الأحد، 10 سبتمبر 2023

الثلاثة

 

الثلاثة 


تسعونَ يوماً على غيابِ أخي،

غابَ بعدَها أقربُ رفيق،

ومِنْ قبلُ تناثرَ الأصدقاء.

تسعونَ يوماً، كنتُ أرتجفُ خلالَها حينَ أقفُ أمامَ الطريقِ الذي كان يألفُنا، ويلوّحُ لخطواتِنا التي اعتادتْه.

في المرَّةِ الأولى، عجزتُ عن الخروجِ من منزلي إليه.

في المرَّة الثانية، وضعتُ قدميَّ على بدايتهِ، فخانتني ركبتاي.

في المرَّة الثالثة، مشيتُ بضعَ خطواتٍ منهُ، فغاصتْ قدماي في الرمل.

لم أستطعْ.

صورُهُ في طفولتِنا وشغِبنا ومدارِسنا، لا تكادُ تغيب. أحاولُ أن أؤجلَها من اللَّيل إلى الفَجْر، من الفجرِ إلى الضُحى، أو من الضُحى إلى الظهيرة كي أحتمل، لكنَّها تختارُ أوقاتِها، وكلُّ صورةٍ تقود إلى صورة، تقودُ إلى صورة، حتى ينتهي الأمرُ بصورهِ الأخيرة، وقد أخذ منهُ الألمُ أعمقَ مأخذ، وركَزَ الموتُ رايته السوداء بين كتفيهِ، جهةَ ظهرِه.

انكسرَ ظهري.

أسحبُ ساقيَ اليُمنى من الرمل، فتَغوصُ اليُسرى. 

كانا رفيقيَّ اللذين يأنسانِ نفسَ الطريق، ويأنسهُما.

في كل حديث، يكون كلٌّ منكما حاضراً، وهو لم يحضر قط. أكادُ أشعر بكلٍّ منهُما، يرى الآخرَ وكأنَّهُ أنا، نفس ملامحي، ونفس صوتي، ونفس بهجتي ونحنُ نقتربُ من بلدةِ الرحلة، وفي الرحلةِ نفسها.

انتهت رحلتُهُما، فكيفَ للطريقِ أن يَحتملَ وِحدتي؟! 

كيف لَهُ أن يَطوي المسافةَ بالسرعَة التي كانتْ تنطوي؟! مِنْ أين لي حكاياتُ طفولةٍ غاب عني بعضُها؟! أو مِنْ أينَ لي قصصُ جنوبٍ مكتوبةٍ لبهاءِ الشرق وفتنةِ الغرب ونشوةِ الشمال؟!

من أينَ لي؟!


هاهما اليومَ قد غابا في الغياب؛ 

بينَ غيابِهِما أشهرٌ ثلاثة، بِعددِنا! 


10 سبتمبر 2023


الجمعة، 8 سبتمبر 2023

في مثل هذه اللحظة

 


في مِثلِ هَذهِ اللَّحْظَة

في مثلِ هذا الفجر،
وضعتَ كفَّكَ على نبضِكَ، وقُلتَ له:
-اهدأْ.
هدأَ. 
رتبتَ شعركَ، أخذتَ نفساً عميقاً. جُلتَ ببصركَ أسرَّة العنايةِ المركَّزة، وودعتهم واحداً واحداً.
أغمضتَ عينيكَ، ثم قَطفتَ من حديقةِ قلبكَ، وردةً لكل مُحبٍ من محبيكَ الذين يغطونَ الآنَ في نومهم العميق، ووضعتَها تحتَ وسادةِ نومِ كلٍّ منهم، لكي تثمرُ في الصباح قصتَكَ الأخيرة.
أمامكَ الآنَ قصرٌ شامخٌ، يُحيطهُ النخيلُ وأشجارُ الرمانِ والبرتقال، على بوابتهِ يَصطفُّ كلُّ الذين غادروكَ من قبل، مزدانينَ بأحلى الثيابِ، وبابتساماتٍ تفوقُ أجملَ القصائد.
بشغفِ الوَلْهان، رفعتَ جسدكَ وهممتَ بالوقوف.
-توقفْ!
هنا توقَفَ نبضُك، 
تماماً، في هذه اللحظة.

7 سبتمبر 2023

الاثنين، 4 سبتمبر 2023

قِصَّةُ المأوى

 قِصَّةُ المَأوى

*إلى فقيد الروح؛ محمد علوان* 


في السيّارة التي تضمُّني الآنَ معك،

في آخر رحلةٍ تجمعُني وحدي بك، 

لا ألمح أحداً.

الصباحُ صامتٌ،

شوارع الرياض صامتةٌ،

جسدك المكفّن بالبياض صامتٌ،

لكنَّ صوتَكَ جَلي، 

كما هو في كل رحلاتنا معاً.

-لا تقفْ حتى نبلُغَ وجِهتَنا.

-حسناً.

-وإن شئت، فليكنْ في مقهى شعبيٍ للشاي والتبغ.

-حسناً.

-هل قرأتُ عليكَ ما كتبتُهُ أمس؟!

-لا.

-اسمع.

لم يكنْ يطيقُ الصمت. 

إنْ لم تأته، يأتي إليك.

إنْ لم يسمعكَ، تسمعه.

لا يملكُ أحدٌ حديقةَ أصواتِ أصدقاء وصديقات، مثله.

كلهم وكلهنَّ استمعوا لقصصهِ قبلَ أنْ ينشرَها.

لا يبخلُ بقراءة قصصهِ على أحد،

ولا يبخلُ على نفسه بكتابتها.

كلَّ يومٍ يكونُ في وادٍ،

خلفَ قصةٍ ما،

خلف صوتٍ ما،

خلف "سالفة" ما.

صوتُكَ جليٌّ الآن:

-عجِّلْ علي. خُذني لمأواي. 

أتركُ مقعدي بجانب سائق السيارة، وانتقلُ للخلف، بجانبك.

أقتربُ من رأسك، وأهمسُ لك:

-اسمعْ مني هذه القصة، قبل أن نصل.


الرياض 2/9/2023


مقعدُهُ الذي يبقى

 مقعدُهُ الذي يبقى

*إلى حمد؛ شقيق العمر، شقيق الروح*


مَرَّ شهر، 

منذُ أن توقفتْ دقاتُ قلبِهِ الذي يشبهُ قلبي،

ومنذ سكنتْ سبابتُهُ التي كانت تشيرُ دوماً للطريقِ الذي لم أكنْ أعرفُ أين سينتهي بنا،

ومنذُ انفرجتْ ابتسامتُهُ للمرةِ الأخيرة، وهي تقولُ لي:

-وينْ الناس؟!


كان الناسُ هناك، 

على موعدٍ أخيرٍ مع رحيلِهِ المُباغت.

هو دوماً يباغتني؛

-لنذهبْ، 

هكذا فجأة.

ثم دونَ أيِّ سابقِ تلميحٍ؛

-لنرجع.

-إلى أين؟! إلى مقعدِ وحدتك؟! نحنُ بالكاد غادرناه، بعدَ أن ضِقتَ ذرعاً به.


كان حينَ يخنقُهُ الجفافُ الساكن، يبحث في الأماكن عن ربيعِ غيومٍ راكضةٍ، أو عن ضجيجِ مطر.

لكنه ما يلبثُ أن يعود، وكأنه خائفٌ أنْ يرتحلَ مقعدُهُ عنه.


كنت أرى المرضَ أبعدَ ما يكونُ عنه.

فهو يغسلُ الماءَ بخوفه،

والطعامَ بشكوكه،

والمكانَ بوساوسهِ.

وحين أصابهُ، قلت:

-أنت مخطئٌ أيها الطبيب!

-كيفَ يمكنُ أن أخطئ؟! إنه يسري في كامل جسد أخيك. 


في لمحِ البصر، 

صار السريرُ مقعده، 

والألمُ رفيقاً لا يفارقه.

-سيقتلني، أليسَ كذلك؟! 

-بل ستقتلُه. 


دخل حرباً يعرفُ منذُ الجولةِ الأولى أنه سيخسرها لا محالة،

دخلها على بصيصِ أملٍ أن تغفلَ عنه عينا العدو، فينقضُّ عليه بطعنةٍ مخاتلة؛

-من يخاتلُ مثل هذا العدو الشرس، الممتطي جواداً ولا أسرعَ من صولاته؟!


بأسرع مما تخيّلتُ،

وقبل أن يوجَّه إليه عدوُهُ الطعنة، طلبَ منه أن يهبطَ عن جواده، 

ليسلّمَ له جسدَه المنهكَ، دون طعنات. 


بكل انسياب، 

رأيتهما يمضيانِ معاً، 

على صهوةِ الجواد.

ولم يسْتغرقا طويلاً حتى اختفيا في الأفق،

خلفهما ذلكَ النسيمُ العليلُ الذي يبقى،

مثلما تبقى رائحةُ مقعدِهِ الذي غادره باكراً، دونَ أنْ يودّعَه.



الرياض 10 يوليو 2023


أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...