسادهن العارية ليرسم أطفالاً ذوي أجنحةٍ بنفسجية يتصاعد منها بخورٌ يشقُّ الهواء برائحته.
أحاطتني أربع جنيّات، واقتدنني للبحيرة.
خلعنَ ملابسي، وبدأن يبلّلن جسدي بطهارة سائلة.
لم يكن ماءً. كنت أحس أنهنّ يلبسنني جسداً جديداً، هو نفس جسدي، لكنه غدا مُشّعاً مثل أجسادهن.
أقبلتْ علينا أربع جنيات أخريات، يحملن عرش مُلْكٍ، قوائمه تلمع ذهباً، وقطنُه من اوراق الشجر الفردوسي.
طلبنَ مني أن أعتلي العرش، ففعلت. ثم دخلتُ في غيبوبة يتناثر عليها صحو أجنحةِ الاطفال. مشتْ الجنيات بي، وكان لخطواتهن إيقاع دفوفٍ ممزوج بأغنياتٍ بلّلها اخضرارُ نخيل بعيد. وحين وصلنا ظِلّ الغيمة المحفوفة بسياجٍ رخامي، وضعنني على الأرض. انفرج باب الغيمة، وتدلى سُّلمٌ مصنوعٌ من ريش الطواويس.
هبط بخطواتٍ خافتة، ثم استلقى عارياً إلى جانب عرشي.
هبطتُ من العرش واستلقيتُ إلى جانبه.
وضعتُ كفي على شعر صدره، فغارتْ يدي بين أضلعِه، ثم وجدتني أدخلُ كلّي في صدره.
رأيتني أمشي على بلاط لزج، يفوح همهماتٍ خائفة. نوافذ على مستوى الأرض، تطلّ على رجال قيدّت السلاسل أفواههم وانغرستْ المسامير المحمّاة في أياديهم. نساءٌ عاريات بأنصاف وجوه تلعقن حلماتهن. أطفالٌ يحملون جرادل الماء ويحيطون شجرة معدنية.
مشيتُ إلى أن شارفتُ قلعةً محصنّة، في واجهتها بلورةٌ من زجاجٍ مطفأ، وعلى بوابتها المنيعة حاجبٌ مقنّع.
سألني.
- أأنتِ العروس؟
تحركتْ شفتاي دون أن أحكمهما.
- أجل.
- هل أنتِ خائفة؟
- كثيراً.
- أنصحكِ اذن ألاّ تدخلي القلعة. انها مدججةٌ بأسرار تصرخُ ليل نهار. حين ينام الجميع، يرتطم غليانها بالجدران، فأُحسّها تتشقق. وفي النهار تتنفس كمسلولٍ يستعطفُ الهواء. هذا الباب لم ينفتح لأحد. أنا أحرسُهُ منذ مولدي، لكنني لم أجرؤ على دخوله.
- أهو الذي أذن لي بالدخول؟
- أجل. لقد وصفكِ لي منذ أول يوم وقفتُ فيه هنا. قال لي بأنكِ ستجيئين ذات عرسٍ، يشعُّ جسدكِ بالضوء ويحرسكِ عبقُ الياسمين.
طار فوق رؤوسنا نسرٌ ضخمٌ له رأسُ أفعى، وقد برزتْ مخالبُهُ بحثاً عن الفريسة.
- يوماً ما سيكتشفُ مخبأ القلب.
- أتعرف مخبأه؟
أشار إلى حقل بعيد، فركضتُ على اللزوجة إلى أن وصلتُ إليه. كان يتمددُ وحيداً، مُستَلذّاً بوحدته على قمر من السنابل المشرقة.
لمحني، فنهض، تحيطه فراشاتٌ من القطن الناصع.
- كنت خائفاً ألاّ تجيئين.
غَزَلَ من الفراشات معطفاً، ستَرَ به جسدي. قبّلَ جبيني، ثم أحاط عنقي بكفيه.
- أتقبلين بي؟
قبضتُ على شفتيّ بقوة لكيلا ينفرطُ الكلام منهما.
سمعته يخفق باضطراب.
- سأهديكِ البللورة التي تدحرجتْ معي لحظة مولدي. إنها في انتظار لمستكِ لتنطفيء القلعةُ ويتحرر السجناء.
فجأةً، انقضّ النسر باتجاهنا، وهو يزعقُ بصرخةٍ جارحة.
دفعته إلى الأرض، وتكوّمتُ بكلّ جسدي على جسده.
- أنا خائفة يا حبيبي. دعنا نعود للسيارة.
* * *
- انه خارج غرفته يا سيدتي، لكنه طلبَ مني أن أعطيكِ هذه الورقة.
تناولتُ الورقة من عامل الاستقبال، وقرأتها:
"أيتها الفردوس المُفرطةُ بعناقيد الوئام. لقد أفرغَ انتظاري أعقاب سجائره، كلّ سجائره، في منفضة جحيمي المُطلّ على يباب رصيفكِ. لذلك خرجتُ. ستجدينني في المقهى المكسسيكي المجاور. أحبكِ: أنقشها على كلّ غمضةٍ انهمرت على جفنٍي، طيلة المساءات العشر، التي فضضنا سوياً بكارة نجومها".
دلفتُ المقهى، فوجدته يجلس إلى جوار سيدةٍ في الأربعين من عمرها، يفيض وجهها بنورٍ جنوبيٍ أخّاذ.
- مساء الخير.
التقط كفّيَّ، وقبّل ظاهرهما.
- كيف كان نهاركِ معهم؟
- مشحونٌ بالمشاوير كالعادة. وأنت؟
- لقد تعرفتُ على هذه العرّافة الجميلة.
- عرّافة؟
قدّمني لها، وكأنه يلقي شعراً انجليزياً.
- هذه هي حبيبتي التي أوصدتُ بدمها شراييني.
ضحكتْ السيدة أثناء ما كان يدفع الكرسيّ الذي جلستُ عليه.
- تماماً كما وصَفَكِ. جمالُكِ هاديء. وابتسامتكِ تلمع بالطفولة.
سألتها.
- أأنتِ مكسيكية؟
- لا. أنا من نيكارجوا. لقد هجرّتنا حروب العصابات التي قضتْ على عائلتي. فررتُ وحيدةً، عبر الغابات والجبال، إلى المكسيك، ثم جئت إلى هنا.
- وماذا تعملين؟
أجاب هو.
- تقرأ المستقبل، وربما تكتبه.
قاطَعَتُه، وهي تضحك.
- ليس هكذا تماماً. صديقُكِ هذا مملوءٌ بالمرح والغرابة.
- أهو غريب حقاً؟
- لقد سرد لي أشياءً لا تصدق. توقعتُ في البداية أنّهُ ينسجُ القصص من خياله، لكن إحساساً غيبياً جعلني أصدقه. انه نوعٌ من الرجال الذين يخوضون النار بجواد من خشب.
ابتسمتُ لها بدهشة.
- أعرفتِ كل هذا عنه؟
- وعنكِ أيضا. أنتما مثل زهرتين في قطبٍ متجمد. كل منكما يسكبُ الدفء في كأس الآخر لكي تنتشيا بصحراء الجليد.
همستْ في أذني.
- هو ليس ملاكاً. أعرف أنه لم يلمسكِ، لكنه يشتهيك.
اقتربتُ منها.
- هل باحَ لكِ بذلك؟
- هؤلاء لا يبوحون إلاّ بحروبهم.
قال لنا.
- أتريداني أن أترككما بمفردكما؟
وضعتُ يدي على يده.
- لا يا حبيبي.
ووجهتُ الكلام لها.
- نحن مضطران للانصراف.
- أنت تُعدّين له مفاجأة.
- أجل.
- إنّه يستحقها.
أراد أنْ يدفع ثمن قهوتهما، فرفضتْ بإصرار.
- أنسيتَ أنني أنا التي دعوتك؟
قال لها.
- ربما أراكِ غداً.
هزّت رأسها بالنفي.
- لا أظن أيها الفارس.
- من يدري يا سيدتي.
- هذا صحيح. الكون صغير مثل قبضتي هذه.
وظهرتْ على اصبعها خواتم تطعّمها أحجار كريمةٌ، لم أرَ مثلها في حياتي قط.
استقل السيارة إلى جانبي، وبمجرد أن أغلق الباب، سألني.
- ما هي المفاجأة يا حبيبتي؟
- سنسافر سوياً إلى المحيط. سمنضي هناك أيامنا المتبقية بمفردنا.
زعق كطفل اصطاد أنشودَتَه.
- بمفردنا؟
كنتُ قد أحسسته في الليلتين الماضيتين، يتشبثُ بكتفيّ عندما اهمُّ بمغادرته.
- إبقى قليلاً.
- لا أريد أن ينشغلوا عليّ.
فيفتح حقيبة يدي، ويصير يرشُّ عطري على سريره.
- حين تذهبين، تغصُّ غرفتي بفخاخ الخواء. وكلما أنجو بعطركِ من مصيدةٍ، تتربص الأخرى بي. أغدو بعدكِ مثل كوكبٍ يصارع السديم ليعود إلى مرابع مداره. تنكسر مرآة ما تبقى من الليل، فأنشغل بترميم صورتي، لكيلا تلحظين في الغد تهشمي.
- لقد كنتُ أقرأ ذلك في السطور الخفيّة للهفتك بمجيئي. لذلك أقنعتهم أن يسافروا في رحلةٍ سياحيةٍ قصيرة إلى جامايكا. لقد رتبتُ كل شيء لهم. أخبرتهم أنني سأبقى هنا مع صديقاتي.
بانفعال شديد، فتحَ زجاج نافذته، ثم أخرج نصف جسده.
- ماذا ستفعل يا مجنون؟
وضع كفّيه حول فمه، رفع رأسه إلى الأعلى، مُطْلقاً صرخةً تشبه إشارات رعاة الجبال.
شعرتُ فجأة أن مقود السيارة يتحرك عكس ما أريد.
أطبقتُ قبضتيّ بشدة عليه لكي أتحكم فيه، لكن شيئا غامضاً كان يتحكمُ، آخذاً السيارة إلى الطريق الدائري.
لم أجعله يشعر بشيء مما كان يحدث. أشار إلى لوحةٍ صادفتنا بعد بضعة أميالٍ، ثم قرأها.
- "جزيرة المغامرة".
سألتُهُ.
- ما رأيك؟
- لنغامر.
انعطفتُ يميناً، حيث يشير السهم، فتحرر المقود، وعُدْتُ أتحكم فيه.
كان الرقص أكثر المغامرات تشويقاً، لذلك انتشرتْ المراقص داخل الجزيرة.
سحب يدي برفق، فشددته.
- لا. لن تكون لدي جرأةٌ على الرقص معك.
كان المكان مزدحماً، تسيلُ على جدرانه إضاءة خفيفة تخفق مع الموسيقى. وكنتُ ألمحُ وجهها بين الفينة والأخرى، مختبئاً بين وجوه الراقصين، وحين أحدّقُ فيه يأخذ صورة أخرى.
- أتشربين شيئا؟
- ألديهم هنا عصير فواكه بلا كحول؟
- لنجرب.
وعندما وضعتْ النادلة الكأس أمامي، رأيتُ نفس الأحجار الكريمة في خواتمها.
رفعتُ رأسي، لكنها لم تكن هي.
دقّ كأسه بكأسي مازحاً.
- في صحة من يهاب المغامرة.
بعد أن أنهيت ُ كأس العصير، سألني.
- ألم ترقصي من قبل؟
- لا.
- ربما تحبين الأغاني الهادئة؟
- هاه.
- ما بكِ؟
اختفتْ الأصوات والأضواء والأجساد، ولم يبقَ سواه.
تطايرتْ في هواء المرقص من كل اتجاه، أحجار كريمة.
نهضتُ. خلعتُ حذائي. وحافيةً، على نغم له نكهةُ الغابات والجبال، بدأتُ أتابع بأصابعي المرتفعة في الهواء، تلك الأحجار التي كانتْ ترقص حول رأسي. وكلما التقطتُ حجراً، تناهى إلى سمعي ابتسامة صوتها.
- تماماً كما وصفكِ.
بعد أن جمعتُ كل الأحجار، ضممتها على صدري. أغمضتُ عينيّ، فتوقف النغم.
- برافو. برافو.
حاصرني التصفيق، ففتحتُ عينيّ.
كانت دائرة واسعةٌ من الراقصين تحيطُ بي وتصفّقُ بحرارةٍ أكثر. فتشتُ عن وجهها بين وجوههم، فلم أجدْهُ، وكانت كفّاي خاليتان من الأحجار.
تقدم إليّ مأخوذاً، وخيطُ عرَقٍ يتصببُ من جبينه إلى صدغه، حاملاً حقيبة يديْ وحذائي.
ناولني الحقيبة، ثم جثم على ركبتيه، ليُلبِسَني حذائي.
جثمتُ أمامه. أمسكتُ وجهه، فطواني بحرارةٍ لم أشعرْ بها من قبل، بين ذراعيه.
كنتُ أتوقع أن تتجسد هي، في هذه اللحظة، أمامي.
* * *
قال لي، وهو يقفُ في الفسحة الفاصلة بين غرفتينا.
- لقد غربتْ الشمس. ألن ننزل؟
- بلى.
أغلقتُ بابي، ثم فتحتُ زجاج شرفتي المطلّة مباشرة على المحيط.
ارتديتُ قميصاً بحرياً فضفاضاً بلا أكمام، يصلُ طرفُهُ إلى نصف ساقيّ، ليغطي ملابس السباحة اللاصقة، التي اشترطتْ على البائعة، حين اشتريتها ألاّ تُظهر صدري وساقيَّ.
قالتْ لي.
- هذا القميص سيظهر نصف فخذيك فقط. إنه أكثر الألبسة احتشاماً لدينا.
أخذه بين أصابعه، وأخذ يحدق فيه.
سحبتُ القميص برفق من بين أصابعه، ثم أعدتُه إلى مكانه.
- هل نسيتَ شروطي؟
كان هو الذي يقود السيارة في الطريق البري إلى المحيط.
بعد أن وضع حقيبتَه في مقعد السيارة الخلفي، فتح بابي. ركع لي بطريقة مسرحية متقنة:
- لقد حان منذ هذه اللحظة العظمى، أن تكوني يا مليكتي في عُهدتي. هيا. لينتقل جسدُكِ الملكيّ إلى المقعد المجاور. وسيتولى عبدُكِ المتيّم، قيادة العربة.
أجبتُه بنفس اللهجة.
- سمعاً وطاعةً أيها العبد الساحر.
كنتُ سأسأله، بعد أن صار الطريق دولياً.
- هل أحسست بحركةٍ إجبارية في المقود.
لكنني تراجعتُ.
مسحَ بأصابعه على خدي.
- لماذا أنتِ صامتةٌ يا حبيبتي؟ بماذا تفكرين؟
- أنا حائرة كيف سيتّسع المحيط لحلمنا. هل سنسبح به أم هو الذي سيسبح بنا؟
توقعته سيقول.
- ليس ثمّة محيط سيتّسعُ لحلمٍ خبأناه منذ أعمدة السماء، في نسغ الليل.
لكنه قال.
- هذا يعني أنكِ ستسبحين.
- أتريدني أن أسبح؟
- أجل. أريدكِ أن تجدلي الملح بموج ذراعيكِ، وسيقف الماء لأغنية لم تجدّف بها حوريةٌ قبلكِ. بدا لي أنه قد نسّق حلمَهُ على ضفاف المحيط، فلم أشأ أن أغلق ضفافه.
- لكن لديّ شروط.
- المليكة تشترط ما تشاء.
- أن تكون ملابس السباحة محتشمة، وألاّ نسبح إلاّ حين تغرب الشمس.
سألته.
- ما رأيكَ؟
لم يكن قد شاهد كتفيّ عاريتين من قبل. ولحظتما وضع كفّيه عليهما، سالتْ من بين أظافري دالياتٌ من نشيجٍ مضيء.
- وماذا سيكون رأيي وكل هذا أمامي. صقورٌ غادرتْ ثلج السماء، لتحتطب قلبي.
سحبَ منشفةً، ووضعها على كتفيّ.
- هيا يا مليكتي. لنلحق عربة الغروب.
على الشاطيء، أمسكَ يدي، ثم طوىّ خصري بذراعه.
- دعنا نمشي قليلاً. الشمسُ لم تغربْ بعد.
مشينا حافيين، أسندُ رأسي على كتفه، وأغنّي لتلك القامة التي منحني اسمرار بيدائها. أغنّي صمتَه الذي يرسم كلاماً تتعثر خطواتنا المتلاصقة ببهائه.
لو لم يكن قد اشتهى سباحتي، لكان هذا المشي منتهى شجري. أنْ نمزّقَ بجرأة أقدامنا، هلعَ الرمل، وأن نستر بِصَمتِنا سوأة الكلام.
دفعني بذراعه إلى الماء، فركضتُ معه، إلى أن انتصف المحيط على أجسادنا.
كان الموج الهائج ينفرد بنا، فالناس الذين ظلّوا يسبحون طيلة النهار، كانوا قد غادروا.
- أرأيت؟ كل هذا البحر لنا.
فَرَدّ ذراعيه إلى الأمام، وقفز داخل الموجة التي دفعتني بعيداً عنه. سبحتُ لأقترب منه، لكن القميص الذي ألبسه، كان يعيقني. صرتُ أناديه، فيصيح بي.
- تعالي.
- تعالَ أنت لكي تساعدني.
سبحتُ إلى الشاطيء في انتظاره. جفّفتُ الماء عن وجهي وشعري، لكن ماءً حاراً ظلّ يموج في عينيّ.
قلتُ لنفسي.
- تجلّدي.
لكن الدموع انهمرت دون إرادتي، فوضعتُ رأسي على ركبتيّ، وأخذتُ أبكي.
سمعتُ خطواتَه المسرعة تلطم الماء، فحاولت أن أمسح دموعي.
أحاطني بذراعيه، ثم رفع وجهي إليه.
- أنت تبكين؟
أحسستُ أن أقواس العتمةِ التي كانتْ تصعد السماء، رَمَتْ نبالاً غامضةً في مشرق الوضوح الذي كنا نتراشق قبل برهةٍ بملحه.
- هيا. لنرجع إلى الفندق يا حبيبتي.
- لا سنبقى.
كنتُ أعرف أنه لن يسألني ما بي، معتقداً أنني لبّيتُ له طلبَ السباحة مجاملةً، دون أن أكون مقتنعةً، لذلك بادرته بالحقيقة.
- لا أعرف كيف أصِفُ لك ما حدث. لقد سمعتُ الموج يتلو سيرةَ أبي، والظلمةُ تبرقُ بكهرمان مسبحته. عاد المشهد بي إلى المطار حيث كنتُ أودّعه، وحينما أشرعتُ محراب عيني لعينيه اللتين كانتا تصلّيان بخشوع رطبٍ من أجلي.
- أتفتقدينه إلى هذه الدرجة، ولم يكنْ بينكما سوى نهار واحد؟
رميت رأسي مرةً أخرى بين ذارعيه وظللت أبكي في أحضان صمته، إلى أن هدأ المحيط.
* * *
جفا النوم عينيّ المجهدتين، وجسدي الذي ظلّ يذرعُ كل أرصفة المدينة المحيطية الصغيرة.
كان الناس، رجالاً ونساءً، يحطمون جدران أغسطس بأجساد شبه عارية، يتنقلون بها في الشواطيء والشوارع والمطاعم ومحلات بيع الهدايا.
وكنت طيلة الأيام الثلاثة، أرتدي بناطيل قطنية وفانيلات ذوات أكمام قصيرة. ويرتدي هو ملابس رياضية.
كان لا يعترضُ اذا اخترتُ له ما يأكله، أو ما يشتريه من هدايا، لكنه يصرّ على أن نرتاد كل المحلات وكل المطاعم وكل الشواطيء.
- حين نعود إلى شوارعنا، ستُعشبُ هذه الأيام في فنجانين قهوتنا السرّية. سنقرأ استقامة لحظاتنا في تعرجات البنّ، وفي الطرقات الطارئة على بابنا المرتعد.
كان يوقفني وسط الرصيف المكتظ. يُدخل أصابعه في شعري المنسدل على كتفي ثم يتلو عليّ ذلك السحر الذي يُطلقُ به جاني.
- لقد قضمتْ خطواتكِ جوهرة سُباتي، إلى أن سقطتُ في حفرة ظلّكٍ. أنا ظلُّكِ الذي يضّمد قارعة شمسكِ، ويؤجج الرخام لنزهتكِ. أنا نخبُكِ المخبوء في صحو وشوشاتكِ.
كنت أخشى أن تتداعى شفتيه على غبطة شفتيّ، لكنه كان يستفيق من ذاك الرصيف، ثم يركض بي إلى رصيف آخر.
طالعتُ الساعة، فاذا هي تشير إلى الثالثة صباحاً.
- لعله لم ينم.
نهضتُ من سريري. فتحت بابي، ثم طرقت بابه المواربَ بأطراف أصابعي، لكنني لم أسمع صوته. دفعت الباب، ودخلت.
كان مستلقياً على سريره، وقد غطّتْ الملاءة نصف جسده، غارقاً في النوم، وعلى الطاولة إلى جانب رأسه علبُ أدويته ومنفضةٌ بها ثلاثة أعقاب ورواية "مملكة الغرباء" للياس خوري، التي لم أكنْ قد قرأتها.
أطفأتُ التلفزيون، فغرقتْ الغرفة في ضوء السرير، وفي برد المكيّف الذي وصل منتهاه.
- سآخذ الرواية.
قلت لنفسي.
اقتربتُ من سريره، ثم توقفتُ. أخذتُ أحدّق في وجهه ثم كتفيه، ثم صدره.
لم أرَه نائماً من قبل. كانت شفتاه تبرقان بسحابةٍ أرختْ بياضها على ستارة جبل مطمئن.
- أتراه يحلم بي؟
فتحتُ الستارة، فوجدته خلفي، يطبقُ بذراعيه بحنوٍ على صدري.
استدرتُ اليه. وفي صمت التصاقنا، أطلقتُ هدهداً إلى سنديان عينيه:
- أتشتهيني؟
- أنا لست ملاكاً.
لم يكن صوتها. كان صوته الذي كلّما أسمعُه يهتزّ فلَكي، فتتساقط الأهلة على شتاتي.
- ألستَ ظلي ونخبي. ألستُ جنّتكَ وأرجوحة رئتيك؟
- بلى يا حبيبتي.
سألتُه أيضاً، والبرد قد بدأ يعجُّ في أوصالي.
- لماذا إذن تشتهينني وتُحيلُ نخب الجنّة إلى رماد؟
أطلق ذارعيه عني. التقط فأساً وأخذ يهوي به على الأغصان التي شقّتْ جدران الزجاج.
على الأرض الرملية، صنع سريراً، ثم أضرم النار فيه.
بدا وجهه في النار، كجوادٍ تراجع عن منازلة الغبار.
صاح بي.
- تدفأي.
التهمتْ ألسنَةُ النار الزجاج الذي كان يحيطنا.
هاج خوفي، وازداد عواءُ البرد داخلي.
التصقتُ به، فاكتشفتُ أننا عاريان.
دفعته معي إلى السرير، كي نحترق.
وقبل أن يترمد جسدانا، أغلقتُ الستارة.
التقطتُ الرواية، ثم خرجتُ من غرفته إلى غرفتي.
* * *
- هيا كُلْ شيئاً. لقد أوشكتْ الليلة أن تنتهي.
طالع قاع الليلة، ثم صبّ ما بقي فيها في كأسه، وبالكأس الأخير نهض.
مدّ يدَهُ لي لكي أنهض معه، ثم لفّ ذراعه خلف خصري.
مشى بي إلى الشرفة، وكان الكرسيان، اللذان لمحتهما قبل أن يجيء إلى غرفتي متباعدين، متلاصقين يواجهان المحيط.
أجلسَني ثم جلس.
وضع كأسه على حافة الشرفة، فلمعتْ على حافته ضحكة القمر. وكان هدوء الموسيقى، المنبعث من الغرفة، يدغدغ ظهورنا.
- ألن تقول لي متى جئت إلى هنا؟
كنتُ أتوقع أن الزجاجة ألبستْ صحوهُ هسهسة النوم، لكنّه كان أكثر صحواً.
- بأي حساب أُعدّ هذه الهدية يا مليكتي. عندما جئت إلى هنا، كنتُ أخبيء زنابقنا الخمس في تعويذة السفر. وعندما ضممتكِ في وضح وصولي، شفّت الزنابق قماش السنوات، وعَلَتْ في هواء حقبة فرّتْ من ازميل التاريخ، لتمنح إزميلنا كهفاً نحفر عليه لغتنا. كنتِ البدائية التي اختصرت سلالة حواء. هربتِ لكي تخلقي لي مأدبة الفوضى. أنا الآن، في فوضاكِ الأنيقة، مقيد برباط هديتكِ، فكيف أحسِب؟!
كان القمر يغادر في تلك اللحظة سماء الشرفة.
تجرّع الكأسَ دفعة واحدةً، ثم استدار بصدره اليّ.
- لقد غادر القمر.
- لا. لم يغادر يا حبيبي. ستجدُه الآن في حقيبتك. حين كنتُ أقود سيارتي في الطريق إلى مجيئك، كان يتبعُني. كان لا يزال هلالاً. أوقفتُ سيارتي، وبشريط الوردة التي جلبتُها لكَ، ربطتُ عنقَه، فقال لي: أنا الآن لكِ. كنتُ أسأله وهو يكبر كل ليلة: كيف كنا اليوم؟ فيجيب: أنتما تكبران مثلي. كنا في تلك الليلة أكبرَ ما يكون. وحين اغرورقت عيناي بالدمع، لم أمنعهما.
- سأفتقدكَ.
مسح بكفيه خدّي. فسقطتْ أحجارٌ لامعةٌ على أرض الغرفة، لكنه لم ينتبه لسقوطها.
اقترب وجهه من وجهي، فاحمرَّ هواء رئتينا.
سألتُ غيبوبتي.
- هل سينجو؟
كان كل وريد يمنحُه نبضَ رفيفي، ليعلو إلى السماء.
- هذه السماء لكِ وحدكِ.
- بل هي لنا.
أطبقتُ أصابعي على يده لكيلا يكفّ عني، لكن يده سالت كالرمل من يدي.
اتكأ برأسه على ظهر المقعد، وأخذ يلتقط أنفاسه بنشيجٍ أخافني.
كل وجهه كان يهتز كذبيحٍ يجرُّ حبل حياته.
لم يكن عَرَقاً هذا الذي انهمر من عينيه.
كان يبكي.
نهضتُ من مقعدي، ثم ضممتُهُ، لكن جسدّه كان هلامياً.
- سأفتقدُكِ.
التفتُّ إلى صوته، فاذا هو واقفٌ على حافة الشرفة، وحزن كحِداد الأشجار التي عصفتْ بها هجرة الماء، على وجهه.
فرغَ من سيجارته، ورماها من طابقنا العاشر إلى المحيط، ثم قفز وراءها.
سبتمبـر 1993م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق