1 يناير 2020: ها هوَ في سقفِ الغرفة
على سريرها في غرفة العناية المركّزة، ترقدُ الآنَ بلا حراك، في حين أتكوّمُ إلى جانبها على مقعدٍ جلدي قاس، أنقل بصري بين رواية الفرنسي جيروم فيراري "حيث تركت روحي" وبين شاشة التلفزيون التي تعرض لقطات احتفالات عواصم العالم برأس السنة.
لا! لم نُطِّلُ برأسينا كالعادة من نافذة السنة الجديدة.
وحيداً أطلُّ للخلف،
لكي أرى جسدها المسجّى بغطاء ديسمبر.
قبل ذلك، بالكاد تمكّنتُ من تغطية يديها بالقفازات البيضاء الخاصة بمرضى العناية المركزة، لكيلا تنزع أنبوبَ التنفس، والأنابيب الوريدية عنها.
كانتْ طيلةَ الأيام الماضية، تنظر إليَّ بعينين مجهدتين، يختلط فيهما الغضبُ والرجاء. الغضب من ربط يديها، والرجاء أن أنظر إليه.
-ألا تراه؟! إنه في سقف الغرفة، يحومُ فوق رأسي. يمدُّ إليَّ يديه. أرجوك، دعني أصعدُ نحوه. دعني أرافقهُ.
""
بالعينِ التي نجتْ من الجدري، اختلستْ موضي نظرةً إلى عبدالله، وهو يقتربُ منها، محاولاً التغلبَ على الرجفةِ التي سرتْ في جسدِهِ، أكثرَ مما سرتْ في جسدها.
ارتجفا معاً في تلكَ الليلة، وكان لابدَّ لأمها الكفيفة فاطمة، أن تتلمسَ بكفيها في الصباح التالي غطاءَ الفراش، وأن تستمعَ بتركيزٍ شديد لهمس ابنتها في أذنها:
-أحمر!
بكفيها، مسحتْ فاطمة عينيها المجدورتين بالكامل، ثم تحسّست وجهَ ابنتها، وبدأتْ تقرأ عليها آياتٍ من القرآن.
-يمّه، سأخرجُ ألعبُ مع رفيقاتي!
ركضتْ إلى الشارع. تجمعتْ حولَها فتياتٌ صغيرات، كلُّ واحدةٍ منهنَّ تستعجلُها في سردِ ما جرى ليلةَ البارحة، ليلةَ زفافها.
""
2 يناير 2020: حريقٌ في أوّل الأرض
فَقَدَ وجهُها تعابيرَ مقاومتِها الشرسة، فبدا مُسْتسلِماً خامداً شاحباً غارقاً في سكونٍ يبعدُ كثيراً عمّا يجري الآنَ من حرائقٍ تلتهمُ بدايةَ الأرض، حيث لم تنفع الطائراتُ في إخماد نيران "نيو ساوث ويلز" الاسترالية، ففرَّ أهلُها من منازلهم للنجاة بحياتهم.
لم تكن لتترك أخباراً كهذه تفوتها. ستقلق في العادة من أجل هؤلاء الذين هجّرتْهم الكارثة، ولو كانوا في أبعد بقعة من بقاع الكون. وسوف تسألني عنهم، حتى قبل أناولها فنجان صباحها.
أما الآن، فأنتظر مجردَ أن ترمش عينيها.
أوّلُ الأرض يحترق الآن.
""
في الطريقِ من "المذْنَب" إلى "الطائف"، كانَ عبدالله لا يملُّ النظرَ إلى الأفق الرملي، وكأنه يبحثُ عن نهايةٍ لتلك الصحراء التي رافقتْ طفولةَ رعيّه للأغنام.
أما موضي، فكانتْ لا تصحو في مؤخرة السيارة "الأبلكاش"، إلا لتنامَ مرةً أخرى، وغطاءُ وجهِها لا يكادُ يستقرُّ على حال.
كانَ عليهما العيش هناك في غرفةٍ من الصفيح، على سطح عمارةٍ لا تبعد كثيراً عن قصر "شبرا".
في الصيف، كان بمقدورها، رؤية الملك فيصل وجهاً لوجه، ثم العودة إلى قلب عبدالله، المبلل بالأمطار التي لم يعهدا مثلها في "القصيم"، والتي تعزف على السقف "الشينكو" لحناً ينسج أحلامهما بولدٍ يشبه جدّه لأمه أو جدّه لأبيه.
""
3 يناير 2020: لغةٌ لا يتحدثها غيرها
قال رئيسُ أطباء العناية بأنَّ جسدَها ينهار، وأنها فقدتِ القوةَ التي ظلَّ معجباً بها، خلال الأشهرِ الطويلة الماضية، وكان يلمّح لأعضاء فريقهِ كلَّ صباح، أثناء مرورهم على سريرها:
-كيف لامرأةٍ بكل هذا الضعف أن تقاوم كلَّ تلك الأمراض التي تنخرُ عظامَها؟!
كانت الممرضاتُ يشعرن تجاهها برأفةٍ بالغة. يعتنينَ بها، وكأنها أم لكلّ واحدةٍ منهن، أمٌّ تشرفُ على بحيرةِ الرحيل.
كانت تتحدثُ معهنَّ بلغةٍ لا يفهمها سواهن، لغةٌ خلقتها هي.
أقف أمام هذه اللغة عاجزاً، وأنا الذي لا لغةً بيني وبينها. بالكاد تنظر لي، فأفهمُ ما يجول بخاطرها، وهي تفعلُ معي الشيءَ نفسه.
كانت ستعرفُ لو كان بمقدورها أن تنظرَ لعينيَّ الآن، أنني أتابعُ بقلقٍ شديد، العمليةَ العسكرية الأمريكية التي أطاحتْ قبل قليل بذراع الإرهابي الإيراني قاسم سليماني.
""
لم تكن حصيلة العمل المضني لعبدالله في جبال "الهدا"، ما بين الطائف ومكة، سوى مبلغ إيجار غرفة صغيرةٍ شهدتْ مولد "صالح" الذي كان يشبه أمه، و"حصة" التي كانت تشبه أبيها، ومزيداً من الشقاء والفقر.
-سنعود.
وفي نفس سيارة "الأبلكاش"، عاد الأربعة إلى "الرس".
""
4 يناير 2020: يتيمُ لمجرّتها
في غيبوبتها، أقرأ على ملامحها مجرّةَ يُتْمٍ، تملأُ سماءَ العناية المركزة.
كانت يتيمةً إلى درجة الانعتاق من الزمان والمكان.
كان اليُتمُ هو أكثر ما يقرّب كلٌّ منا للآخر.
كنتُ يتيماً ليتمها الذي لا حدَّ لمجرّته.
""
رحل عبدالله باكراً، في ظهيرة كان يدندن فيها أغنية "عبادي الجوهر؛ ودّعتك الله يا مسافر"، والتي طلبها المستمعون من المذيعة دنيا بكر يونس. يدندنها وتخنقه عبراتُ البكاء، على سَفَر إحدى بناته مع عريسها إلى "خميس مشيط".
بعد صلاة العصر، رمى سيجارة ال "أبو بس" التي كان سيشعلها بعد غدائه، وخرَّ على السجادة، بعد 57 خريفاً، كلُّ خريف أشدُّ اصفراراً وشحوباً من الخريف الذي قبله.
أمام جسده البارد، فاحت في أنف موضي رائحة الماشية التي كانت تفوح من ثيابه، في مغرب أيامهما الأولى، مختلطة بروائح الخزامى والرمل.
ها هو، بعد رحلة طفولتها معه، وشبابها، وكهولتها، يغلق الباب، لينام وحيداً، لأول مرة، بعد 40 سنة من عشرتهما.
""
5 يناير 2020: خرزُ عظامها، شيخوختي
حين سقطتْ، تناثرَ خرزُ عظامها، فلم أعد قادراً على ترتيب التاريخ الذي بدأَتْ معه أوجاعها.
كان كلُّ وجع يضيف لعمري شيخوخة جديدة، فلا تكاد يعرفني أحد اليوم، وأنا أضع منذ الفجر رأسي على طرف سريرها، راجياً أن تمتدَّ يدُها، فتلاطفه كما كانت تفعل قبل غياب وعيها.
""
في "الرس"، كان الحلم يتشكّل في دخول "صالح" الطفل، للمدرسة العسكرية.
أولُّ صورةٍ في ألبوم العائلة، كانت لهُ في أيام المدرسة؛ القبعة العسكرية الجيشية اللون، الممهورة بالسيفين والنخلة، تكادُ تلتهم رأسه.
ومن حرب القبّعة إلى حرب التنقل ما بين المراكز الحدودية، إلى حرب الوديعة، إلى حرب الخليج، إلى حرب سرطان الرئة، الذي فتك به، بعد دخوله الستين بخطوة واحدة.
كان غيابه السريع، كغياب أبيه. غيابان في القلب توجع.
""
6 يناير 2020: حطامٌ يرسو
ما هو معنى الصباح، إن لم تكن هي على شرفته، تنتظر قدومي، حاملاً حزمة بخورها على كتفي؟!
أين تغيبين الآن؟! في أي بحر يرسو حطامُ سفينتك؟! كيف لي أن أمدَّ حبالي إليك؟!
ها أنتِ مسجاة، على سريرٍ بارد.
ها أنا أرتجف، وها هي حبالي تضعف، وها أنت تبتعدين كل صباح أكثر فأكثر.
""
في الرس أيضاً، كان حلمٌ آخر. "حصة" التي ستعوض أمها أميَّتها، حصة التي حملت أول حقيبة مدرسية في الحي، وقالت منذ اليوم الأول: سأصبحُ معلّمة.
تعددت المدارس، من الرّس إلى الرياض، إلى معهد المعلمات بالمربع، إلى دفاتر التحضير والتصحيح في مدرستها الابتدائية الأولى في حي ثليم. كانت أقوى من الوقت. تصحو فجراً، لا تكلُّ ولا تملُّ من العمل مع والدتها في بيتٍ طيني صغير خانق، بالكاد تتنفس فيه عشرة أجساد وعشرات الكراريس، ثم تسهر ما بقى من الليل، تخيط ما تمزق من العمل، وهي تستمع لعبدالحليم حافظ، على صوت العرب، ضاغطة بكفيها على كليتيها، متخيلةً أنه ألم ظهرها. كان الألم في رأسها، ورم دماغي كان يلتهم مراكز حيويتها، ويجعلها تتلاشى شيئاً فشيئاً، فلم يبق من شللها الكامل، سوى ابتسامتها الساحرة التي كانت تمتنُّ بها لوالدتها، جراء صبرها وتحمل أعبائها. زال هذا السحر، في صباح صيفٍ عابر، لتعبرَ خارج الحياة، في سنٍّ يقاربُ سنَّ صالح.
غيابٌ سريعٌ ثالث. كم ستستحملين؟!
""
7 يناير 2020: سفرها يطربُ قلبي
تقترب ممرضةُ العناية المركّزة من سريرها، لكي تضع جرعة جديدة من الدواء في محلولها الوريدي. وقبل أن تحقنه، تلحظ حركة نشطة في عينيها المغمضتين.
تنظر الممرضة نحوي، وكأنها تنبّهني.
أنزع القفازات عن يديها، وأقبّل كفيها، ثم أضعهما على رأسي، كما تحب أن تفعل.
تفتح عينيها، وتشخصُ ببصرها للسقف.
أراه كما أراها. فارداً مشلحه البني الصوفي، ممسكاً أطرافه، يدعوها لحضنه. الضوء الذي يشع من وجهه، يغمر الغرفة.
أطلب من الممرضة أن تطفئ النور.
على شاشة التلفزيون، خبر عاجل:
-إيران ستنتقم!
""
-الماما إيرانية؟!
في بيروت، كان حجابها وبشرتها البيضاء، توحيان لعمال المقاهي التي نرتادها معاً، بأنها إيرانية.
-بسم الله علي!
تقول، ثم تضحك لهم، ويضحكون حين يسمعونها.
-ما تواخذينا يا حاجة.
تفرح لأبسط متعة أوفرها لها. سفرها معي، في إجازاتي يطربُ قلبي. يجعلني لا أتركها وحيدةً خلفي، بل أمامي، تنبض سعادتها بنبضي. لا تهمها المدن التي نكون فيها. يهمها دوماً أن تلتفت، فتجدني وأجدها.
""
8 يناير 2020: في بُعْدِهِ، لا يعود
ماذا عساهم فعلوا بالطائرة؟!
يا للركاب المساكين! في ثانية واحدة، صاروا في حياةٍ أخرى. صاروخ ينطلق من أرض مطار طهران، فيحيل كل هذه الحياة داخل الطائرة الأوكرانية إلى نيران.
ما الذي كان يفعله كل واحد منهم، والطائرة ترتفع به نحو السماء، لتأخذه إلى أهله وأصدقائه في أوكرانيا؟!
""
لماذا لا تفكّين الحزام يا أمي؟! لمَ لا ترتاحين، نحن بأمان الآن؟! لكنها لا تعبأ بكل ما أقول.
تظل طوال الرحلة على مقعدها، والحزام يكبلها، إلى أن نصل لوجهتنا.
لا أعرف حجمَ خوفها من الطائرة، إذ لا يبدو عليها الخوف، وهي تتحدث معي أو تتناول طعامها وشرابها، لكن الراحة التامة التي تشعُّ منها داخلي، لا أراها ونحن في الطائرة.
هي دوماً خائفة.
منذ الطفولة التي جمعتها بأمها فاطمة وأختها الوحيدة "عائشة".
كان أبوها "منصور" يرتحل دوماً، من بلاد إلى بلاد، وكانت ثلاثتهن في انتظاره دوماً. تخاف في بُعدِه، وتخاف حين يعود. تخافُ أن يرحل مرةً أخرى، ولا يعود.
""
9 يناير 2020: البخور الذي تنثر بذوره
-لا أريدها أن تستمع لحديثنا.
قلت للطبيب وأنا أدفع كتفه، خارج غرفتها، ثم أغلقت الباب خلفي.
-يجب أن ترتاح. أنت لست على ما يرام. قد يطول الأمر، وجسدك لن يحتمل كل هذا الإرهاق اليومي المتواصل.
-سوف تستفيق. أعرف أنها ستفعل. لا أريد أن تستفيق ولا تجدني بجوارها. سيتوقف قلبها.
-قلبها شبه متوقف الآن. لم لا تقبل هذه الحقيقة؟!
""
منذ تحسّستْ عيناي خارطة البصر، لم أرَ سواها.
الطعام عندي، هو ما تقف ساعات طوال لكي تعدّه لي. لا طعام سواه.
المدرسة هي ما تفيقني لكي أهرول لها. لا مدرسة سواها.
الصلاة هي ما تغضب مني حين أهملها أو أتأخر عنها.
العيد هو حناء شعرها والبخور الذي تنثره في فضاء غرفة أبي.
المرض هو الشقيقة التي تربط بها رأسها لكي تخفف من الألم الذي يُسِيلُ دموعَها ودموعي.
حين بدأت سلسلةُ الأمراض الأخرى تأخذنا إلى الأطباء، كانت تتشبث بأدويتها، وتؤثرها على طعامها وشرابها.
لا تريد للألم أن يقترب منها.
كلما اقتربَ، صاحت بأعلى صوتها، تناديني.
""
10 يناير 2020: منذ الرغيف، كان السلطان
لا أريد أن أسمع خبراً واحداً عن الموت.
أريد أن أطفئ تلك الشاشة الصغيرة المعلّقة أعلى جدار الغرفة.
الخبر يجبرني أن أتريث.
مات السلطان، سلطان عُمان.
بحركة لا إرادية، نظرتُ إلى وجهها الغارق في الغيبوبة.
بدا وكأنها تستغرق في التفكير في أمر السلطان الذي ترفرف روحه الآن على بلدٍ صعد، بكل صمت، من قاع الفقر إلى ثريّات التألق.
""
بمكنسته التي لم نكن نرى شبيهاً لها، وبثوبه الذي لا ياقة له، وبغترته الملفوفة كلها حول رأسه، وبذقنه البيضاء الطويلة، كان ينظّف الشارع الترابي، أمام باب بيتنا المنحشر بين بيوتٍ بنفس حجمه.
ما الذي ينظفه، والشوارع كلها أتربة؟!
كنتُ أسألها، فترد علي:
-المسكين، يدوّر فطور.
فتعطيني رغيفاً من الخبز، محشواً بالجبن الأصفر.
أحاول أن أقتطعَ منه لنفسي، فتصرخُ بي:
-يا ويلك!
كان أخي الأكبر يخيفني دوماً منه.
-أترى تلك المكنسة؟! يسافر عليها كل ليلة إلى عُمان، وفي الصباح يعود.
-ولماذا يعود؟!
-لكي يجمع أرغفة الخبز لأبنائه.
-كيف يحتمل السفر كل هذه المسافة، وهو في هذا العمر؟!
-كل أهل عُمان الذين يعملون في بلادنا، يفعلون الأمر نفسه.
أعطيه الرغيف، فيضحك لي.
-عليك بالدراسة.
لم أكن أعبأ أصلاً إلا بالدراسة. بالمدرسة الإبتدائية التي لا تبعد كثيراً عن بيتنا، لكنه لا ينظف التراب الذي أمامها. ربما لأن أمي لا تقيم في المدرسة.
""
11 يناير 2020: حيلتُها ترتجف
-لن يكون بمقدور أحد أن يقدم لها شيئاً. سوف ننقلها إلى عناية أخرى.
-لا! ستبقى هنا، على نفس سريرها.
-إلى متى؟! هي لا تحتاج الخدمات المتقدمة التي لدينا.
-طبيب الكلى سيأتي لمعاينتها بعد قليل. ربما يجري لها غسيلاً.
-لن ينفعها ذلك. بعد الغسيل، سيعود كل شيء كما كان. لماذا تريدها أن تتعذب؟!
-أنا لا أريد لها العذاب. أنا أختار القرارات التي كانت ستتخذها.
-لا تغالط نفسك. أنت تعلم أنها أسلمت رايتها قبل دخولها غيبوبتها.
-لكنك قلت لي أنها تقاوم. دعها تقاوم.
بعد أن غادر الطبيب، صرت أدور حول سريرها، وأنا أهذي.
-ماذا تريدين بالضبط يا أماه؟!
""
خد هذه الطاسة، واذهب بها إلى المسجد.
قف خارج الباب، ومدّها لكل من يخرج، لكي ينفث فيها. واحرص ألا ينكب منها قطرة واحدة أثناء رجوعك. أبوك كما ترى. صامت، مكتئب، لا يغادر سريره. أظنُّ أنَّ أحداً من جماعة المسجد أصابه بعين، ولا حيلة لي إلا هذه الطاسة.
كنتُ أكاد أبكي. يداي الصغيرتان ترتجفان، وأنا أرى المصلين ينفثون في ماء الطاسة الكبيرة.
كيف سيشرب أبي هذا الماء؟! وكيف سيشفيه من حزنه؟! وهل إذا شفي، ستعود أمي تضحك، ويعود أبي يضحك، كما كانا يفعلان قبل مقتل الملك فيصل؟!
""
12 يناير 2020: وداعُ الطين
أهرب من القراءة لسماع الأخبار، لكنني لا ألبث أن أرجع للرواية التي تركتها على طرف سريرها.
لم تعد تنبس بتلويحة.
كنتُ سأشعر بأي تلويحة، ولو من خلال دمٍ يمرُّ عبر وريد من أوردة وجهها الساكن المستسلم.
أشعر أنه الآن يستلقي إلى جانبها.
هذا الانصراف الكامل عني،
انصرافها الكامل عني، ليس له سوى تفسير واحد.
هو هذا التفسير.
هبطَ من السقف،
هبط، بعد أن ظلّتْ تناديه طويلاً.
""
لم يكن يرفض لها طلباً.
في البيت الطيني الذي لم يكن ليتسع لنا جميعاً، كان يحرص في نهايات الأشهر أن يشتري لها ولنا، فاكهةً مَرّة، وسمكاً مرة.
لم تكن جاراتها لتحلمنَ بذلك. وكانت شقيقتها عائشة، تحذرها من عين لا تصلي على النبي.
-يهون السمك والبرتقال، عند البيت الجديد!
-بيت جديد؟!
-نعم! خرسانة. خلاص. ودّعنا الطين.
وكانت هموم البنات والأبناء، الذين شبوا عن أطواقهم، تتراكم خراساناتٍ إضافية على كتفيه،
وكانتْ تحملها معه.
""
13 يناير 2020: أرتجف بنصف روح
أقف خارج غرفتها، وأراقب ما يجري في ساحة التمريض التي تخدم كل غرف العناية المركزة.
ليس هناك ما هو جديد. حركة دائبة لا تهدأ. شاشات مراقبة لمؤشرات المرضى، متصلة بالأجهزة الموجودة داخل الغرف.
ألتفت للخلف، وأحدق فيها، وهي تفسح له المجال إلى جانبها.
ما الذي يمكن أن تسرَّ لَهُ به؟!
في اللحظة التي أيقنتْ بأن تشبثها بالحياة لم يعد مجدياً، ماذا يمكنها أن تقول له؟!
هو يستلقي الآن إلى جانبها، يرتّب شعرها، ويمسحُ على خدها.
كيف بمقدورها أن تقول له بأنها ستفارقني معه، وأنها لن تعود أبداً؟!
كيف ستتحمل أن تقول له ذلك؟!
كيف سأتحمل أنا؟!
كيف؟!
""
حين فاضتْ روحُه، فقدتُ لوهلة إحساسي بالمكان والزمان.
وبعد أن واريتُ جسدَهُ الثرى، هربت.
لم أطِقْ أن أبقى في البيت.
كيف سأنظر في عينيها، وهي الآن بنصف روح؟!
كان عليَّ أن أهرب.
وحين تجرأتُ وعدتُ إليها، حضنتني بشوقٍ خائف، فامتزجتْ روحها بروحي.
كنتُ أرتجف.
""
14 يناير 2020: مطرُ عظامها
قبل آذان الفجر، انطلقتُ بسيارتي باتجاه المستشفى.
قطعتُ المسافة بوقتٍ أسرع مما كان مفترضاً، على الرغم من الأمطار التي كانت تهطل.
لم تكن الأمطار بهذه الغزارة، مثل هذا الفجر.
كلما أمطرتْ، كلما بللتْني جملتُها الأثيرة، التي تجعلني أهطلُ بها:
-اللهم اجعله عطاء برضاء.
ربما حين أصل إليها، ترأف بي، فترضى أن تمنحني لمسةً من أصابعها، أو نظرةً من عينيها.
حينها، سيكون للمطر معنى.
""
-كيف سقطتْ؟! هل كانت الأرض مبللة؟!
سألني، وهو يدفع سريرها معي نحو غرفة العمليات، بعد ثالث سقوط لها، خلال 20 سنة.
-بل كان البلل في عظامها.
-لن تحتمل العملية الثالثة، صدقني.
-صدقني، ستحتمل.
ابتسمتُ له.
-سترى.
ها هو يرى.
امرأة تتشبث بالنجاة.
تنجو مما لا يمكن النجاة منه، ثم تعود لتنجو.
""
15 يناير 2020: العصافير تحرس نافذتها
كان يمر بين كل فترة وأخرى، ليطمئن عليها.
-اصدقني القول؟! هل كان القرارُ قرارَك؟!
- بل قرارها. كيف كانت ستعيشُ ما بقى من حياتها، وهي مهشّمة الحوض والفخذ؟! أي سؤال هذا أيها الجرّاح؟!
لقد التأمت كسور عظامُها. وكان ينبغي أن تفرحَ بسلامة قرارها. لكن الجرح يتسع. كلّ يوم يمر، يتسع أكثر.
-اسمعني. الصعوبة ليست في العملية نفسها، بل في مضاعفاتها. جسدها المتآكل لن يحتمل.
-هاهي أمامك! إنها تحتمل.
-ما تراه ليس إلا مجرد خداع بصري صنعتْهُ عيناك. أنت لا تسمع ما أقوله لك! بالتأكيد لا تسمعني.
""
لم أسمع يوماً من أيّ أحد، قريباً كان منها أو بعيداً عنها، إلا الإطراء عليها.
كيف يجمع إنسانٌ كلَّ هذا الحب والاحترام؟
ما هو سرها؟
ليس لديها أسرار، هذا هو سرّها العجيب.
تمرُّ خفيفةً، كالخفّة نفسَها، فلا ترى على الرمل أثراً لقدميها.
بعد أن أفقدها السقوط الثاني القدرة على المشي، دخلت عليها ذات صباح، فوجدتها تستلقي على سريرها، تنتظر معاونتها الأندونيسية أن تفيق من النوم.
-وماذا عن إفطارك وأدويتك؟!
-خلها المسكينة ترتاح، ما مع خير الله شر.
كان هناك حشدٌ من العصافير، يحرسون نافذتها.
""
16 يناير 2020: أرمّم العاصفة
المطر يهطل، لليوم الثاني، مختلطاً بآذان الفجر.
تستلقي الآن في بياض صامت.
كانت دوماً تستفيق من عز نومها، على هذين الصوتين،
لكيلا يفوتها وقت الدعاء أو وقت الصلاة.
استمع بالنيابة عنها، وأدعو.
بجانب سريرها، أصلّي.
""
-غداً، ستبدأ عاصفة الصحراء.
ترددتُ قبل أقول لها ذلك، لكنني كنت مضطراً.
في مثل هذا اليوم، مثل هذا الشهر، عام 1991م، كنت مضطراً أن أقول لها ذلك، ولم أكن أعرف ماذا كان سيحصل لها.
كانت تنتظر مني كل يوم، أن أخبرها متى ستبدأ الحرب. وكانت تجزم بأنها ستقضي علينا.
كل الحروب التي مرّت، صغيرة أم كبيرة، كانت تسرقُ شيئاً ما منها، وكان لا بدَّ لي أن أستعيده لها.
مرة أنجحُ في استعادته،
ومرات عديدة أفشل.
حين تراها، ستكتشف بنظرة سريعة الحروب التي مرّت بها،
وستدرك حجم المسروقات التي سُلِبَتْ منها.
إنها كتابٌ مفتوح.
""
17 يناير 2020: شاشةٌ يسيل منها الحزن
ما الذي يحدث في الطرف الآخر للأرض؟!
ما هذا الفيروس القاتل؟!
ما تلك الوفيات والإصابات؟!
وباء؟!
حريقٌ في أول الأرض، ثم وباءٌ في آخرها؟!
من نيو ساوث ويلز الأسترالية إلى ووهان الصينية؛ أكانتْ ستحتمل كل هذه الأخبار؟!
أدرت شاشة التلفزيون المعلقة في أعلى الجدار المقابل لسريرها. أدرته عنها. ربما تفتح عينيها، فترى جثث الموتى الصينيين. ليست جثة واحدة، بل 304 جثة!
ما هذا الذي يحدث أيتها السنة الجديدة، ما الذي تفعلينه بي؟!
أشعر أن نبرة حديثي لنفسي ترتفع.
لا إرادياً، أطفئ التلفزيون ثم أتناول كأس الماء الذي أضع داخله عوداً اسفنجياً، أبلل به شفتيها، بين كل ساعة وأخرى.
""
-صارت لدينا شاشة أكبر يا أمي. شاشة سينما، أكبر من هذه الشاشة الصغيرة التي لا تعرض لك إلا الأحزان.
تبتسم بكل بهجة لممازحتي.
-خلوني قدام شاشتي، وانتم الله يوسع صدوركم بالعافية.
كانت تعلن سعادتها بالتحول الحاصل في البلاد، في حين كان بعض أحفادها يتحفظون عليه، ويعتبرونه تهديداً لدينهم وقيمهم.
رقصتْ كعادتها، وهي على مقعدها، ملوحة بذراعيها في الهواء، في حفل حصول أول حفيداتها على أول رخصة قيادة نسوية.
احمّر وجهها فرحاً، وهي تشاهد مقطع رقصها على الانستجرام.
""
18 يناير 2020: خلسةً، سرق عينيها
عاد الطبيب يطلب مني أن أنقلها للعناية المركزة الأخرى، وكأنها يقول لي:
-لقد انتهى الأمر.
سوف لن ينتهي يا صديقي.
الحرائق سوف تُطفأ، والوباء سوف يُقهر، وهي ستعود.
ستعود مثل كلّ مرة، ترفرفُ بأجنحتها الملائكية في سماء الجنّة التي ظللتُ أعيش فيها معها.
كم حريقاً شبَّ وأطفأته؟!
كم وباءً حلَّ وقهرته؟!
""
هل سأفقد بصري، مثل أمي؟!
قرأت عليها السيدة العجوز آيات من القرآن، ثم همستْ في أذن أمها فاطمة.
-عسانا نلحق عليها!
وبالخلطة الشعبية التي نصح بها مداوي "المذنب"، لعلاج الوباء الذي أصاب البلاد، كحّلوا عينيها. نجتْ واحدة، وانطفأت الأخرى، فسجدتْ فاطمة حمداً وشكراً، وهي تتحسس بكفيها تراب غرفة المداوي، وتسترجع فجيعة الوباء السابق، الذي سرق النور من كلتا عينيها.
""
19 يناير 2020: لذلك الشتاء، تشعل حطبها
أنت لن تسمح لهذا أن يحدث؟!
ثمة من هم بحاجة لهذا السرير. لو كانتْ هي صاحبةُ القرار، لما بقت كلَّ هذا الوقت.
إذاً، سأغادر الغرفة التي نكّستْ فيها رايتها الأخيرة، فهبط هو من عليائه لكي يصطحبها.
ستكون هذه الغرفة هي عاصمة رايتها.
كنتُ في كل غرفة نقيمُ فيها، طوال مراحل مرضها، أرسمُ خريطةً للوقت الذي نمضيه معاً، ثم أستعيدها معها، من الحدود إلى الحدود.
-كيف تتذكر كل هذه التفاصيل؟!
يسألني أخي.
""
لن أنسى ذلك المشهد.
بكل أصابعها، تتشبث بطرف القارب، ثم تنقل قدميها داخله بفرح طاغ، وكأنها ستدخل بستاناً من الغيم.
كان القاربُ سينقلنا من باب الفندق إلى ساحة سوق مدينة البندقية الإيطالية. كان حلماً ذلك المشهد. أن نكون معاً، وسط مياه هذه المدينة الساحرة.
-يا زين ذا الديرة زيناه.
كان السحر داخلها. سحر الفرح الذي أنشأتنا عليه.
-انبسطوا، لا يهمكم مطاوعة جهيمان.
لم تتغير كما تغيّرتْ أكثرية النساء. ظلّت كما كانت، تدافع عن الفرح، وتشعله في الشتاءات التي جمّدت حياتنا أربعين سنة.
""
20 يناير 2020: هكذا برتقالها، بالتساوي
كنتُ كلما أسير خلف سريرها أو كرسيها المتحرك، في ممرات المستشفى، يغمرني أملٌ بأننا ذاهبان إلى شفاء.
ثلاثون عاماً، وهذا الأملُ مثل شجرة البرتقال التي زرعتها باسمها في فناء منزلي.
في هذا اليوم ال 20 الذي يشبه السنة ال 20، كنت أسير بلا شجرة، بلا برتقال، متوجهاً من الغرفة التي رفعتْ فيها الراية البيضاء إلى الغرفة التي ستتمددُ فيها الراية إلى جانب جسدها الصامت، إلا من نبضات الرحيل الخافتة.
""
في الفناء الخلفي للمنزل الذي استأجرته، كانت هناك مجموعة من الأشجار المهملة. بعد أن أزلتها، قررت أن أغرس شتلة.
لا أدري ما الذي يجذبني للبرتقال؟!
هي الفاكهة الأولى التي دخلت بيتنا. كم كان تسعد، وهي ترى أبي في أواخر شهور الشتاء، يحضر معه كيساً من البرتقال.
نصعدُ جميعنا سطح البيت الطيني، تحت أشعة الشمس الدافئة، نتلقّى نصيبنا من أنصاف هذه الثمرة الحامضة.
كانت تحرص أن يأخذ كل منا، البنات والأولاد نصيبه بالتساوي، وأن يحصل على رشة ملح، تضيف للحموضة طعماً مبهجاً.
في مثل شتاء هذا اليوم، وفي كل شتاء، كانت تبتهج بأن ترانا جميعاً إلى جانبها، لا تفرق بين أحد منا، توزع علينا حبها، كما كانت توزع برتقال أبي وملحها، بالتساوي.
""
21 يناير 2020: سربٌ من الشمس والكواكب
ليست كالغرفة السابقة.
مشمسة، تطل من علو شاهق على غرب الرياض،
فكأننا في فندق أنيق.
منذ وصولها، اعتنت الممرضات بها.
سرَّحنَ شعرَها. وضعنَ المرطبَ على شفتيها، وجعلن ذراعيها على جانبيْ جسدها.
-تشبه ملاكاً نائماً.
قالت الممرضة الكندية، وأكملت بعبارات حزينة.
-أنا آسفة.
""
كانت تحب الأناقة. تعجز كلُّ مَنْ في سنها أو أصغر منها، أن يجاروا أناقتها وحليّها وعطورها.
كان واضحاً أنها أرادتْ أن تعوّضَ كلَّ ما فاتها، أجمل تعويض.
لم تكن تحب المبالغة، لكنها أحبت دوماً أن تكون أنيقة المظهر، حتى في بيتها.
تستقبل زوارها بعد صلاة الجمعة، بأفضل ضيافة وبأجمل أناقة.
تنتظرهم واحداً واحداً، وتتصل بمن يتأخر، تستعجله، صغيراً كان أم كبيراً.
لا أحد يجرؤ أن يبدأ بصب القهوة، حتى يكتمل عقد ضيوفها، الأبناء والأحفاد. تحرص أن يشرب الجميع قهوتها الأطعم، وأن يأكلوا تمرها الأطيب، وأن تمسح على يد كل منهم بدهن عودها الأجود.
كانت هي الأجود في سرب العائلة الممتد.
جودها جعلها شمساً، تدور حولها الكواكب.
""
22 يناير 2020: وحيدةً، تخبئ وجهها
عادت الممرضة الكندية التي كانت هنا صباح أمس.
-الطبيب يريد أن يتحدث معك.
كنت أعرف أنه سيفعل ذلك. توقعته أن يفعل هذا الأمر بالأمس.
كان مكتبه قريباً من غرفتها.
ألقيت عليه تحية خافتة، فردّ بأخفت منها.
-ربما لا تعرفني، لكنني أعرفك منذ سنوات. كنت تدعم برامجنا بحماس شديد. أحياناً أقول لزملائي: هذا الرجل ما قصته؟! متحمس للأطباء السعوديين والطبيبات السعوديات، أكثر منهم.
كنت انتظره يدخل لصلب الموضوع.
-هل أبلغوك عن آخر التطورات في حالة الوالدة؟!
-أنا على علم بكل شيء، حتى الساعة.
أطرق برأسه. وضع راحة يده على ركبتي، وضغط عليها بقوة. ظهرت على وجهه ملامح حزن مباغت. ارتعشت ذقنه، فأطرقت برأسي، وسقطت دمعتي على ظاهر يده.
تماسك قليلاً، ثم قال لي:
-في الأيام القادمة، سنرفع جرعة الأكسجين، وسنرى كيف سيستجيب الجسم.
أضاف:
-أنت تدرك أن الاستجابة ربما تكون معدومة، لكننا سنفعل ذلك على كل حال.
""
الدمعة الوحيدة التي شاهدتها على خدي، كانت حين أخبرتها بوفاة والدها. بمجرد أن وصلت من نجران، حيث دفنته هناك، جلست إلى جانبها، وشددتُ على يدها.
سالت دمعتي، رغماً عني.
-مات أبوي؟!
هززت رأسي، فانهارتْ وانهرتُ من أجلها.
هي المرة الوحيدة التي رأيت فيها مثل هذا الانكسار. ليس لأنها الآن أصبحت يتيمة الأم والأب والأخت والزوج، لكن لأنه رحل وحيداً ودُفن بعيداً، وهي لا تطيق الوحدة، لا تطيق البعد.
صرتُ الآن الأقرب.
حين خبأتْ وجهها في حضني، وبللت صدري بدموعها، أدركتُ أنني الأقرب، وأنها الأقرب.
""
23 يناير 2020: جنةٌ ذاتَ قهوةٍ وبخور
قبل أن تدخل في الغيبوبة الأخيرة، طلبتْ مني أن أحضر لها خاتمين من خواتمها.
كانت حينها قد فقدتْ القدرة على النطق. لكننا أنشأنا لغة خاصة، نتحدث فيها فيما بيننا.
أشارت إلى إصبعها، فتوقعتُ أنها تسألني عن زوجتي، فالعلاقة التي كانت تجمعهما، لا يمكن وصفها. كانت لها بمثابة الأم والأخت والصديقة. حين تراهما في السفر، وهما تتوددان لبعضهما وتقهقهان، لا يمكن إلا أن تعتبرهما صديقتين.
تهز برأسها بعصبية، وتحاول أن تحرك شفتيها.
-لا! أنا لا أسألك عن نوال.
ثم تضع أصابع يدها اليسرى، حول إصبع يدها اليمنى.
-آه! خاتم.
تبتسم بفرح طفولي، وتهزُّ رأسها.
-تريدين أن أحضر لك خاتمين من خواتمك؟!
بعد أن ألبستها إياهما، اكتسى وجهها بالرضا.
كنت في نفس الوقت، أسرّح شعرها وأدهن عنقها بدهن العود، استعداداً لاستقبال زوارها المقربين جداً.
كانت الزيارة المحدودة، قد اقتصرتْ على بنتيها وولديها.
""
لم تكن تجيب أحداً على السؤال الذي يمازحها به أبناؤها وبناتها.
-في بيت مَنْ، تجدين الراحة أكثر؟!
كانت تجيب إجابة مختلفة تماماً:
-ليت أبوكم شاف العز اللي أنتم معيشيني فيه.
كات ترى في أبسط الأشياء عزّاً.
بسيطة لدرجة أنك حين تفتح النافذة، تبادرك:
-الله يفتح لك بيبان الجنة.
كانت بيوت أبنائها وبناتها، جنّة لها. لا حدَّ لسعادتها، وهي توزّع نهايات أسابيعها بين تلك المنازل، ثم تعود لتنام في جنتها، بيتها.
ما أبسط تلك الجنة، وكم تشبهها؛ نفس تواضعها، نفس عطرها، نفس بريقها، نفس أناقتها وجاذبيتها. كأنك ترى على البيت من الخارج ملامحَ وجهها، ومن الداخل عطر قهوتها وبخورها.
""
24 يناير 2020: جُمعةٌ في طريق الصلاة
أستعيد الدمعة التي سالت على يد الطبيب.
-ماذا لو لم تستجب؟! كم سيمضي من الوقت لكي تستجيب؟! هل ستقاوم أصلاً؟!
الشمس تشع على وجهها، فيبدو أكثر بياضاً من غطاء سريرها.
لا يظهر الآن من جسدها سوى وجهها. فيما عدا ذلك، غطاء أبيض على جسد لم يبق من إلا هيكلٌ عظمي.
الشمس، شمسُ اليوم الجمعة المشع على سريرها، تجعل المشهد وكأنه صلاةٌ صامتة، صلاة الغائب الأخيرة، حيث لا أحد سوانا؛ هي وأنا.
""
ما أحبَّ هذا اليوم لقلبها.
تستعدُّ له منذ صباح الخميس، تجهز ما سوف تلبسه، وما سوف تتعطر به، وما ستلبسه من حلي بسيطة.
أهي لا تزال تنتظره، آتياً من الجامع، مرتدياً مشلحه البني، صابغاً شاربه المقصوص بعناية وذقنه الصغيرة بالصبغة السوداء الغامقة التي تظهر نحول وجهه أكثر، والمرض الذي لا يفارق صدره؟!
أشعر دوماً أنها تفعل ذلك. وأشعر، وأنا أجلس إلى جانبها بعد خروجي من كل صلاة جمعة، أنني أنتظره مثلها، وأنه قد يدخل في أي لحظة، فتهب لملاقاته بالبخور، بعد أن تكون قد هيأت المكان الذي يجلس فيه، في ركن المجلس على الأرض، مسندة قطنية تحته ومسندة أخرى خلف ظهره، منفضة سجائره الزجاجية نظيفة، إلى جانبها علبة "أبو بس"، وقد أزيلت القصديرة عنها. تتناول مشلحه وغترته البيضاء وعقاله. وهكذا يجلس مزهواً بجمعته، يتناول فنجان قهوته وتمرته "البرحيّة"، ثم يشعل سيجارته، معلناً انتهاء شعائر يوم الجمعة التي كانت قد ابتدأت بعد صلاة الفجر.
تتوجه للتلفزيون السانيو المزين بغطاء الدانتيل، فتشغله على برنامج "نور وهداية" للشيخ علي الطنطاوي الذي كان على خلاف الآخرين، معجباً بعدم تشدده.
كان بعيداً عن التشدد. التلفزيون و"البلوت" تسليته. وفي مساء الجمعة، سيكون الأقرباء من شباب ورجال على موعد مع صولاته وجولاته في تلك اللعبة. وستكون هي منشغلة بتجهيز العشاء الذي تسيل رائحةُ بهاراته لعابَ الحاضرين.
""
25 يناير 2020: هذا الدَّينُ لها
كنت غارقاً في قراءة رواية "ليلة لشبونة" للألماني أريش ريمارك، حين لمحتُ الطبيب بطرف عيني، وهو يمر مروراً عابراً، دون أن يتوقف، ظاناً أنني لم ألمحه.
لم يبد لي أنَّ لديه ما يقوله. لذلك عَبَرَ سريعاً.
أهي تعبر الآن؟!
أسريعاً هكذا تعبر؟!
أفي الوقت الذي أشعر بأننا سنبدأ طريقاً جديداً معاً، تتركني وحيداً؟!
""
اعتدتُ في الطريق إلى المنطقة الشرقية، حيث تقيم ابنتها الصغرى، والتي تشغل مساحة الفاكهة في حديقتها، أن أفرد المقاعد الخلفية لسيارتي، وأن أجهز لها في تلك المساحة سريراً تستلقي فيه، بحيث يكون رأسها المستند على مخدة وثيرة في مواجهتي، حين ألتفتُ للخلف.
بهجتنا في مثل هذا السفر البري لا توصف. كلانا نحب هذا الطريق. منذ طفولتي والمنطقة الشرقية منطقتي الثانية. كان عمي يقيم فيها، وهو الشقيق الأقرب لقلب أبي. أول صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، كانت لي هناك، مع أبي وعمي، ونحن؛ أطفالهما، كل منا يرتدي بدلة "أفرنجية"، وكأننا داخل مساكن "أرامكو"!
-مع أبيك، لم نكن نشعر بالفقر الذي كان يحيطنا من كل جانب. ولولا مرضه الذي لازمه منذ مطلع شبابه، لكانت السعادة الغامرة التي كنا نعيشها معه أكبر.
كانت أمها فاطمة هي الشقيقة الوحيدة لرئيس ديوان الملك، لكن ملكها الوحيد كان عبدالله. كان هو ديوان قلبها وحياتها، على الرغم من ديونه التي عاش إلى إن سددها، بل وفاضت بضعُ آلاف وراتب تقاعدي كانت تزهو به لكل من يسألها عمّا بقى له.
-أنت مثله. أعرف أن ديونك ترهقك، لكنك لا تتحدث لي عنها.
ألتفت إليها، فإذا هي مستمتعة بتقشير الفستق، وعلى شفتيها ابتسامة، وكأنها تستفزني لكي أفضفض لها.
-الدَّينُ الوحيد الذي يرهقني، هو رضاك.
""
26 يناير 2020: ستارة قد تحجبَ البكاء
سألتني الممرضة الفلبينية، وهي تخفض درجة إضاءة الغرفة.
-أتحب أن أطفئ التلفزيون؟!
-لا، دعيه من فضلك.
-هل تتابع أخبار الوباء الجديد؟! هل قالوا أنه سينتشر في العالم؟!
-لم يؤكدوا شيئاً، لكنهم خائفون فيما يبدو.
تنظر إلى وجهها الغارق في الغيبوبة.
-الأوكسجين لديها ينخفض.
هززتُ رأسي، ثم عدت لقراءة ما تبقى من صفحات الرواية.
اقتربتْ مني. طالعتني بعينين حزينتين.
-لا بأس. البكاء سيخفف عنك. سأغلق الستارة.
""
في فناء المدرسة الابتدائية، تسابقنا لأخذ مكاننا في الصف، أمام ممرضي وزارة الصحة.
كانت المرة الأولى التي أتلقّى فيها لقاحاً. كان ضد وباء الكوليرا.
ألم الحقنة والألم ما بعدها، بقيا في ذاكرتي طويلاً. بعدهما، كلما سمعتُ أو قرأتُ كلمة وباء، أشعر بوخزة ألمٍ شديد في كتفي الأيسر.
حاولتْ أمي أن تخفف ألمي. وضعتْ كمادة دافئة، فقالوا لها أنها لن تجدي، فاستبدلتْها بكمادة باردة.
سحبتني أختي من ذراعي اليسرى.
-أنت تتمارض لكي لا تذهب للمدرسة.
أوجعتني، فبكيت.
لم يرني أحد أبكي من قبل.
ولم أبكِ بعدها.
""
27 يناير 2020: حزنٌ مخيف، خوف حزين
على وجهها، اتخيّلُ التعابير التي كان سيكتسي بها، لو أنها ستستمع لمخاوف الأطباء الآن من هذا الفيروس الجديد.
كان كلُّ شيءٍ يخيفها إلى درجة الأرق. تظل لياليَ متواصلة لا تذوق طعم النوم.
مع انتشار السرطان في السنوات العشرين الأخيرة، صارت تصحو خائفة منه، وتنام خائفة. كلما ارتفعت حرارتها أو شعرت بألم في أجزاء من صدرها أو بطنها، تهرعُ تستنجد بي:
-خذني للمستشفى. معي سرطان؟!
كيف سيكون حالها لو إن هذا المرضَ الخبيث وباءٌ، ينتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم، في نومهم وأثناء صحوهم، ويجعلهم يتساقطون موتى، واحداً بعد الآخر؟!
""
بعد مراسم دفن شقيقتها الوحيدة عائشة، قلت لها أنها أقبلتْ على الموت مطمئنة مبتسمة.
كنت أنوي أن أخفف عنها فراق أعزّ الناس على قلبها، لكن نحيبها ازداد.
-الله يعيننا على المقبلين عليه.
كان حزنٌ مخيف، وخوفٌ حزين، وشعورٌ لا حدّ له بالوحدة.
تلك الليلة، ظللتُ أرتجفُ محموماً من القلق عليها.
لم أكن واثقاً أنني ستصمد حتى الصباح.
""
28 يناير 2020: القراءةُ لم تلتقطْ أنفاسَها
قبل أيام من طلبها للخواتم، كانتْ قد ألحت أن أحضر لها من البيت عباءتها المفضلة، تلك التي ترتديها للمناسبات.
-ما أبغى أطلع من هنا إلا فيها.
في خزانة الغرفة، كنت أحتفظ بكل أشيائها، بنفس طريقتها في تنظيم الأشياء.
العباءة معلقة مع حجابها. في الحقيبة، هناك العطر ودهان الجلد وساعة اليد والنظارة والهاتف المحمول، استعداداً لخروجنا في أية لحظة.
اعتدنا طيلة السنوات الماضية، وفي كل خروج من المستشفى، أن ننتظر قرار الطبيب.
هذه المرة، القرار قرارها.
ألقي نظرة دامعةً على عباءتها، على عطرها، وعلى هاتفها المحمول.
""
كانت تحرص أن تجدد صور أبنائها وبناتها في ذاكرة هاتفها المحمول، حتى إذا اتصل بها أحدهم، تظهر صورته.
دعيني أعلمك القراءة، كي تقرأي سورَ القرآن في جوالك.
كل محاولاتي في دفعها لتعلم القراءة، باءتْ بالفشل.
-السور اللي أنا حافظتها تكفي.
-لكنها فقط قصار السور.
-تكفي. من قال أنها لا تكفي؟!
وأذعن لها، لكيلا أشعل المرارة التي تشعر بها.
كانت تشعر بالحسرة، لأن الحظ لم يسعفها لتعلم القراءة والكتابة.
في طفولتها، لم تكن هناك مدرسة للبنات. الترحال من مدينة إلى أخرى، والإنجاب المتواصل، لم يجعلها قادرة على التقاط أنفاس القراءة. كل محاولة منها، تواجهها مشاغل المنزل التي تشرق مع الشمس، وتغيب عند مغيبها.
-أترين؟! هذا اسمي. إلى جانبه اسم أبي ثم لقبي.
-وهذه صورتك.
كل قصاصة من جريدة، فيها خبرٌ عني، تحتفظ بها مع مقتنياتها النفيسة. وبإمكانها أن تفرّق بين محتويات القصاصات ومناسباتها، دون أن تكون قادرة على قراءتها.
حين تقرأ سور القرآن القصيرة في صلاتها، أشعر بأنها أجمل قراءة يمكن لقلبي أن يسمعها. لا تلتزم بضوابط اللغة، لكنها لا تكسرها. لقد حفظت تلك السور كما شعرتْ بها. في ليالي رمضان، تخشع وهي تقرأ سورة الإخلاص، لحد البكاء.
""
29 يناير 2020: النخلة كانت هناك، وكذلك المصحف
لو لم يكن الأمر خطيراً، لما ظهر الرئيس الأمريكي الآن، معلناً وقوف بلاده إلى جانب الصين التي عزلتْ مدينة ووهان، وقيّدت السفر إليها.
-سوف تعلن منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ قريباً جداً. إن لم يكن غداً، فبعد غد.
هكذا قال لي الطبيب الذي لم أره من قبل، وهو يحدق معي في شاشة التلفزيون.
لم أرد عليه، بل تابعته، وهو يلقي نظرةً على شاشة الأجهزة الموصولة بها، والتي تبدو في أضعف مؤشراتها.
سألني، بنبرة حزينة:
-هل يوجد مصحف في الغرفة؟!
وحين لم أجب على سؤاله، خرج.
كان المصحف تحت مخدتها، منذ دخلنا تلك الغرفة.
""
علاقة أبي بالمصحف كانت نهارية مسجديّة.
من بعد صلاة الفجر، يبدأ بتلاوة القرآن حتى شروق الشمس. كذلك يفعل بعد صلاة الظهر وبعد صلاة العصر.
في رمضان، يبقى في المسجد، حتى انتهاء التراويح. وفي العشر الآواخر، حتى انتهاء التهجد.
طيلة كل تلك الأوقات، لا يفارق المصحف كفيه.
لا يفارقه إلا في البيت.
في أواخر حياته، صار لا يغادر المنزل إلا للمسجد. كان يجد وقتاً طويلاً للحديث مع أمي. صار حديثهما يخلو من انفعالاته التي يصبها عليها دوماً، فتلتهمُ عواطفها وجسدها. رقَّ قلبه الرقيق عليها أكثر، فوجدتْ لديه متسعاً لأحزانها ومخاوفها.
-لِمَ الحزن، ولِمَ الخوف؟! هذا هو البيت الذي حلمتِ فيه. في نفس الحي الذي تسكنه شقيقتك؟! سيضمني أنا وإياك إلى أن يأخذ الله أمانتنا.
أخذ الله أمانة أبي في ذلك البيت.
كلما أمر في الحي، أقف أمامه والتقط له صوراً جديدة. أريها الصور، فتبتسم ابتسامة طفلة، وهي تؤشر للنخلة المطلة من خلف السور الخارجي.
-كان يحبها.
""
30 يناير 2020: سامحني، كي أصعد
لم تكن روحي قادرةً على حملِ جسدي الذي بدأ يتهاوى.
بالكاد استطعتُ حملَ نفسي خارجَ سريري.
لم تغفُ عيناي طيلةَ الليل.
غادرتها حوالي الواحدة فجراً. وبمجرد أن استلقيت على سريري، صارتْ صورةُ شاشة الجهاز، وهي تعرض المؤشرات الضعيفة جداً لجسدها، تتراءى أمامي.
كلما يستسلم جسدي للنوم، أشعرُ بمؤشراتها تنخفض، فأفزُّ مرعوباً.
لم أجد بداً من العودة. لبستُ ثيابي، وعدتُ إليها.
كانتْ على حالها. ترقدُ بسلامٍ أبيض، مغمضةً عينيها.
بياضٌ كامل، لا يظهر منه سوى وجهها الأبيض، أبيض تماماً.
وحين سقطتْ أشعة الشمس المشرقة للتو على وجهها، ازداد بياضاً، فلم أعد قادراً على رؤيته.
في الثامنة صباحاً، أطلَّ الطبيب. لم يدخل. اكتفى أن يقفَ في مدخل الغرفة. نظرَ إليها، ثم طأطأ برأسه. لمحتُ ذقنه ترتجف، ورأيته يغادر.
كنتُ أضع الكرسي الذي أجلس عليه، في المسافة بين جسدِها وبين الواجهة الزجاجية للغرفة، والتي ارتفعتْ عنها الشمس الآن.
نقلته لأكون على يمينها.
رفعت الغطاء عنها. أخرجتُ يدَها التي كانت قبل غيبوبتها تحرصُ أن تمسكَ بها يدي، لكيلا أتحرك عن جانبها.
وضعت شفتيَّ على ظاهر يدها، وبدأتُ أقرأ قصارَ سور القرآن، التي كانت تحفظها. وجدتني بشكلٍ لا إرادي، أقرأها بنفس طريقةِ تلاوتها. كان صوتي صوتَها، مخارجَ حروفها، الأخطاءَ النحوية في التلاوة نفسها.
لم تمنعني دموعي، من أن ألمحَ رئيسةَ الممرضات وهي تقفُ على يساري، ثم تطفئُ الأجهزة كلَّها قبل أن تغادر.
لا أعرف كم من الوقت، بقيتُ وأنا أمدُّ يدَها الباردةَ بدفءِ وجهي.
-سامحني.
حين دخلتُ بيتها راكضاً منقطعَ الأنفاس، ووجدتها تستلقي على الأرض، بعد سقوطها للمرة الثالثة والأخيرة، همستْ في أذني، متغلبةً على ألمِ الكسرِ في حوضها:
-سامحني!
ها أنذا أسمعُ صدى تلك الكلمةِ الآن. لكنَّ صوتَ رفرفة أجنحةٍ كانَ يطغى على الصدى الذي ارتفعَ للأعلى بخفة، إلى أن تلاشى.
كانَ الصباحُ يشيرُ إلى العاشرةِ وخمس دقائق.
وكان الصمتُ مطبقاً.
كأنًّ الكون كلّه، التزمَ الصمتَ في هذه اللحظة، لكي يتيحَ لها أنْ تصعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق