الثلاثاء، 16 فبراير 2021

فوضى

 فوضى

قالَ الطبيبُ، وهو يراقبُ مستغرباً وحائراً رجفانَ قلبي على طاولةِ عيادته:

-ما هذا؟! ثمَّة فوضى عارمةٌ في ضرباتِ قلبك. سنضطّرُ لتركيب جهازٍ كهربائيّ يُنظّمُها.

مكثتُ صامتاً لبرهة.

نهضت.

التقطتُ نبضي من على طاولته. أعدتُهُ لصدري، ثم خرجت.

سمعتُ صوتَ الطبيبِ خلفي:

-متى ستعود؟!

كان الرجفانُ حينها يزدادُ شيئاً فشيئاً. 

قبل أن أخرجَ من المستشفى، وصلَ ذروتَه.

على الرصيف، كانَ هناكَ رجلٌ، يمسكُ يد طفلتَهُ، وينتظرُ بقلقٍ شديد، أن تتوقفَ السياراتُ المضطربةُ لكي يعبرَ وإياها الشارع.

أوقفتُ سيارتي لهما. 

كانت الطفلةُ تنظرُ لي مبتسمة. 

ظللتُ أنظرُ لها ولابتسامتها حتى عبرتِ الشارع.


كانَ رجفانُ قلبي يهدأ.


الأحد، 14 فبراير 2021

العربة


 العربة

لا تقتربي أكثر، فالحارسُ غافلٌ وزوار الفجر يتهيؤون للنافذة.

سيدخلون. بوجوههم المقنّعة سيمشون خلف بعضهم، حتى يصلوا غرفتي. سيجدونني جثةً هامدة والحبر قد جفّ الى جانب رأسي.

سيرفعون يدي عن الورقة وسيضعونني داخلَ كيسٍ من الخام الأخضر الغامق، ويتعاونون على حملي.

سيمرّون على أطراف أصابعهم أمام غرفة زوجتي وهي تغطُّ في نوم عميق. الى جانبها سريران صغيران، ينام عليهما طفلاي.

سيخرجون من الباب.

ستكون عربةٌ زرقاء في انتظارهم.

سيرمونني في صندوقها ويقفلونه ثم ينطلقون.

سيكون كلُّ شيء كالح. لا صوت سوى محرك العربة ووشوشات قادمة من بعيد.

سيتوقفون ثم يطفئون المحرك.

سأسمعهم يفتحون أبوابهم. سيغلقونها باباً بعد باب. سأحس أنهم قادمون الى صندوق العربة ليخرجوني، لكن وقع خطاهم يذهب بهم بعيداً.

سأنتظر.

سأنتظر طويلاً.

 سأنتظر طويلاً جداً.

وسوف لن يعود اليَّ أحد.


الرياض 1989

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

من المجموعة القصصية "مصابيح العزلة" المتوفرة كاملة على المدونة.

السبت، 13 فبراير 2021

يأفلُ في وشوشات، يبزغُ من قنديل

 يأفلُ في وشوشات، يبزغُ من قنديل

 

همستُ له، وأنا أرخي خصلات توقي على كتفه.

- لنبقَ هنا الليلة. غداً ستتركني. وستخلو كفي من كفكَ، وطريقي من عينيكَ اللتين لم تغادرا حنطةَ وجهي منذ حطتْ الطائرة بخطواتكَ المتلهفة لمدينتي البعيدة، ولذراعيّ اللتين كانتا تنتظران صدرَك المزروع بي.

ابتسمَ بوداعة طفلٍ أدركَ الفرق بين قطعتي الحلوى، فتطاير السُكّرُ من بين أهدابه، ثم قال.

- كنتُ أريد أن أرصّعَ تاج ليلينا الأخيرة بفيروز يشعّ بالناس، فيُحيلهم إلى شهود. أوميء لهم بأوردتي ليصفقوا لك.

- ألا يكفي أن يصفق المحيط الهادر الآن لنا على بُعْد شرفة منا؟!

كانت غرفتانا الملتصقتان تطلاّن على المحيط الأطلنطي. وكان يرجوني كل ّليلة أنْ أمكثَ صاحية إلى أن ينتصف القمر في سماء الشرفة.

كان يُبررُ.

- أنا لست رومانسياً، لكنني أحبُ هذا الكوكب.

- بل أنتَ رومانسي حتى منابتِ الدم في عظامك.

أحببتُ هذا الطائش منذ خمس سنوات. كنتُ أعرف، قبل أن أتعرّف عليه، أنه مخبولٌ يرتدي ثياب الحكمة الغنائية، تلك التي لا يمكنُ تفسير أوتارها.

صادفته ذات استراحةٍ جماعية، في المصلحة التي نعمل فيها سوياً، وفتحتُ له باباً يعلم الجميع أنه يعشقه.

- لا أعتقدُ أن كُتّابنا العرب استطاعوا أن يجسّدوا واقعَهم، كما فعل كتّاب أمريكا الجنوبية مثلاً. استدار بكامل أذنيه إلى كلامي، وبدا كَمَنْ يريد أن ينجو من رتابة أحاديث صديقاته الأخريات.

- لمن قرأتِ من هؤلاء الكتّاب؟!

- لكثيرين. ماركيز وأمادو وبورخيس وخوليو كورتاثار وجاك رومان واستورياس وأليخو كاربنتييه.

وأضفتُ، راسمةً دهشة مصطنعةً.

- هل أنت تختبر ثقافتي؟!

- أبداً يا عزيزتي، أنا فقط مغرمٌ بكتّاب هذه القارة السحرية.

منذ ذلك اللقاء، المحفوف ببرد نيسان، وأنا مسحورة بدفئه.


ـــــــــــــــــــــــــــ

من كتاب "مجرى الشتات ومرساه"، المتوفر كاملاً في المدونة.

الخميس، 11 فبراير 2021

الخطوات

قصة للأطفال

الخطوات

جدتي مشلولة.
منذ أن تفتحتْ عيناي على الدنيا، وهي تستلقي على فراشٍ قطني، في ركن غرفة صغيرة بجوار غرفة أمي.
أمي تعتني بجدتي كثيراً.
أنا أحب جدتي وهي تحبني وتحب أخي وتحب أمي.
جدتي تستيقظ في الصباح الباكر. تصلي في مكانها. وبعد أن تشرق الشمس، تنادي أمي بصوت عالٍ ومبحوح.
-      يا موضي، يا موضي.
تنهض أمي من النوم على صوتها. تفتح بابها ثم تتوجه إلى فراش جدتي. تقبّل يدها ثم تطرق بابنا لكي نفيق من النوم، ونقبّل يد جدتنا.
قبل أن أخرج أنا وأخي إلى المدرسة، تقرأ آية الكرسي وتجعلنا نردد الكلمات خلفها، وبعد أن نعود تضمنا إلى صدرها وتسألنا.
-      كيف المدرسة؟!
عندما أحفظ واجباتي، أذهب اليها وأقرأ الدرس لها عن ظهر قلب.
هي لم تدخل مدرسة في حياتها، لكنها تحب أن "تسمّع" لي دروسي. أرى على وجهها غيمةً بيضاء من الفرح عندما أكون حافظة درسي.
تأخذني إلى حضنها وتمسح على شعري وتقول.
-      أتمنى أن أراكِ وقد تخرّجت من الجامعة.
في بعض الأحيان، أتشاجر مع أخي، فأذهب إلى جدتي لكي أشتكي لها، فتنادينا معاً وتهمس لنا.
-      إذاً تشاجرتما ثانية، لن أسمح لكما بدخول غرفتي.
نحاول ألاّ نتشاجر حتى لا تحرمنا من دخول غرفتها، لأنها في ليال كثيرة، تجمعني أنا وإياه، وتقص علينا حكايات عن جدي.
"كان من أشجع الرجال. يحب أهل قريته المزارعين ويحبونه. كانوا يجتمعون في بيته كل مساء ويتدفأون بكرمه. لم تكن الإبتسامة تفارق وجهه. ينصر المظلوم ويحارب الظالم حتى يهزمه. لم يرفع صوته يوماً عليَّ. وعندما استلقى على فراش الموت، نظر في عيني قائلاً؛ سامحيني".
كل الحكايات التي تحكيها جدتي كانت عن جدي، وكنا نحبها ونتلهف لسماعها. كيف خنق ذئباً بيديه، كيف مشى على قدميه من القرية إلى المدينة ليجلب دواءً لمريض، كيف امتنع عن الطعام والشراب ثلاثة أيام عندما مرضت أمه، كيف دفع كل ما يملك من مال ليخرج صديقاً له من الحبس، وكيف كان يحرص على تحفيظ أهل القرية القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمعلقات الشعرية.
في بيتنا سراج واحد، هو جدتي،
جدتي المشلولة، التي تمشي كل يوم في قلوبنا بخطواتٍ لا يستطيع أحدٌ في الدنيا أن يمشيها.

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...