الثوب
كانت تقول لطفولتي المتكسرة.
- يا ولدي، لا تجزع. سَيهبُكَ الله طولاً وعرضاً يُغنيانك عن هذا الطنين في رأسك. ستعشقك الحريم والبنات وسيحقد عليك الرجال والفتيان. وستدّعي العجائز، وهن يؤشرن لنهودهن وقد صارتْ مثل بالونات فارغة، بأنك أنت الذي أفرغت الحليب كله حين كنت رضيعاً. وسيحكي الشيوخ في كل مجالسهم بأنهم نطقوا الشهادة في أذنك حين سقطت من رحمي. سيهبُكَ الله يا ولدي طولاً تباري به بيوت مدينتنا التي سوف تباري السماء، فلا تجزع.
** ** **
وحيداً، أجلس في الطين الفارغ. أنتظر هذه الطرقات السريعة التي أفتح بعدها، فلا أجد أحداً. وأجد الى جانب الباب ثياباً بالية أو طعاماً بائتاً.
الطعام لا يحسن مذاقاً في فمي، بعد أن ازداد الطنين في رأسي، فصرت أحسّ أن نملاً هائلاً يركض داخل جمجمتي.
في الفجر، فيما أخرج من النوم، أشعر أن رأسي مثل رؤوس كل خلق الله، صغيرة وصافية. لكنني حين أقف أمام الماء وأطالع وجهي في تلك المرآة التي لم يبقَ منها سوى قطعة بحجم الكف، يجتاحني الطنين. فهذا الوجه يحمل أنفاً مفلطحاً يكاد يخرج من جانبي خدّي، وعينين صغيرتين لا أكاد أراهما، وفماً بشفتين عريضتين جافتين، لم تَنْمُ فوقهما شعرة واحدة، مع أني داخلٌ – كما يقول الناس – في الثلاثين.
أملأ كفيّ الضخمتين بالماء وأبلل بهما وجهي وأعود أبحث في الثياب عن ثوب يناسب قامتي المفزعة، فلا أجد، وأبحث في الطعام عن طعام، فلا أجد.
** ** **
وحيداً لا جارَ سوى هذا العامل الساكن أمامي. يرجع كل ظهيرة من عمله، حاملاً كيساً مدبقاً بالدهن، وحزمة كراث. يغلق بابه، ويستهل الليل بغناء موجع، للبلاد التي تصب في غربته.
لا ينقطع عن الغناء حتى وهو يأكل. وحين يخمد في البيت كل شيء: الضوء والحركة والصوت، أعرف أنه نام.
** ** **
يوم واحد لا يخرج فيه. يظل داخل البيت طوال الوقت. وعند اقتراب العصر، يفتح نافذة البيت، فتظهر على جدران الغرفة صور مقطوعة من مجلات ملونة، لنساء سمراوات وشقراوات، طويلات وقصيرات، نحيلات وممتلئات.
أذكر المرة الأولى التي شاهدته فيها، يفتح خشب النافذة، فرأيت هذا الحشد من النساء داخل الغرفة.
حسّبتهن لأول وهلة جنيّات يخرجن من الجدار، ويرقصن له حتى خيوط الفجر، ثم يأمرهن أن يتوقفن وأن يجتمعن على فراشه.
سمعته يتوقف عن الغناء ويبدأ في بكاء قصير، يصمت بعده، ثم يصلني شهيقه وزفيره.
ارتفع الشهيق والزفير شيئاً فشيئاً، حتى بدا وكأنه زئير جريح.
خفت أن يكون الرجل يختنق.
هممت بالخروج لمساعدته لكنه زفر ثلاث أو أربع زفرات ثم خمد.
قلت لنفسي: لعله مات. وخشيت أن أتورط به.
في اليوم التالي، رأيته يخرج لعمله كعادته كل صباح باكر، فعرفت أن ليس في الأمر شيء. ثم اعتدت أن أنتظر اليوم الذي لا يخرج فيه، لأراه وهو يفتح النافذة واسمعه وهو يرسل نحيبه وشهيقه. وعلى الجدران، لم تزل النساء.
** ** **
هذه الظهيرة، يمزقني جوع بارد، فلم يقرع الباب أحد، وبقايا الطعام تتكاثر حوله النمل والصراصير، بعد أن أجهزت الفئران على فتاته.
لا أجد أمامي سوى أن أخرج، وأن أطرق باب العامل.
يفتح الباب لي.
- تفضل.
- أريد شيئاً آكله.
- قلت تفضل.
أحنى قامتي كي أعبر الباب الى الداخل.
أمكث في الغرفة، ويختفي هو في بقية البيت. أطالع حولي، فأرى فراشه في الركن، أكثر سُمْكاً من فراشي، تغطيه ملاءة ممزقة، والى جانب الفراش صندوق خشبي غمرته الأتربة، في داخله ملابس متكومة على بعضها، وفوقه دورق ماء تحولت أطرافه الى هلال من السواد.
على الأرض حصيرة افترشتها ثقوب متناثرة، وبقع بنية.
يدخل حاملاً صحناً من الأرز. يضعه ويختفي مرة أخرى.
أبتلعُ ريقي لمنظر البخار وهو يتصاعد من الأرز المنقوع بالصلصة، والمغروس في وسطه بصل أبيض.
يعود ماسكاً في كل يد أعواداً من الكراث. يضع التي في يده اليمنى أمامي، ويبتسم لي.
- سيكفينا أنا وأنت؟؟
- بزيادة.
- بسم الله.
يغرس أصابعه في الأرز، ويملأ كفه. يضغطها، فيسيل الدهن الأحمر على ظهر يده. يفرغ اللقمة في فمه ثم ينفضها. يتناول عوداً من الكراث، ويمرر إصبعيه فوقه ليمسح التراب عنه، ثم يطويه وهو في الطريق الى فمه. ننتهي، فيحمل الصحن الفارغ، بعد أن يجمع ما تناثر من أيدينا وأفواهنا، ويخرج به.
يرجع بكأسين من الشاي الأسود الداكن. أتناول منه كأساً، فألمح شفته السفلى محشوة. أراه يبصق بصاقاً بني اللون، ثم يشرب شايه. اكتشفتُ سر البقع النية التي تملأ الحصيرة.
أسأله.
- ما هذا؟؟
- هذا للكيف. هل تريد أن تتكيف؟؟
- لا، أنا متكيف الآن.
- اذن، اشرب هذا الشاي.
أصمت وأنا أشاهده يراقبني، وأنشغل بمطالعة الصور المعلقة على الجدار، وقد بدتْ أكثر جمالاً ونعومةً وإغراءً.
- لماذا ثوبك قصير هكذا؟؟
- كل الثياب لا تجيء على مقاسي.
- ولِمَ لا تفصّل لك ثوباً؟
- لا أملك نقوداً.
- إعمل.
- لا أحد يُشّغلني. إنني طويل ومخيف والأطفال أينما أذهب يركضون خلفي، وهم يضحكون على قامتي، وعلى ثيابي القصيرة.
يبصق على الأرض، ثم ينهض الى الصندوق. يرفع بعض الملابس، ويُخرجُ حافظة جلدية مربوطة بمطاط سميك. يفتحها ويسحب ورقةً نقدية.
- خذ.
- ما هذه؟؟
- اذهب الى الخياط واطلب منه أن يصنع ثوباً على قياسك.
- وكيف أردّ هذه النقود لك؟؟
- أنا أعرف كيف استردها منك، خذ.
ويقترب مني. يقترب مني بشدة، وهو يزفر كالأسد الجائع.
- خذ.
** ** **
"سويقة" محتشدة بخطوات النساء وهنَّ يعبرن من محل الى آخر. عباءات تلتف على الأجساد الطويلة والقصيرة، النحيلة والممتلئة، السمراء والبيضاء.
نساء داكنات يكشفن عن وجوههن الدميمة، يجلسن الى الأرض وقد رصفن حلوى الأطفال على قماش، ومرطبات داخل أوانٍ بلاستيكية معبأة بالثلج الذي أذاب الصيف معظمه.
عجائز في أياديهن سلع رخيصة، ينادين بأصواتهن الخفيضة، لكن أحداً لا يستجيب لهن، فيواصلن المشي والمناداة.
محلات تلتصق ببعضها، داخلها بائعون يفرطون في الأناقة والابتسامات ورائحة العطر.
أنا في "سويقة" لأول مرة، أطالع ثوبي غير مصدق أن أكمامه تصل رسغيّ، وأن طرفه يلامس الكعبين. أمشي بين النساء دون أن أنظر لهن، لكني أحسهن يفسحن الطريق لي، فأبالغ في عدم النظر ناحيتهن. تصطاد عيناي أحد الشيوخ، وهو يفغر فاه لمنظري، ثم يهز رأسه قائلاً.
- الحمد لله. اللهم لا تبلُ أحداً منا.
وأسمع إحدى العجائز تهامس جليستها بحشرجة.
- هذا ليس إنساً، انه امتحان من الله لأمه. المسكينة، كيف كانت ترضعه؟؟ يا رب احفظنا.
لكنني أستمر، فهناك فتيات يتغامزن، تقرص كل واحدة منهن كتف الأخرى، ويشرن اليّ.
أدخل مساحة ليس فيها شيخ واحد. أقف أمام محل في داخله فتاتان تلبسان عباءتين شفافتين، وعلى وجهيهما غطاءان يُظهران ملامحهما العذبة وشعرهما الناعم المفروق من المنتصف.
البائع ينظر لإحداهما مرة ثم ينظر للأخرى، وعلى شفتيه كلام هامس ورقيق. ينتقي لهما ما تطلبانه من بضاعة المحل.
أندفع الى المحل، فيصطدم رأسي بالباب. تضحك الفتاتان، ويتحول وجه البائع الى غضب هائج.
- هذا المحل للنساء فقط.
أرد عليه.
- أنا لا أريد إلاّ النساء.
تخاف الفتاتان، وتتراجعان الى الخلف.
أتوجه للفتاة الأكثر امتلاء.
- لا تخافي، انه حاقد عليّ.
ترفع الفتاة حقيبتها، وتضربني بها على صدري وتبصق الأخرى في وجهي. يتقدم البائع نحوي، لكني أهمّ بالهرب. ينجح في إمساك ثوبي، فأنزع يده وانطلق خارج الدكان.
أركض، وقد انفرط كل ثوبي.
يصيح البائع بالناس.
- امسكوه.
يحاول كل الناس الامساك بي: الشيوخ والعجائز والباعة الشباب، لكن خطواتي الطويلة تفرُّ من شجاعتهم الخائفة.
بعيداً عن السوق، لا أحد ورائي. تنطق المدينة بيوتها أمامي. وبيوتها طويلة حتى السماء.
في واحد من هذه البيوت، ألوذ أسفل الدرج. أتمدد، حولي حشرات كثيرة. وفي قلبي، تركض أمي، يتبعها العامل الذي أعطاني الورقة النقدية، وهو يقترب مني بشدة، قائلاً.
- أنا أعرف كيف أستردها منك، خذ.
وهو يزفر كالأسد الجائع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق