الجمعة، 6 سبتمبر 2024

  كألْفِ سَنَة


كلَّما تدقُّ الساعة العاشرة صباحاً،

أنظرُ للسماء،

حيثُ وقتُ روحها.

**

كلّ ظهيرة جمعة،

تظللني نفسُ الغيمة فوقَ قبرها.

**

ظِلّي لم يَعدْ يتسعُ لي،

لأنها تشاركني فيه.

**

كلُّ وعكةٍ تصيبني،

هي توأمُ وعكتها.

**

المدينةُ تزدهرُ بالمباني الجديدة،

بيتها القديم هو وحدهُ الزهرة.

**

بدونها،

وفي كل طريقٍ للمستشفى،

تكون بجانبي،

أضعُّ كفي على صدرها، 

كي يهدأَ ألم صدري.

**

بكل ما أوتيتُ من لغة،

لا أستطيعُ أن أُعْربَ ما تحتهُ فَقْد.

**

صوتُ الستائر وأنا أسحبها كل صباح، يذكّرُني،

-سوف لن تذهبَ اليوم لأحد.

**

لن تنمحي علامةُ جلوسها على طرف سريرها،

تماماً، مثل الكيَّة في جبهتي.

**

حين يقولون:

-يا ويلك من أمك!

أركض بكل طفولتي لها؛

حيثُ ويلُها جَنّة.

**

في الصباح،

يكون الخبزُ في المنشفة البالية،

والكتبُ في الحقائب الرخيصة،

والحليبُ في الإبريق المتفحّم،

والأملُ بنا في صوتها المشّع كالشمس التي أشرقتْ للتو.

والتي ظلّتْ مُشرقةً، بعد مغيبها.

**

أمك ثم أمك ثم أمك!

كم أمّاً في هذا الحديث؟!

لا تقل ثلاث أمهات،

فكل أمٍّ تلدُ أماً، منذ هجرة محمد وحتى هجرتها. 

**

هذا الطفل الذي برفقتي دوماً،

توأمي،

 أوصتْهُ ألا يكبر،

وألا يغادرني،

وأن يحرسَها بطفولته،

ويحرسني.

**

في المساءِ الأخير لها،

كنت في غرفتها، أقرأ رواية "ظل الريح" للأسباني كارلوس زافون. 

ظلامُ الرواية، أدخلني في ظلامٍ أشد. 

منذ أيام، دخلتْ هي في الظلام،

في العاشرة صباحاً، أشعل الله لها النور،

وظللت أنا في الظلام.

**

أقصرُ طريقٍ إليها، 

أُصلّي على سجادةِ غرفتها،

ثُمَّ أشمُّ ترابَ قبرها.

**

سَنةُ غيابِها عنّي كألفِ سنةٍ،

مما تعدّون وتعتادون.


فجر 30 يناير 2024



 صباحات الفقد 

  • صِفْ لي الطريق.

هذا لكي يختبرَ شوقي للسفر معه.

  • جرحٌ يلتئمُ شيئاً فشيئاً.

وأنتَ كيفَ تَصِفه؟!

يبتسمُ مندهشاً:

  • لعنةُ اللهِ عليك!

**

حين تأتي لسهرةِ الليلة، ستجدُ عندي ضيفين. أحدهما جافٌ والآخر مُمْطِر. 

اجلسْ بجانبي، ودعْهما للماء. سنغرق به جميعاً أواخر الليل.

**

من أجمل أغصانِه،

انبثقتْ وردةُ ليل.

ظلَّتْ له دوماً كما انبثقتْ أولَ مرة،

يستمتعُ برائحتِها سنةً تلو سنة،

حتى قبلَ أن يغادرَ البيت للمرّة الأخيرة.

في سريره الأخير، أحاولُ جاهداً أنْ أشتتَ عينيه المغمضتين عن دموعها الغزيرة.

**

في خِضم الكهولة، تصبحُ الأيامُ بلا أسماء.

وحدَهُ الثلاثاءُ، يبقى باسمه.

**

سأرسلُ لك قصة،

لا تقرأْها،

دعْها بجانبك، 

ستتلو نفسَها لك.

**

واقفٌ على حياضِ النافذةِ، في الممرِ الذي تقعُ فيه غرفتُها:

  • هي تحيةُء صبَاحاتي، فكيفَ سأُطيقُ فراقَها؟!

  • أأستطيعُ السلامَ عليها؟!

  • ربما لن تتعرفَ عليك.

أدخلُ، فإذا هي تستلقي على سريرِ الموتِ، ربطةُ الجنوبِ تلفُّ شعرَها.

أُقبِّلُ جبينَها الذي لا يزالُ دافئاً، فتنظرُ لي نظرةً ثاقبة بَرَقتْ كالرعدِ داخلي.

خرجتُ أرتجف، ولا يزالُ هو على حياضِ النافذة المطلَّة على شجرةٍ كثيفة الأغصان، عصافيرُها صامتة.

**

كانَ يُدلّلُ يمامتي الصغيرة.

كلَّ أربعاءٍ، يسرّحُ معي ريشَها، 

ونُحنّي معاً منقارَها،

ولا تكونُ الجمعةُ إلا وقَدْ غَدتْ أبهى الطيور.

هديلُها يُمطرُ صباحاً على ميسونتِهِ، 

وعلى كلِّ الأطفالِ الذين يجمعهم من أجلها ومن أجلي، في حديقتِه.

**

مودتك الآن تحدّق بي، جالسةً إلى جواري. تسألني: كم مودةً غيري تجلس بجانب مقعد قراءاتك وتنفض عنك وحدتك؟! تختار لك كتابك وتشاركك تقليب صفحاته؟! تبتسم معك حين يكون المقطع جميلاً، وترقص برأسها مع رأسك كعادتك حين يكون المقطع مدهشاً. وحدي أيتها المودة، ونوال خائفة: تعال معنا. وحين أطاوعها، أكون معهم، وتكون المودة تنتظرني هناك، بلهفة.

**

كانَ الريحَانُ علامتَهُ 

وصِرنا نتبعُ الريحان.

**

بقايا ظلِّه 


على رصيف المقبرة،

وبينَ المَطَّلين الثالث عشر والرابع عشر،

أشيرُ لها بإصبعي:

  • هنا تماماً، خلف هذا السور، يرقد بابا. كل الأماكن الأخرى التي كنتِ تذهبين إليها لم تكن المكان الصحيح. هنا دفنتُهُ، تماماً هنا. اقتربي من السور، ضعي كرسيّك الذي تحضرينه معك دوماً، واجلسي معه. هو يعرف أن ليس بإمكانك دخول المقبرة. يعرف لماذا كنت في مكان آخر طيلة الأسابيع الماضية، تحسبين أنه مكانه. كان معكِ هناك، وسيكون معك في كل هناك.

  • أعرف. لقد ترك لي رائحةَ عطره على وسائد سريره، دفئَهُ على مقعده الذي يتوسط مقاعدنا ظهيرة كل جمعة. 

  • هو باق، كما أمي التي يعرفها، والتي لم يجتمع معها إلا هنا. في كل فجر، أشعر بهما يجلسان معاً على تلّة خضراء، يراقبان الطيور ذات الأجنحة المهيبة وهي تهز الأشجار لتسقط لهما الفاكهة العذبة.    

  • لماذا إذاً يطلبون مني أن أتوقف عن ملاحقة بقايا ظلِّه في البيت. لماذا يجزمون أنه رحل بلا عودة؟! 

تذرف عيناها الدمع الذي لم يتسنَ لي أن أراه في ازدحام وداع جثمانه. أضمها إلى صدري، وسط دهشة العابرين.  

على الجهة الأخرى من الشارع، يعبر القطار الجديد، دون أن يكون في عرباته أحد. صوته لم يخفِ شهقاتِ بكائها، وحفيفَ هواءِ الشتاء وهو يهز أغصان الشجرة التي تطل على قبره.

ها أنا من بعيد، أختلس النظرة تلو النظرة، أنتظره يخرج لها، ويجلس على الكرسي الفارغ إلى جانب كرسيها.


 طريقٌ يَتصَفّحُ الرصيف


بضعُ سنين

حزينٌ مثلَ مدينةٍ نهريةٍ

غدرَ فيها النهر!

حزينٌ مثلَ سماءٍ وعدَها الغيمُ بخيامٍ مديدةٍ من الماءِ،

ثم لم ينصبْ خيمةً واحدة!

حزينٌ

ووحيد.

غادرني هذا الصباح،

فدخلني الليل، 

أظلمتُ، 

وظلمني سريري الذي صارَ لا يفهمُ صوتَ جسدي، وهو يئنُّ باسمِهِ.

فباسمِ الليلِ، 

والسريرِ،

باسم الظُّلمِ والظلامِ،

أفتتحُ الوقتَ الذي سيفتقدُ مواقيتَهُ،

الوقتَ الذي سيناديهِ باسمي، فيلتفت له، دونَ أن يجدَه!

باسم الذي ظلَّ كالموسيقى،

ثلاثةَ أيامٍ وهو يتباهى بألحانه،  ليكونَ كوناً كاملاً،

كالسمواتِ والأرضِ وما بينهما،

كانَ هو بينهما.

كوناً كاملاً.

وكنت في كل الأمكنة، أتصيّد صورتَهُ لكيلا يخونني الطينُ الذي جاء بهيئته. 

هو الآدميُّ الذي قالَ لي

-لا بأس، سأزرع بضعَ سنينَ دأباً، اصبر.

أصبرُ،

أصبرْ.

لكنني اليوم، قبل أن يغادرني، فقدتُ صبري،

وسقطتُ.

كالرملِ تناثرتُ،

لم أستطعْ جمعَ نفسي.

وضعتُ حقائبَهُ على الرصيف،

وعدتُ مسرعاً قبل أن ينتبه،

إلى نفسِ السرير،

نفس الظلمِ والظلام.

***


العاجلة

يسيلُ الدَّرجُ،

درجةُ تلو الدرجة،

إلى أن يغدو بقعةَ رملٍ تحتَ قدميك.

كيف ستصعد؟!

ها هم هناك، 

في الأعلى.

يختارونَ لكَ طريقك،

ينتظرونَ وصولكَ كي يسلموكَ الراية.

أحدُهم قال:

إنَّهُ خلاصُنا، فلينقذْنا.

ابتسمَ آخر:

بل هو نهايتُنا، فليعجّلْ بها.

وأنتَ هناكَ،

في الأسفل، تتفحصُ الرملَ المختلطَ بقماشِ الراياتِ المُفَتَّتَة.

***


شقة بيضاء

يقفُ أمامَ اللوحة، يستعرضُ حياتَه.

ثمَّةَ شبهٌ بينَ اللونِ الأبيضِ الذي يسيلُ من الأعلى، وبينَ خطواتِهِ الصباحية.

كلُّ خطوةٍ تتآمرُ مع الأخرى، لكي يستديرَ من طريقِهِ للمكتبِ باتجاهِ شقته.

هي ليستْ شقة. 

هي مستودعُ جسدِه. وربما هو مستودعُها.

لا أمانَ يشعرُ به، إلا حينَ يدفعُ بأصابعِهِ بابَها، فيجدُها تفتحُ ذراعيها له. وبكلِّ ما تلوثتْ به ثِيَابه، يدخل.

في كلِّ مساءٍ من مساءاتِ عودتِهِ، يحرقُ ملابسَه،

وعارياً يظلُّ، لكي يراقصَ وحدتَه.

ودائماً، هناكَ اللوحة.

هي التي يغرقُ بين حَوَافّهَا، دونَ أنْ يتبللِ شعرُه.

هي التي تنقذُ رئتيهِ، دونَ أن تنعشَه.

هي التي تتوسلُ إليه:

-أخرج!

-إلى أين؟!

-إلى حيثُ لا أراكَ، وأنتَ تذرفُ حياتَكَ على خطوطي وألواني. 

-لا حياةَ لي هناك. حياتي تحتَ ظِلّك.

-أحَقَّاً تأملُ أن أقيكَ شمسَك؟!

-ماؤكِ ردائي. أسترُ بِهِ عطشي، وألملمُ به شتاتَ كواكبي. خرجتُ طويلاً. وها أنا أمامَكِ، جروحي تفوقُ أوراق تقويمي. 


تتنهدِ اللوحة، 

تطفئُ لونَها الأبيضَ، وتذهبُ للنوم، بينما يسهرُ أمامها.



 

ثلاثون نافذة، تطلُّ على يومِ البعث


هياكلٌ مَضَتْ

من خلالِ النافذةِ المُشْمِسَة،

تغمرُ وجهي نسائمُ عِطرِ نوفمبر،

فأستفيق.

أتلمّسُ سريري، فأجدِهُ غارقاً في هياكلَ عظميةٍ متفحِّمة،

هياكلُ أيامٍ وشهورٍ وسنينَ مضتْ.

بكل الغيبوبةِ التي تسكُنني، أمدُّ يدي إلى ا


رَعْشةُ العَهْد

لكي أنهضَ للكتابة،

أتوكأُ على جُمْجُمةٍ باردة،

فتقعُ يدي على برعمِ وردة،

إنها مصدرُ العِطر، وليستْ النافذة.

أبخّرُ بها الورقة، وأبدأُ أكتب.

في أصابعي رعشةٌ لم أعهدْها.

 

الحديقةُ اسمُ الحارس

تلكَ هي الأصابعُ التي رسمتْ على رَملِ الحديقةِ أرجوحةً من الفضّة، ثم زَخرفتْها بأغصانٍ عانقتْ عنانَ الغيم.

كان مطراً،

أذكرُه غزيراً،

إلى درجةِ بلَّل اسمي، فسقطَ في العشبِ، مثقلاً بالمطر.

رأيتُها تلتقطهُ، تقرّبهُ من اسمها ثم تمزِجْهما، ومن وجهها يشعُّ البرقُ في وجهي.

بعد أن توقّفَ المطر،

ناداني حارسُ الحديقة باسمي.

فالتفتنا إليهِ معاً.

 

خمرُ الملجأ

حاملاً اسمينا، أعبرُ مراكزَ التفتيش.

كانتِ الحربُ في الخارج تلتهمُ زنابقَ قلبي، وكنتُ أحاولُ أن أصِلَ ملجأَها.

قال لي الجندّيُ، بعد أن نبّشَ هويتي:

-لن تعبرَ وحدَك، عليها أنْ تكونَ معك.

القذائفُ في السماءِ،

وورقةٌ ناصعةٌ، تتأرجحُ في الهواء.

التقطتُها، وكتبتُ كلمتين: الرياض نوفمبر.

ناولتُها الجندي، فوضعَ أصفادَهُ حولَ رسغيْ، صار يدفعني بقسوةٍ أمامَهُ:

-أنت مخمور.

كنتُ أفتشُ في الوجوهِ عن وجهِها،

كانتْ هناك، في الملجأ. 

 

 أرسمُ السلام

كانَ الملجأُ يغصُّ بالخوف،

ليسَ ملجأَ الحربِ فحسب، بل كلُّ الملاجئ التي اضطررنا للعيشِ فيها، بعد أن رفعتْ الحربُ أوزارَها.

الخوفُ كانَ هويتَنا،

نصطحبهُ كلَّ صباحٍ لأعمالِنا،

نضعهُ على طاولاتِ طعامِنا،

نفرشهُ كما نفرشُ الملاءاتِ على أسرّتِنا،

نحزمهُ في حقائبنا قبلَ سفرِنا.

كان الخوفُ حربَنا من أجلِ سلامِ الحبرِ الذي أرسمُ به دوماً شفتيها المرتعشتين.

سأرتعشُ، سأظلُّ أرتعشُ أمامَ شفتيها.

 

صلاةُ النجاة

كانَ الجدارُ الأوّلُ، الذي غرستُ فيه كتفيها، يؤذّنُ لي.

واجهتُها وصففتُ باتجاهِ قِبْلتِها.

أنا الآن خاشعٌ على سجادتِها،

كبّرتُ بشهقةٍ مشتعلةٍ ثمَّ أستفتحتُ ناري.

قرأتُ سورةَ الوجد،

ركعتُ فانهمرَ ترددي،

نهضتُ مستجمعاً شفتيَّ،

أحطتُ خديّها بكفيَّ الخائفين،

وسجدتُ بها.

كانتْ تلكْ، صلاةُ نجاتِنا الأولى.

 

طائراتٌ تُشْعِلُ الجَمْر

-لنرحلْ.

نجمعُ شتاتَ أحلامِنا، ونعبرُ حدودَنا لممالكَ غناءٍ لا يستكين.

هناك، نُصبحُ نشبهُنا، ونُمسي نغنّي قصائدَنا.

وحين تطأُ خطواتُنا أرضَ عودتنا، نسهرُ ليالينا، نبحثُ عن خارطةٍ لسفرنا.

كنا نجدُنا خارجَنا.

المطاراتُ تستفزُّ قلوبنا، وتستحِثُّ أجملَ قُبلاتِنا.

الطائراتُ تشعلُ جمرَ أجسادِنا، وتهدينا عناقاً حميماً لا يعبأُ بمن حولنا.

وهكذا، كنا دوماً.

نتهيأُ في السفَرِ إلى السفَر.

 

 تحتَ العَرْش

انفجرتْ دهشةُ الروحين داخلَ غرفٍ متتالية، يؤججُها العطرُ وتشعلُها الموسيقى.

مبللةً بوردِ الصباح حيناً، وياسمينَ الليلِ حيناً، خلعتْ تلك الدهشةُ قميصَها على استحياءٍ، ثم رقصتْ كما يليقُ بنجمةٍ حانَ أوانُ لمعانِها.

ترقصُ في كلِّ غرفةٍ بكلّ حواسِها، وكأنها ترقصُ للمرةِ الأولى والأخيرة.

قبلَ أن يحينَ وقتُ مغادرتِها، كانتْ أوتارُها تبكي لحناً وداعياً، ينزفُ من جديدٍ كلَّ رغباتِها. وفي الغرفةِ التالية، يحدثُ هذا من جديد، كنجمةٍ تعود لكي تُشع، تشعُّ لكي تطفئ الدهشةَ، فلا تنطفئ.

يحتلُّ هو جسدَها، فتبايعهُ أميراً لإيمانها.

تحتلُّ هي جسدَهُ، فيتوّجها مليكةً لشغفِه.

وعلى البلاطِ، تحتَ العرش، كانا يغرقانِ في الحُكْم، حكمُ كلّ جسدٍ للآخر.

 

تزعقُ جرسَ رحيلها

على طريقِ الورد،

أصِلُ لمائِها.

تنثرهُ من مدخلِ خطواتي، حتى بخارِ جسدِها.

هناك، نتحولُ غيماً.

وفي الشموعِ التي أشعلتْ بها سماءَها، نمطرُ سيلَ متعتَنا.

قطراتُ جسدي تلحّنُ قطراتِها، فنصيرُ بللاً  تصطكُ الأرضُ لتأوهاتِه.

وهكذا يستقرُ بنا مقامُ شهوتِنا.

يزعقُ جسدُها منتفضاً، فيكونُ هذا جرسُ رحيلِها.

ترحلُ لشرفتِها. للوردِ الذي تزرعهُ هناك، لكي تنثرهُ لخطواتي القادمة.

 

للقبر، لمْ يحنِ قامتَه

-اصحَ، هناكَ من يطرقُ بابَه.

في هيبةٍ جليلةٍ، اصطحبوه بعيداً.

ألقى عليها نظرةَ وداعٍٍ أخيرة، وكان يراني هناك، وكنتُ أراه، شامخاً كشجرة أثل، كما كانَ دوماً.

أحنى جسدَه للقبر، لكنه لم يحنِ قامتَه.

وضعناه هناك، ثم اصطففنا لنحييه الحياةَ الأخيرة.

كان ملمسُ كفنِهِ، كملمسِ كفيّهِ، عندما أصافحهُ، وعندما يشدُّ على يدي، وكأنه يقول:

-أعرف.

عرفتُهُ كحكايةٍ تغرسُ أطنابَها في صحراء، فتستحيلُ خياماً وحطباً متأججاً.

آنستُ نارَه، لكنَّ الوقت لم يمهلني لآتي منها بقبس، فكانتْ هي قبسَه.

اقتبسنا حكاياته، ومضينا نهتدي بنيرانِها في ما بقى من صحرائنا.

 

أفعى تسممُ أسوان

اختنقَ السفر،

فصرنا نحيلُ الأماكنَ الضيّقةَ المعتمةَ، إلى مهرجاناتٍ من المحيطاتِ والغاباتِ والأنهار.

نباري الأمواجَ بأجسادِنا العارية، فنغرقُ في زبدِ غيبوبتنا.

نتسلّقُ الضوءَ، فتشعُّ الفتنةُ، لكننا نتحدُّ في معاركِ سريرِنا.

وفي غابةٍ ما، عادتْ تلكَ الأفعى التي لمحتُها في أسوان ذاتَ أبريل.

حينَها كانَ المقهى صامتاً. وكانتْ تزحفُ برأسينِ قرنييّن.

باغتتْنا بلدغتينِ، فسمّمتْ جدرانَ الفندقِ الذي كان يعومُ على نيلٍ كانَ لنا وحدَنا.

هاهيَ الآن،

هاهيَ مرةً أخرى، تطلُّ برأسيها.

 

جمرٌ ينعس

لم نعَتَدْ على السُم. صارَ يُخدّرُ زلازِلَ أجسادِنا، فنصيرُ نبحثُ في كل زلزالٍ عن ضحايانا؛ لا قتلى، لا جرحى، كما سبقَ لنا.

لم نعتَدْ أن يَمرَّ يومُنا، ونحنُ لا ننزفُ دماءَ ولهِنا، أو لا نرتجفُ بحمّى مواعيدِنا المرتقبة.

تحوّلتْ نوافذُ الوردِ الصباحية إلى أجراس أسئلة،

والأسئلةُ قاتلة. تعترضُ طريقَ العطرِ في الأوردة، والبخورِ في الشهقةِ المرتجفة.

خفَّ وقعُ العطر،

نعَسَ جمرُ البخور.

حروفُ القصائدِ، غدتْ فخاخاً للأفاعي التي ازدادَ سمُّها. كلما أطيحُ بأفعى، أفقدُ حرفاً.

وهناك في المستشفى، كان جسدان موازيانِ لجسدينا يرقدان. جسدُ أمّها، وجسدُ أمّي.

 في الممر، التقينا.

سألتْني:

كيفَها؟

سألتُها:

كيفَها؟

أجابتْ:

لقد أسلمتْ رايتَها.

 

 نهرُ قميصها

يتلطّخُ المكانُ بأنفاسٍ حارقة. كلّما أدخلُ الوظيفةَ، أجدُها تمترسُ بأشواكِ التين، وكأنَّ أوراقَها سوفَ تسقطُ عن عورةِ الرتابة، وتفضحهُ لي.

انفضحتْ. لم يعد لي من ملجأٍ سِوى قامتِها المسمومة، وهي تمشي لي، متعثرةً بلدغاتِها.

-انظرْ! لقد جفَّ نهرُنا!

تفتحُ ازرارَ قميصِها الذي كان يُحيلُ الساعةَ المسروقةَ، كلَّ مرّة، إلى عُرسٍ تَفيضُ أرضُهُ بالزعيق، ثم تقولُ لي:

انظر!

حينَ نظرتْ، لم أجدْ بُداً مما سأفعلُه.

أضرمتُ النارَ في المقعدِ الذي نقشْنا بأظافرِنا على ظهرِهِ أمطارَنا، فاشتعل. رأيتُهُ يشتعلُ، دونَ أن تصُدرَ منهُ التفاتةً نحوي. ظلَّ مُنكساً رأسَهُ، إلى أن تحوَّلَ إلى رماد.

جمعتُ رمادَهُ، وبعضَ أوراق مكتبي، ثم غادرتُ بلا رجعة.

كانتْ الأوراقُ مثقلةً بها، وبصوتِها وهي تقول:

-لقد جفَّ نهرُنا.

 

يغطُّ في كوابيسِه

بنصفِ فؤاد، وبنصفِ اسم، وبنصفِ جسد، أكملَ كلٌّ منهما طريقَه.

أطفأَ هوَ نهارَهُ، ليغرقَ في ليلِه.

صارَ يبحثُ عن رائحتِها في الأوراقِ التي كوَّمها حولَه، فلا يجدُّ سوى أغصان وردِها، وقد ذوتْ وبرزتْ أشواكُها.

في ممراتِ صباحاتِها، عادَ مرةً تلو أخرى، يسيرُ على هُدى خطواتِها، فيكون ظلالُه مصيرَه.

صادفَ ذاتَ أملٍ أملَها.

جمعَ كلَّ مخطوطاتِه، وهرولَ إليها.

تصفّحتْ عناوينَ غيبوبتَه، ثم فاجأته:

اخلعْ قميصَك!

نظرتْ مليَّاً، ثم طبعتْ على شفتيه قبلةً باردة، فسرى الثلجُ في سائرِ جسدِه وجسدِها.

خرجَ، يسندُه الجدارُ تلو الجدار.

عادَ ليستلقي على سريرِ ظلامِه، وليغطَّ في كوابيسِه.

وحيدةً، ضاقَ بها المكان.

في كلَّ وجهِةٍ يكونُ وجهَه، وفي كلَّ ساعةٍ تكونُ أدقُّ دقائقه.

غادرتْ هي أيضاً.

 

يدٌ لا تخرُج للشارع

تحتَ أشعةِ شمسِ الأطفال، تمدَّدتْ.

جمعتْهم في خيمةٍ، على مقربةٍ منْ أنقاضِ خيمتِنا.

من حيثُ هي، كانتْ ترنو ببصرِها نحوَ بقايا مملكتِنا.

من حيثُ هي، صارتْ زعقاتُ الأطفالِ تسري في جثثِ زعقاتِنا.

كانتْ تعملُ ليلَ نهار، لتكون خيمتُها الجديدة، محراباً لصلاةٍ تغفرُ خيمتَها التي لا تزالُ خاتمةُ النارِ تلتهمُها، وكأنها لن تتلاشى.

أمامَ سيارتِها، كان طفل يرسمُ على الجدار حرفاً يشبهُ ضرباتِ قلبي المتسارعة:

-هل ستخرجُ لي؟!

التهمَ النهارُ الليلَ،

غرقَ الليلُ في النهار،

ولم تخرجْ.

دسستُ القصيدةَ الأخيرةَ في قميصِ الطفل، ورأيتُهُ يركضُ إلى الداخل، ثم يدٌ تغلقُ البابَ خلفَه.

كانتْ هي اليدُ التي داعبتْ الأرجوحة،

هي اليدُ التي نثرت الوردَ باتجاهِ الماء،

هي اليدُ التي لوّحتْ للمطارات.

كانتْ يدُها.

 

أكسو الشبح لحماً

ضممتُ تلكَ اليد في ظلامِ قبوي.

كانَ النورُ يجرحُ صدى شبحِها، وهو يزورني منتصفَ ليلي. لذلكَ حصّنتُ المنفذَ الوحيدَ بأكياسِ رمل سنواتِها، وغدوتُ دامساً.

اعتدتُ أن أحييُ رميمَ الشبح، حينَ يختنقُ رميمي. أكسو عظامَنا لحماً، ونتيهُ كطيرِينِ في العتمة. نحطُّ على جدرانِ الذكرى، فتنهارُ بنا.

يغتاظُ شبحُها، فيختفي. وأصيرُ في الليلةِ التالية، أرمّمُ قلبي وأرمّمُ عظامَه.

حتى الشبح، لم يعدْ يؤنسُ قبوي.

وكلّما اقتربُ من المنفَذ، كي يتسللَ النورُ لمقبرةِ وقتي، أتراجع.

للأشباحِ أفئدة، أدركُ ذلك.

لعلَّ شبحُها يرأفُ بظلامي،

لعلّهُ يعود.

 

ملامحٌ يستعيدُها القبو

 في القبوِ، تجمّرَ كسْري وازرقّتْ شراييني.

اسمعُ الهواءَ يلهثُ في الخارجِ كي يقتحمَ اختناقاتي، لكنَّ عبثاً كانَ يفعل.

صارَ ما بيني وبينَ الزُرقةِ التامّة شاطئٌ أخير. كنتُ أراهُ رأيَ النوم.

قبلَ بُرهةٍ من انغمارِ المدّ فوقَ جثتي، اهتزتْ أكياسُ رمل منفذي الوحيد، ثم تساقطتْ.

رفعتُ ما بقى من بصري، فوجدتُ أمامي أشلاءُ الصورة.

كانت أمي، وقد انخلعَتْ عظامُ حوضها، تمدُّ ذراعيها نحوي، مستنجدةً:

-احيني.

في سيارةِ الإسعاف، أنظرُ إلى الشوارعِ، وكأنها تحدثُ أمامي لأولِّ مرة.

وضعتُ كفي على حوضِها، فتطايرتْ الفراشاتُ من جبينها، وحطّتْ على كتفيَّ.

-لا تتركني.

عبرتْ سيارةُ الإسعافِ البوابة، فارتجفتْ عظامُها وعظامي.

استجمعتُ شجاعتي. نفضتُ غبارَ القبوِ عن جلدي، فاستعدتُ على الفورِ ملامحي.

-لن أترككِ. سأحييكِ.

 

صورةِ العصفور

في غرفةِ المشفى الصغيرةِ، التي قاومنا الموتَ وحيدينِ بينَ جدرانِها الضيقة، كانتْ أماكنُنا تتشكّلُ على هيئةِ عصافير، تنقرُ النافذةَ مطلعَ كلِّ شمس.

إنها أماكننا التي تحاصر الغرفة، من كافّةِ الجهاتِ الأصليّةِ والفرعيّةِ والمتفرّعة.

كل عصفورٍ، يحملُ بين جناحيه صورةِ لقاء.

أتلو ما تيّسرَ من صورها في هيبة الشروقِ، ثمَّ أفتتحُ الدواءَ لأمي:

-كيفَ صارَ صباحُكِ يا حبلَ نجاتي؟!

-سأنجو.

نجتْ، ونجوت.

فتحتُ النافذةَ في يومِ مغادرتِنا، ومددتُ كفي لعصفورٍ يرتعش. تلمّستُ المكانَ الذي طار منهُ، كان المكانَ الأخير.

جعلتُه ينقرُ خطوطَ كفي، علّهُ يهتدي لطريقِ المكانِ الأوّل، لكنه ظلَّ في مكانِهِ وزمانِهِ، وكذلكَ أنا.

حملتُ أمي على صدري، وخرجت.

لم التفتْ لأودّعَ الأماكن،

سأعودُ لا محالة.

هكذا همسَ لي العصفور.

 

حاناتٌ بلا بوصلة

لم تكنْ مجردَ صورةٍ غارقةٍ بالأزرق.

كانتْ شرفةً صباحيةً، يحرسُها بحرٌ طاعنٌ في السكينةِ، ونوارسُ تتطلّعُ لفتاتِ خبز القصيدةِ، ومقعدانِ مشرئبانِ لنهارٍ حافلٍ بالبوح، وسماء.

حدّقتُ في السماءِ، وفي المقعدين.

لماذا التقطتْ هذه الصورة؟!

لماذا بعثتْها؟!

هل حانَ الوقتُ، لنهبطَ من سمائنا القديمة، ونحطُّ على زرقةِ شرفةٍ جديدة؟!

 هممتُ بحزمِ أمتعتي،

لكنَّ البوصلةَ لم تكنْ هناك.

كانتْ صورةً بلا بوصلة.

ضعتُ في السفرِ، في الشرفاتِ، في الحاناتِ، في الشواطئِ، في الفنادقِ، لكنني لم أبصر تلكَ السماءِ ولو مرّة، ولا ذانِكَ المقعدين.

 

الفواكهُ تفوحُ أفلامَها

وقفتُ أمامَ المرآة،

كانتْ أضلاعُ قلبي قد برزتْ، وشحبتْ بشرتُهُ. ناولتُهُ الماءَ العذبَ والغذاءَ الشهّيَ، لكنَّه ظلَّ صائماً.

وضعتُ حبرَ قاموسي في آنيةٍ من فضّة، علّه يشرب، فيستعيدُ عافيتَه، فأشاحَ بوجهِهِ عن الآنية. هززتُها أمامَهُ، فَكَشَّرَ وجهَه. شممتُ الحبرَ، فوجدتُهُ لا يزالُ طازجاً.

أمَامَهُ، سَكبتُ الحبر في وعاءٍ قديمٍ في رفٍّ مهمّلٍ من رفوفِ المكتبة.

بحثتُ عن حبرٍ جديد. كانَ يتابعني بنظراتِ اهتمامٍ، طيلةَ بحثي. لاحظتُ ذلكَ، فأخذتُ أبحثُ أكثرُ، ويهتمُّ هوَ أكثر.

مِنْ وسطَ أحبارٍ جديدةٍ، لمْ أمسْها من قبلْ، تناولتُ حبراً تفوح منه رائحة فواكهَ موسميّة.

التفتُ إليه، فلمحتُهُ يمدُّ عنقَهُ باتجاهي.

سكبتُ لهُ الحبرَ الجديد، فغمسَ فيه شفتيهِ، مُغمضاً عينيه.

يوماً بعدَ يومٍ، استعادَ شيئاً من عافيته.

كان في أوجِ نشاطِهِ، ونحنُ ندلفُ معاً مقرَّ المهرجان، ونتحدثُ عن حبري الجديد.

كانتْ بهجتُهُ لا توصف، حينَ بدأَ عرضُ الفيلم.

 

هروبٌ بينَ شمسين

ارتدى الممثلونَ أقنعتَهم. تأكّدُ المخرجُ أنَّهم حفظوا أدوارَهم عن ظهرِ قلب.

-آكشنْ.

بعدَ أن وضعَ الفيلمُ أوزَارهُ، كان البطلُ يحتسي شايَهُ وحيداً في المقهى.

ألقيتُ عليهِ تحيتي، فبادرني:

-مَنْ هي البطَلة؟!

-لِمَ تسأل؟!

-اشتهيتُ أنْ أخلعَ قناعي، وأنْ ...

-وأنْ ماذا؟! أنْ تقبَّلها؟!

-عفواً، هلِ الفيلمُ سيرتُكَ الذاتية؟!

صرتُ أهربُ بها منْ الممثلين، كي يظلّوا بعيدينَ عنها.

صاح بي المخرجُ:

-خذها، و اغربا عن وجهي.

أحاول أنْ أغربَ، فتُشرِق. أن أشْرِقَ، فتغرُب. ومن الشمسين، صغتُ هروبي.

هربتُ إلى عشٍّ، لم تخطُ أقدامُها على فجره، ولم يُزْهرْ عطرُها على أغصانِه.

 صحوتُ في الصباحِ الأوّل، يغمرُني أريجُ البحرِ ورفيفُ النوارس.

طالعتُ السماءَ، فإذا الملائكةُ ينقلونَ على أكتافِهم أسئلةَ النهار.

-هاه أيها المُخرج؟! هل غربتُ الآن؟! هل ...

قاطعتْني موجةٌ غاضبة، صفعتْ وجهي.

-عُدْ الآن.

تناولتُ جوازَ سفري، وأقلعتُ.

على متْنِ الطائرة، كان البحرُ يختفي مِنْ نافذتي، زرقةً تلو زرقة. وكانَ رملُ الدهناءِ يكبرُ ويكبرُ ويكبر.

 

الضيف يتوضأها

لم أبارحْها.

-سننتصرُ كالعادة.

إلى جانبِ سريرِها، شيّدتُ رئتيَّ، وصرتُ أزرعُ لها الشهيقَ، كي تتنفسَ الضوءَ في ليالي المعركةِ القاسية.

كلَّ يومٍ يمرُّ، ينكسرُ سيفٌ.

كلَّ شهرٍ، يصدأُ درع.

وكلَّ كرٍّ، توشكُ أن تفر.

كنتُ أطيلُ لها الأشهر، فتتقزّمُ أيامي.

من غيبوبةٍ شرسةٍ، أفاقتْ. رفعتْ رأسها إلى السقفِ، تخاطبُ ضيفاً لا أراه.

-أتعلمُ كَمْ أنا خفيفة؟!

ابتسمتْ. شعَّ وجهُها ببدرٍ توضأَ زمزماً، وأحرمَ ميقاتَهُ الأخير.

شددتُ على أزرِ قلبِها بكلِّ قلبي:

-أنا هنا.

نظرَ إليَّ الطبيبُ:

-لقدَ صرتَ واهناً، لن تستطيعَ حملَها؟!

على جانبِ الشارعِ الذي لم ألمحْ لهُ نهاية، نثرتُ ما تبقّى من رملِ المعركةِ في صدري، 

وهمتُ على وجهي، أبحثُ عن جواد أبلقَ أسرجُهُ لها.

في الضُحى الذي سجّاهُ ليلٌ دامسٌ، رأيتُ نخاعَ عظامِها يتألقُ ياقوتاً، ثم يمتطي صهوةَ الجواد.

ممسكاً لجامَهُ بكلّ زهوٍ،

نزلتُ بها المنحدرِ النهائي، برفقةِ ضيفِها الذي مكّنني الآنَ من رؤيةِ أجنحتهِ، ليقولَ لي:

-كمْ هيَ خفيفة.

فقدتُ وعيي، وهوَ يأخذَ لجامَ الجوادِ مِنْ يدي.

 

جمهور المحجَر المُكمّم

حجروني عن قبرِها، بعدَ أن كنتُ أتلو على ترابِهِ كلَّ صباح، آياتِ رمادي.

كمموني، واقتادوني لنفسِ طبيبها.

-لقد حذّرتكَ. أنتَ واهن.

تحتَ كمامتهِ، سمعتُهُ يقول.

-قلبُكَ! وكأنَّكَ اصطدمتَ بِهِ جداراً فولاذياً.

وأضاف:

-كما ترى. الوباءُ لا يتيحُ لنا ترميمَهُ.

في المحجرِ، رممتُهُ بما جمعتُهُ منها؛ ملحَها، سكّرَها، حناءَها، بقايا شَعرِها، شِعْرَها، صوتَها: وينك يا جنيني، إلى أنْ عادَ ينبضُ بطيئاً بما يكفي لكي أصعدَ درجَ مكتبي.

منذُ الطائرةِ التي اختطفتني إليها قبلَ صيفين، لم أكتب.

محجوراً كفريسةٍ يستَّفزّها فخّها، كتبتُ مشهداً لي، وأنا أطاردُ شموسَ الصحراء.

هاهيَ من جديد.

هاهيَ.

شمسٌ تخبئُ فيئي، دون أن تظلَّني. سماءٌ تلثغُ بحروفي، دونَ أن تتكلّمني.

وفي المشهدِ أيضاً:

حلبة سباق؛ يبطئَ قلبي لكي تلحقَهُ السنواتُ الثلاثون، التي كهلتُ ولم تُكْهِلني.

قبل خطِ النهاية، شعرتُ قلبي هو الأقربُ للفوز.

الآن، الجمهور يحِبسُ أنفاسَه.

 

أين تركتْ مفتاحَ النهر؟

أمامَ جمهوري، بكيت.

بكيتُ إلى أن غادروا خائبين من فوزي.

لم أكدْ ألملمُ شظايا قلبي المتناثرةَ على جدارِ الفولاذ، حتى اصطدمتُ به من جديد.

كنتُ قبلَها بلحظات، أجدلُ ظفائرَ الجذورِ التي شققّتْ جدرانَ مكتبي، ثمَّ أجعلها تتدلّى على صدري.

مبتهجاً، أشمُّ شذاها الذي افتقدتُ سكرَته.

هذه المرة، فاطمة.

وحيدةً على ضفافِ نهرِ النيل، وقفتْ أمامَ مرآتها. كحّلتْ عينيها، صَبَغتْ خديّها وشفتيها، رشّتْ عطرَها، ارتدتْ ثوبَ الدانتيل الذي احتفظتْ به، منذُ انطفاءِ عُرْسِها.

استلقتْ على سريرِها، ثم أغمضتْ عينيها.

قبلَ أن تغفو، تذكّرتُ كيفَ سَهرْنا بعيداً عن لصوصِ الليلِ، على شرفتِها، نحتسي قهوتَها، ونشعلُ شموعَها.

وحينَ غفتْ، كنتُ استرجعُ كلَّ المفاتيحِ التي تركتْها لنا، تحتَ عتبتِها.

أين تُراها تركتْ لنا مفتاح النهر ؟!

 هلْ سيبحرُ قاربُنا بعدَها؟!

 

 يومُ بعثي

لا ترفعي القبّعة،

القيِها بكلّ ما أُوتيتِ مِنْ سنواتٍ، في بحيرةِ القصيدة.

هناكَ، كنا.

كلُّ الوقتِ، كنّا في قِصيدتِنا.

كلُّ حرفٍ منها، غرَقَ في ثلاثينَ أبجديّة،

وكلُّ ورقةِ توتٍ طفتْ على الماءِ الراكدِ، خبأتْ ثلاثينَ أخرى.

ماذا ينتظرُ الوقتُ مِنْ الطريق؟!

ماذا تنتظرُ الفرَاشةُ مِنْ صريرِ النافذة؟!

سيكسو الشمسَ ظلُّ الوحشة،

وستتسابق الغزلانُ هرباً إلى الطلقة،

وسينفضُ المشرّدونَ عنهم أرصفتَهم، ليقتحموا عنوةً بياناتِ القمّة.

كخيطِ فجرٍ يتبيّن لونَه، أنسلُّ مني. أُمسكُ الآذانَ بكفيَّ، وألقيه مثلما ستُلْقينَ قبّعتكِ، من أعلى المئذنة.

فجرَ هذا اليوم، الضوءُ شرسٌ كالشوك.

ربما ستكونُ ليلةَ قَدَري.

قد يختطفني جدولِ نورٍ في السماء،

ويعيدني إلى حيثُ أرجوحةٍ صامتة، تحدّقُ في الظلام، باتجاهِ خطواتٍ ناعمةٍ قادمة، تتنفسُّ العشبَ في كلّ خطوة،

تتنفسُهُ مرتبكةً باتجاهِ ارتباكي.

ذاكَ يومُ بعثي.

 

 

 

 

 

 

 

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...