الأربعاء، 6 يناير 2021

الغيبوبة

 الغيبوبة

أفقتُ. كان الصغار حولي يغطون في نومٍ عميق، وكانت أمي خارج العش.
شهقت جوعاً.
الشارع لا زال نائماً. فتح الصغار عيونهم تباعاً، وبدأنا نشهق معاً. ضايقني عجزهم، هززت أجنحتي لهم، وضعتُ رجليّ على طرف العش وطرت. اصطدمت، أول الأمر، بأكثر من جدار، سقطت على الأرض مرات ومرات، لم أبكِ، شددتُ عضلات أجنحتي وحاولت من جديد.
عندما استويتُ في السماء، زعقتُ بصوتٍ نحيف، لم يصل إلى الجدران الطينية التي كانت أسفلي.
عُشُّنا ليس دافئاً كما ينبغي، وضع أبونا فيه بعض القش ورحل. انتظرناه طويلاً ولم يعُد، غابت ملامحه عن ذاكرتنا، صرنا إذا شاهدنا عصفوراً كبيراً، نصرخ.
- أبي، أبي، أبي.
لكنه يطير بعيداً عنا.
قلت لنفسي.
- سوف أصادف أمي، تبحث عن طعام لنا، سأقول لها: لا تشغلي نفسك بي، لقد علّمت نفسي الطيران، ولم أعد صغيراً لأنتظرك حتى تدفعين الأكل من منقارك إلى منقاري.
كنت صغيراً على كل ذلك، لكني لم أكن أتحمل رؤيتها، وهي تؤكلنا آخر لقمة لديها، لتبقى جائعةً بقية النهار.
دخل الصباح السماء. 
هبطتُ على جدار كي أستريح، التفتُ، فاذا هو بيتُ صغير، ذو حوش ضيق لا يغطيه إلا التراب. 
سمعتُ صوت باب يُفتح، هممتُ بالطيران، لولا أن طفلة صغيرة، خرجت من ورائه.
جلستْ الطفلة في طرف الحوش، وأخذت تبكي.
من خلف الباب، جاء صراخ امرأة.
- ماذا تنفعك المدرسة. والله لو تبكين حتى تنفجر عيونك، ما تحطي رجلك فيها.
ضربتْ الطفلة الأرض برجليها، وازداد نحيبها.
بكتْ بكتْ، وأنا ثابتٌ، أراقب باب الحوش خائفاً. كنت أخشى أن يخرج أحد عليها. خف بكاؤها، وصارت تعبث بالتراب. رفعتْ رأسها فشاهدتني، قامت، اقتربت من الجدار، مدت يدها باتجاهي.
- تعال.
لم أتحرك.
- تعال.
خفتُ، لكنها أنزلت يدها، وقالت:
- هل عندك أم؟
قلت لنفسي.
- عندي أم أهلكها الجوع والتعب.
طالعتني، وعلى وجهها، ابتسامة غلبها البكاء.
- لماذا لا تجيب؟ هل أمك ميتة؟ هل لك أب؟
ابتسمت في قرارة نفسي.
- تعال.
فكّرتُ: لعلها تحس بأنني جائع، فتحضر لي شيئاً آكله.
فجأة، قالت:
- خذني الى مكان أجد فيه مدرسة، ولا أجد فيه أماً تضربني لو أقول أريد أن أدرس.
تمنيت لو أنني قادر على الكلام، لأقول إنني جائع.
قالت:
- أنت صغير، كيف خرجت من بيتكم؟
كنت أسمع أصوات أطفال من الجهة الأخرى للجدار، لكنني لم أكن أرغب أن أرفع عيني عن حديثها.
- تعال، لن أؤذيك، سوف أصنع لك صندوقاً جميلاً أضعك فيه، سوف ألعب أنا وإياك، وسوف أقتسم الأكل معك.
فرحتُ عندما قالت إنها سوف تعطيني طعاماً. نفضتُ جناحيّ من الفرح.
في نفس اللحظة، أحسست أن الأطفال في الجهة الأخرى، قد صمتوا فجأة. أدرت رأسي لهم، فإذا هم يصوّبون حجارتهم نحوي.
جمّدني الخوف عن الطيران، فأصابني حجر على رقبتي. سقطت تحت أرجل الطفلة. حملتني، فغمرها بكاءٌ أشد وأقوى، ودخلتُ أنا في غيبوبة.
حاولت أن أفتح عينيَّ أو أن أحرك رجليّ، فلم أستطع. كان الدم ينزف من منقاري بشدة.
كان كالحلم، عندما انتزعتني المرأة من بين يدي الطفلة ورمتني الى الشارع المليء بالأطفال الذين كانوا يتصايحون.
- هاتوا عصفورنا.
عندما التقطني الأطفال، دخلت في الغيبوبة النهائية.
من مجموعة "انطفاءات الولد العاصي"- الطبعة الثانية، دار مدارك 2015م. الطبعة الأولى، دار المريخ 1987م. المجموعة متاحة كاملة في المدونة، قسم القصص القصيرة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...