صباحات الفقد
صِفْ لي الطريق.
هذا لكي يختبرَ شوقي للسفر معه.
جرحٌ يلتئمُ شيئاً فشيئاً.
وأنتَ كيفَ تَصِفه؟!
يبتسمُ مندهشاً:
لعنةُ اللهِ عليك!
**
حين تأتي لسهرةِ الليلة، ستجدُ عندي ضيفين. أحدهما جافٌ والآخر مُمْطِر.
اجلسْ بجانبي، ودعْهما للماء. سنغرق به جميعاً أواخر الليل.
**
من أجمل أغصانِه،
انبثقتْ وردةُ ليل.
ظلَّتْ له دوماً كما انبثقتْ أولَ مرة،
يستمتعُ برائحتِها سنةً تلو سنة،
حتى قبلَ أن يغادرَ البيت للمرّة الأخيرة.
في سريره الأخير، أحاولُ جاهداً أنْ أشتتَ عينيه المغمضتين عن دموعها الغزيرة.
**
في خِضم الكهولة، تصبحُ الأيامُ بلا أسماء.
وحدَهُ الثلاثاءُ، يبقى باسمه.
**
سأرسلُ لك قصة،
لا تقرأْها،
دعْها بجانبك،
ستتلو نفسَها لك.
**
واقفٌ على حياضِ النافذةِ، في الممرِ الذي تقعُ فيه غرفتُها:
هي تحيةُء صبَاحاتي، فكيفَ سأُطيقُ فراقَها؟!
أأستطيعُ السلامَ عليها؟!
ربما لن تتعرفَ عليك.
أدخلُ، فإذا هي تستلقي على سريرِ الموتِ، ربطةُ الجنوبِ تلفُّ شعرَها.
أُقبِّلُ جبينَها الذي لا يزالُ دافئاً، فتنظرُ لي نظرةً ثاقبة بَرَقتْ كالرعدِ داخلي.
خرجتُ أرتجف، ولا يزالُ هو على حياضِ النافذة المطلَّة على شجرةٍ كثيفة الأغصان، عصافيرُها صامتة.
**
كانَ يُدلّلُ يمامتي الصغيرة.
كلَّ أربعاءٍ، يسرّحُ معي ريشَها،
ونُحنّي معاً منقارَها،
ولا تكونُ الجمعةُ إلا وقَدْ غَدتْ أبهى الطيور.
هديلُها يُمطرُ صباحاً على ميسونتِهِ،
وعلى كلِّ الأطفالِ الذين يجمعهم من أجلها ومن أجلي، في حديقتِه.
**
مودتك الآن تحدّق بي، جالسةً إلى جواري. تسألني: كم مودةً غيري تجلس بجانب مقعد قراءاتك وتنفض عنك وحدتك؟! تختار لك كتابك وتشاركك تقليب صفحاته؟! تبتسم معك حين يكون المقطع جميلاً، وترقص برأسها مع رأسك كعادتك حين يكون المقطع مدهشاً. وحدي أيتها المودة، ونوال خائفة: تعال معنا. وحين أطاوعها، أكون معهم، وتكون المودة تنتظرني هناك، بلهفة.
**
كانَ الريحَانُ علامتَهُ
وصِرنا نتبعُ الريحان.
**
بقايا ظلِّه
على رصيف المقبرة،
وبينَ المَطَّلين الثالث عشر والرابع عشر،
أشيرُ لها بإصبعي:
هنا تماماً، خلف هذا السور، يرقد بابا. كل الأماكن الأخرى التي كنتِ تذهبين إليها لم تكن المكان الصحيح. هنا دفنتُهُ، تماماً هنا. اقتربي من السور، ضعي كرسيّك الذي تحضرينه معك دوماً، واجلسي معه. هو يعرف أن ليس بإمكانك دخول المقبرة. يعرف لماذا كنت في مكان آخر طيلة الأسابيع الماضية، تحسبين أنه مكانه. كان معكِ هناك، وسيكون معك في كل هناك.
أعرف. لقد ترك لي رائحةَ عطره على وسائد سريره، دفئَهُ على مقعده الذي يتوسط مقاعدنا ظهيرة كل جمعة.
هو باق، كما أمي التي يعرفها، والتي لم يجتمع معها إلا هنا. في كل فجر، أشعر بهما يجلسان معاً على تلّة خضراء، يراقبان الطيور ذات الأجنحة المهيبة وهي تهز الأشجار لتسقط لهما الفاكهة العذبة.
لماذا إذاً يطلبون مني أن أتوقف عن ملاحقة بقايا ظلِّه في البيت. لماذا يجزمون أنه رحل بلا عودة؟!
تذرف عيناها الدمع الذي لم يتسنَ لي أن أراه في ازدحام وداع جثمانه. أضمها إلى صدري، وسط دهشة العابرين.
على الجهة الأخرى من الشارع، يعبر القطار الجديد، دون أن يكون في عرباته أحد. صوته لم يخفِ شهقاتِ بكائها، وحفيفَ هواءِ الشتاء وهو يهز أغصان الشجرة التي تطل على قبره.
ها أنا من بعيد، أختلس النظرة تلو النظرة، أنتظره يخرج لها، ويجلس على الكرسي الفارغ إلى جانب كرسيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق