الثلاثاء، 19 يناير 2021

شهيق الزرقة الأخيرة

 شهيق الزرقة الأخيرة

 

تخنقُهُ الزرقة، ولا تنقذ روحَه سوى الشجرة. تمحو موتَ المشهد في عينيه، تتراءى رويداً رويداً، يراها وهي تعبرُ البرزخَ بساقيها العاريتين، يزحفُ الشهيقُ إلى صدره، فيسقط على أغصانها جثةً حالمة.

لم يعدْ متاحاً لنا التمييز، الأشجار والجثث، التدافع ذاته، الغابة ذاتها، الوحوش تختلف. لا تتغير، لكنها تختلف. يبقى لنا شهيقٌ واحدٌ قبل كل شيء، يبقى لنا الشهيق. وإذا اقتربتَ من نهر الدم الذي سفكوه كي يجري تاريخهم، هل تجرؤ على اغتراف قطرة واحدة؟ إن شربتها، يهتفُ بك الشيطان. هل تفعل ذلك لتصيرَ سيداً في ليل الدخان، أم أنّك تفضّل انتظار مطر في سحابة كاذبة، ومع ذلك فإنها ستأتي؟

هذا تاريخكَ يتلوى مثل ثعبان عملاق، يهشم مدناً كنت تظنها حصنَ ماضيك. وهذا يومُك يتراجع ليصيرَ أمْسَك الذي أشحتَ بوجهك عنه وقلت إن الحقيقةَ ملكُكَ وحدك، وإن سرَّ ما جرى مدفونٌ في بئرٍ عميقة لا قرارَ لها، وإن الذي يطمسه التاريخُ لا يعودُ يظهر أبداً. لكن هيهاتَ أن تموتَ الحقيقةُ، حتى لو ردموها بأطنانٍ من الورق المزيّف. فالقاتلُ يعودُ يظهرُ من جديد، ونسلهُ الشيطاني يتغذّى في العتمة منتظراً إشارة النار.

كل ذلك يحدث لأن من كتبوا سيرةَ المجد، ورصّعوها بالبَرد والزمرد، أغفلوا، وتغافلوا عن ذكر الخطأ باعتباره مكملاً للصواب، حتى ظنَّ الناسُ أن القتلةَ الذين حكموا في التاريخ كانوا ملائكةً، والناسَ من بقايا الرعية. ولا أحدَ يجرؤ اليوم، بعد مئات السنين، على قول لا، لمن قالوا في ذلك الزمان نعم.


ـــــــــــــــــــــــــ

من كتاب "رفيف الظل" بالاشتراك مع الشاعر قاسم حداد والشاعر عادل خزام، الصادر عن دار مدارك 2018

الكتاب متوفر كاملاً في المدونة،  قسم النصوص.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أُقبِّلُ شَجرتَكِ مَضتِ السنّةُ الخامسة،  وهاهي شَجرتُكِ تكبر، بَذرْتُها في العاشرةِ وخمس دقائقَ من صباحِ الخميس، الثلاثين من شهر كانون الثا...