الجمعة، 6 سبتمبر 2024

 مقعدُهُ الذي يبقى

*إلى حمد؛ شقيق العمر، شقيق الروح*


مَرَّ شهر، 

منذُ أن توقفتْ دقاتُ قلبِهِ الذي يشبهُ قلبي،

ومنذ سكنتْ سبابتُهُ التي كانت تشيرُ دوماً للطريقِ الذي لم أكنْ أعرفُ أين سينتهي بنا،

ومنذُ انفرجتْ ابتسامتُهُ للمرةِ الأخيرة، وهي تقولُ لي:

-وينْ الناس؟!


كان الناسُ هناك، 

على موعدٍ أخيرٍ مع رحيلِهِ المُباغت.

هو دوماً يباغتني؛

-لنذهبْ، 

هكذا فجأة.

ثم دونَ أيِّ سابقِ تلميحٍ؛

-لنرجع.

-إلى أين؟! إلى مقعدِ وحدتك؟! نحنُ بالكاد غادرناه، بعدَ أن ضِقتَ ذرعاً به.


كان حينَ يخنقُهُ الجفافُ الساكن، يبحث في الأماكن عن ربيعِ غيومٍ راكضةٍ، أو عن ضجيجِ مطر.

لكنه ما يلبثُ أن يعود، وكأنه خائفٌ أنْ يرتحلَ مقعدُهُ عنه.


كنت أرى المرضَ أبعدَ ما يكونُ عنه.

فهو يغسلُ الماءَ بخوفه،

والطعامَ بشكوكه،

والمكانَ بوساوسهِ.

وحين أصابهُ، قلت:

-أنت مخطئٌ أيها الطبيب!

-كيفَ يمكنُ أن أخطئ؟! إنه يسري في كامل جسد أخيك. 


في لمحِ البصر، 

صار السريرُ مقعده، 

والألمُ رفيقاً لا يفارقه.

-سيقتلني، أليسَ كذلك؟! 

-بل ستقتلُه. 


دخل حرباً يعرفُ منذُ الجولةِ الأولى أنه سيخسرها لا محالة،

دخلها على بصيصِ أملٍ أن تغفلَ عنه عينا العدو، فينقضُّ عليه بطعنةٍ مخاتلة؛

-من يخاتلُ مثل هذا العدو الشرس، الممتطي جواداً ولا أسرعَ من صولاته؟!


بأسرع مما تخيّلتُ،

وقبل أن يوجَّه إليه عدوُهُ الطعنة، طلبَ منه أن يهبطَ عن جواده، 

ليسلّمَ له جسدَه المنهكَ، دون طعنات. 


بكل انسياب، 

رأيتهما يمضيانِ معاً، 

على صهوةِ الجواد.

ولم يسْتغرقا طويلاً حتى اختفيا في الأفق،

خلفهما ذلكَ النسيمُ العليلُ الذي يبقى،

مثلما تبقى رائحةُ مقعدِهِ الذي غادره باكراً، دونَ أنْ يودّعَه.



الرياض 10 يوليو 2023


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...