الثلاثاء، 27 أبريل 2021

الأزرق

 

الأزرق

 المشهد 1: خارجي نهاري ساحة
مسنان على مقعد شعبي طويل مصنوع من الليف،
كل مسن يجلس نفس الجلسة تقريباً،
ساق مثنية فوق المقعد وساق تتدلى باتجاه الأرض،
الأول يسند رأسه على الجدار الطيني ويضع كفه اليمنى على عينيه،
الثاني يطاطئ برأسة للأسفل ويضع كفه على رقبته من الخلف، 
ملابسهما عباره عن ثياب بيضاء وشمغ حمراء،
كل منهما له بسطة،
الأول له بسطة بهارات،
الثاني له بسطة خضروات،
كل بسطة عبارة عن مصطبة خشبية بارتفاع متر تقريباً، مقسمة إلى مساحات مختلفة، في كل مساحة فيها نوع مختلف من المنتجات،
في البسطة الأولى توجد المنتجات التالية: الطماطم، الليمون، الفلفل الأخضر البارد، الخس الأمريكي البنفسجي، الزنجبيل الطازج، البصل الأبيض، الزهرة، الباذنجان، الفاصوليا، الجزر، البطاطس. 
في البسطة الثانية توجد المنتجات التالية: الكمون، الفلفل الأسود، الملح الصخري، الحبة السوداء، الفلفل المطحون الأحمر، الكزبرة المطحونة الخضراء، الكركم الأصفر، الدارسين، الهيل.
(إختيار المنتجات جاء بهدف أن تكون البسطتان مشرقتان بالألوان الصارخة)  
كل بسطة يعمل فيها آسيوي،
المشترون من الرجال والنساء، من كل الأعمار يختارون بضاعتهم بصمت، يضعونها في الأكياس، يناولونها للعاملين. كل عامل يضع مشتريات كل مشتر في الميزان، يناولها له أو لها، يستلم النقود، يضعها داخل كيس قماشي على يمين البسطة، أسفل المصطبة.
الكيسان القماشيان لونهما واحد، أزرق.
في بداية اللقطة، لا يكون هنا مشترون. يبدأون عدد قليل منهم في الشراء، ثم يزداد عددهم تدريجياً، ثم يقلون شيئاً فشيئاً، إلى أن لا يكون هناك أحد.
(الأصوات في هذا المشهد، هي الأصوات الطبيعية) 
كل عامل من العاملين، يغطي بضاعته بعناية شديدة بخام أبيض أوف وايت، 
يتناول كل منهم الكيس القماشي الأزرق الذي يحتوي النقود، 
يتوجه العاملان للمقعد الشعبي الذي يجلس عليه المسنان، دون أن تتغير وضعيتهما،
(طيلة المشهد، يجب أن يكون يكونان ظاهرين في اللقطة)،
كل عامل يناول أحد المسنين كيساً،
يتناول كل منهما الكيس، دون اكتراث،
العاملان ينصرفان بجانب بعضهما، دون أن يحدثا بعضهما،
نراهما من الخلف إلى أن يخرجا من يمين الكادر،
يقف كل من المسنين بصعوبة، دون يطالع الآخر،
يمشيان بجانب بعضهما، كل منهما يحمل كيسه، يمشيان بتثاقل، يجرجران أقدامهم، وظهورهما يتقوسان للأسفل، ورأساهما مطأطئان للأرض،
يمشيان دون أن يحدثا بعضهما،
يمشيان في نفس الطريق الذي مشاه العاملان، ويخرجان من نفس نقطة الكادر.
 
المشهد 2: داخلي ليلي: غرفة في بيت شعبي:
غرفة شعبية جدرانها مصبوغة بالأبيض،
السقف من جذوع النخل، تتدلى منه فوانيس، 
نافذة خشبية خضراء غامقة،
طاولة من خشب الخيزران عليها جرة ماء،  
سريران أسودان حديديان متقابلان، كل سرير في طرف،
أعلى كل سرير، مسمار منغرس في الجدار، جهة الرأس، في متناول اليد، يتدلى منه الكيس القماشي،
المسن الأول يغط في سكون تام وعميق على السرير الأول، جسده مغطى بالكامل، ما عدا رأسه، بشرشف أبيض، رأسه يعتمر طاقية بيضاء،
المسن الثاني جالس على السرير الثاني، يحدق في المسن الأول، ذقنه على كفه، مرفقه على فخذه، ثوبه لا يزال عليه، والطاقية تغطي نصف رأسه الأصلع.
(الصوت في هذا المشهد هو صوت صرصار الليل، تتخله أصوات بعيدة لكلاب)
يقوم المسن الثاني، يمشي باتجاه الطاولة،
يشرب جرعة من الماء، 
ثم جرعة ثانية،
ثم جرعة ثالثة،
يعود إلى سريره،
قبل أن يستلقى، يحدق في الكيس أعلى السرير الأول.
يظل متسمراً في مكانه وهو يحدق في الكيس،
تتحول عيناه إلى المسن الأول،
اللقطة عليه وهو يبدو وكأنه ميت،
يستدير باتجاه السرير،
يترنح،
يتكئ على حافة السرير تفادياً للسقوط،
يستلقي على السرير بروية شديدة، 
يكتمل استلقاؤه،
يبدو على عينيه أنه يدخل في غيبوبة،
يحدق في جذوع النخل الممدة على السقف،
اللقطة تمتزج بلقطة نخيل وبأصوات الطبيعة، من طيور ومياه.
 
المشهد 3: خارجي نهاري:
نخيل على مدى النظر، مثمر بالتمر الأحمر والأصفر،
الطيور تتناقل بين النخيل،
صوت جداول المياه المتدفقة من بركة البستان،
من بعيد تبدو البيوت الطينية،
شابان يعملان بحماس في حفر جداول جديدة للماء،
يلبسان فنائل وسروايل طويلة بيضاء، ويعتمران طواقي،
يحيط بخصر كل منهما حبل أبيض، يتدلى منه كيس قماشي أزرق،
من بعيد، من جهة البيوت الطينية، تقبل فتاة ترتدي ثوباً شعبياً فوقه المسفع الذي يمتد حتى فوق رأسها،
البركة التي تتدفق منها المياه تكون الآن بيننا وبينها وهي تتجه الينا،
الشاب الأول يلتفت فيراها،
تقبل أكثر،
يؤشر بعينيه ورأسه للشاب الثاني،
الشاب الثاني ينظر هو والشاب الأول إليها،
تقبل أكثر، تصل إلى البركة،
تجلس على طرفها،
الشابان يبتسمان،
يزداد حماسهما للعمل،
يحفران أكثر وأكثر،
يبدو على وجهيهما الجدية، 
اللقطة على الفتاة وهي تبتسم،
(الأصوات في هذا المشهد أصوات الطبيعة، المياه والطيور والحفر)
الشاب الأول يضرب بمحفرة الأرض بقوة، ثم يرفع رأسه باتجاه النخل،
اللقطات على التمور المكتنزة،
الفتاة تمد يدها لماء البركة،
الماء بعيد،
تمد يدها أكثر،
تسقط الفتاة بكامل جسدها في البركة،
الشاب الثاني يصعد على جذع نخلة باستخدام الحبل الذي يحيط جسده،
في أعلى النخلة، يحدق باتجاه الأفق الممتلئ بالبساتين الخضراء،
يبدو عليه الفخر، يتنفس الهواء بعمق، 
يقطف أكثر من تمرة ويضعها في الكيس الأزرق،
يقطف المزيد ثم يرميها للشاب الأول،
يلتقطها بفرح، ثم يضعها في كيسه.
الشاب الأول يبتسم،
ينظر للشاب الثاني الذي صار ينظر إليه،
يبتسم كل منهما للآخر،
الشاب الثاني ينظر باتجاه البركة،
اللقطة على جسد الفتاة يطفو فوق ماء البركة. 
 
المشهد 4: خارجي نهاري:
نفس المقعد الشعبي الأول، 
المسن الأول وحيداً عليه،
بنفس الهيئة التي كان يجلس فيها، مطأطئ الراس، وكفه خلف رقبته،
 
البسطة صارت بهارات فقط،
العامل واحد فقط،
العامل يجلس على كرسي خلف البسطة،
ويظهر إلى جانبه الكيس القماشي الأزرق،
لا نلاحظ أية مشترين يأتون،
المسن ينزل من كرسيه، يحدق في البهارات،
الكاميرا تستعرض البهارات المعروضة في المساحات المختلفة ببطء،
نفس البهارات التي كانت في المشهد الأول،
المسن يمشي بنفس الإتجاه في المشهد الأول،
العامل لا يكترث به،
اللقطة عليه، وهو يحدق بالكيس القماشي الأزرق،
اللقطة على المسن وهو يمشي بتثاقل، يجرجر قدميه، وظهره يتقوس للأسفل، ورأسه مطأطئ للأرض،
يخرج من نفس نقطة الكادر في المشهد الأول،
اللقطة من الخلف على ظهر العامل،البسطة تظهر أمامه،
يظهر الكيس الأزرق على اليمين،
اللقطة تقترب للكيس شيئاً فشيئاً، إلى أن يغطي اللون الأزرق اللقطة كلها.

السبت، 17 أبريل 2021

العابرون من جنّة الأشرعة

                                    العابرون من جنّة الأشرعة 

 

البساتينُ مخبأةٌ في تجاعيد النعاس، ولولاها لما تقاطر البنُّ في ذاكرة الفنجان. استقمْ أمام رجفة النوافذ، اصدح عالياً لذلك الوادي السحيق، واختر النارَ التي تجدلُ ضفائرها تحت قدميك. معها، اهبطْ الى الغيم وتناولْ قهوتك برفق. ليست للقطف هذه الوردة، إنها للقطيف العفيف، فهل يا ترى قالوا لها؟ تعال إليها، معتقةً برمال البتراء، مخضبة بشفاه الجنوب البهي، تعال إليها كما كنت دوماً، مصطحباً صناديق البريد التي تبخترتْ بالزغاريد.

تعال. دعها تتذكر مستقبلها، دعها في اختبار الوقت، فالتجربة تمنحها الحب وعذابه. فهي البريد والرسائل والأجنحة والريح. تتذكر بأنها عذَّبتِ البحرَ، وآوتْ الى جبلٍ لم يعصمها من الملح، وأنكَ لم تستوِ إلّا على جيدها.

استلَّ بقيَتها من غمدِ هربه كي يقتل الغربان التي وشمتْ مخبأه. تلا تاريخَ الطرائد على نبض الجدران القرمزية المتواطئة، فصدَ الدم الأبيض، غسل به احمرار صوته،

وازرقاق سعاله، ثم استعد للحديث.

قال:

كنت أنا الجاني، مررتُ بنقشها الجاف على هواء عمرتها اليانعة. حييتُ مقامها قبل أن أطوفَ بأحجارها، ثم سعيتُ لجبالها لأحشرجها بخشوع وداعي. تهدّج انتظاري الى أن سالَ من هضبة مشيتها خدرٌ أغواني. قطعتُ صلاتي، فنزفتْ حتى الصوت، ثم تدحرجتْ معها الى القارعة. وكانت تلك ساعة ارتطامنا بالحقيقة النائمة، وأظننا استيقظنا على نداء ناي. 

لماذا تستيقظُ الحواس؟! ألتلتهم أعوادَ النار التي نصبْناها فرحاً بالعابرين من جنة الأشرعة؟! يشحن حقائبه بالأحلام، مستعجلاً العودة الى منابع الماء. لا ليله ليل ولا نهاره نهار. لحواسه طبيعة العطاء ولا يأخذ سوى شذرات الشوق المتهدل كأجنحة. 

انظروا إليه، متاحاً لأكثر الأسفار غموضاً. جريرتك ليست جناية، تضع وردتك في كأسها، وهذا ضربٌ من تحريك الذات في الموضوع، فهل تسمّي حضورك المرعش اضطراب الرؤية، أم تجلّي رؤياك في حضرة المليكة؟

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتابة مشتركة: سعد الدوسري، قاسم حداد، عادل خزام 2017م

الثلاثاء، 6 أبريل 2021

الثوب

الثوب 

كانت تقول لطفولتي المتكسرة.

- يا ولدي، لا تجزع. سَيهبُكَ الله طولاً وعرضاً يُغنيانك عن هذا الطنين في رأسك. ستعشقك الحريم والبنات وسيحقد عليك الرجال والفتيان. وستدّعي العجائز، وهن يؤشرن لنهودهن وقد صارتْ مثل بالونات فارغة، بأنك أنت الذي أفرغت الحليب كله حين كنت رضيعاً. وسيحكي الشيوخ في كل مجالسهم بأنهم نطقوا الشهادة في أذنك حين سقطت من رحمي. سيهبُكَ الله يا ولدي طولاً تباري به بيوت مدينتنا التي سوف تباري السماء، فلا تجزع.

 

**               **               **

 

وحيداً، أجلس في الطين الفارغ. أنتظر هذه الطرقات السريعة التي أفتح بعدها، فلا أجد أحداً. وأجد الى جانب الباب ثياباً بالية أو طعاماً بائتاً.

الطعام لا يحسن مذاقاً في فمي، بعد أن ازداد الطنين في رأسي، فصرت أحسّ أن نملاً هائلاً يركض داخل جمجمتي.

في الفجر، فيما أخرج من النوم، أشعر أن رأسي مثل رؤوس كل خلق الله، صغيرة وصافية. لكنني حين أقف أمام الماء وأطالع وجهي في تلك المرآة التي لم يبقَ منها سوى قطعة بحجم الكف، يجتاحني الطنين. فهذا الوجه يحمل أنفاً مفلطحاً يكاد يخرج من جانبي خدّي، وعينين صغيرتين لا أكاد أراهما، وفماً بشفتين عريضتين جافتين، لم تَنْمُ فوقهما شعرة واحدة، مع أني داخلٌ  كما يقول الناس  في الثلاثين.

أملأ كفيّ الضخمتين بالماء وأبلل بهما وجهي وأعود أبحث في الثياب عن ثوب يناسب قامتي المفزعة، فلا أجد، وأبحث في الطعام عن طعام، فلا أجد.

 

 

**               **               **

 

وحيداً لا جارَ سوى هذا العامل الساكن أمامي. يرجع كل ظهيرة من عمله، حاملاً كيساً مدبقاً بالدهن، وحزمة كراث. يغلق بابه، ويستهل الليل بغناء موجع، للبلاد التي تصب في غربته.

لا ينقطع عن الغناء حتى وهو يأكل. وحين يخمد في البيت كل شيء: الضوء والحركة والصوت، أعرف أنه نام.

 

**               **               **

 

يوم واحد لا يخرج فيه. يظل داخل البيت طوال الوقت. وعند اقتراب العصر، يفتح نافذة البيت، فتظهر على جدران الغرفة صور مقطوعة من مجلات ملونة، لنساء سمراوات وشقراوات، طويلات وقصيرات، نحيلات وممتلئات.

أذكر المرة الأولى التي شاهدته فيها، يفتح خشب النافذة، فرأيت هذا الحشد من النساء داخل الغرفة.

حسّبتهن لأول وهلة جنيّات يخرجن من الجدار، ويرقصن له حتى خيوط الفجر، ثم يأمرهن أن يتوقفن وأن يجتمعن على فراشه.

سمعته يتوقف عن الغناء ويبدأ في بكاء قصير، يصمت بعده، ثم يصلني شهيقه وزفيره.

ارتفع الشهيق والزفير شيئاً فشيئاً، حتى بدا وكأنه زئير جريح.

خفت أن يكون الرجل يختنق.

هممت بالخروج لمساعدته لكنه زفر ثلاث أو أربع زفرات ثم خمد.

قلت لنفسي: لعله مات. وخشيت أن أتورط به.

في اليوم التالي، رأيته يخرج لعمله كعادته كل صباح باكر، فعرفت أن ليس في الأمر شيء. ثم اعتدت أن أنتظر اليوم الذي لا يخرج فيه، لأراه وهو يفتح النافذة واسمعه وهو يرسل نحيبه وشهيقه. وعلى الجدران، لم تزل النساء.

 

 

**               **               **

 

هذه الظهيرة، يمزقني جوع بارد، فلم يقرع الباب أحد، وبقايا الطعام تتكاثر حوله النمل والصراصير، بعد أن أجهزت الفئران على فتاته.

لا أجد أمامي سوى أن أخرج، وأن أطرق باب العامل.

يفتح الباب لي.

- تفضل.

- أريد شيئاً آكله.

- قلت تفضل.

أحنى قامتي كي أعبر الباب الى الداخل.

أمكث في الغرفة، ويختفي هو في بقية البيت. أطالع حولي، فأرى فراشه في الركن، أكثر سُمْكاً من فراشي، تغطيه ملاءة ممزقة، والى جانب الفراش صندوق خشبي غمرته الأتربة، في  داخله ملابس متكومة على بعضها، وفوقه دورق ماء تحولت أطرافه الى هلال من السواد.

على الأرض حصيرة افترشتها ثقوب متناثرة، وبقع بنية. 

يدخل حاملاً صحناً من الأرز. يضعه ويختفي مرة أخرى.

أبتلعُ ريقي لمنظر البخار وهو يتصاعد من الأرز المنقوع بالصلصة، والمغروس في وسطه بصل أبيض.

يعود ماسكاً في كل يد أعواداً من الكراث. يضع التي في يده اليمنى أمامي، ويبتسم لي.

-   سيكفينا أنا وأنت؟؟

-   بزيادة.

-   بسم الله.

يغرس أصابعه في الأرز، ويملأ كفه. يضغطها، فيسيل الدهن الأحمر على ظهر يده. يفرغ اللقمة في فمه ثم ينفضها. يتناول عوداً من الكراث، ويمرر إصبعيه فوقه ليمسح التراب عنه، ثم يطويه وهو في الطريق الى فمه. ننتهي، فيحمل الصحن الفارغ، بعد أن يجمع ما تناثر من أيدينا وأفواهنا، ويخرج به.

يرجع بكأسين من الشاي الأسود الداكن. أتناول منه كأساً، فألمح شفته السفلى محشوة. أراه يبصق بصاقاً بني اللون، ثم يشرب شايه. اكتشفتُ سر البقع النية التي تملأ الحصيرة.

أسأله.

- ما هذا؟؟

- هذا للكيف. هل تريد أن تتكيف؟؟

- لا، أنا متكيف الآن.

- اذن، اشرب هذا الشاي.

أصمت وأنا أشاهده يراقبني، وأنشغل بمطالعة الصور المعلقة على الجدار، وقد بدتْ أكثر جمالاً ونعومةً وإغراءً.

- لماذا ثوبك قصير هكذا؟؟

- كل الثياب لا تجيء على مقاسي.

- ولِمَ لا تفصّل لك ثوباً؟

- لا أملك نقوداً.

- إعمل.

- لا أحد يُشّغلني. إنني طويل ومخيف والأطفال أينما أذهب يركضون خلفي، وهم يضحكون على قامتي، وعلى ثيابي القصيرة. 

يبصق على الأرض، ثم ينهض الى الصندوق. يرفع بعض الملابس، ويُخرجُ حافظة جلدية مربوطة بمطاط سميك. يفتحها ويسحب ورقةً نقدية.

- خذ.

- ما هذه؟؟

- اذهب الى الخياط واطلب منه أن يصنع ثوباً على قياسك.

- وكيف أردّ هذه النقود لك؟؟

- أنا أعرف كيف استردها منك، خذ.

ويقترب مني. يقترب مني بشدة، وهو يزفر كالأسد الجائع.

- خذ. 

  

**               **               **

 

"سويقة" محتشدة بخطوات النساء وهنَّ يعبرن من محل الى آخر. عباءات تلتف على الأجساد الطويلة والقصيرة، النحيلة والممتلئة، السمراء والبيضاء.

نساء داكنات يكشفن عن وجوههن الدميمة، يجلسن الى الأرض وقد رصفن حلوى الأطفال على قماش، ومرطبات داخل أوانٍ بلاستيكية معبأة بالثلج الذي أذاب الصيف معظمه.

عجائز في أياديهن سلع رخيصة، ينادين بأصواتهن الخفيضة، لكن أحداً لا يستجيب لهن، فيواصلن المشي والمناداة.

محلات تلتصق ببعضها، داخلها بائعون يفرطون في الأناقة والابتسامات ورائحة العطر.

أنا في "سويقة" لأول مرة، أطالع ثوبي غير مصدق أن أكمامه تصل رسغيّ، وأن طرفه يلامس الكعبين. أمشي بين النساء دون أن أنظر لهن، لكني أحسهن يفسحن الطريق لي، فأبالغ في عدم النظر ناحيتهن. تصطاد عيناي أحد الشيوخ، وهو يفغر فاه لمنظري، ثم يهز رأسه قائلاً.

- الحمد لله. اللهم لا تبلُ أحداً منا.

وأسمع إحدى العجائز تهامس جليستها بحشرجة.

- هذا ليس إنساً، انه امتحان من الله لأمه. المسكينة، كيف كانت ترضعه؟؟ يا رب احفظنا.

لكنني أستمر، فهناك فتيات يتغامزن، تقرص كل واحدة منهن كتف الأخرى، ويشرن اليّ.

أدخل مساحة ليس فيها شيخ واحد. أقف أمام محل في داخله فتاتان تلبسان عباءتين شفافتين، وعلى وجهيهما غطاءان يُظهران ملامحهما العذبة وشعرهما الناعم المفروق من المنتصف.

البائع ينظر لإحداهما مرة ثم ينظر للأخرى، وعلى شفتيه كلام هامس ورقيق. ينتقي لهما ما تطلبانه من بضاعة المحل.

أندفع الى المحل، فيصطدم رأسي بالباب. تضحك الفتاتان، ويتحول وجه البائع الى غضب هائج.

- هذا المحل للنساء فقط.

أرد عليه.

- أنا لا أريد إلاّ النساء.

تخاف الفتاتان، وتتراجعان الى الخلف.

أتوجه للفتاة الأكثر امتلاء.

- لا تخافي، انه حاقد عليّ.

ترفع الفتاة حقيبتها، وتضربني بها على صدري وتبصق الأخرى في وجهي. يتقدم البائع نحوي، لكني أهمّ بالهرب. ينجح في إمساك ثوبي، فأنزع يده وانطلق خارج الدكان.

أركض، وقد انفرط كل ثوبي.

يصيح البائع بالناس.

- امسكوه.

يحاول كل الناس الامساك بي: الشيوخ والعجائز والباعة الشباب، لكن خطواتي الطويلة تفرُّ من شجاعتهم الخائفة.

بعيداً عن السوق، لا أحد ورائي. تنطق المدينة بيوتها أمامي. وبيوتها طويلة حتى السماء.

في واحد من هذه البيوت، ألوذ أسفل الدرج. أتمدد، حولي حشرات كثيرة. وفي قلبي، تركض أمي، يتبعها العامل الذي أعطاني الورقة النقدية، وهو يقترب مني بشدة، قائلاً.

- أنا أعرف كيف أستردها منك، خذ.

وهو يزفر كالأسد الجائع.

 

 

 الرياض/ مارس 1987م

 

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...