مصابيح العزلة
الجنيّــة
لمَ لا تخرجين الآن أيتها الشيطانة. إنني في هذه اللحظة أسلمُ روحي لخالقها، وليس من العقل أن نصعد معاً. دعيني أرحل اليه وحدي. لا تخافي. لن أشتكيك اليه. سأقول له. يا رب، لا أدري لماذا اختارتني أنا دون كل هؤلاء الرجال؟ وسأقول أن ما كان بي، كاف لنسف جبل عظيم من جبال "القارة." أذكر كيف دخلت في. كنتُ عائداً من السوق الى البيت بعد أن هدّني حمل بضائع الناس الى بيوتهم. دخلتُ منزلنا المندس آخر البيوت وكان الوقت مَغرباً. بحثتُ عن القنديل، فلم أجده، فهذا هو اليوم الأول الذي أدخل فيه البيت دون أن تستقبلني أمي بدعواتها الغامضة. لقد رحلتْ. بكتْ كثيراً قبل أن يتجمد الماء في حلقها. قالتْ. "انتبه لأخيك، ولا تنسَ أن تضحي كلّ عيد لي ولأبيك. يا ولدي لقد طعننا الفقر، لكننا نحبُ الله، ونحب ألا نمدّ أيادينا للناس". أطفأتْ أمي ضوء عينيها دون أن ترى أخي وهو يستوقف المارة ليجبرهم بقوة شكيمته على إخراج أي قطعة نقدية والا تراشقتْ قبضاتُه على وجوههم وبطونهم. كان يختفي في أماكن مخيفة لا يصلها أحد. وقيل أنه يربي هناك ذئبة داكنة وأنه اذا حدث وتأخر عليها تعوي حتى ترتجف "الكُوتُ" كلها.
في يوم رآه الناس في طرف البيوت يأكل لحماً نيئاً ويعوي، وعندما سأله الأطفال. ماذا تأكل؟ أجابهم والدم يقطر من بين شفتيه. إني آكلها هذه الملعونة. ركضوا لي في السوق وأخبروني بأمره. حين وصلت اليه كان قد نام وكانت تفوح من جسمه رائحة غريبة. أغمضتْ أمي قلبها دون أن تغني. كانت عندما يشتد الألم عليها تنشد موالاً أوله اسم أبي وآخره اسم أبي. لن أجد القنديل بدونها. هكذا قلت لنفسي. وبالضوء الذي في ذاكرتي وصلتُ آخر البيت وتمددتُ. صرتُ أسمع صوت خطوات تمشي حولي. ناديت أخي باسمه لكن لم يرد أحد. توقفتْ الخطواتُ، ثم بدأت أسمع صوتاً خفيضاً ينشد موّال أمي. كان الموال يبدأ باسمي وينتهي باسمي.. استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، فازددتُ قوة. أخذ الصوت يتلاشى شيئاً فشيئاً وصرت أسمعه، وكأنه آت من أعناق أبعد نخل في الأحساء. بدأت أنصتُ كي لا يغيب. فلقد كان من شدة حلاوته يبلل أذني. كان يبدو صوتاً لامرأة يافعة، واشتهيت أن أراها. في هذه اللحظة عاد الصوت واضحاً. أنشدت الموال مرتين ثم توقفتْ. همستُ بصوت مبحوح. إنس أم جان؟! امتلأ البيت بنور لم أشهده في حياتي كلها. نور مثل هذا الذي يحكي بعض شيوخ "الكوت" انهم يشاهدونه في سماء رمضان. حاولتُ أن أرى حولي، فلم أستطع، غير أني رأيت ضباباً لمرأة في كامل عريها تشرب من طرف الماء. وقفت. مشيتُ اليها بخوف حتى اقتربتُ منها وتسللت رائحة المسك الى أنفي. أحسست بدوار عظيم. وقبل أن أسقط، رأيت بوضوح شعرها الأسود يغطي ظهرها ويطير معها الى فوق. في الفجر، صحوتُ. وكان غريباً ألا أحلم بشيء على الإطلاق. كان نوماً خالصاً لم تعكره الكوابيس التي كانت تحتل لياليَّ. "الكوت" تحترق وأطفال يتساقطون من الغيم فتتهشم جماجمهم، أو رجال مقنّعون يمزقون صدور الرجال ويصلبون النساء على سلالم من جمر، أو نمل ضخم يلتهم ألسنةَ الفتيان، ويدفع بأرجله الجدران حتى تسقط، أو أشياء حديدية تلمع في الفضاء وتقذف نيرانها على النخل، أو جبال "القارة" وهي تتحول الى أسرى يقودهم الجنود الى سجن من طين. لا. لم يكن ليلتها أي من هذا. كان نوماً عميقاً، خلعه من عينيّ صوتُ ماء على جسد. ناديت، فكان أخي. سألته. أين كنت البارحة؟ فلم يجب، لكنه ضحك بشدة. لماذا تضحك؟ خرج من الماء. وضع كفّه على كتفي وقال. سوف أبيع نصيبي من هذا البيت. دخلت بعده واغتسلت، ثم التقطت زنبيلي وانطلقت للسوق لأعمل بجهد لم أشهده بنفسي قط. كنت أحاول أن أرفع رأسي في البيوت كي أرى امرأة، لكن عينيّ كانتا ترفضان أن تبارحا الأرض، فأكتفي أن أصل المطبخ وأضع الأمتعة على أرضه ثم أملأ رئتي بهوائه، لعلني أصطاد ولو رائحة لأنثى. وقبل أن تغرب الشمس عدت الى البيت، لكني لم أدخل حتى غربت. كنت خائفاً ألا تحضرين وكنت خائفاً أن تحضري. في أشد البيت ظلمة جلست، ثم تمددت. صار الصمت يضجّ في أذني، فبدأت أغني الموّال مستهلاًّ إياه باسمي. كنت أغني خائفاً، ثم أعطاني اللحن شجاعة، فانسجمت. اشتعل ضوءٌ كالشمعة في أقصى البيت. توقفت عن الغناء، فانطفأ. عدتُ أغني، فعاد. ثم بدأ الضوء يكبر ويكبر حتى شعّ البيت بلون أبيض ناصع. ورأيتك تهبطين. كنتِ هذه المرة ترتدين ثوباً أبيض زادك إشعاعاً. وكنت جميلة كحورية الأساطير.. وكان شعرك يحيطك كدالية عنب. جلستِ الى جانبي وقلتِ. يا أحمد، ليت كل الرجال مثلكَ. كان صوتكِ مرمراً. قلتُ لك. الجنيّات لا يعشقن إلا الأمراء. فقلتِ وابتسامة أجمل من كل نخيل الأحساء على شفتيك الهلاليتين. في قلبك يا أحمد يصطفُّ كل أمراء الكون. همستُ مخنوقاً. لكن الفقر غراب يسرق القلب.. ابتلعت ريقي وتوقفت عن الكلام، وصرت تغنين موالي طويلاً. وعندما انتهيت، قلتُ لك. غراب يسرق القلب يا.. يا حبيبتي. قمتِ ورقصتِ. رقصتِ حتى هطل من تحت أذنيك لؤلؤ من العرق. مددتِ يديك لي. خفتُ أن ألمسك. لا أعرف لماذا سكنني هلع بأني لو لمستكِ سأتحول جنياً مثلكَ، ولم أفكر لحظتها أن لا طائل من أن أكون أنسيّاً. صدقيني كان كحزن كل الكون عندما أعدتِ يدك الى صدرك وطرتِ. بكيتُ. غنيّتُ موالكِ طويلاً، لكنكِ لم تعودي.
الشطران
لم أكن أقرب اللقطة. كانت أقرب اليّ من شهيقي الذي تلوث بتبغ لم ينطفئ منذ حافلة النقل الجماعي التي صعدتها معه عن عمق الصحراء.
قال لي وهو يتخذ مقعده الى جانب النافذة.
- ستقتلنا شمس آب.
كنت أفكر.
- لماذا هو هل اخترته ليرافقني في هذه الرحلة المميتة بمحض الصدفة أم أن ثمة هرباً مشتركاً نويته مسبقاً؟!
كان صوتها يطرق ضجيج الأطفال والنساء المتعكرات بأحجبتهن.
- انه بحاجة الى صديق حميم مثلك ليخرج مما هو فيه. سافر معه الى مكان تحبانه.
- لكنني أعاني من ضائقة مادية.
صمتت، فانفرط من صمتها هذيان أصفر.
- هو يعتقد أنه وجّه الطلقة الى يده لينقطع وريد الكتابة، وجّهها إلينا جميعاً. لقد قتلنا جميعاً، ونجا هو ليعود يكتب لمن أسكنها فجاءاته قصائد من غشاوة يهرب بها من مقصلة البيت الشائكة.
أأقول لها.
- ألست أنت التي صبّت رصاصك على قيوده؟!
أأذكرها.
- حين أطلق عصفورتك من قفص بددت ريشك في شجر استوائي تحرقه الشمس. لم أجرؤ، وهذه عادتي، أن أدخل في بحر ليس لي.
- لماذا لا تردى؟!
قلت مكملاً كلامي.
- لكنني سأتدبر أمر هذه الضائقة.
- كيف؟!
- لا عليك.
ابتسمت لابتسامتي، وأغمضت عينيها عرفاناً.
- كنت أعرف أنك لن تخذلني.
قلت له مازحاً.
- ان لم تقتلك الطلقة، فكيف ستقتلك الشمس؟!
لم يضحك، بل سحب ستارة النافذة الى الأسفل ثم أرخى رأسه على المقعد.
كانت اللقطة مفجعة.
أحسست أن هذا النبض المضطرب الذي يزلزل أضلعي سيمحو قلبي الآن.
- لماذا جئنا الى هنا؟!
توقعت أن يرد علي.
- أنت متعب من السفر. دعنا نعود الى الفندق.
كنا نقطن فندقاً صغيراً، بغلق أبوابه وكهرباءه في العاشرة مساء وليس ثمة خدمة على الاطـلاق.
بحثنا كثيراً كي نجد الأرخص وبمجرد أن وجدناه وضعنا فيه حقيبتينا. التقطت كاميرتي ثم خرجنا.
- لم لا ترتاح. لقد قضينا يومين في السفر حافلة إثر أخرى. جوازات ومراكز تفتيش. لقد نزفنا جهدنا وكرامتنا كي نصل الى هنا. دعنا نرتاح، أرجوك.
- سنرتاح ليلاً. هيا.
أخرج صورتها، وقبل أن يضعها في جيبه طالعها برهة. لمحتها. وكنت أراها لأول مرة. وكنت قادراً على أن أرى الفرق.
أنا الآن على صراط ملتهب. صراط جلد قيامتي أنا أيضاً. جحيمان أقضّا إيماني. وكلما يهتك دمي جحيم، ألوذ بالجحيم الآخر.
- كيف تكون لي؟!
- تعرفين أنني لك؟!
- بل أنت أبعد من الهلال عن كفي. حين تكتب لي، أحس أن السماء تضخ الضوء في نجومها. وعندما أغلق باب غرفتي دوني، أشعر أن دفء جسدها إلى يمين جسدك يقضّ يسار سريري الخاوي منك. مذ لامس زجاجي بخارك، وأنا أعرف أن الشمس، تلك التي قيدت معصميك، لن تغيب عن ليلى. اخترت ألا أنام من أجلك فسيجيء يوم، وأعرف أنه على مشارف تقويمي، تطلق فيه قدميك لهواء الغياب.
- وستكون عيناك معي. في زوّادة النص الذي لا يثور إلا بك. هكذا اتفقنا حين صعدنا معاً أرجوحة القنديل السري. أن أحتمي منك بالغياب. كل هذا الذي أبديه لهم، أحوم به لك. لم أخف يوماً أن يشموا عطر جرحك، فكل ثيابي زينتها بخيوطك. هم يعرفون ذلك. يعرفون أنك الموسيقي الخافتة التي أرتبها في مكتبتي. أنك خضرة النهر الذي أستحم بأعشابه مساء كل نص. وأنني معك لن أطلق الرصاصة على يدي، بل سأطلقها في الهواء لتزخرف السقف باسمك. وتصير الغرفة الموصدة، تلك الغرفة الصغيرة الملونة بموسيقاي وكتبي. هديتي التي سأتركها لك.
- هل ستخرج، أم أخرج وحدي؟!
وضع الصورة في جيبه، ثم نبهني.
- لا تنس هويتك.
حواجز التفتيش المنتشرة في المدينة مدججة بالجنود والأسلحة. هكذا تستقبلنا المدينة التي نطقت بها ألسنتنا منذ لحظة الوعي الأولى. وكنا نراها حين تنام المدن في خصوماتها، حمامة نور تحمل في منقارها بقشة القصائد التي لم نعرف كيف نكتبها بعد. وحين شببنا خبأناها تحت وساداتنا لنسرق من رائحتها كلاماً نقوله لفتيات أحلامنا. هي التي علّمتنا كيف نلحن للوطن والنرجس، منـتشين بسفر لا ينتهي الى الأبجديات البيضاء.
حدق الجندي في وجهينا، ثم طلب من سائق التاكسي أن يأخذ المسار الأيمن.
سأله السائق.
- ما الأمر؟!
- سيفتشون السيارة. أعتقد أنه يشتبه بكما.
سأحتمل اللقطة.
كيان من الاسمنت، تحول بفعل القذائف الى سجادة غائمة بالشظايا، وبهجرة الأجساد الى آخرة رمادية. غامت عيني فاختفى المشهد. رأيت المدافع في الشطر الآخر من المدينة تصوب غيلانها على المباني المكتظة بأطفال ينتمون للمدافع بمحارب اشترته الفصائل بعبث بخس.
- أطلق قذيفتك.
وبانتحار مجاني يطلق، فيتحول المبنى الى شهادة مرة تجز بياض المدينة ثم تحيله الى غبار باك.
أمسح دمعتي، وأحول ببصري في المكان. صحراء من الدمار تتصاعد منه صرخات كتمتها مقبرة الظهيرة، فتحولت الشفاه الى نوافذ ينـز منها عري الشوارع.
- كما أقترب من شفتيك، يشع من همهماتي قمرُ الانشطار.
- هيا. اطلق رصاصتك يا حبيبي.
التفتُّ اليه، فاذا هو يمشي وسط حطام ائتزر بين شطري المدينة، وثمة لوحة صغيرة تعدتها قدماه، مكتوب عليها.
- حقل ألغام.
الطلقـــة
أحاول منذ شهرين أن أجلس الى الورقة لكي أبدأ القصة، لكنني أفشل في لك مرة. وأتذكر كيف كانت تطاردني بهواتفها.
- هل كتبت شيئاً؟!
- لماذا تريدينني أن أكتب؟!
- لكي ترتاح. أنا أعرفك جيداً. لن يزول توترك طالما لم تكتب شيئاً.
كنت أعيش حالة مرعبة من الشتات. كلما أمسكُ القلم، تنتابني قشعريرة وخوف يجعلاني أكره طاولة الكتابة. صورة ذلك الشخص تطاردني في كل مكان أكون فيه. وحين أنام، يختلط في كوابيسي التي تزايدت لتزعج زوجتي كثيراً. وكانت تبرر ازديادها بحالة العجز التي بدأت أشتكي منها.
- لا بأس. أنت لست الرجل الوحيد الذي يواجه مشكلة كهذه. أعرف أن كل الظروف تخنقك. سأحتمل. لا تقلق.
أعود للنوم، ليخرج هو من خلف قضبان معتمة يتطاير منها الدخان. شعره أشعث ووجهه مشوه بالحروق وملابسه ملطخة بدم جاف.
يحاول بقواه المتهالكة أن يفتح القضبان. وحين يفشل، يبكي بصوت يشبه حشرجتي. أتقدم نحوه. أمسك القضبان، فتنفتح.
أناديه.
- اخرج.
يناديني.
- ادخل.
دخلتُ الغرفة، وكنت قد اشترطتُ على موظف استقبال الفندق أن تكون مواجهةً للبحر.
- أنتم الكتّاب تحبون المشهد البحري.
فتحتُ الستائر، فانهمرتْ على أهدابي قياصرةُ الغيم. كل قيصر يهديني بحرَهُ، كي أدين له بالولاء.
قال لي حامل الحقائب.
- الجو جميل وربما تمطر.
دسستُ ورقة نقدية في كفه. وضعها في جيبه دون أن يطالعها ثم ظل واقفاً.
توقعت أنه يريد المزيد. أدخلت يدي في جيبي، وحين أخرجتها، انفجرت بالنار.
- أريد أن تستمع الي.
- من أنت؟!
- سمني ما شئت.
- اذن أنت هو.
- أجل.
كان منهكاً. ملابسه الفضفاضة تخفي جسداً، هو الذي كنتُ أراه دوماً في كوابيسي. ضامراً كجسد جواد ينتظر الطلقة.
أمسكته من كفّه وأجلسته على طرف السرير.
- أتريد شيئاً تأكله؟!
- لا.
- أيمكن أن أشرب شيئاً.
- بالتأكيد.
تناولتُ من الثلاجة الصغيرة علبتين. فتحت له علبة ثم فتحت علبتي. مددتها له، فلم يمد يده، فوضعتها على الأرض، وأرخيت شفتي لعلبتي.
- أتريد حقاً أن تستمع اليّ؟!
طالعت عينيه، فاذا هما تدرءان كهولة الظهيرة بحطام السهد.
- بل إنني متلهف.
استجمع ارتجافات يديه، ومسح شاربه الذي ابيضت عدة شعرات في منتصفه.
- مصيري هذا اخترته بيدي. ذات ظهيرة تشبه هذه الظهيرة تماماً، جلست في ركن غرفتي المدمرة بظلام الستائر، ثم أوقفتُ تنفسي. كنتُ أحسب أنني سأكون قادراً على الموت. لكنني كلما اختنقتُ صفعتني رئتاي بالهواء.
- اللعنة.
مزقت ثوبي وركضت الى الحمام. وبجرأة من يتحدى الموت، التقطت موسى الحلاقة وضربت أوردة معصمي. تطاير الدم على جسدي، فلم أهلع. عدت الى الغرفة وتمددت على السرير، كان قميص نومها الأبيض، منذ الليلة التي اختلسناها، لا يزال منتشراُ على الوسادة. ضممته بنزيفي وبدأت أبكي.
- لا. لن أموت وحدي.
تناولتُ قداحة السجائر وأشعلت قميصها. اختلطتْ النار بالدم، فصرتُ أضحك بهستيرية. مشت ضحكتي خارج البيت، فغرق الشارع بالطوفان.
بعيني المغمضتين، رأيت الناس يخرجون من دكاكينهم الفقيرة وبيوتهم الصغيرة ويهرعون الى لا مكان لينجوا بأنفسهم من الماء. ثم رأيتك تخرج من الجريدة. قامتك أطول من قاماتهم جميعاً. وكلما انتشلت غريقاً ينصهر جسده من بين أصابعك ويطفو بلزوجته على الماء. صرت تحاول أن تخترق الجثث لتصل الى حريقي. وفي الطريق، رأيتها. قامتها مثل قامتك.
مدت يدها لك، فجفلت.
- مد يدك، مد يدك يا جبان.
- أنا لست جباناً. أخاف أن تنصهر. إنها آخر السلالة.
مشيتما معاً باتجاه بيتي.
- أتعتقدين أننا سنصل اليه في الوقت المناسب؟!
- يجب أن ننقذه.
دفعت الباب، فتحطم. دخلتما علي، فاذا أنا في ذروة الموت. طالعتني وأنا أرمقها بعينين فقدتا شهوة البصر.
قالت لي.
- لا تمت.
- ولماذا أحيا؟!
قاطعتني أنت.
- أريد أن أعرفك أكثر.
- لقد فات الأوان.
- لا. لا. لم يفت.
ركضت أنت الى الستائر، وأشرعتها جميعها. فتحت النوافذ، فلاذ الطوفان بالفرار، وطارت لزوجة أرواح الغرقى في الهواء. خلعتْ هي قضبان النوافذ وأحاطت سريري.
- هكذا، لن تخرج روحك.
مدّت يدها الى يدك، فالتقطتَها. رأيتكما تقتربان من بعضكما الى أن صرتما في عناق. قبّلتَ خالاً في يسار عنقها، كما فعلت أنا أول مرة، فأغمضت عينيها.
دق الباب، ففتحت عيني. مشيت الى الطارق ونشوة العلبة الأولى تدب على كتفيّ.
- معذرةً على ازعاجك. هذه الفواكه ترحيباً من إدارة الفندق بك.
اعترضته بجسدي لكيلا يدخل ثم تناولت السلة منه.
- شكراً.
رجعت الى السرير، فلم أجده. وضعت السلة على الطاولة، ثم بحثت عنه في الحمام والشرفة، لكنه لم يكن هناك.
أخرجتُ آلة التسجيل الصغيرة. تمددت على السرير، وبدأت أسجّل ما أقول.
- لن تقنعني بأن ما حدث كان حلماً قدرياً، أو أنه جاء بترتيب قصدي منك. أنت كامنٌ في لاشك، لكنني أقوى منك. هؤلاء القتلى كانوا ضحاياك ولن ينساهم الماء. كان عليّ أن أمنحك شيئاً من روحي لكي تعيش. لكي يقتص الشارع منك. لكن الآن تقتص مني. تهدم ليالي بمجيئك وحشرجاتك وعجزك. أنا لست أنت. هؤلاء الناس أدين لهم بأصابعي. هم جغرافيتي وتاريخي. هم يحملون أحجار الليل على أكتافهم لكي يبنوا نهاراً جديراً بهم. حين قبّلتُها لم أكن لأقبّل سوى نقش سلالتها البدوية التي أهدرت أنت نياقها. ها أنت تخرب نهاراتي بفؤوس مجيئك الذي لا ينقطع. لكنني أتحداك. سأكتب. سأكتب كما أنت، وسأنتصر على عجزك.
تصاعدتْ في الغرفة رائحة جيفة، فأوقفت آلة التسجيل. بحثتُ عنه مرة أخرى، فلم أجده. فتحتُ علبة ثانية، ثم أعدتُ الشريط لكي أستمع الى ما قلته. ولم يكن هناك غير ضحكته التي هزّت السرير وبعثرت الفواكه.
تراجعتُ الى الخلف، ثم سقطتُ في ركن الغرفة. احمّرت الأشياء في عينيّ وتعطل تنفسي. مزقت قميصي ثم ركضت الى الحمام. وقفت أمام المرآة وأخذت أحدق في وجهي. تناولت موسى الحلاقة وبدأت أحلق ذقني. وعندما انتهيت، توجهت الى الشرفة المطلة على البحر. كان الناس يسبحون والغيم ينسّق قياصره على عرش الهواء تهيؤاً للمطر.
بدأتُ ألتقط الفواكه المتناثرة على الأرض، وأعيدها واحدة واحدة الى السلة. رتبت السرير ثم جلست على الكرسي. أخرجتً ورقاً أبيض من حقيبتي، وبدأت أكتب.
اللبوءة
تتحرك عقارب ساعة الحائط بسرعة مذهلة.
إطار اللوحة المعلقة بجانب الساعة مائل بشكل واضح الى الأسفل، فكأن البحر المرسوم بدقة سيصب أمواجه، ليغرقنا جميعاً.
الى جانبي، يجلس شابٌ بالغ الهزال. عروق يديه نافرة، وعيناه جاحظتان لفراغ لا يستقر.
أشمّ رائحة بن معتّق، وأحسّها تخترق جمجمتي، فتجعل القهوة تتقاطر كالندى على أغصان ذاكرتي. من الباب الضيق على يسارنا تخرج عجوز، وبين يديها صينية معدنية ضخمة عليها فناجين قهوة.
تمر أمامنا، وعيناها لا تفارقان وجوه القهوة.
تضع الصينية على طاولة صغيرة بجانب الباب الواسع الذي على يميننا.
تطرق الباب طرقتين.
دون أن نسمع إجابة، تفتح الباب.
تحمل الصينية وتدخل بها، ثم تخرج مباشرة.
تجلس خلف الطاولة الصغيرة. تفتح درجها ثم تخرج دفتراً لامعاً وملوناً.
تلتفت الينا.
- من الأول منكما؟
وتكمل مشيرة الى الشاب.
- أنت؟
ينفجر الشاب ببكاء مر، فتقفز العجوز عن مقعدها.
تسحب من تحت الطاولة سيفاً مذهباً، تجزّ به عنق الشاب.
يسقط رأسه بين قدميّ، فأكتم نفسي.
تطالع وجهي ببراءة عجيبة.
- ساعدني يا بنيّ في دفنه.
أنهض من مقعدي وأتحرك بهدوء لكي لا أصطدم بالرأس.
- هل يوجد يا سيدتي مكان للدفن في هذه الشقة العالية؟
- احمل جسده واتبعني.
تتقدمني حاملة الرأس بين كفيها، وأنا ملقٍ الجسد على كتفي.
أعبر الباب الضيق بصعوبة، فأجدني بعد خطوات في بهو بحجم البلدة كلها.
على أرض البهو تتراص بانتظام توابيت زجاجية لأجساد بلا رؤوس. ومن السقف تتدلى ملابس ملطخة بالدم، لا يفصل بينها سوى فوانيس تبعث ضوءاً شحيحاً.
أشعر بالوحشة.
أبحث عن العجوز فلا أجدها.
في تابوت زجاجي فارغ، أمدد الجسد ثم أمشي الى الباب. أعود الى نفس الغرفة التي كنت بها، فأجد العجوز تراجع دفترها.
أرمي جسدي على الكرسي، وأجعل رأسي بين كفيّ.
- فنجان من القهوة كفيل بتهدئتك.
- أرجوك. هذا هو فعلاً ما أحتاجه.
- أتشربه في الداخل؟
- كما تشائين.
- بل أنت الذي تشاء الآن.
أحسّ بأنها تدبّر أمراً، لكني أقرر ألا أضعف.
- آخذها في الداخل.
تفتح الباب الواسع، وتشير لي بالدخول.
أدخل، فتغلق الباب ورائي.
أمامي دَرَج طويل، على جانبيه طواويس تغرس رؤوسها في ريشها الملون.
دون وجل، أضع قدمي على العتبة الأولى وأبدأ أصعد بهدوء. تحت قدميّ تصدر أحجار المرمر صوتاً يجعل بعض الطواويس تفتح عيونها بتثاقل لذيذ، ثم تغمضها. أجعل قدميّ تصعدان بسرعة.
أصل نهاية الدرج، فتكون في استقبالي فتاةٌ تحرسها لبوءة وتطير فوق رأسها عصافير ملونة.
تلقي عليّ التحية.
أسألها.
- هل أنت وحدك؟
- أتريد أن تشرب القهوة معنا جميعاً؟
أرسم ابتسامة مزيفة تدلّ على النفي، فتبادرني بالقول.
- اذن تفضل.
أتبعها، تتبعني اللبوءة. تتبع اللبوءة العصافير الملونة.
أقول لها وهي لا تزال تسير أمامي.
- لماذا لا تتركين هذا المكان؟
- ألا يعجبك؟
- لكننا ننتهي منه الى توابيت الزجاج.
- ومن أين جئت لنا أنت؟ خارج هذا المكان، ينحشر كل الناس في تابوت اسمنتي واحد. أنت هنا تنتهي في تابوت زجاجي مستقل.
- لكن بلا رأس وبثياب ملطخة بالدم.
نتوقف أمام عجلة تدور ببطء.
ترفع خصلات الشعر عن خدها الذي يتلألأ كجليد يتقاطر على شفةٍ من العشب.
- اصعد على هذه العجلة وسوف تدور بك كما يفعل النوم. سيزداد دورانها، وستدخل في غيبوبة ذات مذاق عسلي، بعدها سوف أصعد معك.
تبتسم فتفرك اللبوءة عنقها في ساقها البلوري.
- هل عشت قهوة كهذه؟!
لا أرد عليها.
أصعد العجلة.
تدور بي.
يزداد دورانها.
أرى في دوراني أن ساعة الحائط تشير الى الأجساد بأن تفيق من توابيتها الزجاجية.
بلا رؤوس، تهرع الأجساد الى الخارج، وتختلط بالناس الذي ينحشرون في تابوت اسمنتي واحد. أرى في دوراني أن البحر المرسوم بدقة يصبّ أمواجه، فيغرقنا جميعاً.
المحجر
تجمعت الخنافسُ والنمل ونشارة الخشب الجديد على جثتها، دون أن أعرف كم مضى على موتها.
كان باب البيت الخشبي الصغير موارباً. دققتَهُ مرتين أو ثلاثاً قبل أن أنادي.
- أم عيّوش. يا أم عيّوش.
كان الأصيل يلفُّ بيوت الصفيح والخشب بعباءته الأرجوانية، فيجعل هذه المكعبات الصغيرة المتداخلة متشحة بطمأنينة غامضة. بقعُ المياه الآسنة تتناثر بين البيوت وتملأ الجو برائحة الفضلات الآدمية. أصوات الأطفال العرايا إلا من سراويل ممزقة ومسوّدة تتضاءل في هدير محركات السيارات التي تتابع في الدخول الى حي "الغالة" بعد يوم من الكد في شوارع الرياض.
حين زرت أم عيّوش قبل شهر، قالت لي.
- عندما تزورني المرة القادمة، سأكون قد حولتُ هذا الصفيح الى بيت من الخشب. كانت هذه المرأة السمراء، الشديدة السمرة، تملك قامة حادة. كان جسدها نحيلاً لكن صلباً. يداها معروقتان وكفاها خشناوان. كانت لا تتكلم كثيراً. عيناها البراقتان هما كل ما يظهر خلف غطاء وجهها. وحين لا يعجبها شيء تغمضهما وتتمتم.
- لا اله إلا الله محمد رسول الله.
كانت تبيع الملابس القديمة في أسواق "السدرة". تحمل كل صباح باكر صرتين كبيرتين إحداهما لملابس النساء والأخرى لملابس الأطفال. في هذا الوقت، تكون محركات قد ابتدأت في الهدير. في صندوق أول سيارة نقل تنطلق من "الغالة" الى "البطحاء". تضع صرتيها وتجلس بينهما. من "البطحاء" الى أسواق "السدرة"، تمشي أم عيوش على قدميها الصلبتين.
- أتعرف أسواق السدرة؟!
سألني الرجل البالغ السواد وهو يرتجف.
أجبته.
- نعم.
أكمل.
- هناك، كل الناس يعرفونها. اسأل عن أم عيوش. امرأة بكل النساء اللواتي يشتغلن هناك. الرزق لا يعرف طريقها، لكنها لا تحسد أحداً. تأخذ قسمتها وتحمد الله وتمضي. لم يسمع أحد سوى الشهادة من بين شفتيها.
قال لي بصوت هامس.
- أحس بأنك ستساعدني.
صاح المريض الراقد بجانبه وكان شيخاً ذا لحية حمراء.
- لا تشغل نفسك به. انه هذيان الموت.
لم ينبس المريض الشاب الراقد بالجهة الأخرى منه بشيء. كان يراقبني بحذر ناقلاً بصره بيني وبين الشيخ والرجل الأسود.
كنت قد اعتدت حين أزور والدي في المحجر، أن أتنقل بين العنابر. فوالدي حين تبدأ الزيارة يكون متحمساً لسماع أخبار أمي وأخواتي، وفجأة يتكدر وتغرورق عيناه بالدموع، لكنه لا يبكي. يظل صامتاً غارساً نظراته في السقف. عندها أبدأ تجوالي بين المرضى حتى يشرف وقت الزيارة على الانتهاء. أعود لأجده كل مرة نائماً، يغمر وجهه المرض وضيق الحيلة.
قلت له.
- سأساعدك.
احمرت عيناه وارتجفت ذقنه. أخذت يده بين كفي وضممتها الى صدري.
- ماذا تريد من أم عيوش؟!
- أريدها أن تحضر لي برتقالاً. هي تجهل أنني لا أزال حياً. حين أدخلوني المحجر، قال الناس لها إنني مت. أريدها أن تأتي وأن تحضر معها برتقالاً.
لم أجد صعوبة في التعرف على أم عيوش. كان ضجيج البائعات المختلط بروائح أجسادهن المترهلة وعطورهن الرخيصة يضفي على السوق اختناقاً شديداً. كانت كل واحدة منهن تجلس أو تقف خلف كومة من الملابس القديمة او الأحذية الرخيصة او التوابل الحادة وتصيح في المشتريات اللواتي تصحن هن أيضاً قاذفات القطع التي لا تروق لهن. ووسط هذا الزحام، يتقاطر العرق من جباه البائعات، فتبتلّ أغطية وجوههن، وتفوح روائح أجسادهن أكثر.
اقتربت منها، فلمحت في عينيها دعة حفزتني لأن أسألها.
- أأنت أم عيوش؟؟
ردت.
- لا اله الا الله محمد رسول الله.
دفعتني امرأة بدينة كانت تفرز ملابس الأطفال التي كانت أمام أم عيوش.
سارعت قائلاً.
- الرجل لم يمت. انه الآن في المحجر ويطلب منك أن تزوريه وان تحضري معك برتقالاً.
تسمّرت عيناها في عينيّ.
نكّستُ رأسي، وتخلل كتفاي أكتاف النساء ثم انسحبت خارجاً. مشيت خطوات، فاذا بخطواتها تتلاطم خلفي. استوقفتني قائلة.
- هل قال لك انه يريد برتقالاً؟؟
التفتُّ اليها. قرأتُ في عينيها عرائش من التوجس المحايد فأحسست أن فتيلاً رمادياً يوشك أن يربط وريداً مني بوريد من قامتها الحادة ثم ينفجر.
- ويريد أن يراك.
- أتأخذني اليه؟
فرَدَت شرشفاً أبيض على بسطتها الخشبية. تناقلت البائعات نظرات صفراء فيما بينهن، وهشّ الرجل الكهل بيده اليمنى الذباب عن وجهه، ماسكاً بيده اليسرى عصا الخيزران التي تضرب بها النساء اللواتي ينحدر الغطاء عن وجوههن.
ركبت أم عيوش في المقعد الخلفي. كانت صامتة طوال الطريق الى المحجر. كنت أراقب عينيها بمرآتي العاكسة وهما لا تبارحان فضاءً محموماً، لم أستطع جسّ حُماه.
- قف.
وقفتُ. نزلتْ. عادتْ وفي يدها كيسٌ من البرتقال.
- امش.
انطلقتُ خارج المدينة. على جانبنا كانت الصحراء تضغط بجلافتها على حدود سيارتي الصغيرة وتجعلني أشعر بأن مرارةً تحدّ سكينها على شهيقي.
كان ساعتها يئن. قلت له.
- سيعتنون بك في المحجر يا أبي.
همهم بعبارت قليلة. تداعى جسد أختي الصغرى على حضنه وبكت. أخذت تبكي حتى تبلل الشعر المهمل على خديه.
- لا تبكي.
قال لها ثم أبعدها عنه بصلافة.
- أخوك خير من يعتني بكن الآن.
أوقفت السيارة. نزلت أم عيوش ومشت خلفي. دخلنا المحجر وقدتها الى العنبر.
كان قلبي يطّحنُ بوجيب نافر. امشي أمامها وكأنني أمشي في جنازتي. أتنفس فكأنما استلب هواء المحجورين واحداً تلو الآخر. كنت أريد أن أوصلها لسريره قائلاً.
- هاك إياه.
وان أذهب بعيداً في الدعاء.
وصلنا. لم يكن هناك. قال الشيخ ذو اللحية الحمراء.
- ألم أقل لك انه يهذي. لقد مات.
سقط الكيس من يدها وتناثر البرتقال في العنبر. نقل المريض الشابُّ نظراته الحذرة بيني وبين الشيخ وبين أمّ عيوش. مددت يدي الى يدها، ففرّت أصابعها.
خارج الأسرة، تقدمتني، فتبعتها.
- أتأخذني الى البيت؟؟
سألتها.
- أين تسكنين؟!
- في الغالة.
في الطريق، كان بحراً من التهشم يصطلي أضلعي. كانت ريحاً من التوثب نحو التآكل يعتريني.
- هنا.
أوقفت سيارتي أمام بيت من الصفيح، تتكيء على بابه فتاة لم تبالِ كثيراً بوصولنا. نزلتْ أم عيوش. وحين اقتربت من الباب قالت للفتاة.
- مات أبوك.
ضحكت الفتاة. طالعتني بعينين مستريبتين وسألتْ.
- من هذا؟!
دخلت أم عيوش بيت الصفيح. أسندتُ أنا رأسي لمقعدي وغمرني شعور بالكآبة.. مكثتُ أراقب بيوت الصفيح حولي. الماء هنا صعب. الهواء صعب. كنت دائماً أحس بالضيق داخل بيتنا الأسمنتي حيث الماء والهواء والضوء. تساءلتُ.
- كيف يحسّون؟
هنا عتمة، أتربة، بقعُ مياه آسنة. عزلة، عوز، بؤس ليل يصب في هزائم النهار.
- ألا تتفضل؟!
رفعتُ عيناي فاذا الفتاة أمامي. كانت في العشرين. تجلو السمرة في خديها غيماً نزقاً، وصدرها خلف ثوبها الكحلي البالي يثب نشواناً مبللاً بعطش محموم.
- أأنت عيوش؟!
انفعلت صارخة كطفلة.
- عائشة. أنا عائشة. ذلك المريض هو الذي سمّاني عيوش.
- أبوك؟!
- هذا المريض. أكره عيوش التي يحبها.
كان وجهها يتقد بهشيم غامق. لكن العبرات التي خنقت مسائي القائظ، أجبرتني أن أسألها.
- ألا تحبينه؟!
- لا. انني أكرهه.
ابتسمت بتحفظ.
- تفضل.
تقدمتني. كان جسدها اللدن يهتز، فيخامرني شعور بالصراخ والعويل. مددت يدي وقبضت على ذراعها.
استدارت نحوي، ففاح منها عطر الريحان الرخيص.
- لقد مات أبوك.
ركزت عينيها في وجهي صامتة. أخذت أسارير وجهها في الانفراج شيئاً فشيئاً. اقتربت مني.
- هل أنا جميلة؟؟
أشحت وجهي لكيلا تقرأ صراخي.
هي جميلة. جمالها جنوبي دافيء. جسدها أبنوسي يضج بالانوثة. شعرها بين الأكرد والناعم وجلدها غض ودهني.
استدارت مرة أخرى وتوجهت للبيت. همست وأنا أدخل.
- أجل يا عائشة.
تجهم وجهها. اندفعت تلتقط الفوضى المتناثرة داخل جدران الصفيح وهي تردد.
- مات. مات. نعرف منذ زمن طويل انه مات.
تراجعت. أحسست انه يجب أن أغادر. ركبت سيارتي. توقعت أن تلحقني عائشة لتدعوني مرة أخرى، لكنها لم تفعل.
- انني اكرهه.
صرت كلما أزور أبي في المحجر، يرن في رأسي رأيها هذا. أطالع أبي وهو غارقٌ في نظراته العلوية، فتلدغني حموضة حارقة. أود أن أمنحه جسدي ليغادر به المحجر. ليعود الى بيتنا الى أمي الشاحبة وأخواتي المجهدات. ليدخل عليهن كما كان يفعل كل ظهيرة، فيتقافزن. أن نستدير حول سفرة الغداء بصمت تفرضه هيبته الجليلة.
- ليتني أهبك جسدي.
في طريق عودتي من المحجر، قررت أن أزور أم عيوش. فلقد مضت أشهر لم أعدها منذ ذلك اليوم.
كان بيتها مضيئاً من الداخل. طرقت الباب، فخرجت والغطاء يعتمر رأسها.
- أتذكرينني يا أم عيوش؟!
- أغمضت عينيها وهمست.
- لا اله الا الله محمد رسول الله.
- جئت أطمئن عليك.
قلتها وأنا متردد. لم تجب. صمتت قليلاً ثم أجهشت بالبكاء. استندت على طرف الباب المتآكل، فكاد يسقط بها. استندتها، وأخذتها للداخل. كان على الأرض فراش من القطن تغطية ملاءات متسخة. مددتها عليه، وكانت حريصة إلا يسقط الغطاء عن وجهها.
بحثت عن الماء. كان ثمة صنبور في الركن البعيد، أسفله علبة بازيلا فارغة. ملأت العلبة بالماء وقدمتها لها. بعد أن أشاحت وجهها عني رفعت الغطاء وشربت بتأن ثم وضعت العلبة الى جانبها.
- هل أنت مريضة؟؟
- أنا بخير يا ولدي.
ترددتُ قبل أن أسألها.
- أين عائشة؟
وضعت أصابع يدها اليمنى على عينيها. لم تبكِ لكنها تنهدت.
- لا عائشة ولا أحد.
- أين ذهبت؟؟
- لا أحد يعلم أين ذهبت. بعضهم يقولون انها تزوجت شاباً في السر ثم طلقها في اليوم التالي، ولم يسمح بخروجها من بيته. بعضهم يقولون سافرت الى الجنوب وقضت نحبها في الطريق الوعر. بعضهم يقولون إنها اشتغلت قابلة في مستشفى للولادة وان الشرطة قبضت عليها مع أخريات في بيت مشبوه.
لم أكن قادراً على الرد. قلت لنفسي.
- وتعيشين وحدك أيتها العجوز المسكينة؟! لا أحد يطرق باب وحدتك المضنية؟!
شعرت بها تنصت لهواجسي وترد.
- أنا لا أحتاج أحداً. أم عيوش لا تحتاج أحداً. عندما تزورني في المرة القادمة، سأكون قد حولت هذا الصفيح الى بيت من الخشب.
كانت قطرة صغيرة من الماء تسيح على جانب علبة البازيلا. تابعتها بتركيز شديد حتى وصلت الأرض وابتلعها التراب.
الموجز
كان المطرُ غزيراً والساعة تقترب من السابعة.
وحيد وجائع. غادرتني زوجتي مصطحبة أطفالي قبل خمسة أيام خارج المدينة. عندما ودّعت أطفالي الثلاثة، بكت زوجتي. اخفَتْ بكاءها تحت خمارها وقلت لنفسي.
- لن أراهم مرة أخرى.
وفي الطريق للمطار، قال ابني لابنتي.
- بابا سيبقى في الحرب.
همسَتْ زوجتي لي.
- هل أنت خائف؟
رددت عليها.
- نحن دائماً في الحرب.
يحاورني المطر بإيقاعه المنتظم على بلاط الفسحة الصغيرة. تقترب الساعة أكثر من السابعة. رائحة الوجبة التي بدأتُ في إعدادها أثارت قرفي، وجعلتني أطفيء الموقد الغازي، وأفتح نافذة المطبخ. الضوء البعيد المتساقط على شجرة التين العارية أضاف لحزنها هيبةً مبللة وعبقاً ليلياً خافتاً.
ركضتُ الى المذياع الذي أطلق شارته بحلول الموجز. انغرسً مسمار من النار بين أضلعي. كانت زميلتي في المكتب قد اتصلتْ بي قبل خروجنا وناشدتني ألاّ أسمح للتوتر أن يبلغ مني أكثر مما بلغ. كانتْ تطمئن عليّ مرة كل ساعتين تقريباً. وكانت كل مرة تتوسل اليّ أن أطفيء المذياع الصغير الذي أنقله معي أينما أذهب، وأن أنغمسَ في العمل المضني كما يفعل الجميع.
- أنت لن تغير شيئاً. هذا قدرنا. لقد مررنا بمحن عديدة، فما الذي فعلناه؟!
سكبتُ قلبي على الضوء الأصفر المشع من لوحة المذياع، فكأني رأيتُ المذيع وهو يجمع قصاصات وكالات الأنباء، ليقول.
- لا فائدة. فشل كل شيء.
تسرب المطر الى المسمار الذي اشتعل أكثر في صدري. هل كان شكلاً لصرع سينتابني؟! أهو احمرار البكاء الذي صار توأماً لتنفسي منذ شهور؟!
- خذ حماماً دافئاً واستمع لشيء من الموسيقى. سيخففُ هذا من توترك.
كنت أرتدي فانيلة من القطن وبنطلوناً. وكنت أشعر بالعرق يبلل صدري رغم برودة الجو. أطفأت المذياع وتمددتُ على أريكة. كان النور خفيضاً في الصالة التي كنت فيها ولم يكن في منزلي هاتف. كما أن الحي الذي أسكنه بعيد عن صخب المدينة التي خلتْ من الضوضاء منذ أسابيع. وباستثناء جاري الذي يبعد عني بأربعة بيوت، لم يكن في بيوت حيّنا أحد.
- بابا سيبقى في الحرب.
تعرف زوجتي كم أنا مشتبك مع حالة الخوف.
- ماذا يريدون منك؟ لماذا يلاحقونك؟! لماذا يحرمونك من السفر ومن الكتابة؟!
صارت يداي تنتفضان. قلتُ لنفسي.
- أنت لست خائفاً. أنت جائع. لم تأكل شيئاً منذ يومين. كل الذي تأكله لا يتعدى خبزاً وقليلاً من السَلَطة. تدخن كثيراً وتشربُ كثيراً. أنت لست خائفاً. لست خائفاً.
نهضتُ. خلعتُ فانيلتي وعلّقتها فوق كتفي. فتحتُ نافذة الصالة، فدخل تيار من الهواء البارد الرطب. طالعتُ صدري فوجدته لا يزال مبللاً بالعرق، وضلوعي قد برزتْ بشكل واضح.
- ربما فقدتُ من وزني عشرة كيلوغرامات.
بدأتُ أدور في غرف المنزل. غرفة الأطفال تفوح برائحة الألوان والواجبات المدرسية. جوارب متسخة هنا وفرشة شعر هناك. غرفة نومنا مظلمة باستثناء نور خافت على طرف السرير. تعودتُ أن أقرأ بواسطته قبل النوم. غرفة الجلوس مبعثرة. صحف وكتب وأوراق للعمل وزجاجات ماء فارغة وحافظة ثلج مغبّرة وعلبة بسكويت مالح لم تفتح بعد.
بجانب باب المدخل حذاء رياضي. جلستُ الى جانبه، ودون تفكير، التقطتُ مفاتيحي ولبستُ فانيلتي وخرجت.
مشيتُ حتى تجاوزتُ البيوت القليلة للحي وصرتُ في منطقة معتمة تحدّها منطقةٌ فضاء ووعرة. أراض تنتظر معمّريها. أنا أيضاً أملكُ أرضاً وعرة تنتظرني كي أعمّرها وألملمُ فيها أطفالي. لا تزال أمامي سنين طويلة. والآن ربما تطول أكثر. وربما لا تجيء.
- ماذا يريدون منك؟! لماذا يلاحقونك؟! لماذا يحرمونك من...
الأمور ستزداد سوءاً. سيبقى الأطفال وأمهم خارج المدينة. ووحيداً سأبقى. هذا اذا بقيت. غمرتْ البرودة صدري. رذاذ المطر بلل شعري وملابسي. بدأتُ أهرول وشيئاً فشيئاً صرتُ أركض.
كانت زميلتي تنصحني دائماً بألاّ أعود للجري، لأنه يجعلني شاحباً وأبدو معه متقدماً في السن ومعتلاًّ. لكنني أضطر لهذه الهواية كلما حاصرتني الكآبة. يمنحني الجري صفاءً وهدوءاً داخليين.
ابتعدتُ كثيراً عن الحي. صرتُ كأنني في صحراء. لولا الطريق الاسفلتي، لتوهمتُ أنني خرجتُ عن المدينة.
بيني وبين هذه المدينة شريانٌ أخضر. يضخُّ كل منا في الآخر ثماراً من الدفء والوجد. لا أتخيلني دون نبضها ولا أتخيل سحنتي منزوعة من واجهاتها. أهلها – هذه المدينة – لم يعودوا سياجاً تحرس حلمها الرملي. لقد انسلّوا من سامرها العفوي الى ولائم الذهب وتركوها وحيدة تبحث في خرائب الليل عن ربابةٍ يجرُّ قلبها عاشقٌ لم يكسر الظمأ "هيجانِاتِهِِ" المغمورة بالغيم.
ترامى من بعيد صوتُ محرك سيارة. واصلتُ ركضي دون أن ألتفت الى الوراء. وعندما اقتربتْ السيارة، اضطرت للركض خارج الاسفلت إلا أن السيارة انعطفتْ باتجاهي. توقفتُ واستدرتُ نحوها. كانتْ جيباً من جيوب الدورية، وكان بداخلها شرطيان.
أوقف السائق السيارة ونزل الشرطي بجانبه اليّ. ألقى عليَّ التحية، وسألني.
- أتريد مساعدة؟!
أجبته بارتباك واضح.
- لا. شكراً.
نزل الشرطي الآخر وانضم لرفيقه قائلاً.
- هل تركض في هذا المطر والبرد؟!
تلعثمتُ في الرد عليه. ليس هناك أي مبرر للركض في هذا الجو وفي هذه العتمة. لا يبدو أنهما سيفهمان لو أقول لهما أنني أشعر باختناق وأن الجري هو الذي سينقذني. لكنني قررت أن أجرب، فلن أخسر شيئاً.
- كنت أحسّ بضيق شديد.
كانت يداي لا تزالان ترتجفان ونفسي بالكاد ألتقطه.
قال السائق بلهجة آمرة.
- اصعد.. هيا اصعد معنا.
فتح رفيقه الباب الخلفي للجيب. صعدتُ والخوف قد أخذ من عضلات ساقيّ ما بقي فيهما من جهد.
اتخذت مقعداً بعيداً عنهما. لكن الآخر. وكان متديناً ذا لحية طويلة، طلب مني أن أقترب. كانت نوافذ الجيب مغلقة وأنفاسي لا تزال تتلاحق. رأيته يمدُّ يده الى السائق ويضغط على ركبته. قال السائق، وكان حليق الذقن، ضاحكاً.
- شربان؟؟
سقط قلبي بين قدمي. أحسستُ بدوار شديد وبقشعريرة تلفُّ كل جسدي. كنت خلال الاسبوع الماضي أشرب يومياً ابتداء من ساعة خروجي من المكتب وحتى الثانية صباحاً أو الثالثة أو الرابعة حين أستطيع النوم، إذ لم يكن باستطاعتي النوم دون ذلك. ولم أكنْ أهتم بالاكل. كنت آكل أقراصاً من البسكويت المالح او شرائح من الخبز او الخيار او الجزر. وكانت كل الساعات التي أنامها لا تتجاوز الثلاث. وغالباً ما تفيقني شارة الموجز الصباحي، فأنا أنام الى جانب المذياع بعد أن تكون كل المحطات قد أسدلتْ أنباءها.
لم أحاول اصطناع البراءة، كما أني لم أحاول التهرب لكيلا يزداد الأمر تعقيداً. أجبته بثقة مفتعلة.
- أجل..
واستطردت.
- لكنني كما ترى في كامل صحوي. كل ما في الأمر أنني شعرت بضيق شديد..
التفتَ المتدين بحنق بالغ وقاطعني.
- كلكم تقولون هكذا..
صمتَ لبرهة ثم التفتَ الي.
- هذه معصية.
صمتنا جميعاً. استدار السائق بالجيب ناحية البيوت. وصل الشارع العمومي وقاد السيارة باتجاه مرافق الحي. كان جهاز اللاسلكي لا يهدأ، أما أنفاسي فقد هدأت. تناول السائق مرسل اللاسلكي وبلّغ عن قبضه عليّ برموز مختصرة.
وصلنا للمخفر بعد بضع دقائق، كانت خلالها جلبةُ اللاسلكي هي الكلام الذي يجمعنا. طلب المتدين مني أن أدخل غرفة التوقيف التي احتشدتْ بعمال أتراك وتايلنديين وباكستانيين وهنود. وكنت لا أزال مبللاً بالمطر والعرق.
كانت أرضية الغرفة من الاسمنت. جدرانها متسخة ببقع الأيادي ورائحتها نتنة. ظللتُ واقفاً، أسندُ يديّ على وركي وأنظر من خلال الفتحة الوحيدة الى رجال الشركة وهم في ذهاب وإياب. ووسط ضجيج أرجلهم، تناهى الى مسمعي صوتُ المذياع الذي لم أستطع تمييز ما يصدر منه رغم تركيزي الشديد.
اقترب مني عامل تركي ذو شاويين كثيفين وسألني بتحفظ.
- إقامة؟!
ويقصد ان كان سبب إيقافي عدم حصولي على إقامة شرعية مثل كل هؤلاء المتكدسين في غرف التوقيف في انتظار ترحيلهم.
أجبته.
- لا.
نكس رأسه وعاد لتدخين التبغ الحاد مع رفقته الذين بدا من نظراتهم اليأس والتبلد.
هي المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة توقيف. كنت طوال حياتي أخشى هذا الموقف.كان رعب السجن بهذه التهمة ينتابني حتى وأنا أشرب وحيداً داخل غرفتي الخاصة. كنت دائماً أحس أن شرطياً يقف الى جانب كأسي. كنت قد أقلعت عن الشرب طيلة السنوات الماضية على الرغم من عشقي للشرب ليالي الجمعة بعد أن ينام أطفالي حيث أسكب لنفسي كأساً وأقرأ، أو أشاهد فيلما روائياً. لكنني قبل شهر وحين عرض على صديق، يعرف مدى توتري جراء الأحداث، زجاجتين،لم أتردد في قبولها.
أعطانيهما ملفوفتين بجريدة داخل كيس غامق وقال مازحاً.
- ستكفيك سنة.
كان يعرف أيضاً أنني أشرب وحيداً وقليلاً.
فكرت.
- كيف سأخرج من هذه الورطة؟!
كنت لا أريد أن يعرف أحدٌ عن ذلك. قررت أن أتصل بزميلتي التي تعرف كل شيء؟ وأن أتركها تتصرف. شككت في مقدرتي الاتصال بها، فهم بعد أن يحققوا معي، سيوقفونني يومين أو ثلاثة. وربما يجلدونني ومن المؤكد أنهم لن يسمحوا لي بالاتصال بأحد.
صوت المذياع لا يزال يصل اليّ دون وضوح. وددت لو أصرخ فيهم أن يرفعوا صوته.
- لا فائدة. فشل كل شيء.
وسوف تبتديء الحرب. وهذه المدينة هل ستزول؟! هل ستمحي الطرقات وخطى العابرين؟! غرفُ التوقيف وفصول الرسم؟؟ الأبرياء والجلادون؟ الأطفال والمخبرون؟ هل ستتدمر الأضواء وزوايا العتمة؟؟ الأحلام والكوابيس؟؟ الأسرار البيضاء والوشايات الرخيصة؟؟ هل ستشتعل النار في القصائد والمكائد؟ في تعب الشرفاء ومقاعد الانتهازيين؟ في أمنيات العاشقين ومخالب الحاقدين.
- ارفع صوتك أيها المذيع. فنحن هنا، في هذه الغرفة الضيقة. لا نعرف ان كان ثمة مدىً نطلق فيه سيقان تفاؤلنا. ارفع صوتك قل لنا هل نرمي ظهورنا على اسمنت الفجيعة أم نبني جداراً من الانتظار الجديد.
فتح شرطي يافع باب الغرفة وطلب مني المثول أمام الضابط المناوب.
تقدمته بخطى حائرة.
- الى اليمن.
وقفت أمام الضابط المناوب. سألني عن اسمي الكامل وطبيعة عملي. وجّه اليّ التهمة، فاعترفتُ بها دون تبرير.
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلاً. وكان على طاولة الضابط مذياع كبير، لكنه كان مطفئاً. كنتُ طوال التحقيق واقفاً، وبين كل لحظة وأخرى تسقط عيناي على المذياع.
طلب الضابط مني أن أوقع على المحضر، وكانت العقارب تزحف لمنتصف الليل.
سألته.
- هل من الممكن أن أستمع لموجز الأنباء؟
رد بفظاظة دون أن ينظر الي.
- لا.
سألني.
- هل هناك من يكفلك؟
- ألا أستطيع كفالة نفسي؟! انها المرة الأولى لتي أرتكب فيها هذا الخطأ، وستكون الأخيرة. أعاهدك على ذلك.
- أنا أعرف أنها الأولى. ولكن لابد أن يكفلك أحد.
- هل بإمكاني استخدام الهاتف؟
دفع الهاتف باتجاهي دفعاً، ودمدم.
- بسرعة.
اتصلت بزميلتي وكان خطها مشغولاً. اتصلت مرةً أخرى وثالثة، لكن الخط لا يزال مشغولاً. لم أكن راغباً في الاتصال بسواها.
- الخط مشغول.
قلتُ له، فسحبَ الهاتف من أمامي، ونادى الشرطي اليافع.
دون أن يأمره بشيء، سحبني الشرطي من عضدي وجعلني أمشي أمامه.
كانت لا تزال تمطر، والهوا تغشاه الرطوبة والبرودة والترقب.
قبل أن نصل الى غرفة التوقيف، رأيت الشرطي المتدين يصرخ في أحد العمال الهنود الذي كان يتوسل اليه أن يحضر له ماء.
فتح المتدين باب الغرفة ودفعني بقوة الى الداخل ثم أغلق الباب.
تهاويتُ منهكاً في ظلام الغرفة النتنة وأغمضتُ عينيّ لبرهة. لم أكن أتوقع أن يمسّ النوم ليلتي، لكني ظللتُ مطبقاً جفني.
- ماذا يريدون منك؟!
اتحدتْ عظامي مع الاسمنت، فلم أعدْ أشعر بألم. خمّنتُ أن الساعة لم تتجاوز الواحدة صباحاً تمددتُ على جنبي الأيسر، وكان أحد العمال يدخل بشراهة ويسعل.
الوحــش
للظلمة ظل لا يقع الا على الرئتين الخائفتين.
- لم أنت دوماً خائفة ؟! لماذا كل هذا الخوف؟!
ستائر البخار تنسدل على شهقاتها، فيتقاطر من جبينها نهر أصفر تغوص فيه قدماي.
يرهبني الماء. ويرهبني أن أراها هكذا. مجدولة حول أصابعَ جعدّتها برودة الحناء التي نقشها في الليلة التي غاب خلف جبالها.
الجبال، وريف يشحذ دمه على تراب ناءت به الجغرافيا الى أقصى الجنوب، وبيت تشع حجارته ببرد مرير.
- لا تغلقي الباب.
- لكنه في إثرك؟!
- قلت لك، لا تغلقي الباب.
برقت في الخارج عينان حمراوان، وأخذتا تتقدمان نحوه.
التفت اليها. سكبت عيناه على عينيها أطواقا من الفل، فوضعت في الهواء رائحة السنوات التي ظل يقول لهم فيها.
- لا!!
- لكنك بذلك تحكم على نفسك وعليها بالموت.
كان يشم رائحة الموت مذ دق الباب على امها.
- أريد ان أتزوج ابنتك.
شدت الام وثاق رأسها الذي كان يرأف بها من صداع الشقيقة.
- هذه اليتيمة وحياتي. كنت أتمنى لهما سواك.
شهقت بالبكاء، فسالت على نافذة الغرفة المتهالكة دموع غربة فتتتها وعورة الطرق من أقصى الساحل الجنوبي الى أطرافه العلوية.
- الجبال. هناك نختفي عن الانظار. لن يجبرونا أن نكون متوحشين مثلهم.
- لكن الحياة موحشة هناك.
- موحشة اجل. لكنها ليست متوحشة. لن يجبرني أحد هناك أن أقاتل. لا أريد أن أقاتل.
- سيسمونك بالجبن. وسيقتلونك.
- انهم لا يدركون انهم يقاتلون أناسا لا قلوب لهم. لقد أطلقوا لنار قلوبهم العنان لكي تحرقنا في حرب لا شجر لنا فيها. انه يدّعون انهم يتوحشون لأجلنا. لا نريد الحرب. نريد ساحلنا بفقره، ببواخر البن والعاج والتوابل والشاي، بالربح القليل الذي يكسي عوراتنا، ويظلل شمسنا الحارقة. ويحمينا من الطلقات التي يصوبها علينا الجنود.
- آآآآآآآه.
- الطلقة كانت في جبهته. نزف دمه وأحلامه التي ظلت هاربة منه. فقد أباه وأمه وأختيه في لغم لا يعرف احد أي قرية نصبته. لذلك لا أريدك أنت. أنت بالذات.
- لماذا يا خالة؟!
- لأنهم سيقتلونك لا محالة. سيطلقون النار بين عينيك.
عيناه لا تزالان تطوقان عينيها بالفل.
- نحن اللذان اخترنا أن نكون مرجما لحجارتهم. سيرجمون جسدينا، لكنهم سيفشلون ان يهدوا جدارا قررت أنا وإياك سراً ان نبنيه.
- لماذا تختار أن تهلك. ألم تنس كل هذا الجحيم؟! لم تصر أن تزرع الصورة في الجدار مرة أخرى؟! إنهم لا يريدوننا معا. كل هذه الحروب لكي يطفئوا أي اثنين يلطخوا الألغام المنصوبة بين القرى.
- لكن القرى بيني وبينك حدائق تغني.
- أنت وحدك الذي تسمع هذا الغناء، لكنهم يسمعونه هجاءً يجلد جلودهم فيحاولون بالرصاص أن يطفئوه.
- الرصاص.. يا للرصاص الذي أنهكنا. امتص من حناجرنا الكلام ولفظنا على أرصفة الميناء لكي يحولنا من عمال يبنون أبجدية كلام الساحل، الى أناس يثرثرون خارج البحر بلغة لا يفهمها الماء، لذلك هربت الى الجبال.
* * *
العينان تتقدان مهددة اياه، خارج البيت، بعد ان نثر كل أطواق الفل بعينيها.
- سامحيني، سأخرج له.
- وتتركني؟!
- لابد أن أخرج.
خرج، وكأن دما انسحب من أوردتي لينسكب على قماش غزلته من خيال موسوم به، بصهيل جواده الذي يطرق بحوافره جدران بيتي كل ليلة، حيث انتظر هواء اسمه ليهب من بين شفاة فتيات ريف ضاع في الحقول. كنت أخجل أمام حروف اسمك حتى ليجفل دمي. وحين أتيت لأمي لم أكن لأجد سوى الصداع الذي لا يفارقها.
- خذني اليك. أمي قتلتها الشقيقة، وأنت تهرب من الحروب التي ملأت قرانا. هي حشرجت قبل ان تموت.
- سيقتلونه.
أنت دمي الذي حيث ينبض أقول انه أنت. أنت الذي ابتدأ به الحناء الذي نقشته على كفي. حين رأيتك وأنت تضرب بفأسك الأرض قلت لنفسي هذا يضرب نفسه. مررت الى جانبك. سألتك ان ترأف بالأرض.
قلت لي.
- أريد أن اقتل العفريت داخلها.
سألتك.
- أتستطيع قتل العفاريت؟!
أجبتني.
- سأحاول.
كنت تبتسم ابتسامة محارب يخاف ان يموت قبل أن ينهي حربه.
سألتني.
- من أي ريف أنت؟!
- من الريف المجاور.
رددت مبتسماً.
- العفاريت كلها في ريفكم.
ومضيت اجر ذيل ثوبي الجنوبي وأنا أحس انك تلاحقني بنظراتك وتمزق كل ما كنت ألبسه.
أحسست أنني امشي عارية، لذلك ركضت…ولحقتني وأنت لا تزال تحمل الفأس الى ان شارفت ريفي. التفت اليك.
- ألا تخشاهم؟!
- أنا لا أخشى أحدا.
خرجتَ الى العينين المتقدتين، ثم غبت في الجبال.
سألت نفسي.
- كيف أعيش دون ان أكحّل عيني بك، وبهذا الذي يسألني على الدوام.
- لم أنت خائفة؟! لم كل هذا الخوف؟!
ذلك الذي أقول له دوماً.
- لا ترهب من الماء. لأن الحناء التي جدلها أبوك على أصابعي ستحميه دوما من الموت، وسيعود.
حالات الموت الأليف
السجناء
أرخى الربّان العجوز خدّه على رمل الشاطيء، ثم بكى.
تجمّعت سلاحفُ صغيرة حول ركبتيه، فشعر بالبرودة.
تذوّقَ ملوحة البحر.
قال لنفسه.
- كافر.
في الأعماق، تردد الصدى.
- كافر.. كافر.
كان الغواصون يبحثون في الحطام، عن سر المرأة التي اختفت قبل أن تغرق السفينة.
كل الناجين أكدّوا أنها لم تكن بينهم، حين أجبرتهم العاصفة أن يصطفّوا جميعاً على السطح، وأن يتلوا صلواتهم الأخيرة.
كان مساعدو الربّان لحظتها يصرخون هلعاً.
- تأكدوا أنكم كلكم هنا.
في ركن بعيد، كان الرجل ذو العينين المجهدتين، يُنهي سيجارته. كانت أمامه امرأة ترتدي ثوباً أصفر مطرزاً بالبنفسج، وحول شعرها الكثيف، ربطت طوقاً من أزهار النارنج.
كأن لم تكن عاصفة.
قال لها.
- سأصطفُّ معهم وستبقين هنا.
- ستتركني وحدي؟؟
- لابد أن أموت يا حبيتبي.
- وأنا؟
- لقد قايضتُ البحر. أنا أموت معهم، وأنت تتحولين حين يرتطم جسدك بالماء الى حورية. أمسك ذراعيها، وظلّ يحدق في عينيها اللتين ضجتّا بالدموع.
- هيا يا حبيبتي.
- ستموت؟؟
- وستكونين الشاهدة. هيا.
تعرّت من ملابسها، قبّلتهُ طويلاً ورقيقاً. أبعد شفتيها المبللتين بملح دموعها، وقال.
- هيا.
قفزتْ إلى البحر. وبمجرد أن ارتطم جسدها بالماء، شقّت العاصفة سفينة السجناء المتوجهة الى المنفى، فتناثرت الجثث في الماء، واختلط الخشب بحديدها، فانحدرتْ باتجاه القاع.
أحد الغواصين وجد في الحطام جثة رجل ربط نفسه حول الصارية، مستخدماً قماشاً أصفر مطرزاً بالبنفسج.
حاول الغواص أن يخلصه. لكن السمك هاجمه من كل جهات البحر، فلم يجد ملاذاً سوى الفرار باتجاه الهواء.
قال الربّان العجوز لنفسه.
- كافر.
وقال البحر للربّان العجوز.
- إبكِ.
وقف الربّان، ففرّت السلاحف الصغيرة إلى الماء. مشى الى داخل البحر. مشى حتى غمرتْ المياه كتفيه ثم رأسه ثم قصته التي صار الناس يرونها في أمسيات الشاطيء المقمرة، عن ربّان قرر أن يغزو البحر ليحرر بقعة المنفى.
وفي القصة، أن حورية كانت ترافق الربّان بأغانيها العذبة، الى أن استشهد.
العربة
لا تقتربي أكثر، فالحارس غافل واللصوص يتهيأون للنافذة.
سيدخلون. بوجوههم المقنّعة سيمشون خلف بعضهم، حتى يصلوا غرفتي. سيجدونني جثّة هامدة والحبر قد جفّ الى جانب رأسي.
سيرفعون يدي عن الورقة وسيضعونني داخل كيس من الخام الأخضر الغامق، ويتعاونون على حملي.
سيمرّون على أطراف أصابعهم أمام غرفة زوجتي وهي تغط في نوم عميق. الى جانبها سريران صغيران، ينام عليهما طفلاي.
سيخرجون من الباب.
ستكون عربة زرقاء في انتظارهم.
سيرمونني في صندوقها ويقفلونه ثم ينطلقون.
سيكون كل شيء كالح. لا صوت سوى محرك العربة ووشوشات قادمة من بعيد.
سيتوقفون ثم يطفئون المحرك.
سأسمعهم يفتحون أبواهم. سيغلقونها باباً بعد باب. سأحس أنهم قادمون الى صندوق العربة ليخرجوني، لكن وقع خطاهم يذهب بهم بعيداً.
سأنتظر.
سأنتظر طويلاً.
سأنتظر طويلاً جداً.
وسوف لن يعود اليَّ أحد.
المؤامرة
تجمع الأطفال حول جثة القطة، وهم يتصايحون.
- من قتل بَرَكة؟
كانت منتفخة وجلدها قاسٍ. شعرها جفّ، وعيناها تحملان نظرة باردة الى لا شيء، وحول عنقها التفّ حبل من ليف.
لم يعد لبركة هذا العبق الذي كانت تنشره أينما تحركتْ بفروتها الكثيفة وذيلها الذي لا يكفُّ عن الرقص.
لم يعد لها هذا الفضاء الذي جمعتْ فيه قلوب أهل القبيلة.
لا يعرف أحد من أين أتتْ بركة.
ذات ليلة معتمة، سمعتْ القبيلة مواءً عجيباً لم يسمعوا من قبل له شبيهاً.
خرج الكبار واحداً بعد آخر معتمرين هراوات وفؤوساً وبنادق.
كانت ليلة بلغ الحر والجفاف فيها مبلغ الموت. ولم تُجدِ كل محاولات الرجال والنساء والأطفال في العثور على نقطة ماء تبلّل الشفاه.
عند أطراف القبيلة تجمّع الرجال بهراواتهم وفؤوسهم وبنادقهم ليشاهدوا قطة صغيرة تموء بصوت يعادل مواء آلاف القطط.
لم يقتربْ أحد منها. هكذا نصح شيخ القبيلة، فلقد كانت تقعد على قوائمها وتشخص ببصرها الى السماء.
بعد لحظات من همهمات التسبيح والتهليل رأى الرجال نيزكاً ملتهباً يسقط من السماء على بُعدٍ منهم. ارتجّتْ الأرض بهم فتساقطوا.
صرخ أشبُّهم.
- هل هي القيامة يا شيخ؟؟
رد الشيخ.
- انه الماء بحول الله. فاحزموا أمركم من صباح الغد اليه.
نفض الرجال ثيابهم. وقبل أن يعودوا من حيث أتوا، أشار الشيخ الى القطة التي توقفت عن المواء.
- خذوها. انها بركة.
أمام جثتها، لم يبك إلا الأطفال الذين كبروا معها.
المائدة
ربطتْ البائعة العجوز صرّتها، بعد أن تأكدتْ أنها تحوي كل بضاعتها من المكعّبات الملونة والدمى البلاستيكية والبنادق الخشبية.
طالعتْ بعين المستريبة نواحي السوق.
نهضتْ.
حملتْ الصرة. تحركتْ بحذر شديد باتجاه الممر الخلفي للسوق.
حين عبرتْ الشارع الاسفلتي الى الحارة، بدأت تفكر ككل يوم.
- لماذا لا يشتري أحد مني؟
وككل يوم مشتْ الى غرفةٍ، في بيتٍ في حارةٍ، في مدينةٍ في بلدٍ..
- آه من هذا البلد.
هذا اليوم، وقَفَتْ أمام الدكان على غير عادتها.
اشترتْ بكل ما تملك سكراً وجبناً وتفاحاً، وخبأتْ ما اشترتهُ في صرتها.
دخلتْ غرفتها. خلعتْ عباءتها وشالها وتعبها وحزنها وانتظارها. صنعتْ شاياً. أعدتْ مائدة من خبزٍ وجبنٍ وتفاحٍ.
أكلتْ حتى شبعتْ. شربتْ حتى ارتوتْ.
ذهبت الى الحمام، واستحمّت.
لبستْ ثوبها المزركش بالزري.
مشّطتْ شعرها وخضّبته بماء الزهر.
توجهتْ الى صرّة بضاعتها.
صنعتْ من المكعبات سوقاً ومن الدمى ناساً.
وبالمسدسات الخشبية، قتلتهم جميعاً.
للنشيج، للمديح الخافت
غَفْلَة
سماءٌ مُعَلّبَةّ
وأرضٌ شواها صفيحُ الشتات.
طفلٌ، على حافة الدم، يقتاتُ فرحتَه من نفايات الهدوء النسبي.
عارٍ إلاّ من براءتِهِ، ينصتُ لحطامِ جدارٍ موشّى بالشعارات، وهو ينوح.
- عضّ الرصاص ابيضاضي، فتهشَّمَ ضبابُ ذاكرتي، واختلطتْ غربة الصباحِ بغفلة الندى الصيفي. ولو يحدّقُ هذا الرصاص في شظاياه، لنطقتْ حبائلُ القنّاصين الذين يعيشون للموت، ويغرسون فينا صولجان الاسوداد.
سأله الطفلُ.
- أأنتَ غاضب منهم؟!
لم يُحرِ الجدارُ جواباً، لكنه أشار الى مسلحين يهشّون الذبابَ عن نومهم، ليحطّ على فضلات انتمائهم.
لا غيم.
لا بحر.
لا هواء يجرف الملل عن صباح فرَّ الأصدقاء من سقيفة أغسطسه.
مسحت غبار السابعة، ومضيت الى ترس الوظيفة.
يوم آخر، أتيه في مساميره.
كل ورقة تبدأني، ألطخها باحمرار زفيري، فيصاب نبات المكتب الدوار.
أهرب للصحف. لمعركة تنتصر حين تهزمني وأنا أستلذُّ بطلقاتها، على أمل أن أموت.
تحتَ فيء قصائدٍ هربتْ من إفريز الشاعرة ونصبتْ لها المجلة الفوانيس
على طرفي الصفحة، توقفَ القصفُ.
سحبت جثتي الى ملجأ التنفس، وأشرعتُ نافذتي على خيمة لم أعتدْ ظباءها.
خلعتُ ثياب القيظ، وأخذت أقتفي أثر بداوتها.
حبـــر
ركضَ الطريقُ الى أن جحظتْ روحُهُ،
عندها، رأى المسافة.
مــوال
على سياج الليل، ثمةَ حمامة.
بذهول تراقبه، وهو يخلع ملابس السهرة التي قضاها وحيداً، ثم
يرتدي كفنه.
وقبل أن يندسّ في اللحد، تبدأ في هديلها الشاحب.
يتساقط ريشُها القمحيُ، ريشة ريشةً.
وفي جلال المشهد،
يموت حزناً.
وفي موته، يستدركُ، كيف حطّت على جمره، فاستحال كنوزاً من الهمسِ.
- بحثتُ عنكَ في خرائط الآه دهراً، لا أستعيد عباءاته. وجدتكَ تغزل نبالَ الوقت، لتصطاد نهراً لم تمسّهُ الشمس.
- ومددتِ عطركِ الى عنقي، فاصطدنا النهر سوياً، ودلقتُ فيه مسكَ أوردتَكِِِ الغضة.
- كنتُ أحسُّ، وأنا أسبح الى جانبك، أن أقماراً دافئة تشعّ بين جسدينا وكلما أمسكتُ قمراً، انكسرت بيننا المسافةُ، الى أن أطلقتْ السماءُ صاعقتها، فانهدم صدري على صدركَ.
هكذا كلّ ليلة. يموتُ حزناً، ثم يستدرك.
إستجواب
أبي الفندق أن يُنازلَ خرائط المدّ، لأنه تذكّر مرايا بيروت، حيث
لا ظل إلاّ زجاج الطلقات الطائشة.
دخلنا الفندق، فسألونا.
- الى متى ستقيمان؟!
- حتى تنبتَ على أذرعنا دِلالٌ تفترس نومَ جلودنا.
طلبوا هويتنا، فهاجَ البحرُ، ثم اختبأنا في اللّجة المعلّقة على نحر الظهيرة لكيلا يعرفون من نحن.
قِبْلَــــة
هل يستثارُ الخنجرُ بالكريستال؟!
أتحتاج القهوة لمن يفيقها من نعاس الضحى؟!
حين يؤمني عقربُ البوصلة، أرحل باتجاه قاتلي،
وعلى خنجره، أُخمدُ نارَ الاستغاثة.
روْشَـــة
اعتكف البحرُ، ثم بكى ضوءاً يشحذُ الرطوبة من ميسم الظلّ.
بواخرُ خفيّة، لجيش يوجّه منجنيقَهُ الى صخرتين تهادنان الأرخبيل.
وللأرخبيل رايةً واسعةً، يخاصمها الزبدُ، ويجرحُ أفقها اصفرار الغبش.
رايةً من شموس متناحرة،
ولا غيم يستر عورتها.
صـريـر
كان سيصنعُ من جذوع القرية باباً يحميه من رياح قميصها الكحلي، لكن
الرياح اقتلعت كل الأشجار.
سهــرة
لم يبقَ من الشمع سوى ظلمةٍ صامتةٍ، وهواءٍ يميل بالوشوشات.
- ستعودُ الكهرباء.
- ربما لن تعود.
ويغمس المساءُ قدميه الحالكتين في أسئلة يومية عن الخبز والطوائف والضوء والسلْم والليرة الضائعة في بورصة الاختطاف.
بيروت مهرجان الاختطاف.
وردةٌ لم تحمل عروة القمصان الملوّثة، ففرّتْ إلى فوضى القصائد.
في شحّة الضوء، يهُّبُ حزنها، ونكون قد أغمضنا جفوننا على نشيجها، لنحلم بأرْزٍ يشقُّ البقاع، لينجو من الفصائل.
وعندما نصحو يكون الشمعُ قد أفرغ جسدَهُ على خشب الطاولة العتيقة.
أما بيروت فتظلُّ على رصيف المنفى، تتوسلُ الشعراء أن يُثمِلوها.
وتــر
وحيدٌ، لأن النوافذَ لم تستطبْ تلصصاته، ولأن المارة لا يسعلون للدخان الذي أوقدهُ منذ أول قصيدة تباهى فيها بصدورهم.
وحيدٌ، يأوي الى السهد الذي يمررُ نصلَهُ على لحاء لياليه المجدبة، فيتساقط صمتُه على كراسٍ خاوية.
هذه الليلة، سال على مخدته عنقودٌ من البكاء، لكنه لم يقتطفه.
فزَّ، وبملء كفيّه صفّق، فتطاير من بين أصابعهِ ريشُ قصيدةٍ جديدة.
غــارة
كان الزوجان يطلّان من نافذة المساء.
سألها.
- هل أعددتِ حقائبنا؟!
- أجل.
ظلاّ يحدقّان في بحرٍ سيأخذهما الى هجرة لا يقودها فجر.
وضعت أصابعها على صمتْ بيجامته، فبكى.
أرختْ رأسها على كتفه، فأخذها النوم.
أمّا هو فلم ينمْ.
مكثَ صاحياً حتى شقَّتْ الطائرات الإسرائيلية فجر الجنوب، وقصفتْ
حقائبهما وهجرتهما الى أشلاء.
فراشة
قال.
- الليلة، سأنتهي من سنين تمثالها.
لم يكن قد بقى له سوى أن يضع تلك اللمعة التي كانت ترنّ كالفراشة على عينيها حين فارقَتْهُ ذات سفر.
دقَّ بإزميله، بكل ما أوتي من خفّةٍ، فتحطّم التمثال.
هي المغارة، أنا القاتل
1
أنجو من نشارة الكابوس التي كانت تتساقط من نجمة تهدّم مدارها.
أزحف بفراشي الى ظل نجمة أخرى، فتجفلُ ثم تنضم الى نار نيزك يهوي على تراتيلي.
أردّد فاتحة الدماثة، كي ينكوي الزلزال في زعقته.
لكنما الأرض له؛ سبيّتُه من حربنا معه.
أ
صدّقيني، حين أقول لكِ، بأنني خرجتُ من فيضان الأحذية برأس تُسندُها صخرة على شكل امرأةٍ، ذات أثداءٍ مُترهلة وحوض تهاوت عظامه الهشة.
هززت نفسي كي أسقط عنها، لكنها تشبثتْ بي، صرختُ.
- سيفيضون مرة أخرى، وسيُحذئونني.
عوى الهواءُ من حطام حوضها.
- هذه سُلالتي.
2
خفقةٌ تنتزعُ الوحلَ من بطانةِ الصباح، وتلطّخُ بها مرآتي.
حدّقتُ في تجعدات صحوي، فانفرط من بين حاجبيّ فصيلٌ من الرماة، الذين كانوا قد أطلقوا الجليد على عُريي.
فتحت الصنبور، فأشاحَ الماءُ بوجهه عني.
عُدتُ الى سريري، أذرعُ قلبي جيئةً وذهاباً، حتى اشتعلتْ وسادتي.
ب
لماذا لا تصدقينني؟
هل لأن الصخرة قادتْ رأسي الى مغارتها؟
لقد كان ينتابني صداعٌ غرزَ أسياخَه في عينيّ، أثناء ما كنتُ أقرأ المعوذات للطوفان.
قالت لي.
- سأحميك.
- المغارة باردة.
حملَتْ رأسي. حَضَنَتْه، فغمرَ خدّيَ الدفءُ.
تنامى الى أذني خجلٌ ينبض ببطء، فعرفتُ أن الحياة عاودتْ صخرها.
3
كل قحط يتباهى بجراده. يوقدُ في الأنقاض حشائش جفافه، ويرتب جماجمَنا في قاطرة من ظلام.
هي القاطرة إذن.
يجتمع أطفالنا على صفيرها. يصطفّون على جانبيّ سكّتها. وعندما تمر يقذفونها بجلود وجوههم ثم يركضون الى الأشجار، ليناموا في أعشاش هجرتْها العصافير.
ج
هل حدث وكذبتُ عليك؟
لقد دهشتُ عندما رأيتُ اللحمَ يكسوها، كلحنٍ فاجأتْه القصيدة.
أوقدتْ أغصاناً جافة، ثم نادتْني.
تدفأ.
تمددتْ على الرمل.
ثنتْ ساقيها وفخذيها الى بطنها، ثم ضمّتْ ذراعيها الى صدرها، فغدتْ مثل قربانٍ يهجو مَعْبَدَهُ.
أطفأتُ النار، ثم خرجتُ.
كان الصقيعُ ينخرُ بثلجه قمقمَ المساء.
خفتُ أن أمضي في الأحراش، فلا أجدُ ملجأً يؤويني حين يفيض الطوفان.
رجعتُ أدراجي، لكنني تهتُ.
تعاقبَ عليّ ليلٌ ثم نهارٌ، قبل أن أهتدي لمغارتها.
وحين اهتديتُ، وجدتها قد أشعلتْ أغصاناً أخرى، بين ذراعيها رجلٌ يشبهني.
4
أحيكُ من صوف عزلتي قطعاناً من الخراف، وأجعلها تتقافز على سياج أرقي، كي أستطيع النوم.
أحسبها عزلةً عزلةً، ثم أسجدُ خلف باب غرفتي مغمضاً عيني، لأشمّ رائحة الشارع.
خُطى العابرين تعجّ بأرضٍ تخدَّر وشمُها، فغابتْ عن هلال الوصف.
تلكأتُ في الشجن، الى أن اجتاح الزلزال بنشازه أغنيتي.
د
أقسمُ لكِ بأنه كان يشبهني تماما.
وجهه المجدور بانتفاضة العشق. يداهُ اللتان تحيطان ظهرها العاري، كيَديّ حين أضم هذياني واسترحمه ألاّ يغادرني. ساقاهُ، وهو يلفُّهما حول ساقيها، مثل ساقيّ لمّا أجدفُ بهما بحر سريري الذي لم ينضجْ بعد.
لا أعرفُ لماذا غرستُ أظافري في ظهره، وأبعدتُه عنها. صرخ بي.
- أين كنت؟
مدّت يديها اليّ، وجذبتْني الى مكانه.
5
آمنتُ أن سيأتي يوم تمشي فيه كل الجرار خلف جنازة الماء. وأن المسيرة ستهوي في يباس النهر، وستفصدُ الأزهار شهوتها.
حينئذٍ، سينفجر بابي. وسيحبو الشارع بكل كهولته الى غرفتي. وسيستفحل وباؤه في دمي.
هـ
كنتُ أنا الشاهد الوحيد، في تلك المغارة.
بعد أن أفرغتْ جنسها فيّ، تحولتْ الى صخرة.
أما هو، فكان على بُعد يديّ.
جززتُ عنقه، فتدحرج رأسي.
ولم يبق هناك، سوى رشقة صرختها، وحجارة سلالتها.
ستارة أولى
عباءة
كان الشارع مبتّلاً بزرقةٍ رمادية، والشبابيك التي صادفتنا، وأنا أمسكُ بيديها الباردتين لتصعد السيارة، صامتةً. تذكّرتُ أنها دوماً صامتةً. تخبيءُ في عينيها شرفاتٍ مواربةٍ من الأسئلة. وحين ينفض القيظ ريشه في صفيح صدرها، أختفي في عباءة الهواء.
لم يكن بوسعي أن أتسلّق أغصان حيادها، لأن شُرفَتَها أضاعتْ قيثارتي، ولأنني دُسْتُ هناك على وردتها.
- ألا تستطيع أن تقود السيارة بسرعة أكبر؟!
- الطريق الى المستشفى محتفلٌ بالمطر، الذي لم ينم ليلة البارحة، مثلي.
كنت أمام مخدعٍ من نار، أنتظر أن يوميء الحاجبُ لي بالدخول.
ولمّا دخلتُ، قالت لي المرأة، التي لا يعرف أحدٌ أنني أحتمي بثلجها.
- احترق!!
متفحماً، ولجتُ بوابة الطواريء، فانشغلوا بها.
- أريد أن أدخل معها.
- ستكون الولادة صعبة.
- سأدخل.
بهرجةُ النور الأبيض والملاءات البيضاء والملائكة ذوات البشرة البيضاء، طعنتْ زمان المكان بممحاته، فصرنا، هي وأنا، عاريين في فردوس جرداء.
ابتسمَتْ، وهي تشير الى بطنها.
- سيخرج الآن.
دون أن أمد يدي، تدفّقَ منها نهرٌ من الفيروز تتطاير منه الفراشات.
- أتريد أن أغني لك؟!
- أجل.
- لكن صوتي لا يعجبك.
- غنّ.
استلّتْ من الصحراء موالاً شائكاً ثم انخرطتْ في الغناء. وحين توهجتْ الحمّى في صوتها، خَرَجْ.
غَرَفَ بكفّيه من رمل الأغنية اسمه ثم مدّه لي.
قرأتُهُ فرقصتُ.
عيــن
- لقد حكيتُ لك هذه القصة كثيراً. دعني أحكِ لك قصة أخرى.
- ما أبغى.
وأعيدها مرةً أخرى.
"نهض القمر من نومه، فلم يجد الى جانبه صديقته النجمة. سأل الغيمةَ، فقالت له. أنا أصوّب عينيّ الى الأرض، فلا أرى غير البحار والأنهار والجبال. سأل الريح، فهزّتْ رأسها. وأنا مشغولة دوماً بدفع السحب الملبّدة من بلد الى بلد، فكيف تريدني أن أفتح عينيّ؟!
وضعَ القمرُ كفه على خدّه، ثم سالتْ من عينهِ دمعةٌ حارّة.
هطلتْ الدمعة من السماء الى الأرض، فبلّلتْ وجه سنجابة، كانت تحمل حبةً من البندق الى جحرها أعلى الشجرة.
نظرت السنجابة الى السماء، فاستغربتْ.
- الجو صحو.
- حدّقت في القمر، فوجدتهُ يبكي.
- سألتْهُ.
- ما بك يا قمر؟!
أجابها.
- لقد فقدتُ صديقتي النجمة. لا أدري أين هي؟!
قالت السنجابة، وهي تنقل بصرها في السماء الواسعة.
- النجوم حولك كثيرة.
- تلك النجمة وحدها صديقتي.
فكّرت السنجابة ثم استدركت.
- ربما هي التي سقطتْ مساء أمس الى الأرض.
اندهش القمر، ثم سألت السنجابة.
- ولماذا تسقط وتتركني وحيداً؟!
- لكي تفجّر العين التي يشرب أهل القرية منها.
- وهل ستعود؟!
ترددت السنجابة، قبل أن ترد عليه.
- لا. لقد ضحّتْ صديقتكَ النجمة بحياتها، لكي توفر الماء الصافي لأهل القرية.
أخذ القمر يبكي بحرقة. وهنا حذّرته السنجابة.
- لا تبكِ. البكاء سيجعل وجهك شاحباً، ولن يستمتع أهل القرية بضوئك.
- لا يهمني ذلك. لقد فقدتُ صديقتي النجمة بسببهم. سوف لن أبقى في السماء.
- ماذا تقصد؟!
- سأسقط وراءها الى الأرض.
ارتعدت السنجابة خوفاً. حاولتْ أن تقنعه بالبقاء، لكنه رفض.
رأته وهو يدحرج نفسه باتجاه الأرض الى أن وقع في عين الماء.
أظلمتْ السماءُ، فحزن أهل القرية.
بحثوا عن القمر في الغابة، فدلّتهم السنجابة الى العين.
صاروا كل ليلة، يأتون من مسافات بعيدة ليشاهدوا ضوءه على صفحة الماء.
ومرّت الليالي.
بدأ الأهالي يحسّون بالمشقة من زيارة القمر، فأخذوا يقلّون شيئاً فشياً الى أن انقطعوا جميعاً.
طفلٌ واحد فقط واظب على الحضور.
كان كل ليلة، يغمس إصبعه في الماء، ثم يرسم على السماء شكلاً جميلاً يشبه القمر، وشكلاً آخر يشبه النجمة.
وليلة بعد ليلة، أخذ رسمُه يزداد جمالاً وشَبَهاً للأصل.
ذات مساء، رسم على السماء القمر، تماماً كما هو، والنجمة، تماماً كما هي.
فجأةً، سمع صوتاً خلفه.
التفت، فإذا القمرُ والنجمة يصعدان معاً، يداً بيد.
وبعد أن وصلا كبدَ السماء، استلقى الطفل على صدر الشجرة.
تجمّعت السناجبُ حوله، وأخذتْ تغني له الى أن نام".
ينام على صدري، فتزهر سنواتُهُ الثلاث على حياض صحوي.
أصابعُهُ الصغيرة ملطخة بالحبر الذي يختلسه كل يوم من حقيبتي. ينثر الأوراق أمامه، كما أفعلُ، ثم يحوّل سكون جدراننا الى ضجيج ملون.
خطوطه (قلبه الناصع مثل كبرياء الصلاة) تنحني باستقامة موجعة في دمي.
ألوانهُ (عيناه المرهفتين بأقواس قزح) تجرّد روحي من زفيرها لأتنفس مشيته البنفسجية.
هو هديةٌ ملفوفة بامرأة تخبيء في عينيها شرفاتٍ مواربة من الأسئلة، التي لن يبوح بها سواه. يقول.
- حين تصعد يا بابا أغصان الحياد، املأ رئتيك برحيقها. وستجد نفسك، لـمّا تستوي على شرفة ماما، تنسى حرائقكَ وتحتضن قيثارتها.
- أعرف أنه سيرسم ذلك.
البشارة
أتزيّنُ بالجنون. وعلى سفح الخراب، أخلق ناراً من حجرين منطفئين بالنمل. ها هو الحريق يعزف رونقه العوسجي. وها أنتِ تسقين المحكمة بإبريق الشهود.
- هل تقول الحق؟
- أقسمُ أن أذر الملح على جرح سريركِ الذي لا ينام.
- أنت متردد.
- لمَ لا تسمعينني؟
- ماذا؟
حين هبطتُ من لغة الكوابيس السابعة، أشار لي ملك البنفسج أن أترجل عن العنقاء التي كانت تُقلُّني، وأن أقترب منه. كانت سماؤه تضجُّ بصمت ديمومي، وبأزهار تصعد من رؤوسها نوافير من اللؤلؤ. جعلتني رائحةُ السماء أصاب بقشعريرة من هواء.
اقتربت منه. كانت أجنحته تغطي الكرسي المرصّع برؤوس وحيد القرن. نظر اليّ بوداعة جعلتني أفكر في أنه سيقوم من كرسيه وينحني لي. صفّق، فامتلأ الفضاء بعصافير لها أجسادٌ مضيئة، فانغمرنا بالنور. ومن أقصى السماء، ظهر موكب مهيب تتقدمه جيادٌ بلْقاء بأجنحة ترفُّ كالموسيقى، تجرّ مقصورةً من الياقوت، يكسو جوانبها فراء دببة قطبية. في المقصورة، رأيتك. كانت عيناك تبرقان بالأغاني التي كانت العصافير تنشدها لك. كان شعركِ يهرول إلى كتفيك بجنون منقطع السواد. صرختُ، فلم يخرج الصوتُ مني. طالعتُ ملك البنفسج، فوجدته ينحني للموكب الذي توقف أمام كرسيه. وقبل أن تمسك العصافير السلّم، كي تهبطي للملك، تراجعتُ للوراء حتى اصطدم ظهري بالعنقاء. صعدتُ على ظهرها، وطارت بي. قبل أن أخرج من هذه السماء، غلبني النعاس.
- وبعد؟
- صحوتُ على سور بارد، تحيطه أبراج حمام تعجُّ بالهديل. وجهّتُ عنقائي إلى بوابة السور. سألتُ الحارس. أي سماء هذه؟ ضحك حتى أغشي عليه. رأيت جسده يرتعش ثم يهمد. طار الحمام من أبراجه، وانقضّ يمزق الجثة، ويزدرد لحمها الساخن. تقدمتُ إلى البوابة كي أفتحها. وضعت أصابعي على المفتاح، فانطلقت من خلف القفل أفعى تغطي الفضّة جلدَها، وتشع عيناها مثل نجمتين خارجتين عن قطيع الشمس. رفعتْ عنقها، وصار رأسها أمام رأسي. بشكل انقضاضي، جعلتُ جذعي يعود إلى الخلف. كذلك فعلتْ. أي نوع من الأفاعي هي؟ّ وأي سم ستحمله إلى دمي؟ كم سيكون بين لدغتها، وبين شللي؟! هل سيتسع الوقت لأدير القفل؟! أغمضتُ عينيّ وأرخيت جذعي إلى الأمام ببطء شديد، والخوف ينشب أظفاره المنجلية بين كتفي. كانت الظلمة تقودني في دهليز التوجس، وكنت أراني أضمحل في الصفار أكثر فأكثر فأكثر، حتى لامست شفتيّ عذوبة أرق من خجل المشمش، وأدفأ من رائحة الهدية الأولى. هل أفتح عينيّ؟ هل ستكون هي؟! أم هو السم؟ فجأة، تذكرتُ القفل. فتحت عينيّ بقوة، فرأيت المدى غابة من مشانق يتدلى الأسرى من حبالها. تراجعتُ إلى الوراء، حتى اصطدم ظهري بالعنقاء. صعدتُ على ظهرها، وطارت بي، قبل أن أخرج من هذه الغابة، غلبني البكاء.
يا سماءُ، انتظمي في عصافيرك، واغزلي مساميرك في حدوة الصحو. اننا شجر مبعثر لخلاصٍ مهذب، فاجمعينا كي نراكِ. يا غابة، انكفئي على حياض المجزرة. صوتنا بذلناه لريشة تعثرتْ بالحبر، فسقطتْ في العتمة المعدنية.
ظلّت العنقاء تطير بي، وظللتُ بين النعاس والبكاء، أبحثُ عن بوصلةٍ لا يقودها الشمال.
الدهناء
في غيبوبة النصل الذي يجزّ على صحو لساني، تفتّح جُرحُ المشهد.
قاعة نصفُ ساهية، تتثاءب مقاعدها. الجالسون يعبثون بأوردة أعناقهم. بعضهم يسحبها، ثم يُدخلُها بين أسنانه. يقضمها، فينزفُ منها عصابات سوداء، تتطاير في الهواء، ثم تثبتُ على الأركان اليمنى لإطارات الصور الأبيض والأسود لرجال ذوي هيئات مغوليّة يضحكون بهستيرية.
بعض الجالسين يدخلون مباردَ صغيرة بين جلودهم وأظافرهم. يقتلعون الأظافر ثم يضغطون بأصابعهم على الأرض، حتى تتفسّخَ ظهورهم العارية من الألم، لكنهم لا يتألمون، بل يتهامسون بكلام كستنائي، وأعينهم على عريف القاعة الذي يطرق الأرض بجبهته.
يرفعُ وجهه الملطخ بالدم، ثم يصرخ باتجاهي.
- أنت لماذا لا يجلس بجانبك أحد؟!
بصقتُ على الأرض، فالتفتَتْ المرأةُ التي أمامي بعينين خاطهما رفيقُها برباط حذائه.
- أتريدُ أن أجلس بجانبكَ؟!
كان العرق يسيل من رقبتها، ثم يتلاشى في منتصف حمّالة نهديها نصف العاريين.
وضعتُ كفي على نهدها الأيسر، فأحسستُ داخل صدرها بخطوات لم أميّزْ أرصفتَها، ثم أن هذه الخطوات تقف أمام موّال فجر بصوت امرأة بالتْ على خردوات ألف صوفي.
حين فككتُ رباط عينيها، غرستْ أنيابها في أوردة ذراعي، ثم التَهمتْ سبّابتي.
صرخ بي رفيقها ضاحكاً.
- أين حبيبتُكَ؟!
قدّم لي العريفُ زيتاً مغليّاً، فغمستُ ذارعي فيه. وبعد أن أخرجتُها، رشقتُ وجه الرفيق بالزيت سائلاً.
- هل أنتَ لوطي؟!
أطفأت إضاءة القاعة، فصار يطير في الفضاء طيورٌ عنقاء وهي تنثر الرماد على رؤوسنا.
ابتدأ المهرجان.
مقصلة هائلة. جلاّدٌ عارٍ وامرأتين لا حوض لهما، وكلبٌ بوليسي يلحس فراغهما، الفراغ تلو الفراغ.
قمتُ الى المسرح. وخلف المذياع، أخرجتُ من جيبي ورقةً، فكتم الجالسون أنفاسهم. جعّدتُ الورقة ثم رميتها على يساري. سحبتُ رأس المذياع وتوسطت المسرح كي أسرد عليهم الحكاية.
أنا الذي توّهتُ حبيبتي كيلا تجيء الى هذا المكان. أعطيتها خارطة لجبل خارج مدينتنا. وعدتها أن أحضر بمجرد أن يجف طينُ القبر عن جسدي. قلت لها. سأجعلك تنامين على فخذي. وسأقصُّ عليك قصة القمر الذي فقد قمرتَهُ ذات خليقة، فصار يذرع المساء كل ليلة بحثاً عنها. مرة يتخفى لعله يضبطها في جرم مع قمر غيره. مرةً يكون هلالاً، معتقداً أنها ربما تخجل أن يراها أحدٌ بكامل هيئته معه. مرة يغدو بدراً، متخيّلاً أنها ربما لا تستطيع أن تراه وسط دهناء السماء. كانت حبيبتي تريد دوماً أن تعرف سر القمرة، الذي لا يعرفه أحد سواي. هي الآن على سفح الجبل. بعد أن تسرّح شعرها بماء جندلَتْه ضحكات سنجابة للتو فرغت من جنس لوزي، ترفع ثوبها عن ساقين من صندل جاوي، وتدور بين أشجار ثمارها مرايا وجذوعها هياكل مواعيد منسيّة. هي هكذا منذ عرفُتها. كنتُ وقتها خارجاً من حرب تفصّدت عروقُ ساحتها، فأخذتْ تشوي نياشين فرسانها على جمر قبيلة من ذئاب خرساء. كان نيشاني مغروساً في لحم جثتي. لذلك زحفتُ بعيداً عن الوغى، الذي لم أكنْ حتى قشة لغرقاه. وفي اللجّة، سمعتُ أغنيتها، حولها السناجبُ والمرايا وهياكل المواعيد. رمتْ ظفائر جزيرتها، فتعلقتُ بحنائها، الى أن اصطبغتُ بسريرها. كنت سأنام أبجدية كاملة، لكنها استلّت ضادي، وسهرتُ معها حتى غفتْ نقاط يائي. وفي الصباح، سألتْني.
- من أين جئت؟
- جئتُ من لقالق دفترك المحرّم، تقودني مدنٌ لم تفارقها أسماؤها. جئتُ كي تعتمرني البيوتُ، وكي أستسمحها وأستحمها. جئت مؤمناً بالنكهة التي تهفهفُ بغدرانها على شفتيْ طفلٍ يصارعُ الكلمة الأولى، لتنفكّ أزارير جملته البكر.
- وأنا؟ أتعرف من أين جئت؟
لم أجبها. حبستْني تأتأة البراكين الخامدة، ولزوجة سالتْ على هضاب الإرتباك.
ظللتُ كل ليلة، أرقبها وهي تغني لمصابيحَ تجفل من فراشات القُبلة الخائفة. اقتربتْ شفتاي من شفتيها. وعلى حموضة الساعة الخامسة، طبعتُ دقائق ناري، فاشتعلتْ ثواني تيهها. وحين نامتْ صحا في أعشاب أسئلتي وعل الركض. ركضتُ الى أيام هامشية. وكلما فك شهرٌ قميص هلاله، بكيتُ. هي لا تعرف أنها قمرةٌ فقدت سماءها. وأنني قمرٌ أخاف كل ليلة أن يغتالني ترفُ غنائها.
ارتجتْ القاعة بضحكٍ هستيري.
نهض اللوطي من مقعده. مشى حتى واجهني. أشار بعينيه الى الجلاّد الذي أمسكني من ياقتي ثم جرّني الى المقصلة.
وقبل أن تهوي الشفرةُ على عنقي، سمعتُ غناءً مكلّلاً بلمعة قمرين لن يلتقيا في سماء قط.
القناديل
هذا الشراع يغمس نوره في شوائب الوقت. يجلس المحارب في ساحة أدمتْها معاركُ النخيل مع النخيل. يرفع نواةً بين أصابعه، فتقول له مستسلمة.
- لم لا تطلق رئتيك لريح البكاء. إنك غائم بالبوصلة الشائكة، وبالشرفات التي لا يستكين شمعها. ما الذي ينبس في رحيق نظرتك الآن؟!
يرد المحارب، وعلى صدره نياشين الوحدة القارصة.
- إنني أوزع ابتهالاتي لرخام اسمها. أرفع البيارق لضحكتها المندسّة في ذاكرة صباحية ضائعة، وأجمع الظلال من ثرياتٍ تتساقط خلف أصيلها المذهّب.
يرمي النواة بعيداً، ويتكيء على مرفقيه، باحثاً في قلاع الهواء عن جند يقودهم لحربٍ لا يسقط فيها قتلى. لاحتلالٍ يزهو بالبرتقال والعنبر.
يغفو المحارب على حصيرة العشب، فتلمع على درعه الشمس. ومن شعاعها، ينبثق هدهدٌ تلاطمت على ريشه الجُزُر.
يحطُّ بجانب المحارب، فتسقط الرسالة المعلقة في ساقه. وحين يصحو المحارب، يفزُّ الهدهد ثم يطير إلى أشعة الشمس.
يسأل المحارب.
- أي ضوء سوّاك أيها الهدهد؟
يجيب الهدهد.
- إنني من زمن صار ماء. فاقرأ نبأ امرأة طيّرتني من بين شفتيها.
يفتح المحارب الرسالة.
"لقد آن للبحر يا حبيبي أن يتحرر من قميص الرطوبة. انتظرتكَ حتى ذاب شوك الليلة السابعة. حينها، عرفت أن القناديل البطيئة ترمي مرساتها في الظلام الذي لن يضيء. قلتُ. أغنيّ، لعل الزيت يهتاج، فيرقص النور لي ولك. غنيّت، فاصطفّ ملوك الجزيرة على الرمل. تقدم نحوي ملكُ الملح. قبّلَ أصابع قدميّ. فصار يغمرني نشيج حارق. زعقتُ، فطار الملوك ثم رفرفوا حول رأسي. صار كل ملك يشير باتجاه مملكته القديمة، فتلوّن الفضاء، وانتثرت حولي أكاليلٌ من السرطانات المحنطّة. خفتُ أن تحيقني اللعنة، فأغدوا شعبة مرجانية، أو زبداً طافياً على ظهر موجة باردة. كتمتُ خلايا دمي، وكان كل ما ينبض في أوردتي عطركَ البري. أحسست أن الماء يندرج بعيداً عن دمي، وأن الضوء يتراجع إلى قبر الأفق. سألت نفسي. هل سينثقبُ الكون لتمر الأعاصير التي ستأخذنا جميعاً إلى النزهة الأخيرة؟ تجرأتُ، ونظرتُ إلى يميني، فوجدتني أتوسط البحر. لا شيء سوى الماء، وأنا واقفة على شبه نوم، أو شبه سفر. عن يساري، كان كل الملوك مشنوقين في الهواء، والزئبق ينزفُ من أظافر أقدامهم. أغمضتُ عينيّ، وبدأتُ أرتل ابتساماتكَ النزقة. لعلك تجيء الآن. همستُ، ثم قرأت مبخرة العشق التي أوحتها اليكَ أصابعنا المتشابكة ذات أرجوحة. أصابني المشي، فخطوتُ حتى ابتعدتُ عن الجثث المعلّقة. ركضتُ، وكان ردائي الموشح بالدانتيل يتطاير خلفي. أمسكتُ أطرافه، لكنه تمزق. وفي شبه نوم، أو شبه سفر، بدأت أسير على الملوحة المطلقة، خلفي هجرة صامتة من ذكور الحوت، وصغار الأخطبوط. وحين لم يكن في غيب اليابسة أي فنار، نزعت من بين شفتيّ هدهداً، وطيّرتهُ لك. فاقرأ نبأي على النخل. ان النخل مجزرة للنوى، والنوى شاهد أننا حين نُفخَ في الحرب، بكينا، ثم طوتنا مزامير الأرض إلى البحر. وإننا حين تواعدنا على قُبلةٍ حافية، غشانا الشاطيء، فصرنا بالونتين فرّتا من بين أصابع طفل محايد.
المـلاذ
كل الذين حاولوا الاقتراب من مِرجل سرِّها، تحوَّلوا إلى كائنات من الفخار. هي لا تمنح مرساتها لأحد، لكنهم كانوا مأسورين ببحرها، لذلك خاطروا وامتشقوا عُباب سفينتها، فغرقوا في الطين الذي يحرسها منهم. هي صامتةٌ كما يليق بمليكةٍ سرق البرابرةُ عرشَها أثناء غيابها في فتح كانت تقودُ جيشَه، وحين عادتْ لم يسجد لها احد، فتركت مملكاتها وفتوحاتها واعتزلتْ في موطنٍ لا يقطُنُه سوى أشجارٍ لا عمر لها، ولا يبدد سكونَه غير أنّاتِ نهر تبرأتْ منه المحيطات. كانت تحفر بأظافرها على جذوع الشجر تقويم عزلتها، وتعزي النهر كلَّ صباح.
- لا عليك. انكَ تجري من دمي.
فأحبتها الأشجار التي أشرق عمرُها، وأخذ النهرُ ينام على كتفها كلّ مساء. وصار هذا الموطن مملكةً جديدة، يسودها الصمتُ الذي لا يبعثره هواءٌ ولا يغيْرُ عليه مطر.
من ذا الذي كان يوشوشني بقصة هذه المليكة المتحجبة من أنظار الضوء؟! لا. لم أكن أتخيل. كان الصوت واضحاً وضوح هذا المشهد أمامي بشجره ونهره. كنت قد تخلصتُ للتوّ من الجلادين الذين كانوا يطاردونني. توَّهتُهم في ثنايا الصحراء القاحلة، فاضطرّت كلابهم للعودة، ومضيت أنا أبحث عن ملاذٍ عن الذين أهدروه لأنني رفضت أن أبيعه لهم.
- إما أن تبيعه أو نسيّحه لك.
- وبكم ستشترونه؟!
- قل أنت كم ثمنه؟!
- بل ثمّنوه أنتم.
- أنت لا ثمنَ لك. لكننا نريد أن نشتريك. نريد أن يعرف هؤلاء الغوغائيون الذين يسيرون خلف صراخك، بأنك بِعْتَ لنا صوتَك بسوق النخاسة، وأنك عرضتهم بعد ذلك عبيداً لنا بلا مقابل.
- لن أبيع.
وكانت هذه الأشجار وهذا النهر وهذه الوشوشات ملاذي.
- من ذا الذي كان يوشوشني عنها؟! وأين هي؟!
نَزَعَت الشمس غطاء الليل عن وجهها، مبتسمة للفجر الذي انحنى لمقدمها، وسمعتُ العشبَ يغني لخطواتٍ أخفُّ من نبض قلبي.
- ها هي.
خلعتْ الإزار الذي كان يستُر صدرها إلى منتصف فخذيها، وهبطتْ كنورس إلى النهر، فاستقبلها بأحضان عاشقٍ ناءت به الأرضُ عنها، وسمعته يهمس لها.
- صباح المليكات اللواتي ترصعّن بفيروز تساقط من قاع السماء. أبايعكِ مثل الأمس بصفوِ مائي وبجراح يُتمي الذي برأتُ منه منذ خطواتكِ الأولى لنا.
وقلتُ لنفسي.
- هو الذي وشوشني عنها اذن.
زحفتُ إلى أن شارفتُ إزارها، ففاح في وجهي عطرٌ طَعَنَ أقصى رئتيَّ وأحالهما إلى سجادة منقوشةٍ بهويتي الهاربة. حاولتُ أن أمدَّ يدي لألتحف به علّه يطفيء الكلاب التي نهشتْ طريقي، لكنني آثرتُ أن أستمع لتغريد سباحتها. كانت مثل سمكةٍ تحتفل بمهرجان الزرقة، تخلط النهر ببياضها، فتغدو وإياه سماويان. أحسُّ النهر هو الذي يسبح بجسدها المفرط بماء الفتنة، وأنه يغرق بها.
- أأصيح بها، أنجديني؟!
لكنّ صوتي انحبس في صدري المنهك، وانكفأتُ على إزارها. ولا أدري كم دهراً مضى حين رأيتني على سريرها، وهي مستلقية إلى جانبي تعبثُ بشعر رأسي كي أفيق.
- لا تخف. لن يصل أحدٌ اليكَ هنا.
جفلتُ مثل مَنْ لدغَهُ كابوس، غير مصدقٍ أنني أرفُلُ بسريرها.
- لماذا تأويني؟!
- ولِمَ لا أؤيكَ؟! لقد هذيت لي بقصتكَ، وأحسستكَ تشبهني. أنتَ لم تأتِ لي، لقد أتيتَ لنا، أنتَ وأنا.
- ألن تحوليني إلى كائن من الفخّار.
- منْ مثلُك لا أحيله إلاّ إلى زنبقةٍ ألوّن بها ضفائر غربتي.
- ما الذي هذيتُ به لتصطفيني؟!
- لا عليك.
وسَحَبَتْ يدي كي أنهضَ من السرير، ثم قادتني إلى النهر. وعارياً من كل الكلاب، سبحتُ معها، تحيطنا زغاريد الأشجار وتهزنا دفوف النهر.
رقصنا رقصة اليُتْم الأخيرة، والتأمنا معاً في أبوّةِ الماء وأمومة الخضرة، اخترنا لمملكتنا الوليدة اسماً لا يكبر عن حدِّ الطفولة، لكي نظل نعبث بالوقت كبالونة مزركشةٍ بشقاوتنا التي خسرناها منذ حبلنا السري. ها أنا أحضنكِ بين ذراعيّ، ثم أقذفُ بكِ لأغصان الشجر كي تقطفي لي ثمر الهذيان الذي تلاقح مع الوشوشات التي أسمعتني إياكِ. كلانا يهذي لكي ينجو بجلده من النباح الغامق، وليفرّ إلى هديل البوح.
أنتِ التي أوتني يداكِ، فأفعمتْ ساقيَّ ببوصلة طريقكِ، ولولاكِ لقبرّتني الصحراءُ بأردانها. قشعتِ الضباب عن زجاج هروبي، وأطلقتني في بخور نصاعتكِ، لأتحرر بطيورك من قضبانهم. مأسوراً بثورتكِ الهادئة، أصرخ بالشجر لتسجل على جذوعها عمري الملتفّ بعمرك، وليصبَّ النهر سباحتي لكِ. وها أنا أحيي لكِ المملكة التي يتقاطر حولها الذئاب وينهش أطرافها الضباع، لأكون ذئبكِ وضبعكِ، فهل تقبلين أنيابي.
- افترسني.
ودون أن أصغي لدماري، غمستُ هروبي بعزلتكِ، فسال من سرِّكِ خيط أبيضٌ، مكثتُ في ظله إلى أن انفجرتْ صرخةٌ من فتائل شفتيكِ.
- أحبك.
فأسلمتُ كلّ مقاليدي لفضائكِ.
وبعدها أعلنتُ أنني لا أستحق زنبقتكِ، ورجوتكِ أن تحيليني إلى فخّار، لكنكِ هززت برأسك.
- أريدكَ أن تسبح معي أكثر.
كنتُ واثقاً أن الكلاب ستشم رائحتي، وأنها ستفسد على المليكة عزلتها، لذلك واصلتُ هربي.
وفي حرِّ صحراء جديدةٍ، مزقتُ قميصي بغية الهواء، فوجدتها تنبثق من منابتِ شعر صدري، وترتل عليَّ سؤالها ترتيلاً تساقطت له ركبتاي.
- أتتركني بعد ما مخرتُ بكَ موج الليل واستأنستُ لجنّك؟!
- تركتكِ لشجرةٍ تتنفس سنواتكِ، ولنهرٍ يصب جواهره في حضنكِ. ولستُ أوازي دبيبهما في فلككِ.
- أرجع، أرجوك.
- كيف أرجع وجُثتي قد مزّقتها سياط صمتك؟!
- سأجيبكَ بأغنية تحبها. تعال.
- لا. أحبي مملكتكِ بدوني. لقد أدمنتُ الصراخ على الجلادين، أم تراكِ تريدين أن تشتري دمي مثلهم؟!
- أتعرفْ كم يساوي دمك عندي؟! أتعرف أنه يساوي كل الدماء التي ساحت تحت أقدام فتوحاتي، والتي كنتُ أبحثُ في روائحها عن رجل يفتتح دمي، فلا تهرب مني.
مزقتُ كل ملابسي، وصرتُ أصرخ في كل اتجاه، إلى أن تجمدتْ أطراف الصحراء. وفي غفلةٍ، انهمرت كل سهام الجلادين دفعة واحدة إلى صدري. ورأيت دمي يصعد لكِ. بلا ثمنٍ، يصعدُ لأشجاركِ ونهركِ وسريركِ.
صحوِها الناعس
ترتدي الثلجَ، فتتآزرُ شهبُ الشتاءِ فوق حُلّة عينيها، يستشهدُ الصيفُ الذي يغلي بنا، بإيماءةٍٍ من حاجبيها. تخرُّ الشمسُ صريعةً، ويتساقطُ التمرُ الذي كان قد استوى، على حقول فقراء الدبس. تعجُّ السماءُ بالغيوم الداكنة، وبرعودٍ تلحّن اسمها لنا.
**
- أستميحكَ قلمَك.
- قلمي؟!
- أجل. أتركه ولو لوهلة. لا أظنك أتيت إلى كل هذا السحر، لكي تنشغل عنه بالكتابة.
- سحر؟!
- طبعاً سحر. انظر حولك. هل سبق أن رأيت أنهاراً تتلألأ بالنور، او عشباً تستنطقُ الفضة مداه؟!
- لقد رأيت سحراً يأسر سحركَ هذا، ثم يطلقه إلى سوق السبايا.
- أتسبيك الكتابة إلى هذا الحد؟!
- بل أنت المستبى بنهرٍ كهذا وبعشبٍ كهذا.
**
حين تغرِسُ صولجانها في بياضِ البياض، نقوم جميعاً من سباتِنا، أمّةً بعد أمةٍ، شعباً بعد شعبٍ، لنتشرفَ بخلع معطفِ الثلج من على كتفيها.
بكل الموسيقى المنحدرةِ من الجبال الشاهقة التي تحرسُها، تجلسُ بمهل المهل على عرشها. تحدّقُ في مدى الأوديةِ المترعةِ بالكائنات، تحت قدميها، كل كائنٍ يرتجفُ لكائن.
- هل سنكون؟!
**
- أيمكنني أن أقرأ شيئاً من السحر الذي لديك؟!
- لماذا تهتم بالسحر الذي لديّ، طالما أنت مبتهج بالسحر الذي لديك؟!
**
ترفعُ يدَها، فتمطرُ السماءُ نوارسَ مبتلّةً بقصائد صامتةٍ. تجوبُ القصائدُ القلوب، قلباً قلباً، لتبحثَ عن معانٍ لم يفقهها أحدٌ من قبل.
في كل قلب يجد احد النوارس، ما لم يجده النورس الآخر. وحين تنتظم النوارس في السماء من جديد، تماماً فوق عرشها، تُشرعُ كفّها، لتجمع معاني القلوب.
لم يكن سوى رمادات الهواء.
فارقت بين أصابعها، فسالَ كبرياءُ الحزن إلى الأودية التي جرّتِ الكائناتِ إلى النهر. ومن سائلهم المتجه إلى البحر، روى هو عطشَه، ثم حلّقَ إلى عرشها.
من بين النوارس، أطلّ ليجِدها ترتدي ثلجَها. رمقَتْهُ بكل الشهبِ المتآزرة في حلةِ عينيها، فاستحال شمساً.
قبل أن تذوب، صنعت النوارس لهما سفينةً من صحو ناعس. وقبل أن ينعسَ صحوُها، عاد الصيفُ شرساً وقاحلاً.
**
- ماذا دهاك يا رفيقُ الرحلة؟! لقد ترجّل كل المصطافين من الحافلة، وأنت لا تزال تكتب. ألن تجدَ وقتاً آخرَ لنكمل فيه الكتابةَ؟!! إنْ لم تترجل، ستعودُ بك الحافلة إلى حيثُ كنت.
ضفائر الشرفة
غَمَرَ الشتاتُ لثْغَتَها، فغَدَتْ راؤها لاءً أشَدُّ وأقسى.
- إنني ألفظك.
اكتحلَتْ عتباتُ المساء بشرايين مُزرقّةٍ، رأى فيها سنواتِهما، وهي تنـزعُ تيجانها، تاجاً تاجاً، ثم تقودُ نفسها إلى الأسْر.
خَلْفَ القضبانِ، كانت أيامهما وأمكنتهما، تنبضُ بالحمّى الصامتة. كان النبضُ بطيئاً خافتاً، لا يلوي إلاّ على بُخارٍ لا أفقَ لسخونته.
- إنها تهذي.
هرع إلى الشرفة، لكي يفتحَ نوافذها. كان البردُ يُرخي ضفائرَ بداوتِهِ على صحراءِ المكان.
- لنْ يطفيءَ حمّاها سواكَ.
- لكنها رفضتني.
فتحتْ عينيها، فكأنما أجرامُ السماءِ تآخت ثم ناختْ على سهولِ المدى والندى. وكأن النياقَ المجاهيمَ لاحت ثم استراحت على مشارفِ فياضِ رموشها المتعبة.
- ارفضيني، لكنْ أخرجي من سياجِ نيرانِكِ. ادخلي في سهادي. ادخلي محنتي.
كان سهادُهُ، أنْ يُلَمْلِمَ شتهاتها.
كانت محنتُهُ، أنْ يُشتِّتَ لَمْلماتِها.
هي التي، وحدها التي حاكتْ قيطان دمِهِ، لكي يليقَ نزيفُهُ بمضمارِ الشعراء. وهي التي، لا سواها التي نَمْنَمَت زَرْي صوتِهِ، ليكون دوماً آية للهمس.
بعد قيطانِ نزيفِهِ، حَمَل كلُّ شعراءِ بلاطِها، توابيتَ قصائدهم، ثم اختفوا في قوافي الغبار.
بعد آياتِ همسِهِ، توارتْ الأصوات خلفَ كثبانِ الضجيج.
- إنني ألفظكَ.
- هل لأنني تماديتُ، ففككتُ قيطان نزيفي، كي يشْتّمَ صدري ريحَ جهةٍ خامسةٍ؟!! هل لأنني حَرّفْتُ آيات همسي، لأتلو سورَةً ناعسةً؟!!
- أغْلِقْ نوافذ الشرفة. إنّكَ تزيد حمّاها.
مدّت يدها باتجاهه. تناولتْ يدَه، ثم وضعتْ أصابعَهُ على شفتيها. لبرهةٍ، شَعَرَ بأنها ستحرقُهُ بنارها. لكنها همست شيئاً لم يسمعه، بقدر ما شعرتْ به أصابعَه.
- دعْ النوافذ مفتوحةً. لا تغلقها.
استـلّ أصابعه من فوق شفتيها. توجّه للشرفة. وقفَ بمواجهة بداوة البردِ، لتشْنُقَه بضفائرها.
وقبل أن يتدلى جسدُهُ من المشنقة، استجمعت لثغتها كي تصرخ بِراءٍ صعبة.
- أريده. أنني أريده.
طواويس المقصلة
القميص
ألا تصدقين أن بمقدور جلدي أن يجرح هذا الزجاج؟! إذن لتشاهدي هذا.
اضرب بكأسي الأرض، ثم أمرر طرفه المشروخ على ساعدي. في الخارج تبزغ الشمس. وفي أوردتي تفزُّ امرأة من نومها بنصف قميص. أرني ماذا فعلت أيها المجنون؟! أُناولها شفتيّ فتضحك، ثم ترفع نصف قميصها الآخر لتستر به دمي.
الحادث
كان يقرع في قلبي ضجيج أدهم.
- ماذا لو لم تعد الى الشقة مرة أخرى؟!
في الضحى الباكر، نهضتْ. كانت لم تأكل أو تشرب. رقصتْ، ضحكتْ، غنّتْ، تبلّلت في آخر الليل من عطر دمي، أعطتْ لوجه الصبح قلادة شبكتْ فيها نومنا البري، لكنها لم تأكل أو تشرب. في الضحى الباكر، نهضتْ. تركتني على حافة الضوء قائلة.
- سأذهب للوظيفة.
وحيداً أحاول أن أمتص من دم الموسيقى خيطاً يفيقني، فلا أفيق.
- ماذا لو لم تعد؟
من بعيد، تقاطر صوت محرك سيارة في أذنيّ. بالتدريج، صار يزداد، وصرت أتابعه بدقة. كان مختلطاً بصوت امرأة تضحك وبصليل سيف يطوّح في الهواء.
اقترب الصوت أكثر، أكثر، وأكثر.
تحطم جدار الغرفة فجأة، ووجدت جسدي تحت عجلات سيارة تقودها حبيبتي. وبمجرد أن أطلقتُ من شفتيّ ابتسامة فرح لمجيئها تحركتْ عجلات السيارة، فدهستني.
وأنا في بركة من الدم، هبطتْ حبيبتي من العربة، وبالسيف بدأتْ تقطع أطرافي.
البياتي
أضع أصابعي على جبينك. هناك بقعة عطر جافة على السجادة الفاخرة، قرنفلة فقدت وهجها النهاري، ديوان للبياتي مفتوح على صفحة فيها. "قالت من أنت/ أجاب. أنا لا أدري وبكى/ كانن صحراءٌ حمراءْْ/ تمتد وتمتد الى ما شاء الله/ لتغطي خارطة الأشياء". الصفحة الأولى للجريدة تعرض صورة جندي اسرائيلي يضع فم رشاشه في طريق عدد من الفلسطينيات في شوارع طولكرم. الوقت. الساعة تحزُّ على معصمي، فتلدغني عقاربها. اتسمم بالموعد الذي يلاحقني، لكني بهدوء أجعل أصابعي تهبط من جبينك حتى أزرار قميصكِ. افتحه، فيشّعُ صدركِ البرونزي. أرمي رأسي عليه وأبكي.
قهقهة
حين لامستْ شفتاي شفتيك، أضاء الفانوس وظهرت في الغرفة طاولة. على الطاولة كان هناك رجال مترهلون يتحاورون حول المستقبل. كنتُ معهم. كنت أفكر أثناء جلبة أصواتهم كيف أستطيع أن أرمي اليك بالورقة التي بقتْ معي من زهرة القرنفل القانية. احترت كثيراً كيف ستفهمين الزيت الذي يحيط عنقي. (أصواتهم). وكنت أفكر هل حين تبتسمين، سيهدأ الضجيج في دمي كما يحدث كل مرة؟ أو أنهم هم الذين سيبتسمون لك، فتتساقط فوق رأسي المطارق. جعلتني هذه الفكرة أضحك بصوت عالٍ. (أصواتهم... هاه.. لماذا صمتوا فجأة؟!). انتبه الى أنني بين هؤلاء الرجال المترهلين الذين يتحاورون حول المستقبل، وأنهم سمعوا ضحكتي غير المبررة. أنتبهُ لهم وهم يبتسمون لهذا الموقف ثم يقهقهون واحداً تلو الآخر. على الورقة، أسجل أن الرجال المترهلين الذين يتحاورون حول المستقبل يقهقهون. أسجل قهقهاتهم كما هي. أترك الورقة على الطاولة. أعبر الغرفة الى الفانوس. أُطفئُهُ، فتغادر شفتاي شفتيكِ.
مأرب
في عينيه، يبرق جنوب الأرض. وعلى كرسيه الخشبي المتآكل تشعُّ أسئلة صامتة. رفعتُ يدي له وأنا أدخل باب العمارة. أحسست بأنه غير عابيء بضجيج صدري الخائف. حالما دلفت العمارة، غمرني شعور بأنه سيتبعني وسيقول لي. من أنت؟! وأنني سأرد عليه بكل ثقة. وما علاقتك؟!
- أنا حارس العمارة.
- ليكن. واذا أردت أن تعرف من أنا. اسأل صاحب الشقة.
- الشقة تسكنها امرأة وحيدة. هل أنت أخوها؟!
ضغطتُ الجرس بخفة، ثم مرقتُ الى الداخل بهلع بمجرد أن فتحتْ الباب لي.
حين خرجتُ، كان يجلس على كرسيه، وعيناه سارحتان في فضاء لا حدّ له، فبدا وكأنه سلطانٌ يماني، نفتْهُ آلهةُ مأرب. كنت سأتوجّه اليه، منحنياً.
- مولاي السلطان، الرأفة.
لكنه سوف يشير الى الحرس بحركة من اصبعه، ليقتادوني من بلاطه المحفوف بالطواويس الى المقصلة.
قمح هذا النهر
ليلٌ طاعنٌ بالنيل، وكلابٌ تصوغُ البَرَّ بنباحٍ يُكسّرُهُ الهواء. وسواهما، ليس في المركب الغارق في النوبةِ، أحد.
- أتعرفين إلى أين نحن ذاهبان؟
- لا يهم، ما دامتْ كفُكَ تستنطق الشهادة من كفي.
تطايرتْ من كتفها أشرعةٌ ربطَ حبالَها من نهر إلى نهر. كلّ ماء كان يحفر على أصابعها موالاً يبريء صحراءهما. يختاران دوماً مدناً زرقاء، ليسفحا على سماواتها هلالهما الذي أنبتاه في قمقم من الخزامى، وصارا ينتظران صُدْفةَ الصيف أو غفلة الشتاء، ليطيرا به، مُـخـبَّاً في حرير شفاههما، إلى هدأة يقرعان على صفيحها ترانيم بدرٍ للتو صار بدراً. شرفةٌ حاكها بردٌ متهدجٌ باختلاط الفصول، وبها وهي تمسح كُحْلَ السفر عن عينيها، لترسمه على شفتيه اللتين لم تتوقفا طيلة الطائرة عن الهذيان.
- الشجرة الآن ترقص ثمراً، والعصافير استسلمتْ للريح، فتركتْ ريشها لعنان الوسائد. أنا واقفٌ على حافة المِسكِ، خلفي ثمانُ خيول لم أسرجها بعد، فافتحي صَدْرَكِ كي أروّض هذه النار التي أكلتْ تفاح صبري. افتحي صدرك ليلتقي خيلي بخيلك، وصهيلي بهديلكِ. توجعني النار التي صببتِها في هيكل صمتي، وكلما أبوح، تضرمينها في جسدي. محترقٌ أنا بأطواق الأسئلة المعجونة بأهدابكِ. تذرفين عتابكِ على أعتاب صعلكتي، وأنتِ تدرين أنني لم أهِمْ في الصحراء إلاّ لأجدكِ. وكيف لي، وأنا حارسُ جسدكِ الذي يحارب الشمس، كيلا تسقط خيوطها على فتنتكِ، دون أن أمسّ شعرةً من خصالكِ؟! ها أنا الواقف الموجوع المحترق الهائم، أغرس في الوجوم صراخي، لأرشِدَكِ لي. واراك تستلّين البياض من لثغة عينيّ كيما تتسعُ المشاهدُ لي.
**
شرفة تهدهدهما، فينامان كطفلين أتعبتهما فراشةٌ مقدّسةٌ عن المصائد.
**
يقفان أمام المُرشد الذي يُزبد بأن النوبة دولة لا تنتمي إلاّ لذهب النيل. معاً يبتسمان، لأنه نسي فوجَهُ السياحي، وانهمك مع هذين الأعزلين من أي مرشد، يحدثهما كيف أن النوبي هارب من قطيع فرعون، وأنه وحده الذي استطال إلى أن شارف الشمس، لتمنحه شرف اسمرارها. يتحرك الفوج، فيودعهما. ويبقيان يحدقان في خرسانة السد.
- أنتِ سدّي الذي لا يعلوه أحد.
- حسبتُكَ ستقول شيئاً عن عبد الناصر.
- وهل يحتاج هو أن أقول شيئاً عنه؟! ها إنّهُ أمامكِ.
هي تعرف كل منبتٍ من منابت قلبه. وحين يدخل الليل في مجده، يضع رأسه على قطن قلبها، ويأخذ يبوح لها مشارق ومغارب تشرده. وتأخذ هي تسأله عن كل خيمة دخل فيها، وعن كل سرير نام فيه.
- لماذا تلفُّ وتدور، قل أنك ناصري.
ويكركر كركرته الممزوجة بالشهد والحنظل.
- أنا خزاميّ الأصل والنصل.
فتحضن يديه بكفيها وتدسهما داخل أضلعها. وأمام بحيرة ناصر، تتذكر أنه قد قال لها قبل وصولهما أسوان.
- حين نرى السد، سنصلي على روح جمال.
لكنها لم تذكّره بذلك.
**
قال لها.
- مَنْ يستطيع أن يتغطرس بالهدوء مثلك ومثل أسوان؟! كلاكما انسلختما من الضجيج، ولبستما عباءة تغرّد بالصمت، كلما حان للشمس فرار عنا أو فرار لنا. ها أنتما تذرفان النيل للأطفال، كي يعجنوا حافّتيه بقواربهم الرخيصة، ثم يقتاتونه خبزاً لجوعهم الأسمر. أنتما وحدكما تطلقان الهواء من سجنه، لينقل أسرار جدران الطين الملطخة بأدعية الحج وبتنهيدات عاشقين يخجلان من ظلّهما.
أسوان أنتِ. تشرئبان صمتاً يجلد صراخي، فأكفُّ ثم أكفكفُ ملوحتي على حبالكما التي تستحيل أوتاراً أدندن عليها موّالاً جنوبياً يليق بليل يجمعكما ويلمُّ شتاتي بكما. وإذ يهتاج رذاذ النهر، أهتاج بكِ فأقتربُ من نبضات أضلعكِ، لأجدكِ تجهزين سرب نوارس بين كفيك. وحين يطير، يشدنا في خيطه باتجاه جمرة كانت في انتظارنا منذ حططنا قلبينا على قمح هذا النهر.
**
التفت إليها، فلم يجدها. لم يكن سوى النيل، سوى أسوان، سوى مناجم الفقراء. سوى نارٍ فوق معبد ناءٍ، نارٌ تشبه المطر.
كتاب الليل
يضيء الظلام وشوشات الهواء، فأغدو عارياً من لغتي. أبحث في حاويات الصمت، فلا أجد سوى محبرة ترّمد ريشها وسقطت بلا أجنحة في قاع المجزرة. تساءلتُ بتشفٍ بالغٍ. من أوجد من؟؟ الحبر صنع المجزرة، أم المجزرة صنعت الحبر؟؟ لم أفكر طويلاً بالإجابة، فلقد كان الليل على موعده المعتاد مع عروقي. هو الليل وحده، يمتطي شراييني، ويمضي بها الى مروج الأبخرة. كل مرج يتبدّى لي هناك، يتحول فجأة الى جسد إمرأة، ثم أرى هذا الجسد، يصارع ألسنة نارٍ قزحية، الى ان يتبخر. لا اذكر منذ متى بدأت جياد الليل تسافر بي الى هناك. كل ما استطيع إسترجاعه، هو ذلك الذي حدث، أول ليلة.
كنتُ عائداً الى شقتي الصغيرة، من صحراء الأصدقاء، منتشياً بالرمل الذي غمر روحي بكبرياء بدره المتوسط صفحة ذلك المساء. أحسست أن جوادا أسودَ يركض بمحاذاتي، على صهوته امرأة ولم أكن ارى منها سوى ساقها المشع. خففت سرعتي ليسبقني الجواد وأرى كامل المرأة، لكن الأمر لم يفلح، إذ أن الجواد أبطأ هو أيضاً سرعته. وحين تجرأتُ، وأوقفت سيارتي، كان الجواد ينهبُ كثبان الصحراء بعيداً عني، وعري المرأة المشع يتباعد تدريجياً إلى ان ملأ الفضاء بنورٍ فاضحٍ تتساقط منه بللوراتٍ من الألماس. وقفت أراقب المشهد، وأنا مسكونٌ بأغنية لم أسمعها من قبل. أسدّ أذنيّ، لكنني أسمعها بدمي. حتى عندما رجعت الى سيارتي، وقدتها بأعلى سرعة، وبأعلى مذياع، لم أزل أسمع الأغنية، ولم أزل أشعر بالنور يغمرني، وبالألماس يتدفقُ منهمراً على وجهي، وبعريها، وشعرها الثائرٍ على كتفيها يهزّني، وكأنه يهمس لي. هيه، أنتَ لا تحلم.
إن لم أكن أحلم، فماذا يمكنني أن أسمّي ما حدث؟؟
في الصباح التالي، صحوت مبللاً بأسئلتي، ولم يستطع نهاري الحافل أن يجففني. أمضيت ليالٍ لا أعرف كمّها، أنتظر موعدها الثاني، جوادَها ونورَها وألماسَها وأغنيتَها، لكنها لم تأتِ. لم أترك مكاناً في الصحراء، لم أبدد فيه إنتظاري، إلى أن تكسرت لياليّ، وتمزقت الدروبُ التي كانت تصلني بالناس. صار كلُ الذين كانوا يعرفونني، يؤكدون لبعضهم البعض أنني لم أعد ذلكَ المتواصلُ الحميم، ذلك الذي يجمعهم على شمس الضجيج، وقمر الغناء. صاروا يقولون. شمسه انطفأت، وقمره أفل. اجل، هذا ما كان، وسيكون أكثر.
أغلقت البابَ عن كل ضوء. أصبح الليلُ يسكنني، بل أنا الذي أسكنه. أصبح كل منا مسكنا للآخر. فعندما يرخي المساء سدوله على وحدتي، أمكث أحوّله إلى مقامات من الموسيقى، علّني أدخل في الأغنية. ساعات الليل تتحول الى بدايات لحنٍ، أحاول من خلالها تشكيل ما يجعلني أستعيد اللحن كله، لكن دون فائدة. والغريب أنني قبل أن أشعر بخيوط الشمس الأولى، أكون قد دخلت في إثارة الأغنية. أكون كأنني قريب منها، كأنني أبدأ اشعر بنشوة جوادها، وفي المساء التالي، أبدأ من جديد، وهكذا، هكذا كل ليلة. وقلت لنفسي. دع عنك اللحن، حاول كتابة الأغنية، علّك تسترجع موعدها، فالكلمات تتراكم على الورقة، ولا تتخاطفها خيوط الشمس الأولى.
في الليلة الأولى، كتبت.
"يورق عشب الموتى فيك،
صمتٌ يولد من صمتك،
ما بالك لا تحيي الموتى،
بشهيقك؟؟ ".
لا اعرف كيف خرجت هذه الكلمات. كنت أنظر اليها على الورقة، وكأنها ليست لي. هي ليست لي لا محالة، فكيف أكتب كلماتٍ كهذه، لأسترجع إمرأة بهرتني بنورها؟؟ إعتبرت الأمر، كما اللحن الذي يأتي ويرحل، دون تدخلٍ مني.
في الليلة التالية، كتبت.
" أنت أدناهم الى صوم القرى،
فأنحر فطورك،
بدّد غبار سنينهم بأساك،
و أدخل الى حيث الأجنة،
حيث الولادات التي لا تنتهي،
حيث الصباح المستدير بناره وبنوره.
يا أنت، من لصيامهم غيرك،
فأجفل، وغرّد،
واحتمي بأنينهم،
طر فوق هذا الحزن،
ولترسم المخبوء دائرةً من الأشواق للعتق المبين".
ظللت لليالٍ، اكتب نثراً شعرياً كهذا، دون أن أكون قادراً على فهمه. ماذا تريد مني هذه المرأة؟؟ ماذا أريد أنا مني؟؟ ربما السؤال الأخير هو الأقرب لتفسير ما أنا فيه. هكذا بدأت أسأل نفسي. وحددت السؤال بقسوة أكثر. ماذا أريد من هذه المرأة؟؟ حسنا، قلت لنفسي. سأقول لها ما أريد، فلعلني أمتلك حرية قلمي. وما ان بدأت بالكتابة، حتى وجدتني، على صهوة جواد أسود، يقودني الى مروج البخار. لم اكترث في البداية، لكل النساء اللواتي كن يصارعن ألسنة النار، فلقد كنت منقاداً الى شهوة رؤية المرأة التي لا يطالها بخار. وضعت رأس القلم على الورقة المرتجفة، وبدأت أكتب.
"لماذا تنسجين مني ماءً يترقرق مستسلماً لبياض نهرك؟؟ لماذا تعتقدينني صهوةً تمتطين دفئها، وتمخرين بها عباب صحرائك؟؟ أنا لست الماء الذي تظنين، ولا الجواد الذي تعتقدين. لن أكتب شعراً لك، فلم أستطع أن أصل لموسيقاك، سأكتب نفسي كما انا، سأنثر الكلمات، لكي أجدك، ولكي أقول لك، أنني منذ جوادك، لم يطأ وقتي عتبة النهار. أحلتني الى شجرة مسائية، تترعرع في أرصفة الليل. في هذا الليل، أغنيّكِِ وأكتبكِ. يتحول الليل بك، الى مهرجان ألوانك وصوتك. يغدو النور الذي لاح منك، بوصلة تبحث عن كثبانك، وتستحيل حوافر صهيل خيلك الغارب عني، مشرقاً لكحل شعرك. وها أنا أسألك. لماذا بذرتِ الليل بي؟؟ لماذا بعد أن توغلتُ في الظلام، تطلبين مني النور؟؟ أي موتى الآن تستفزينني، لأشهق بهم؟؟ أي قرى، أستطيع اليوم أن أنحر فطوري لصومها؟؟ أنا، بكِ، خائف من النهار، مرتعب من الشمس، فاظهري لي، كي أبرأ، كي أداوي عروقي من الجياد التي لا تقودني إلا الى نساءٍ يتبخرن، هن كل النساء اللواتي أعتقدنهن أنتِ. يا أنتِ التي سجّلت بجوادها تاريخ صمتي".
نظرت الى الورقة، وتأكدت لحظتها، أن الكلمات التي عليها، هي كلماتي. كان الفجر يشعشع في الأفق، فنمت.
عندما صحوت، كان الى جانبي جسد يشع بالنور، يغطيه الألماس. جسد عارٍ، تحفّه أغنيتي التي أنتظرتها طويلا. فتحت الستائر، فإذا الشمس تتوسط السماء، واذ بمئات الموتى الذين أعرفهم جيداً، يحدقون في شرفة شقتي. أحسست بكف إمرأتي تتلمس كتفي وعنقي. إستدرتُ لها، فوجدتها ترتدي زي محاربة تاريخية. معها خرجت، لنحارب المجزرة في وضح النهار، يحفّنا النور والألماس والجياد التي تغني للقرى الصائمة.
مؤتة
بكل ما أوتيتَ من غيبوبةٍ، ضربتَ الكرسيَّ الذي كان يفصل بين زعيقكَ وبين صمتي، فاندفع الكرسيُّ بكلِّ قوتكَ الى ساقي. ولم يكن ألماً ذلك الذي زعقَ في عظمي، بل نشيجاً خافتاً أطفأَ أصواتَ المرقص وصفقاتِ شراء اللحم البلقاني، وأشعل بكاءها عليك.
- افتقدتُ صباحاتِهِ وغناءَهُ، غمزاتِ عينيه ورائحةَ سجائره.
سال دمعُها كعطرٍ من الفضة الطازجة، وشممتُكَ أيها الممهور بذاكرتي، كوتَرٍ احتجب عن الموسيقى ليغرق فـي تراتيل السماء.
- انتبه!!
انحرفتَ بالسيارة بمهارة الفتى، عن معزةٍ شاردةٍ من جبال الجنوب، لكن السيارة هوتْ بنا الى قاع الشمال. سحبتُ جسدَكَ (الـذي احتفى بالامس بأول غرام) من الحطام الذي كان يحاصركَ، ونفضتَ الغبارَ عن خوفكَ، وأشرتُ الى الطريق الوعر الذي أمامنا. ووجدتكَ تشبِّكُ أصابعك بأصابعي.
- سنمشيه حتى النهاية.
أخرجتُ لك سراجاً صغيراً، وطلبتُ منك أن تخبأه لعاديات الظلام، لكنك أشعلتَهُ فوراً، وغرسته على نهار كتفكَ.
- سأظل مُستنيراً بك.
كنتَ تحمي الضوء بجبينكَ عن حجارتهم، وكلما يشجّون رأسكَ، تضحكُ بكل ما تملكـه من دم.
- لماذا تضحك؟!
- لأنني لا أعرف لماذا يريدون أن يطفئوني منكَ.
- هم يريدون أن تضيء بزيتِكَ.
- أنت زيتي الذي استحممتُ به لأول بهجة، وغدا لجلدي بريقٌ يوازي بريق الكتب التي كنتَ تخبئُها في درجي الصغير. كانوا يرون الشمس تشعُّ من ليلي المزدحم بدهشة القراءة، فانفضح بك.. سافرتُ الى فضيحتك أشعثَ لتسترني بغباركَ.
- ودخلتَ في مهجة غُباري، فازددتُ بك صفواً، واغبررتُ بحبر معاركك التي تشبهني. جيشكَ هم جندي الذين أثخَنَتْهم الحجارة، وعتادُكَ هي القصص التي نسهر على غنائها الرافضي لكي ننسى قطيع جامعتك. بكَ يستحيلُ السهر الى قصيدة، والسفر الى موشّح لا ينضبُ إلاّ حينما تطعنك الغيبوبة.
لماذا كسرت ساقي؟! هل أتعبكَ مشيي؟! أأثمتُ حين ناديتكَ لترتدي ثوب وظيفتي كيلا يكسرك شتاؤهم؟! كنتُ أريد أن أكمل معك القصة التي بدأناها جنوباً، لكنك خذلتَ الشمال، ونسيت أن الى جانب مكتبك شاهدةً منحتْ فسيفساء رئتيها لجدارنا المشترك.
- أفتقدُ يديه وهما تلوحان لمجدِ الأطفال الفاقدين براءتهم، متكئين على أبواب الانتظار القريبة من باب مكتبه.
اكسر كما تشاء، فلقد أدمنتُ مؤتَتَكَ أيها الخالد في جلدي، الذي لم يرَ جراحَه أحد. أيها الوليد الذي أتبخترُ بسرّه، وبغزواته وبهزائمه. ولتكن مؤتُتكَ معي في هذا المرقص المحتشد بالغناء الرخيص، قلادة من البوح النفيس، أعلّقها على جبينها الملائكي، المنقوش باسمك ومعارككَ وغناءك، غمزات عينيك ورائحة سجائرك وتلويحات يديك .
الهجرة
قال إن الكتابة نجاة الغصن الذي ظلت الرياح تذروه في ممالك شجر يجهلها، حتى تشع شجرته الفقيرة، فتهتاج ثماره بالذهب.
وقال: الكتابة حل القلب المرتحل في روائح البسطاء وأحلامهم الصغيرة، تلك النبع الذي لا ينضب من الحكايات المرة، جارحةً أوردة محبرته، لتنزف مواويل تمنح الربابات كبرياء بيدائها.
هو، حين وضع شفتيه على حلمة الأبجدية، أدرك حلاوة الأحرف التي تتلون أجسادها في لوحة الجملة لتهز الجدار. أحس بأن كل الجدران، بلا جملته، صامتةً، فقرر منذ شفتيه الطريتين ألا يفطمهما، وأن يكون حليب الكتابة دمه.
على البياض، وشمَ اسمَه العادي، واثقاً أن اهتزاز الجدران، لن يشل وشمه.
دخل المعركة بفرس أبلق، وأخذ يشق الهواء برمحه وينثر الغبار في ورق المتحاربين. وفي استراحاته، يغسل عدته بعرق المحرومين وأسئلة الأطفال البيضاء، ثم يعود للحرب.
كان يستغرب لماذا يرتدي بعض المحاربين (الذين يحاربون معه) أقنعةً، أو لماذا يرتدون في كل جولة ملابس بلون مختلف؟! لماذا هو حاسر الرأس والوجه، مرتد ثوبه الذي لا يملك غيره؟! ذلك الثوب الذي خاطته له طرقات القرى ونوافذ البيوت الخائفة؟!
لم يحتج إلى جرأة لكي يسأل أحد المقنعين:
- لم تتخفون وكل هذا النهار لكم؟!
ضحك المقنع، ثم استدار عن سؤاله ماضياً في حربه. لذلك، حمل السؤال على كتفه ليزداد كاهله ثقلاً، ونزاله ضراوةً. وكلما واجهه سورٌ، رأى المقنعين والملونين يعبرونه من بابه الشاسع، أما هو فيضطر إلى نصب منجنيقه أمام السور إلى أن يهدمه.
مرت الأبواب والأسوار، وأخذ العمر المتحجر يقضم جسده، لكن اللحم المتساقط منه كان يبري رمحه أكثر، إلى أن صادف قلعةً حصينة يحيطها الضباب، وقد تناثرت خارجها أجساد الجوعى وأنّات الأطفال. وحين قشعت المسافة ذرات الضباب، تبين له أن حراس القلعة هم جنود شاركوه ذات حرب، وأدرك لماذا كان المقنّع يضحك على أسئلته .
نزل عن حصانه، ثم ربت على ردفه فانطلق باتجاه رصاصة لم تخطئه وتناثر العتاد، من ماء وزاد، على أرض الجوعى.
- إلى أين أذهب؟! أي ساحة ستليق بحرب تمجد النخل وتموسق الآهة في عرضة سامرية؟!
أطرق بحزنه وأسئلته ثم مشى.
مشى إلى أن قادته سنوات صمته إلى صقيع مثمر بالحياد. فرك قلبه بكفيه الأعزلين، فتساقط جمر بارد، ولم تحترق الورقة.
مكث في الصقيع يكتب. وفي كل فجر، كان يرنو ببصره إلى الرمل، فيشعر أن رئتيه ممتلئتين بريش حمام يحمل أزجاله إلى أبراج الصحراء. وحين ينام، يرى الحريق يصعد، فتترمد الطيور ويتقيح الورق بالكتابة.
شل البرد رئتيه، ففر عائداً، حاملاً سعاله ومحبرته. وفي القيظ، فرد جسده عارياً، ثم صرخ:
- هاتوا طعناتكم.
كانت الطعنة حين تنسلُّ في لحمه، تترك على جانبي جلده ملوحة برية يطمئن لألمها. تتحول ونته، في ضجيج الونين العام، إلى احتفال بالوجع المشترك.
- سأبقى، فربما مزق نقيع فرسي الجديد أقنعتهم، وحلل غبار نزالي ألوان ثيابهم.
لكن أقنعتهم ازدادت سماكةً، وتعددت الألوان التي يلبسون.
وظلت الكتابة، بالنسبة لروحه، نجاة الغصن، وحل القلب المرتحل. لم يتسنّ مذاق الحليب، والثمار لم تكل الدحرجة إلى سلال النور. والوشم،، الوشم تسرب إلى نخاعه الذي كلما انقسمت فيه خلية منحها لدماء الناس.
قال لي:
- كل خلاياي لهم، وإن كنت أراها تضمحل داخلهم، مجرد ما تخبو رائحتي.
- ولم تَخْبُ؟!
نهض، تاركاً فنجان قهوته كالحاً ببقايا البن، ومقعده مبقعاً بسنا وشمه الذي يعلق بكل مكان يحل به.
بعثرة
مرآة
تلك المرأة الفرنسية تقص شعركِ.
وفي المرآة، لم أرَ امرأةً يقطن وجهها كل هذا الكم من الملائكة.
كنت حابساً أنفاسي.
كنت أدقق في سمائك، لكي أصعد لرونقكِ، الذي جعل المرآة ترتعد نوراً.
ركوع
تستلقين على الشرفة، وتحتك مئات القصص العارية على شاطيء نيس:
ترمقينهم بعينيكِ، وفي المذياع الصغير أغنية عربية بالكاد وجدتها لك.
ها أنتِ تترجمين قصصهم، وتبحثين فيهم عمن يليق بفيروز، فلا تجدين. أقف أمامكِ، وأحسني التمسك بأن تترجمي قصصي، لتعرفي أن كل ما أكتبه سجنٌ لي، وسجنٌ عليَّ، وأنكِ وحدكِ من يحررني.
في الشرفة، كانت الحرية تاجاً يشعُّ على شعركِ الطازج، وكنت أريد أن أركع لكِ.
جريدة
لأن الرياض هي التي أنهضت دبيب روحي بكِ. لأنها السيدة التي مسحت ملامحها بكفّها، ورسمتها على وجهكِ. لأنكِ صرت رياض مهجتي التي كانت رملاً قاحلاً، فاستحالت أزهاراً كالخزامى والنفل، لأنكِ صرت المدينة لتيهي، فإنني سألاحقكِ، حتى لو كنت جريدة مبعثرة على شارع لا ينام الهواء فيه.
طائرة
حين يخاف القمر، يركض ملاحقاً غيمة ابتهلها الماء. يقفز فيها ليبلل أجنحته، ثم يطير مرةً أخرى، بحثاً عن أسطورة مخبأة في ظلِ خجلٍ لإمرأةٍ تخشى الحب.
امرأةٌ جاءت من عَصْرٍ لا ليل له، مثقلةٌ بنهار واحد ممتد يتقاطر منه الصمت، فلا يجف، ولا يمنح عَطْشى الشمس سوى ملح خدودها، التي يستمد الضوءُ منها بريقه وطغيانه.
يا تلك الطاغية، القمر الخائف يركض دوماً لعطر همسك، فدعيه يرفرفُ على رابية آهاتك الوجلة. دعيه، فلقد صنعته لكِ من صراخي المقدّس باسمكِ. يا أول صرخةٍ نسَجَتْها يداي لمضارب عينيك، ويا آخر ما في حريري من غناء. يا نهاري المشتعل ببريق زجاجك الملطخ ببصمات قلبي: ها قلبي في الطائرة بين نجوم السماء، يمشي مع قلبك الى فاتحة المدن كي أشهدها أنكِ خاتمة النساء.
الفراعنة
في ساحة الكونكورد، كانت أصابعي تسمع أصابعك وهي تحدثني عن أولئك الفراعنة، الذين لم يتركوا نابليون يزرع مسلّتهم على أرضهم إلاّ لكي يشهدوا على قران سنوات قلبي بسنوات قلبك. كنت أسمعهم ينثرون أوراق البردي على صباحنا، كي نصنع لهم من التصاق دمائنا روحاً تعيدهم الى طفولة باريس، وعشاقها الذين يتنفسون أرصفتها منذ مليون شارع.
كان الفراعنة يطادوننا بابتساماتهم، الى أن ضممتِ كتفك الى كتفي، كي ندخل شارعاً فرعياً عنهم.
يقرع الباب ليرقص
نومكِ. يا لنومكِ على مقعد القطار الذي يتقلب في جنوب روحي. كانت القرى تتحايل، على جانبي العربة، وكنت أتمايل في التاريخ الذي أهداني إياكِ. كنت أشعر والقطار يمخر ذكرياتي، بأنني نهرٌ خالد، وأنني أنا القربان الوحيد الذي نُذر عارياً في منبعكِ. وحين تقبلتني قرباناً لكِ، فاض الماء، واعشوشبت الأرض بالزغاريد، وصرنا أنت وأنا من نهر الى بحر، ومن بحر الى محيط. صرنا المطر الذي يقرع كل حكاية، ثم يدخل ليلوّن ساكنيها برقص خافت، لا تسمعه سوى الأضلع المتلهفة.
هذه الشوكولاتا
ركزت عين الكاميرا على الماء الذي يبلل عنقكِ، وأنتِ تلتفين بروب الفندق الأبيض. كنت مزيجاً نافراً من البياض. ووددت لو أغمس اسمراري بكِ في تلك اللحظة، لكي أصنع لك شوكولاتا مني، أمهرها برطوبة "كان" التي كانت تسترق النظر من النافذة، وربما وَشَتْ بي، فحرمتني من حلواكِ.
هندسة
تستغربين لماذا أنفعل؟! لماذا أسقط مغشياً بالسلاسل؟! هذا لأنني فقدتك لحظة، وأنا لا أحتمل أن تطأ قدمي مربعاً، وأنتِ لستِ دائرتي.
تأتأة الصبح
لن أتخيّل طفولةً كهذه،
بركةٌ تتجاهل قاعها، وتطفو لتقدم عصير الليمونِ
المثلّج لهواةِ السباحة.
السطحُ: مرآةُ الباب الخارجي،
أناقـتُنا الكاذبة.
الماءُ: دواءُ الذي لا دم لهُ.
ولن ألمسَ جنوناً يهدمُ الإنفعال.
ترك الشاعر مفتاحَ قصيدته لدى موظف استقبال الفندق.
وحين عاد مساءً يغشاهُ الثملُ، رفض أن يدخل غرفته/
قصيدتَهُ، ونام في البهو.
لذلك، كنتُ أبحث عن فراشةٍ
تليقُ بك.
وعنكِ متلبّسةً بفضيحةٍ ما: أن تفضحيهم مثلاً.
لذلك أُسمّي البنفسجَ تأتأة الصبح،
والغيمَ صحراءً. والاعتذار إدانةً.
وأسمي البرقَ عندليباً يُحيي الأناشيد
بهيجان الشجر.
أسميّكِ: أنتِ.
هي جملةٌ ضائعةٌ في دلالاتها، أو لونٌ لا يدينُ للفرشاةِ بدهشتِهِ، أو نعاسٌ يهبُّ في سنابل جفّفَها الصحو.
يرتدُّ القوس الى معناي، فأصابُ بالغموض. أكتبُ كي أنجو من ديدان البياض، لكني أجدني داخلاً مقبرةَ البوحِ. يشيرُ الحفّارون اليَّ، ثم تشعلُ الضباعُ فوانيس الحفلة.
هي حكمةُ اللقاء العفوي، ومحكمةُ الفراقِ الذي يخدشُ نهار الشهود.
أهذه أنتِ؟!
تتهربين من بيداء "ما أكتب" الى قفص "ما أقول"؟!
أي سجنٍ سأظلُّ فيه، إن بقي الهاتف يقضُّ شمساً سقطتْ ذات صيفٍ على بشرة نصوصكِ التي لا تحتاج الى شاطيء؟!
وهذا أنا: لا حريةَ لي إلاّ بما أقترفُهُ من حبر.
تلويحة
كفراشةٍ تختارُ شموعها، أو كشمعةٍ تنتقي فراشاتها، أتت. هكذا أتت كالفراشة التي تعطّر النور، او كالشمعة التي تضيء العطر. صارت تزخرف الهواء شيئاً فشيئاً بنظراتها الزائغة، التي ما إن استقرت، حتى استقر معها زخرف طفولتها. غدت شكل الهواء ولونه ورائحته. باتت شهيق المكان المتبختر بمخارج حروفها المتعثرة.
على دفتر قلب ابيها، كتبت لثغتها الأولى بشغب مطرها، فاعشوشب الرمل. وفوق عشبه، اخذت تحبو باتجاه قلب أمها، تخربشه بخطوات لا تستقيم.
- هيا يا حبيبتي. هاتِ يدكِ. سنخرج معاً.
كانت اذا أمسكت يده، تتفتح مسافاته بملح هدوئها، الذي لم يكن يشابهه ملح. معها، كان يشق البحر المتلاطم بانتكاساته. كانت كل موجة تلطمه لموجة، وكانت هي تدفع بعودها الذي اخضّر، بعض هذا الموج.
- لنرجع الى البيت يا أبي. المذاكرة تنتظرني.
كان يمتحن كل امتحاناتها، كما كانت تمتحن كل امتحاناته. كانت تجدل قامة امها الباسقة كبرق الشتاء مع قامتها، فيهطلان معاً عالياً، بكبرياء نخلةٍ نجدية متجذرة بتراب الصبر والاحتمال.
ومثلما تفرّ الذكرى الى ذكرى. وكما يلجأ الفيء الى فيء، فرت قليلاً منه، والتجأت بوصلتها همساً الى من ليس هو.
- اذن، فأنت تحبينه؟!!
لما أرخت عينيها، خجل الخجلُ من ضفائر الفضة المنهمرة من رموشها، وأدرك وهو يلتقط فضتها المتناثرة على سجادة حياته معها، انه حان للفيء الذي استظل به دوماً، أن تستظل به الذكرى الجديدة.
هي اليوم معه.
هو اليوم يسترجع: فراشتها، شمعتها، عطر نورها، نظراتها الزائغة، شهيق المكان بها، حروفها المتبعثرة، لثغتها الأولى، عشب رملها، حبوها باتجاه قلب امها، خطواتها التي لا تستقيم، سنخرج معاً، عودها المخضّر، امتحان امتحاناتها، برقها المجدول بالصبر، فيئها، فضة خجلها.
هو غداً سيعود الى بيته الذي يفتقد جذور نخلتها. لكنه حينما يفتح بابه، سيشعّ البرق بالبخور، والليل بالحرير. سيكون تمرها السكري فاكهة النوافذ والجدران والشرفات وكل الأمكنة التي لا تزال تشهق لها وبها.
حنّاء محكمتها
منحني الوقت حنّاءً شاسعاً، لا أزال أصطبغُ به. لا أزال لوناً من طيف الوقت، أفعل كل ما في وسعي لأداهم الأمكنة بالغناء.
كان يصيبني، وأنا في التاسعة من العمر، نملٌ في ساقيَّ، فلا أستطيع النوم: ماذا في رأس ابن تسع سنين، يحرمه من الرقاد ويجعله ملتفّاً في النهار حول سؤال لم يمسس بكارته صديق أو رفيق او معلم.
- لماذا أنا هنا؟!
كان أبي يجعل، دون أن يقصد، من هذا السؤال هويةً يومية لي. فهو المنشغل دوماً في رزق أحد عشر رملاً. هو الذي لا يهنأ بطعام أو ليل.
كنت أقرأ القرآن في المسجد، في ركن ليس بعيد عنه. كان يتلوه بسرعة من يتلو نصّاً يخاف أن ينساه. منه، تعلمت أن القراءة هي الملاذ، وأنني بها، سأدخل معه موّال الصمت. جاء أبي صامتاً، وخرج صامتاً. كأنه مرّ مهرولاً تاركاً على الرمال، وعليّ تحديداً ملامحه.
"ثغرات في جدار أنهكه الصمت"، هل هو عنوان قصة قصيرة فزت بها في المركز الأول في مسابقة جامعة الرياض في أواخر السبعينات، أم هي المفتاح الذي جعلني أكتشف بأنني موغل في الأسئلة، محترقٌ بها. كان الفوز خسارة لي. لذلك، أخذت أعاقب نفسي بالكتابة. أهدم جدران ذاكرتي التي تتلو، كما تلاوة أبي، كل القراءات التي انطويت عليها منذ الساعة التاسعة من عمري، والتي صبغتني بدماء تناثرت حولي من جهات الأرض كالحنّاء، وحبستني عارياً فيها.
كلما أكتب يصرخ عريي، وينشقُّ مع كل نصّ وريد. كان عقاباً مكتوماً، أتلذذ بانتظار خسارتي فيه. أبتهج بدمي ممتزجاً بدماء القراءات، وأطلق كل ليلة مهرجاناً للحفاوة بها. أرقص من أجلها على الجمر، وأشرب صمتها حتى الثمالة. وحين أصحو أجد الى جانب رأسي الكرّاس الذي لا يفارقني، وقد ازداد عمره نصّاً جديداً.
لم يبق من عجينة الحنّاء الأولى سوى أظافري، ولم يبق من أظافري سوى مدينة تشرف بحياد على أسئلتي المنحازة، تذكرني بأنني لا أزال صامتاً، وبأن النَمَل يرتفع من ساقيّ الى كتفيّ، وأن لا مفر لي سوى مداهمة الأمكنة.
كانت الرياض تاج المواقع، كنت أرى دمي قافية لفيروزها المشعّ في جوارحي، أذيب شَغَبَ صوتي في استسلام قمحها، لتمطرني جوعاً لها. على نضارة قسوتها، بدأتُ أتحسس مغزى الرمل، ومعنى الأصابع. افتتحتُ بها سؤالي عني، فأشرقتْ لي بالمجاهيل التي افتتنتُ بعباءاتها. ومن عباءة الى أخرى، تشكلت شهوتي، وانغمستُ في جنون هتك مفاتنها.
لم يكن أمامي سوى أن أدلي بغنائي لحنّاء محكمتها، علّها تمنحني شرف أن أكون شاهداً لوقتها وعلى قوْتِها.
سامريُّها
شالوا السامري، فاستدار الليلُ، وانهمرت من أكفِّ الراقصين وديانُ وَجْدٍ ولؤلؤُ بوْحٍ وبلُّورُ انعتاق.
شالوا السامري، فانتكست رايات الصمت، ورفرفرت بيارق الأناشيد النازفة بدانات الرمل، ودندنات الخزامي.
حين شالوه، التفت إلى قلبه، فألفى نبضه يمتزج بتلك اليد التي ترتفع حتى لتكاد تخلع عنان الهواء، ثم تهوي على الطار، لتهتز الأضواء المهتاجة على أعناق الكريستال.
هو الآن يضيء بتلك الأكف، وبتلك الأناشيد، بتلك الأذرع التي اصطفت ثم اتحدت، الشريان بالشريان، الوريد بالوريد، الوجد بالوجد، البوح بالبوح، الانعتاق بالانعتاق، ووسط هذا الاصطفاف المهيب، المهيب، يدخل، يرفع ذراعه إلى مشارف روحه، وتصير وكأنها ليست منه، تترنم على النشيد، صار هو النشيد، تقطف يده المخترقة سقف الليل، أنجم السهر، ليغتسل بها نجمة تلو نجمة، أمام الجميع، اغتسل، بنشيدهم وأذرعتهم وشرايينهم وأوردتهم، اغتسل، بنجوم سحرهم، اغتسل، تركوه يغتسل، إلى أن ضاقت أنفاس الأرض التي كانت من قبل تتدلل تحت قدميه.
أمامهم جميعاً، سقطت الأرض عليه، وأمامهم جميعاً، مد كفه لها، وأنهضها، ومعاً هو والأرض وسقف الليل وأنجم السهر، طلبوا أنشودة جديدة، ومن جديد، التفت إلى نبضه، وإلى تلك اليد التي ترتفع حتى لتكاد تخلع عنان الهواء، ثم تهوي على الطار.
كان هذا السامريُّ لها.
كان سامريَّها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق